رحلة بالداسار

"ورقة واحدة تمنح الخلاص"

 

محمد برو

 

يا صديقي، لن نفهم كيف يسير العالم إذا تخيَّلنا أن الناس يتصرفون دائما بتعقُّل. الخَرْق هو المبدأ الذكوري للتاريخ.

هكذا يؤكد اليهودي المتحرر ميمون لصديقه بالداسار، بينما الأحداث تمور باضطراب مريع بسبب ذلك الذي ادَّعى أنه مسيح اليهود المنتظر شبتاي.

 

"رحلة بالداسار": هكذا يسمي أمين معلوف تلك الحياة الغنية بالمفاجآت والانكسارات والدهشات والأساطير والترحال الدائم – بحثاً عن ماذا؟

عن حلٍّ لذلك القلق الوجودي المستمر في رحلة الإنسان من الحياة المعيشة إلى تلك الحياة الأبدية التي تنتظره، والتي ستكون حساباً – عقابا أو ثواباً –، والتي يتناولها الإنسان أبداً بوَجَلٍ عارم، كونه دائماً متهماً ومُداناً سلفاً، إلى أن تتلقَّفه يدُ العناية الإلهية برحمة أو مغفرة منها – تلك الصيرورة المنتظرة التي لم تقدِّم لها الفلسفات (بما فيها الأديان) سوى الفرضيات التي يمكن دوماً ثقبها والارتياب فيها، مادام لم يعد أحدٌ أبداً من عباب الموت ليخبرنا بما ألْفاه حقاً، وبما ينتظرنا جميعاً.

يوزِّع أمين معلوف عمله بين أسطورة الكتاب، ورحلة عظيمة الشأن، وبين المرأة التي تُشاطِر أخطر الأحداث وجوداً، كما في سمرقند وفي موانئ المشرق وغيرهما – تلك المرأة التي تبحث عن وثيقة موت زوجها سياف، ذلك الأفَّاق الهارب الذي ما يزال، رغم موته، يربطها إليه كما يرتبط المَتاع بمالكه.

إذاً هي الرحلة العاتية التي يتوزع فيها بالداسار بين بحثٍ عن الكتاب، الذي يضع حداً لقلق النهاية التي تنتظر العالم، وبين البحث عن ورقة واحدة، وثيقة تمنح الأرملة الخلاص من ذلك الرباط الذي يحتجز حريتها، ويُبقيها ملكاً لذلك الغائب في مَهْماه الأيام.

تكتنز الرواية، كما هو شأن معظم أعمال المعلوف، بالحكمة التي تصدر عن ذلك الشخص الذي عَرَكَتْه الأيام، فجمع، إلى تشكُّكه وارتيابه المستمر، ضرباً من الإيمان الهادئ الذي يطل برأسه خجلاً كأنه سؤال أكثر منه تقريراً. تلك الحكمة نجدها هنا وهناك، ترصِّع بعض الصفحات؛ فتراه يسوق على لسان أبطاله مقولات هي أشبه بتلك اليواقيت التي تزيِّن مقابض سيوفهم.

لا يوجد شيء لا نقدر سماعه في قرارة أنفسنا وسط سكون الليل.

هكذا يؤكد بالداسار في لحظة صفاء مع روحه الهائمة القلقة التي يتنازعُها السعيُ وراء الكتاب، والسعي إلى إنجاز مطلب مارتا، تلك المحبوبة الأسيرة التي تنشد خلاصها. ويقدم لنا المعلوف رحلة بالداسار من خلال كراريس أربعة، يخطُّها بالداسار بعناد وصبر عظيم، كل ليلة تقريباً، على شكلٍ سردي يشبه المذكرات اليومية، كأنها تقرير يومي لمراسل صحفي ينقل لنا يومياً ما استجدَّ في بؤرة الأحداث. فهو يُعَنْوِن فصوله: "في جنوى، السبت 23 تشرين الأول 1666" أو "في الأسر، 29 حزيران"، وكأن الخبرة الصحفية للمعلوف تطل برأسها بين سطور رواياته؛ هذا علاوة على التوثيقية العالية المستوى التي يتحلَّى بها عمله. فهو، إذ يتحدث عن العام 1665 وما يليه، يسوق لك أحداثاً دقيقة حصلت فعلاً وأسماء يمكنك الرجوع إليها في مطاوي التاريخ، وبذا تخال نفسك إنما تطالع مذكرات حقيقية لكاتب محترف يستطيع، رغم أعتى الظروف وأحلك الأحداث، أن يوقِّع يومياته بأناة عالية، دون أن يوقعك بالانقطاع الذي يضيِّع الأحداث ويُخرِجُها عن اتساقها التاريخي.

الكتاب المهمل

يمضي بالداسار في تتبُّع أثر الكتاب الذي اشتراه منه الفارس مارمونتيل، موفَد البلاط الفرنسي، عنوة ونتيجة سوء تقديره؛ إذ ظن أن المبلغ الذي طلبه كفيل بصرف المشتري الذي خيَّب أمله فنقَده ثمنه دون تردد. وبذا فرَّ الكتاب من بين يديه دون أن تتاح له فرصة تصفُّحه. وسوف يُمضي بالداسار رحلته من جبيل، إلى القسطنطينية، إلى إزمير، إلى أرض الأجداد في جنوى؛ ومنها إلى إنكلترا، مروراً بعشرات النكبات والانكسارات، من احتيال رجال السلطان العثماني وابتزاز عملائهم، إلى المطاردة والاعتقال والنفي ملفوفاً بقطعة من الكتان، كما يفعل بالأموات على ظهر سفينة مبحرة إلى جنوى؛ ومنها إلى لندن، حيث يلتقي كتابه الضائع الذي تتلقَّفه العديد من الأيدي المهتمة به والمُلِمَّة بما ينطوي عليه من خطير الأسرار.

لقد آل الكتاب أخيراً إلى كاهن مقيم في نزل فقير بعد أن احترق بيتُه على يد الغوغاء ذات يوم؛ فيستطيع أن يتفق معه على أن يحصل على الكتاب، شريطة أن يترجمه له إلى اللاتينية قبل ذلك. ويوافق بالداسار عن طيب خاطر، دون أن يدري أنه لن يستطيع أبداً أن يترجم الكتاب، أو حتى أن يقرأه! فكلما حاول ذلك غلبتُه غشاوةٌ وظلمةٌ تجلِّل عينيه وتصرفُه عن القراءة، حتى يئس من إمكانية استجلاء محتوياته، وكأن طلسماً يحول دون ذلك – هذا الكتاب الذي كان وراء شتاته وغربته.

وعندما تبدأ الأحداث بالتتابع السريع، وتمر الليلة المشؤومة التي تشكل مفصل النهاية بسنة الوحش، والتي تحسم بمرورها احتمالَ بقاء العالم أو زواله – تلك الليلة التي تتعرض فيها لندن إلى حريق عظيم يوشك أن يأتي على معظم المدينة، وكأن ما كان بالحسبان قد وقع، وأن سنة الوحش قد اختارت لتحقيق وعيدها الساعات الأخيرة من تلك الليلة. إنها ليلة 12 أيلول من العام 1666؛ وهي ليلة النهاية في السنة الروسية.

مع كل هذه الأحداث، ما يزال بالداسار مصراً على تسطير كرَّاسه الرابع، مع علمه بضياع كراريسه الثلاثة السابقة. فكأنه، بهذا الفعل، يعاند فعل الأيام التي تأتي بطوفان النسيان، فلا ينجو من فعلها إلا ما حصَّنته قلاعُ المذكرات وأضاميم الصحائف.

عند هذا الحد، وبعد أن يصبح الكتاب ملكاً له، يقرِّر بالداسار عدم جدوى قراءته، ويرمي به على أحد الرفوف، وكأنه يعلن لنا أنه لا حقيقة كامنة نحن مضطرون للجري خلفها. إنها هنا حيث نعيش، وحيث نمضي، وهي، كالسعادة، تقبع في أعماقنا وفي ثنايا حياتنا، وأن السعي للبحث عنها ما هو إلا ضرب من ضروب السراب الذي لا نجني منه غير الشقاء.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود