لقطتان

 

أميمة الخش

 

أجرجر قدميَّ لأصل إلى موقف الحافلة. هواء المدينة الملوَّث يضغط على صدري، فأتنفس بصعوبة. أرفع نظري إلى السماء، فتُطالعُني غيومٌ رمادية متفرقة على صفحة لازوردية. يؤلمني شحُّ السماء، ويستحضر ذهني دعاءَ الشعراء الأوائل: «سقى الله أيامًا... سقى الله عهدًا...». أود أن أدعو لأرض مدينتي بالسُّقيا في أيامٍ عَزَّ فيها الغيثُ ونَدَر، فاكفهرَّ وجهُ الأرض، ووجوهُ الناس أيضًا.

أصِلُ إلى الموقف بعد وقت قصير من المشي خلتُه دهرًا! التعب يسكن جسمي هذه الأيام دون أن أدري سببه ومصدره – وأظنُّه تعب النفس الظامئة دومًا، كأرض مدينتي وعشبها.

يُطالعُني الحشدُ المنتظر. أحشر نفسي وسطه، وأسحب نفسًا عميقًا. تمر حافلة صغيرة... حافلتان... ثلاث... اكتظاظ الناس في الداخل لا يسمح لها بالتوقف لأخذ المزيد. تنطلق الحافلات غير آبهة بتلويحات الأيدي.

عندما تتهادى الرابعة مؤذنة بالتوقف، تنطلق الجموع باتجاه بابها المفتوح، ليندسَّ داخلها اثنا عشر شخصًا، يختار كلٌّ مقعدًا غير محدد.

يسعفني الحظ لأكون بين الركاب، فأختار بالمصادفة مقعدًا يواجهه مقعدٌ مماثل. يندار نظري صوب النافذة، يتابع حركة الناس الهاربين باتجاه معاكس. تعلق في ذهني نظراتُهم اللامتمايزة، ووجوهُهم التي أضاعتْ هويةَ التعبير كما أضاع كلُّ شيء في هذه الأيام هويةَ انتمائه. أتساءل في سرِّي عن لون المعاني التي تحملها تعبيراتهم: هل هو الأبيض، أم الأحمر، أم الأسود؟ لا أستطيع أن أحدِّد إلا اللون الرمادي. هل ضاعت المعاني في زحمة الضجيج، والتلوث، والحاجة، والكبت، والقلق المزمن؟

ينكسر بصري على أرض الحافلة، ويستولي عليَّ شعورٌ بالأسى. وعندما أعلو به قليلاً عن سطح الأرض الملطخة بألف بقعة قدم، يثبت فجأة على طرف رداء سميك يتدلَّى أمامي ملتصقًا بأرض الحافلة. تتسلَّقه نظراتي البطيئة الكسلى. وعند ارتفاع معيَّن تُطالعُني قدمان صغيرتان تتدلَّيان فوقه من غير حركة أو اهتزاز.

فجأة، أنتزع بصري من الأسفل ليحطَّ كنسر على اللوحة أمامي. ينتفض شيءٌ في داخلي على وقع ردَّة الفعل السريعة. أتماسك وأمعن النظر مليًّا. امرأة بجثة ضخمة، ممتلئة، تستر رأسها بإزار محكم، فلا تظهر إلا تقاسيمُ وجه صلب العضلات، مقطب الملامح. العينان ضيقتان بنظرات قاسية، والشفتان مزمومتان، كأنهما مشبوكتان بخيوط بلاستيكية. الحاجبان مقطبان كأنما هما ملتصقان تمامًا.

الدهشة الكبرى التي اعترتْني كانت من منظر الطفل الصغير الذي يقبع في حضنها كتمثال حيٍّ، كصورة مصغرة عن الجسم الضخم الذي يطوِّقه بقوة، كأنما ليمنع عنه محاولة فاشلة لحركة غير متعمَّدة.

حدَّقتُ إلى الوجه الصغير عن غير وعي منِّي، كأن المشهد يشد أحاسيسي بكاملها، الظاهرة منها والكامنة. هل يمكن للطفولة البريئة أن تكون صورة تامة عن «الرشاد»، فتنعكس على صفحتها كلُّ آثار الخبرات والتجارب المختزَنة عِبْر سنين طويلة ماضية؟

كيف يمكن لهذا الوجه الطفولي أن يتحول إلى مستودع لشيخوخة مبكرة، فيتخدَّد الجلدُ اللدن النضر أمام رمال صحارى النفس الحبيسة، وتتحول البراءة في النظرات إلى حدَّة وصرامة؟! هل تكفي سنتان لتحميل الجسم الصغير موروثاتِ أجيال عفنة، تلقي بقاذوراتِها داخل الهيكل الغضِّ من غير ما شفقة أو رحمة؟!

هالَني منظرُ اللوحة، وحرَّكتْ قسوتُه في داخلي أحاسيس متزاحمة من الألم والحسرة والتحدي.

لم أحس إلا ويدي تمتد إلى قَدَمِ الصغير مداعِبة. لم تتحرك القدم مستجيبة! النظرات المتجهمة فقط هي التي انصبَّتْ على وجهي، وقد ازداد تقطيب الحاجبين فوق العينين العسليتين. عاودتُ الكَرَّة، وقد راحت أصابعي تمتد إلى الساقين المتدلِّيتين كخشبتين صغيرتين بجوربين صوفيين.

تحركت القدمان الصغيرتان تضربان كفِّي في محاولة للفرار من المداعبة غير المستحبة، كما نطقتْ بذلك النظرات المختبئة تحت رموش راحت تهتز معبِّرة عن انزعاج أكيد. كانت حركتي، كما أراد أن يقول، تطفلاً وسماجة لا حدَّ لهما!

ومع بدء ارتفاع أصابعي إلى منطقة الخصر الحسَّاسة، بدأ جسمُه الطِّفل يستجيب ببطء لحركات كفِّي، فيميل مرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار. وأخذت الشفتان الرقيقتان المزمومتان تنفرجان قليلاً عن شبه ابتسامة قسرية، بينما راح التقطيب في جبين الأمِّ يزداد، وتزداد معه نظراتُها حدَّة وقسوة. ثم راحت تضغط بساعديها حول جسم الصبي، محاولة منعه من الاستجابة، الأمر الذي أثار في داخلي شعورًا بالتحدي ومتابعة المداعبات البريئة.

وفي لمحة، ثار ما كان مخبوءًا، فتحرك الرأس الجامد إلى الوراء، متابعًا حركة راكب تَرَكَ مكانه مع توقف الحافلة. وما كان إلا أن هبَّت المرأة من مكانها، وهي ما تزال تضغط على جسم الصبي، ثم هبطتْ في المكان الذي أصبح خاليًا. هبطتْ بجسمها الضخم الذي كان تَكَوُّرُه على الصبي ما ينفك يزداد من غير ما رحمة، بينما عيناها ترشقانني بنظرات غلٍّ مكتوم.

تصلَّبتْ أصابعي على ساقي لحظة، ثم راحت ترسم ألف علامة استفهام، بينما انسرق ظلُّ ابتسامة إلى شفتيَّ. دهمتْني فكرةٌ غريبة استدعاها إلى ذهني منظرُ فتاة وَقَعَ عليه نظري من خلف النافذة وهي تبتسم لتعليقات فتى يتبعها، وقد اختلطتْ وتشابكتْ تعبيراتُ قسماتها، حتى تكاد ألا تميِّز إن كانت منتشية بتحرشات الفتى أم مستنكرة ومغتاظة!

فكرت: «ربما كانت المسارات تتقاذفها في تلك اللحظة بالذات، فتحار إلى أيِّها تنشدُّ: مسار العذراء أم بائعة الهوى!» قلت في سرِّي: «ربما ظنَّتْني أمُّ الطفل مغامرًا يريد أن يصل إلى الكنز الكبير من بابٍ سرِّي صغير!» اتسعت الابتسامة على شفتيَّ، وتوقفتْ أصابعي عن رَسْمِ علامات الاستفهام.

***

مع توقف الحافلة أمام أحد مواقفها، صعد إلى داخلها كهلٌ ومعه صبي في حوالى العاشرة. استرعتْ انتباهي – الذي كان يلملم شتاته إثر زلزال حطَّم أعصابه النبيلة – حركاتُهما السريعة ووجهاهما الطافحان بِشرًا.

وفي لمحة، استعدتُ توازني. دقَّقتُ في ملامح الكهل حتى أتأكد من حسن ملاحظتي، فطالعتْني ابتسامتُه. ومن غير مقدِّمات أشار إلى ذراعه المربوطة، وهو يلحظ تركيز نظري الذي كان يتساءل صامتًا. قال بمرح: «ظروف العمل في الأرض.» وانشغل لحظةً بفتح محفظته بيده الحرَّة. أخرج منها مبلغًا، والتفت إلى الصبي الذي كان يتحرك فوق مقعده بجسمه ورأسه، مستطلعًا وجوه الناس وحركاتهم بنظرات مشتعلة. «خذ، حاسِب السائق.» بهذا نطق الأب، وراح ينظر إليَّ وإلى الصبي، كأنه يجرُّني إلى فتح حديث. «جميل أن يولي الأبُ ثقتَه لأبنائه، حتى وإن كانوا صغارًا.» هكذا قلت. لم أتم جملتي حتى انبرى شارحًا: «نحن ستة في البيت. صبيان وبنتان. هذا أصغرُهم. لا يقوم أيٌّ منَّا بعمل إلا بمشورة الجميع.»

صمت برهة، ثم تابع بانهماك: «حتى البنات أشاورهم في كلِّ شيء!» وابتسم في وجهي. «صحيح أنا فلاح»، قال وهو يشير إلى كفَّيه الخشنتين، «لكني ديموقراطي!» وراح يقهقه ضاحكًا، وهو يربت على كتف ابنه الذي كان يتابع بأحاسيسه المتيقظة كلَّ ما يدور حوله.

قلت مشدودًا إلى سماع المزيد: «لا شكَّ أنك مرتاح... هذا واضح.» أشار إلى يده. «هل تدري؟ أنا لا أحس بوجع ذراعي. إنني أنساها في أغلب الأوقات. عندما تدور أحاديثُنا المسائية في فسحة بيتنا المفتوح على أرضنا الخضراء ينسى كلٌّ منَّا تَعَبَ نهاره، وتنطلق ضحكاتنا لأتفه الأمور!» أخذ يضحك بصوت مسموع كأن الحافلة خالية إلا منه. تابع: «الحياة حلوة، يا أستاذ... حلوة وبسيطة. فلماذا نعقِّدها ونصعِّبها؟ ألم تسمع المثل القائل: صعِّبْها تصعب، ويسِّرْها تيسر؟»

وأخذ يربت على كتف ابنه من جديد، وجسمه يرتج على وَقْع صوت ضحكه.

***

لا أدري لِمَ قفز نظري إلى المقعد الخلفي، لينصبَّ على وجه المرأة وطفلها. المرأة ما تزال قابضة عليه. وجهها متجهِّم، وشفتاها مزمومتان، ونظراتها حادَّة وعدائية. ابنُها ما يزال جامدًا في حضنها – صورة ناطقة، مصغَّرة!

*** *** ***