كانْدينْسكي

ثورة لم تخمد بعد!

 

 زاهد عزت حرش

 

ولد مؤسِّس تقنية التجريد في الفنون التشكيلية، الروسي فاسيلي كاندينسكي Wassily Kandinsky، في 4 كانون أول من العام 1866 في موسكو، متحدرًا من أسرة قضتْ عشرات السنين من عمرها منفية في سيبيريا. وقد عادت إلى مسقط رأسها بعد المرسوم الإمبراطوري الذي أصدره القيصر الروسي ألكساندر الثاني في العام 1861، القاضي بعودة الكثير من العائلات المنفية من سيبيريا. وكان من بينها أسرة والده التي استقر عيشُها قبل ذلك في بلدة كياخطه Kyakhta الواقعة في الجزء الشرقي من سيبيريا المتاخم للحدود المنغولية، حيث عمل والده في صناعة الشاي، مما أهَّله للعمل في هذا المضمار بعد استقراره في موسكو وعودته إلى حياة إنسانية طبيعية.

تزوج عامل الشاي المميز هذا من ليدية طاتشيبه، المرأة الفائقة الأناقة والجمال، والمعروفة في أرجاء موسكو بصفتيها الفريدتين هاتين. وكانت الثمرة الوحيدة لهذا الارتباط ميلاد الطفل فاسيلي، لأن زواجهما لم يُكتَبْ له الاستمرار طويلاً. وهكذا أُحيلَتْ تربيةُ الطفل إلى خالته، هذه المرأة التي ألهبتْ مشاعره بقصص الأساطير الروسية والألمانية؛ إذ كانت تقرأها له باللغتين منذ أن تفتَّحتْ حواسُه ووعيُه الأول – إضافة إلى المحبة الكبيرة التي أغدقها عليه والداه، كلٌّ على طريقته وأسلوبه الخاص. وقد رأى في أمِّه رائعة الكمال الإنساني، حيث ألَّف ما بينها وبين مدينته الحبيبة على قلبه – موسكو – التي اعتبرها صورة أخرى عن أمِّه وعن البيت والأمان.

 

لوحة "أصفر–أحمر–أزرق" (1925)

شكَّلت موسكو في نظره مصدر الوحي الأول، حيث زوَّدتْه بدوافع قوية من الثبات والقناعة والأمان. إلا أن حلمه هذا لم يَدُمْ طويلاً. فقد اضطر والده إلى الانتقال للعيش في أوديسا في السنة 1871 والعمل هناك مديرًا لأحد مصانع الشاي فيها، بعد أن عانى الكثير من ويلات المرض بسبب طقس موسكو ذات الشتاء القارس البرودة. وشبَّ كاندينسكي في تلك الأجواء البعيدة عن مدينته المحبوبة، محتفظًا بالقليل القليل من ذكريات الطفولة المبكرة فيها. فكان يعود إليها مع كلِّ مناسبة ونفحة ذكريات.

عمل كاندينسكي في مطلع شبابه لدى إحدى الشركات التي تولَّتْ أعمال الإحصاء في المقاطعات القروية والفلاحية. وقد أنجز مهمَّته في إعداد دراسة وإحصاء عن الفلاحين في مقاطعة فلوغدا Voogda بنجاح كبير، مما أهَّله لأن يصبح أحد أعضاء الهيئة الإدارية لتلك الشركة. وقد ساعده هذا النجاح على متابعة دراسته الأكاديمية. ففي السنة 1892، اجتاز الامتحانات النهائية في كلِّية الحقوق دون عناء يُذكَر. وفي تلك الأثناء بالذات، التقى مع آنية تشمياكين، التي كانت تدرس في القسم الخارجي من نفس الجامعة، وتزوَّج منها.

وقف كاندينسكي، مع نهاية القرن التاسع عشر، أمام خيارين: إما أن يعمل من خلال لقب بروفسور في جامعة Tartu، وإما أن يكون رسامًا لا يلوي على شيء، متكلاً فقط على إحساسه بهذا الفنِّ العظيم وإيمانه به. وقد كان لاكتشافه معرض الانطباعيين الباريسيين الذي أقيم في موسكو في تلك الحقبة من تاريخه، وخاصة تأثره البالغ بإحدى لوحات الفنان الانطباعي العريق كلود مونيه "كومة القش"، ولاستماعه إلى موسيقى فاغنر Wagner في المسرح الإمبراطوري الروسي، تأثيرٌ كبير على قرار حياته. فانحاز إلى اتجاه دراسة الفنون التشكيلية دون أيِّ تردد أو إبطاء، وهو عندئذٍ يناهز الثلاثين من العمر. وقد علَّق على ذلك بقوله:

إن موسيقى فاغنر اجتاحتْني اجتياحًا عفويًّا، كان من العمق بحيث استطعت من خلالها أن أرى كلَّ الألوان المحبَّبة إلى قلبي بعيون روحي الهائمة في أرجاء المكان، وأن أبصر خطوطها المتوحشة التي أوصلتْني إلى حافة الجنون، من خلال حركتها وقدرتها على رسم عدد من اللوحات أمام ناظريَّ.

هاجر كاندينسكي متجهًا نحو ميونخ في العام 1896 لدراسة الفنون التشكيلية في إحدى معاهدها. وقد عُرِفَتْ ميونخ في تلك الحقبة باتجاهها كمدينة الفنون السياسية. هناك بدأ كاندينسكي يوطد علاقته بالفنون التشكيلية توطيدًا ثابتًا لا يقبل التأويل، حيث حدَّد مفهومه عن الفنِّ الحديث بما جاء في قوله الآتي: "إن أعظم تزوير للحقيقة هو الاعتقاد بأن الفنون التشكيلية تقليد دقيق لما تحتويه الطبيعة."

 

لوحة "على مساحة بيضاء" (1923)

اعتمد كاندينسكي في ميونخ على تبسيط الشيء. فرسم بواسطة "طباعة الخشب" الكثير من الأعمال الغرافيكية والتصاميم الخطوطية، على الرغم من أنه كان محاطًا بحركة فنية اتصفت بـ"المحافظة والنظرة البرجوازية وضيق الأفق"، على حدِّ تعبيره. كما رأى أن هناك خضوعًا نصف أكاديميٍّ مسيطِرًا عليها. ومن ضمن ما أنجزه في تلك الأيام بواسطة طباعة الخشب لوحة "المغنية" ذات اللونين (1903)؛ وقد تميزت بتلك الخطوط الطولانية العمودية التي تشابهت وخطوط أسطر النوتة الموسيقية. وكان مردَّ ذلك إيمانُه العميق بتواصل الموسيقى مع الرسم. وهو يفسِّر هذا التواصل بأنه يحدث من خلال علاقة تفرُّس ما بين المتلقِّي واللوحة بألوانها وتشكيلها الكلِّي. وتُعتبَر لوحة "المغنية" إقرارًا وثائقيًّا بهذا الإيمان المطلق.

لوحة "المغنية" (1903)

كما يمكن عزوُ هذا الجنوح إلى العمل بواسطة الطباعة الخشبية إلى مخزونه الذاتي الذي احتوتْه الذاكرةُ منذ أيام الطفولة. لقد علقتْ في مخيِّلته، من خلال تلك الأساطير التي حفظها، شخوصُ أناس مجرَّدة من تعبيراتها التفصيلية الصغيرة لتعبِّر عن ذاتها وقدراتها الأسطورية المذهلة. وقد كان لتلك الصور الغائبة عن الواقع فضاءٌ تجول به في حرية استنطقتْها أعمالُه التجريدية باللون والشكل والمضمون؛ وقد ساهمت مساهمة رائعة في بناء عالمه الفنِّي المميَّز الذي عرَّف به كأحد عمالقة العمل الثوري في الفنون التشكيلية من خلال أعماله المنجَزة منذ ذاك الحين.

 

لوحة Composition-5 (1922)

مع حلول العام 1911، أسَّس كاندينسكي وصديقه فرانتس مارك Franz Marc حركة تشكيلية جديدة عُرِفَتْ بجماعة "الفارس الأزرق" der Blaue Reiter؛ ويعود ذلك اللقب إلى أن كليهما أحبَّ استخدام اللون الأزرق في أعماله، إضافة إلى شَغَفِ مارك برسم الخيول وشغف كاندينسكي برسم الفرسان.

فرانتس مارك: لوحة "حصان أزرق" (1911)

وقد انضم إلى هذه الجماعة كلٌّ من كوفكا Koffka، الذي طَبَعَ ألوانَ لوحاتِه بطابع موسيقيٍّ فريد، والفنان الفرنسي روبير ديلوناي Delaunay (1885-1941)، الذي تميَّزتْ أعمالُه الفنية بألوانها الجوهرية الصافية.

فرانتس مارك (1880-1916)

فاسيلي كاندينسكي (1866-1944)

ركزت جماعة "الفارس الأزرق" على تفسير علم الجمال من خلال التجارب والدراسات التي قام بها كلٌّ من الروسي كاندينسكي والألماني مارك. وكانت خلاصة تلك التجارب والدراسات نتيجة واحدة هي النأي بفلسفة الجمال عن القواعد الكلاسيكية والأكاديمية والتركيز على الرغبات الباطنة للفنان. وكتابه عن الروحي في الفن (1911) يؤسِّس حريةَ الإبداع والغنائية على "الضرورة الداخلية". وقد شرح كاندينسكي تلك "الضرورة الداخلية" قائلاً:

لا نهتم بالدعوة إلى شكل معيَّن أو نظام محدَّد، وهدفُنا أن نيسِّر، من خلال استعراض الأشكال المتنوعة، التعبيرَ عن الرغبات الباطنة التي يستشعرها كلُّ فنان بالطريقة التي ترضيه، سواء كانت هذه الطريقة تعبيرية أو تكعيبية أو محاولات تجريدية.

في تلك الحقبة أقام الفنانان معرضين لا تفصلُ بينهما سوى أسابيع قليلة، شارك فيهما فنَّانون من روسيا، ألمانيا، فرنسا، وكذلك النمسا، من أمثال: ماكه، شونبرغ، مارك، كاندينسكي، براك، بلوك، مولر، بيكاسو، كوبين، وغيرهم. وفي نهاية المطاف، في العام 1922، انضمَّ كاندينسكي إلى مدرسة "الباوهاوس" Bauhaus بعد توقف جماعة "الفارس الأزرق" في إثر إعلان الحرب العالمية الأولى في العام 1914. ثم انتهى به المطاف في باريس في العام 1933، فارًّا من المدِّ النازي.

هكذا اتسمت أعمال كاندينسكي بالتجريد الذي أصبح الصيغة المثلى للتعبير عن علاقة الفنان بالمحيط الذي يعيش فيه، بعد أن سقطت مسلماتٌ من المفاهيم والقيم عاشت وعشَّشت داخل أدمغة إنسان ما قبل القرن التاسع عشر. فانبثقت هذه الرؤيا الثورية لصياغة الشكل والمضمون في الفنون المرئية خاصة، لتعبِّر عن علاقة الإنسان الوثيقة بالطبيعة.

*** *** ***