حلمٌ صغير

 

معن عبد السلام

 

في يوم من الأيام كانت للأحلام بيوتٌ ومدائن تقيم فيها، وكان البشر، عندما يروحون إلى النوم، يرتدون ملابس خاصة تسمح لهم برؤية تلك المدائن والبيوت.

-       أليست مخيفة هي يا أمي؟

-       عندما يكون الظلام دامساً، والأحلام في حالة تعب بحيث لا تقوى على إشعال قناديل المدينة، عندها... تكون مخيفة!

-       ولكن كيف يمكن للأحلام أن تتعب؟ وكيف لا تشعل الأنوار لنا؟! فماذا إن تُهنا، أمي، ولم نعد نعرف طريق العودة؟!

-       لا تخَفْ، بني. فلمدينة الأحلام حارسٌ يقال إنه لا يتعب أبداً، ويقال إنه، حين الشمس تبدأ بالبزوغ، يهرول مساعداً الناس الضالين لكي يعودوا إلى أسرتهم بين ذويهم.

"في تلك المدينة كان يعيش حلم صغير بحجم قبضة يدك، حبيبي. وكان لهذا الحلم جناحان صغيران يطير بهما، ويحلق فوق رؤوس الأطفال النائمين، فيجعلهم مبتسمين فرحين حينما يهزُّ الهواء الناعم على خدودهم، وحينما يُريهم الأنوارَ المتلألئةَ تحملهم إلى الفضاء الجميل.

كان خفيف الظل جداً، هذا الحلم الصغير، حيث كان يتشكِّل بأشكال وألوان لا حصر لها... فمثلاً هو حصان بلون الثلج أبيض، أو أرنب رمادي مبرقش بالأبيض الوردي، يقضم الجزر ويستدفئ في حضن فتاة برائحة المسك، نائمة.

-       أمي، لماذا لم أرَ في حياتي هذا الحلمَ الصغير؟!

"لطالما رأيتُ نفسي جالساً في غرفة صغيرة مغلقة من جميع جوانبها، وفي أحد جدرانها ثقبٌ ينسربُ منه رمل مالح يريد أن يدفنني تحته. مرعباً جداً كان ذاك الحلم أمي... مرعباً!"

على هذه الحال كان يُمضي الحلم الصغير أغلب يومه، يتحول من صورة إلى أخرى، ومن رمز، إلى ضوء، إلى سماء.

إلا أنه في أحد الأيام رأى طفلاً لا يأبه بما يُقدِّم له في أحلامه من حكايات وصور، حتى إنه لم يكن يلقي بالاً لأي حلم يأتيه. فقد كان يستيقظ حتى قبل أن يزوره أحد!

وذات مرة انتبه الحلمُ الصغير إلى أن هذا الطفل تأخَّر عن موعد نومه، حتى إنه لم يُرَ في تلك الليلة. أحسَّ بضيق في صدره وخوف على ذاك الصغير، فقرر أن يطير خارج مدينته مع أول صباح قادم ليرى ما حلَّ بالطفل. إلا أنَّ ذلك كان خطيراً جداً. فالحلم، إن خرج من مدينته في غير ميعاده، قد يضيع في السماء الواسعة، وقد تأخذه الريح بعيداً، ربما إلى القمر، وربما أبعد من ذلك، بحيث لا يعرف كيف يعود ثانية. إلا أن حبَّه لذاك الطفل وخوفه عليه جعلاه يُقِرُّ قراره على المضيِّ في رحلته هذه.

وهكذا، في صباح اليوم التالي، تشكَّل الحلم الصغير على هيئة سحابة صغيرة بيضاء، بحيث لا يَشتبهُ فيه حارس المدينة، وخرج متسللاً منها.

ويا للذعر الكبير الذي أحسَّ به حينما شاهد تلك المدينة الغريبة، المليئة بالصور الجافة والأبنية المتطاولة، كأنها كوابيس يغصُّ بها المكان! راحَ الحلم الصغير يسأل المارة عن طفل أضاعه، إلا أنَّ أحداً لم يُعرْه انتباهه، وكأن لا وجود له.

تذكَّر نفسَه وأدرك أنه لن يُرى ما دام خارج مدينته. لكنه أصرَّ على البحث. حاول التحدث إلى القطط، إلا أنها صارت تموء بصوت خشن جارح، كأن شيئاً مرعباً ظهر لها.

ركض الحلم مختبئاً في إحدى الحواري الضيقة، فوجد هناك باباً شبه مغلق. مدَّ رأسه عبره، وبحذر شديد راح ينظر داخل المنزل. سمع صوت قرقعة وضجيج وبكاء مستمرٍّ موجع.

هناك، في باحة الدار، كانت امرأة تعمل على حياكة الصوف تصيح في وجه رضيع ما يزال في القماط، تنهره وتأمره بالصمت.

-       أمسيتُ وحيداً!

قال الرضيع بصوت يختلج وعينان تنفران حزناً.

-       وأنا أيضاً، قال الحلم. منذ الصباح وأنا أبحث عن طفل كنت أراه كل مساء، أنيرُ له الليل، وأجعله يذهب إلى الحدائق الواسعة. هل تعلم أين يكون؟

-       هل ما تزال أمي حزينة؟

-       تبدو أكثر هدوءاً من ذي قبل.

-       خذني معك!

-       لا أستطيع. إنني ضائع في هذا العالم الكبير.

-       لكنك سوف تتيه!

-       لن أدعكَ تتيه معي. ابقَ بالقرب من أمِّك. حرِّرها وافرح! اقضم أصابع قدميك. ستجدكَ ملاكاً، ستُفرحُها.

-       ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍عدني أن ألقاك!

وترك الحلمُ الصغيرُ البيتَ ممتلئاً مودة وثقة لم يكن يحملها من قبل.

في الشارع العريض الطويل رأى حلماً عجوزاً كان قد غادر المدينة منذ أمدٍ بعيد ولم يُرَ له أثرٌ بعد ذلك. كان ذلك الحلم معلقاً على غصن شجرة مرتفع عن الأرض.

-       سيدي الحلم! أنت هنا... كيف حالك يا سيدي؟

كان ذاكَ العجوز غارقاً في أفكار وعقول لا حصر لها.

-       ألا تراني سيدي؟! لقد خرجتُ هذا الصباح فقط من مدينة الأحلام وأنا تائه يا سيدي!

ناظراً إلى الأفق البعيد العجوزُ كان، ثابتاً على ذاك الغصن كأنه غصن.

-       لا أفهم... لا أفهم... أرشدني... أرجوك علِّمني!

فجأة لم يعد الصغير يرى ذاك العجوز. كان قد اختفى، وكأن ريحاً حملتْه إلى روح ما.

عَظُمَ القلق في نفس الصغير. "مالي خرجت من بين أهلي؟! لِمَ لا أعود؟ لِمَ أبحث بدون جدوى؟ خائفٌ أنا أمي! أبي الحلم... أين أنت؟ أين مدينتي الحالمة؟"

كانت الشمس على وشك الأفول، مما يعني أن عليه أن يتشبث بروح كائن ما كحلم... وإلا فقد يتحول إلى كابوس مريع!

حاول مراراً... إلا أنه لم يفلح. كانت النفوسُ كلُّها مسكونةً بالأحلام. في النهاية قرَّر أن يعود إلى مدينته. ولكن يا لسوء الحظ! فمدينته كانت قد تحوَّلت إلى حلم واحد كبير يطوفُ، يزرع نفسه في كل عتم، وفي كل طرف شارع، وعلى كل وسادة سرير. كان على أحد ما أن ينتظره. لم يستطع الحلمُ أن يكون حلماً. فهو بعيد، منفصل عن المدينة الأم، وعن الحلم الكبير الأب. صارَ مختلفاً خارج مكانه وخارج زمانه.

ويا للهول! صارت الظلمة تلبسه. كان يتوجَّع، وكأن مسخاً يأكل جسده. صرخ عالياً، بكى، حتى آلمه صدره. إلا أن يداً لم تُمَدَّ لتساعده.

في هذه اللحظة السوداء، الحاسمة، تذكَّر صديقه الرضيع الذي لقيه في أول النهار، فأحسَّ بأمل سحريٍّ بأن صديقه لن يقبل سواه من الأحلام.

مسرعاً ركب السوادَ الذي ينمو في الشوارع، واخترق بعض الجدران الكثيفة، ومع آخر نَفَس في صدره وصل إلى سرير ذاك الرضيع الذي كان يبكي دون توقف.

-       ها قد أتيتُ!

-       كنت أنتظركَ.

لم يكن الحلم الصغير يدري أنه يُمسَخ، وأن هيأته تتبدل إلى هيأة وحش مرعب. لم يخف الرضيع. فقد عرف صديقه من رقَّة عينيه ومن اللهفة الدافئة في صوته.

-       أدخُلني... أسرِعْ!

-       قد أؤذيك صديقي!

-       لا تهتم... أتحمَّلك وقت الشدة. أدخُلني!

-       أخاف على روحك الندية!

-       اشربْها... اغسلْ نفسكَ بها...

-       قد لا تعرفك أمُّك!

-       وهل تعرفني؟!

-       لن يعرفك أبوك!

-       عندما يطلع الصبح سيعرفني الجميع.

وهكذا دخل الحلمُ الكابوسُ روحَ الرضيع...

سوادٌ وطرقٌ لا تنتهي. توجَّع وآلمتْه أوصالُه. معدتُه انكمشتْ، وراحَ يبكي كما لم يفعل من قبل. لم يستيقظ أحدٌ ممَّن في البيت. فلا أحد سمع أو يسمع بما يحدث. وحده الكابوس الذي دخل كان يُدرك أنه صارَ والطفلَ واحداً.

وكان يتحوَّل... جراداً يقضم القلب صار، وخنفساء صفراء تضغط على الروح، ألواحاً خشبية خشنة تنكسر على الأجنحة الصغيرة، وسراديب طويلة معتمة.

تارةً هو عفريت بأنياب حادة، وطوراً صندوق منسيٌّ، وهو بداخله يختنق.

سريعاً ومُطهِّراً التحوُّلُ كان. وكان آخرُه غرفةً بجدران أربعة، لا باب لها ولا نافذة. فقط شقٌ صغير يدخل منه الرمل المالح الذي يتكاثر ويتكاثر حتى يصلَ عنقَ طفل صغير يرتجف من الرعب والوحدة داخل تلك الغرفة.

-       أحبكَ!

خرجتْ من فم الصبي الصغير القابع هناك في الخوف.

-       أحبكَ!

أعادها ثانية بشوق كبير وطمأنينة أزالت غشاوة الرمل من عينيه.

كوَّة واسعةٌ انفتحت في أحد الجدران، فدخلتْ أشعةُ الشمس جميلةً دافئةً لتملأ الروحَ فيضاً من الدفء والعذوبة.

-       أحبكَ!

أعاد الصدى رجعَ الكلمة، وكأنها زارت آلاف الأماكن البعيدة، المحزنة والمفرحة، وعادت من بعدُ مُحمَّلة برائحة العشب والندى.

***

 

كلُّ الطيورِ التي عانتْ

سَكِرتْ ثم غرقتْ

لم يوقظْها بردٌ

لم يوقظْها رحيق

ذبُلتِ النسمة

الأغطيةُ الصفراءُ، لونُ السمكِ الجارح

لم يبقَ غسقٌ، لم يُسعفْ نسيم

كلُّ تلك الأحلام التي عانتْ

ذَهَبَ البرقُ يبحث

والنجمُ، ذاكَ النجمُ، صارَ قلباً

من يدري

من يتألم

من يعرف

الطيورُ ذابتْ

واحترقتْ

لكنها سكرى كانتْ

عانتْ طويلاً

لكنها عادتْ سكرى مشتعلة

لا شيء يماثلها

لا شيء.

*** *** ***

شتاء 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود