<LINK href="favicon.ico" rel="SHORTCUT ICON">

 ميثاق العبرمناهجية - Charter of Transdisciplinarity

هذا الشعار مستوحى من شعار المركز الدولي للأبحاث و الدراسات العبرمناهجية، عن رسم أصلي للفنان البرتغالي الراحل ليماده فريتاس

 إصدارات خاصّة

Special Issues

  المكتبة - The Book Shop

The Golden Register - السجل الذهبي

 مواقع هامّة

Useful Sites

أسئلة مكررة

F.A.Q.

الدليل

Index

 معابرنا

 Maaberuna

أن نحيا بشكل جيد: عن أكرم أنطاكي

 

دارين أحمد

 

رحل أكرم أنطاكي. كان موتًا متسقًا كليًا مع شخصه وحياته، هكذا بدون مقدمات أو توريات، مباشر إلى الجوهر، إلى قلب الشخص أو الموضوع. كان موتًا أليفًا خفيفًا خاطفًا، يشبه كثيرًا صَـيْـدَه الثمين – وكلُّ إنسان ثمين – عندما يحضر في وجْـهِـه الرضى العميق؛ كان من السهل إرضاء أكرم: أن تكون مخلصًا لنفسك صريحًا دقيقًا ملتزمًا بإنسانيتك في علاقاتك مع الآخرين، غاضبًا بصدق ووضوح، غير كتوم وكابت، فقد سَـهُـل على هذا الإنسان المندفع اكتشافُ تلوُّن الكبت والغضب على وجه آخَرَهِ المقابل. وكان هذا الموت موتًا قاصمًا مفاجئًا ثقيلاً موجعًا باترًا، مرة أخرى يشبه صَـيْـدَه الثمين – وكل إنسان ثمين – عندما يجتاحه الغضب، وأكرم كان غضوبًا ساخطًا فقليل من الناس فقط يمكنها في كل وقت أن تكون مبعث رضاه.

رحل أكرم أنطاكي إذًا، وهكذا كان موته صنوًا له كما كانت حياته التي يمكن عنونتها بهذه الجملة:

وأتفكَّر بأني لم أخف يومًا من التمعن في الدموع الحارة للألم الإنساني، وأن نفسي لم تلتجئ يومًا إلى قوقعتها الأنانية هربًا من ذلك الجحيم، إنما، وبكلِّ تواضع، كانت هذه الدموع هي التي حركتني طيلة حياتي.

هكذا كتب في كتابه الذي نَـشَـرَه على حلقات في موقع معابر تحت عنوان عودة إلى الذات، وعودته تلك كانت بسببنا، نحن أصدقاؤه الذين كان يطالبهم بالكثير، الكثير الذي بدون أن نمنحه كاملاً لا يمكن أن نكون أصدقاء بحق. لم يكن يقبل بأقل من علاقة بمستوى "أنا-أنت" – أحد كتبه الأثيرة، والذي ترجمه ونشره في دار نشر معابر، وأحد ينابيع فكره، حيث صارت مصطلحاته تتردد على لسانه كلما رأى انعزالاً أو تقوقعًا أنانيًا حتى لو كان هربًا من الجحيم. والجحيم هو الآخرون لا أحد سواهم، هم أيضًا من يجب أن يكونوا نعيمًا ما أن يتمكنوا من تحويل النار الحارقة إلى برد وسلام. وأكرم أنطاكي كان أحد هؤلاء إنما بتعقيده الخاص وخلف وجهٍ قاس الملامح طيب العينين.

تعرفت على أكرم عبر مذكراته، كانت المرة الأولى التي أطلع فيها على شأن تاريخي تداخل فيه الشخصي بالعام وكأنهما شيء واحد، كما يجب أن تكون الأشياء فعلاً، والتقيت به في دمشق مع أصدقاء أعزَّاء آخرين، وتطورت تلك العلاقة بالتدريج حتى صرتُ جزءًا من معابر، أي صرتُ جزءًا من أكرم بشكل شخصي؛ إذ كان "أكرم-معابر" كيان واحد من الصعب الفصل بينهما. لم تكن مسألة هذا الترابط مسألة تعلُّق شخصي بنتاج العمل بقدر ما كانت شبيهةً بمذكراته وبالفكرة المحركة له إجمالاً: "لا فصل بين الشخصي والعام"، "أنا ما أعمل وليس ما أقول أو ما أفكر"،... إلخ من تداعيات فكرية أخرى. هذه الفكرة المحركة له انعكست في علاقاته مع الآخرين على شكل التصاق كامل بهم وبحياتهم، لم يكن يقبل تناول الإنسان فكريًا أو فلسفيًا أو نفسيًا أو روحيًا، بل واقعيًا كصفة أولى تلحقها باقي الصفات. يقول في كتابه عودة إلى الذات:

لأننا نعيش من جهة أخرى في عالم ما زال عنيفًا وتسود فيه الإساءة كما يسود فيه الغضب. وهذه الحقيقة هي الوجه الآخر لمستوى واقع آخر لا يمكننا التستر عليه ولا إنكاره. فنحن نعيش في علاقة مستمرة ودائمة مع ذلك العالم المحيط بنا كما نعيش مع أنفسنا.

إلهي، كم سيء هنا التلاعب بالعواطف وبالفكر وبالكلمات! إلهي، كم يساء في هذا المجال إلى العقول وإلى القلوب حين يُحصر الخطأ، على سبيل المثال، بجانب ويتم التغافل عن الجوانب الأخرى! إلهي، كم سيء أن تُحصر الإساءة في أعماق الذات الإنسانية وأن يتم التغافل عن مسبباتها في العالم المحيط!

فهذا الإنسان غاضب، مثلاً، لأنه لا يستطيع تأمين ما يكفي من الطعام لعائلته، وهو لا يستطيع ذلك لمسببات عامة تتعلق بالمجتمع وبالسياسة وبمجمل ما يحيط به من ظروف. فكيف، بربكم، كيف بوسعنا أن ننصحه بأن يبحث عن جذور ألمه وغضبه في نفسه قبل أن نساعده، كبشر يفترض أن يشعروا بما يشعر به، على حلِّ تلك المشكلة الأساسية التي هي إطعام صغاره ومسح دموع الألم عن وجوههم؟!

إن الحديث عن العودة إلى الذات هنا تحديدًا، وفي مثل هذه الأحوال، وما أكثرها، سرعان ما يتحول إلى مجرد كلام فارغ وبلا معنى. لأننا في أحسن الظروف لا نرى أن ما نتحدث عنه ونطلبه من أنفسنا، ولأنفسنا، إنما يعكس مستوى مختلفًا من الواقع ومن الحقيقة.

ما سبق يمكِّننا من إعطاء أكرم أنطاكي صفةً أطْـلَـقَـها غاندي على نفسه: "مثالي عملي". فهو كان مثاليًا من الدرجة الأولى؛ أحلامه وتعاطيه مع الواقع وصلوا إلى أقصى أفق إنساني أو إلهي، فالإله والإنسان واحد كما كان يردد دائمًا، وتحقق الإله على الأرض ما هو إلا تحقق الإنسان عليها، وهذا التحقق لا يمكن أن يكون في برج عاجي أو في انعزال عن الآخرين وآلامهم ذات الطبيعة المادية أولاً والطبيعة الروحية والنفسية تاليًا. هذا ما جعل كلَّ تعامل مع أكرم يتخذ شكلاً واقعيًا حياتيًا جعل كل من عرفه، ولو لفترة قصيرة، يشعر به كصديق عزيز أو غير عزيز إنما حاضر في الحياة، أو كما كان يردد أيضًا "من العالم وفيه".

جَـذَبَـتْـه الرمزية في الأديان إلى أقصى حدٍّ وفيها وجد إلهه الذي ألحد بشكله المؤسَّساتي في شبابه ليعود ويحييه من الأرقام والحروف والرموز، من القبالة والغنوص والتصوف، فقد كان على اتصال عميق بحقيقة كون الإله هو الشيء ونقيضه معًا، بحقيقة أن هذا العالم البشري إنْ كان يمكن توصيفه برمز فهو رمز النجمة السداسية، التي أفرد لها مقالاً مستقلاً، والتي تعني التقاء الأعلى بالأسفل، الإله الساعي إلى تحققه في المادة، والمادة الساعية إلى التحقق في الألوهة. في مركز هذه النجمة يقبع العالم الإنساني وليس في مكان آخر. وهذا ما جعله يصرُّ على قبض النقيضين في يد واحدة، مؤكِّدًا أن لعالم الواقع الأهمية ذاتها التي لعالم المجرد أو المتعالي.

في لحظات اليأس التي كانت تنتاب صديقنا في أحيان كثيرة – ونحن هنا نتحدث عن زمن سابق لكل ما تعانيه سوريا الآن – والتي كان يعلن فيها مقولته الشهيرة نقلاً عن رومان رولان: "أنتم تعيشون بشكل سيء أيها السادة"، كان يعود سريعًا إلى مركزه الواقعي ليحييَّ أمله من خلال قدرته على رسم ابتسامة على وجوه الآخرين، ابتسامة مادية بحتة، فقد كان مهمومًا بثقل العيش عند أغلب السوريين، وأحد وجوه عمله الكثيرة كان في هذا المجال، مستنكرًا بشدة أيَّة فلسفات تصعيدية نابعة من الحاجة خاصة إذا ارتبطت هذه الحاجة بعائلة وأطفال. ولذلك فإن له يدًا بيضاء على كثير من الشباب والشابات الذين دفعهم دفعًا إلى خوض غمار المسؤولية تجاه أنفسهم وتجاه عائلاتهم مقدِّمًا كل ما يستطيع من دعم نفسي وفكري وعملي. وهو الذي كان يعتبر العائلة اختبارًا للفرد ويشكك في كل هدف أدبي أو إنساني يتعارض معها. ومن هذه النقطة انطلق في نقده لمفكرين كان لمعابر الفضل في إلقاء الضوء عليهم لقراء العربية كمثل جدّو كريشنامورتي الذي اعتبره أكرم متعاليًا عن الواقع غير منخرط فيه، منتقدًا إياه مثلاً بقوله:

إن من توصَّل إلى هكذا استنتاج [إننا حين لا نعرف كيف نحب شخصًا واحدًا يكون حبنا للإنسانية زائفًا...] لا بدَّ أنه، وفي يومٍ ما من حياته، قد عرف وعاش حبًّا حقيقيًا من خلال علاقة حصرية مع إنسان محدد. ولكن، يا للإسف، أتراه خسر كلَّ شيء بعدئذٍ، حين تخلى عن حياته الطبيعية كإنسان وتحول إلى... مجرَّد مفكر كوني؟!

نعم، كان أكرم أنطاكي ضدَّ المفكر الكوني، والشاعر الكوني، والفيسلوف الكوني، إن لم يكن أولاً إنسانًا يختبر الألم في الآخرين، الألم الأرضي، ألم الجسد وتعاسة المنكوب والجائع. وهنا كان لما يحدث في سوريا، قريبًا جدًا منه حيث أصرَّ على البقاء في دمشق محاولاً عبر كتاباته وتواصله مع الآخرين فعل شيء يعدِّل قليلاً في مسار القتل والعنف المتعاظم والذي يبدو بلانهاية حتى الآن، [كان له] وقع هائل جعله يتأرجح مثلنا جميعًا بين اليأس من إمكانية تغيير أي شيء وبين الأمل بأن الحال لابد أن يتغير ولابد أن نكون حاضرين في كل وقت من خلال عملنا على وقف هذه المذبحة، عملنا على التغيير اللاعنفي ودعم أساليبه والتأكيد على السلام والاعتراف بالآخر-الخصم، مرددًا بشكل دائم: "لا يحتاج الأصدقاء إلى التفاوض فيما بينهم".

كتب الكثير من الأصدقاء تعليقًا على خبر موته إن قلبه لم يعد يحتمل كل هذا البلاء، متحدثين عن قلوبهم وقلوبنا، وبالتأكيد عن قلب أكرم أنطاكي الذي كان ينبض دائمًا على وقع سعادة المحيطين به، على وقع حلمه بنخبة سياسية فلسفية فكرية تلتصق بالعالم كما التصق به، وتعطيه كما أعطى، ساعيةً في كل لحظة إلى رفع الحضيض دون الترفُّع عنه، ودون السقوط فيه.

أكرم أنطاكي،

غادَرْتَنا، ونحن كما كنا دائمًا "نعيش بشكل سيء" يا صديقي.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود