الفصل السادس: سنوات الصخب - آ: الجامعة والرفاق والآخرون1 الفصل الخامس: مرحلة انتقالية - مدرسة الآباء العازريين3

ب

مدرسة الآباء العازريين (4)

طائر الليل: لأن لكل شيء في هذه الحياة وجهه الآخر... وهذا الوجه ليس بالضرورة حقيراً؛ كما أنه قد لا يكون بالضرورة مشرقاً، إنما هو، قطعاً، من صنع أبنائه...

وعدنا إلى المدرسة، طلاباً في الصف الأخير (الباكالوريا). فكانت مفاجأتنا، في اليوم الأول لدراستنا، خبراً نقله لنا أحد الكهنة (لم أعد أذكر اسمه)، نقلاً عن مدير المدرسة الأب يوسف عطا الله (923)، يقول إن افتتاح صفٍّ خاص للطلاب الذين يزمعون التقدم إلى امتحانات الجزء الثاني من الباكالوريا الفرنسية هو أمر يصعب على المدرسة تحمُّله بمفردها... الأمر الذي فسَّرناه تهرباً ورفضاً من قبل إدارة المدرسة لتقديمنا للجزء الثاني من الباكالوريا الفرنسية. لذلك...

قررنا، دون الرجوع إلى أحد، وكما كانت الموضة آنذاك في البلد، الانقطاع عن الدراسة. ثم اتصلنا مباشرة، دون علم أهالينا أيضاً، بإدارة مدرسة اللاييك التي رحَّبت بنا مبدئياً، وذهبنا بعد ظهر ذلك اليوم الثاني لدوامنا المدرسي المفترض إلى السينما، احتفالاً بانتقالنا منذ الغد الباكر إلى تلك المدرسة (حيث البنات و) حيث قرَّرنا أن نقدم الجزء الثاني للباكالوريا الفرنسية...  

صورة هوية لي في صف البكلوريا

ولكن فرحتنا لم تدم! إذ سرعان ما بادر الأب يوسف عطا الله إلى الاتصال بأهلنا (924) الذين وجدناهم ينتظرونا في ذلك المساء عند مدخل السينما ("الحمراء"، على ما أذكر). واتجهنا جميعاً لمقابلة الأب المدير الذي انتقد سلوكنا المراهق بلطف ومحبة. ثم اتفق مع أهلنا مباشرة على تسوية يتحملون فيها، إلى جانب المدرسة، بعضاً يسيراً من التكاليف الباهظة لهذا الصف الخاص والمميز.

ففي حينه، كنَّا أصبحنا بالنسبة لمدرستنا "سوبر طلاباً"، وأصبحنا نعامَل معاملة خاصة جداً. كنَّا صفاً من خمسة طلاب فقط (كان نواف نصير (925) الوحيد من بين الناجحين في الجزء الأول الذي قرر ألا يتقدم إلى الجزء الثاني فرنسي، مفضلاً التركيز على الباكالوريا السورية)، إن لم نقل كنا أربعة طلاب وطالباً (هو طوني نصري (926) الذي خُصِّصت له منفرداً دروسٌ إضافية خاصة في الرياضيات والفيزياء). كنَّا نحضِّر بعض الدروس المشتركة المتعلقة بالبرنامج السوري مع باقي طلاب صفنا، ولكن غالبية دروسنا كانت في صفٍّ وحدنا. فقد خصَّصت لنا المدرسة نخبة من خيرة أساتذة البلد، كالأستاذ حزِّي (927) للرياضيات، والأستاذ بغدادي (928) للفيزياء والكيمياء؛ وأيضاً كان مدرِّسنا للعلوم الطبيعية هو الصيدلاني الأستاذ فلاح (929) الذي كان يهودياً، والذي ساعد كثيراً في إنجاحنا في مخصَّصه في الجزء الثاني من الباكالوريا الفرنسية؛ كما كان مدرِّسنا للفلسفة وللإنسانيات (التاريخ والجغرافيا) هو الأب يوسف عطا الله (930) نفسه. وكانت حصصُه هي الأمتع بالنسبة لنا من حيث ديموقراطيتها وعمق النقاشات التي كانت تجري خلالها...

وخاصة في تلك الأيام المضطربة التي نمعن فيها مزيداً، قبل أن تنطوي الصفحة ويبتلعها النسيان...

وكانت في حينه أزمة الصواريخ الكوبية بين روسيا وأمريكا...

تلك الأزمة التي تناقشتُ حولها مع صديقي فاروق (931) الذي كان أصبح طالباً في السنة الأولى حقوق، وبات ينقل إليَّ بأسلوبه الشائق الجميل ما لم أكن أعلمه من أخبار خارجية وداخلية: كيف ذهب مع بعض أصدقائه الشيوعيين للتظاهر، تضامناً مع كوبا، أمام سفارة الولايات المتحدة في دمشق، وكيف ألقوا البيض والبندورة الفاسدة على السفارة الأمريكية، أو أخبار الاضطرابات الطلابية التي وقعت مؤخراً في جامعة دمشق، حيث جرت مشاجرة عنيفة بين الطلاب الشيوعيين والاشتراكيين المسلَّحين بالجنازير، من جهة، والبعثيين والناصريين المسلحين بالعصي، الذين دعمهم الإخوان المسلمون، من جهة أخرى... تلك المعركة التي انتصر فيها البعثيون والناصريون والإخوان على خصومهم الاشتراكيين والشيوعيين وسحلوا أحدهم (الذي كان شيوعياً وصديقاً لفاروق يدعى نذير (932)) في ساحة الجامعة، قبل أن يُنقَل، وهو غائب عن الوعي وفي الرمق الأخير، إلى المشفى حيث تم علاجه وإنقاذه...

وكان إضراب معلِّمي المدارس الرسمية الذين كان يسيطر الناصريون على نقابتهم...

وكانت أيضاً إصابة رئيس الوزراء السيد خالد العظم (933) بتوعك صحي حادٍّ ألزمَه دخولَ المشفى بعض الوقت...

وكانت صدامات حادة في داخل الوزارة بين "الاشتراكيين" و"الإخوان"، تمخضت عن الاستقالات المتتالية للوزراء رشاد برمدا (934) (حزب الشعب)، عبد الحليم قدور (935) وخليل كلاس (936)(اشتراكيين عرب، من جماعة أكرم الحوراني (937))، أمين النفوري (938) (مستقل)، عمر عودة الخطيب (939)ونبيل الطويل (940) (إخوان مسلمين)، الأمر الذي فاقم عزلة وزعزعة العهد الانفصالي عموماً ووزارة العظم خصوصاً...

أحداث كانت تترافق مع شائعات باتت ملحة، تتحدث عن قرب وقوع انقلاب عسكري جديد...

وكان كاريكاتور سياسي معبِّر جداً في المضحك–المبكي يصوِّر السياسيين السوريين، كلٌّ واقف على درجة من نفس السلم، وفي يد كل منهم منشار ينشر به الدرجة التي وقف عليها من هو أعلى منه...

وحديث جرى آنذاك بين والدي (941) وصديقه تحسين العظم (942)(ابن عم خالد (943)) – رحمهم الله جميعاً – جاء فيه:

-       لم لا تتحدث إلى خالد يا تحسين، فتنصحه، وقد بلغت أوضاع البلد من الانحطاط ما بلغت، وبلغ السن بصديقنا ما بلغ، أن يبتعد عن السلطة والسياسة ومتاعبهما؟

فيجيبه تحسين:

-       لقد نصحته بهذا عدة مرات يا أريس، وكان جوابه لي دائماً: "أنتم لا تعرفون كم هي لذيذة!"

(وكان يقصد السلطة، وخاصة منها قمة الهرم!)

فالسلطة، عموماً، وبالتحديد منها قمة الهرم، كانت حلم ذلك السياسي العجوز؛ والصراع من أجل تملكها والسيطرة عليها كان، على ما يبدو، طريق حياته. ولكن، ربما بسبب أرستقراطيَّته وثقافته، كان سعيه في سبيلها، من خلال ما اعتقده بنفسه من كفاءة ومقدرة، في حال تملُّكها، على تحقيق مصالح بلده وشعبه، وعبر ما آمن به من ديموقراطية وشرعية دستورية. ولكن خالد العظم لم يكن الطامح الوحيد إلى السلطة بين "ساستنا". فجميعهم، بدءاً من أبرزهم، وصولاً إلى من انتزعها في النهاية، وكان يتطلع إليها حالماً، لهذا الهدف أو ذاك أو لهذه الغاية أو تلك، مع ذلك الفارق الذي يقول إن "شرعية" هذا الأخير في السعي إليها إنما كانت البندقية وأخلاقياتها!

وتلك الأخلاقيات هي التي أوصلت العراق إلى الثامن من شباط 1963...

ذلك الانقلاب الدامي الذي قاده حزب البعث، بالتحالف مع عبد السلام عارف (944) وجماعته، فأطاح بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم (945) وحلفائه الشيوعيين الذين تصدوا، في حينه، للانقلاب البعثي–الناصري بشجاعة، الأمر الذي تمخض عن مجزرة لهم ولأنصارهم على يد ميليشيات الحرس القومي بقيادة علي صالح السعدي (946)...

وكان، طبعاً، ترحيب مصر وعبد الناصر بالتطورات الوحدوية التي جرت في القطر العراقي الشقيق، الأمر الذي زاد من ارتباك الحكم السوري الذي تجاوزتْه الأحداث. و...

كان، أخيراً، ذلك الانقلاب المتوقَّع الذي أطاح في الثامن من آذار 1963 بحكم الـ"الانفصال... الرجعي... العميل"... الذي كان أحد أبرز قادته العقيد (الحموي) زياد الحريري (947)، بالتعاون مع التنظيم العسكري لـ"حزب البعث العربي الاشتراكي"...

"حين وقع انقلاب 8 آذار 1963 كان يقف أمام باب منزل رئيس الجمهورية ناظم القدسي (948) ورئيس وزرائه خالد العظم (949) بعض الشرطة، واحد أو إثنان فقط، لست أدري..."

-       وكان هذا خطأً جسيماً!

-       ربما. ولكن كان الجيش قد فلت تماماً في حينه من يد الطبقة السياسية القديمة. وكان "البعث" قد أضحى أداته الأمثل.

ونسجل أولاً أن انقلاب 8 آذار 1963 الذي أوصل البعث إلى السلطة لم يكن، للحقيقة وللتاريخ، دموياً، كالانقلاب البعثي–الناصري في العراق، إنما تم بسهولة فائقة...

وتشكلت حكومة ائتلافية من البعثيين والناصريين، برئاسة السيد صلاح الدين البيطار (950)؛ وكانت تضم 20 وزيراً، منهم 10 بعثيون، من بينهم السيد أمين الحافظ (951) وزير الداخلية، و10 وزراء من مختلف الفئات الناصرية، كان أهمهم السادة نهاد القاسم (952)، سامي صوفان (953)، هاني الهندي (954)، جهاد الضاحي (955). ووسط التهليل والمطالبة الجماهيريين للشارع السياسي، الذي أضحى لبعض الوقت مؤيِّداً، بدأتْ في 10 آذار 1963 في القاهرة مفاوضاتٌ لإعادة الوحدة بين سورية ومصر وتوسيعها لتشمل العراق أيضاً...

لم لا؟ وأغنية تلك الأيام كانت تردِّد، على لسان المغنية "المصرية" فايزة أحمد، أن:

شعب سورية والعراق... والجزائر واليمن...

[مع] مصر العزيزة بوفاق... عايزين يتحدُّوا الزمن...

وتستعيد ذاكرتي بعضاً من الصور الصاخبة للأحداث آنذاك... كتلك المظاهرة الصغيرة من "الرعاع" الذين تجمعوا في اليوم الأول للانقلاب أمام منزل السيد خالد العظم (956) (الذي كان التجأ إلى السفارة التركية، التي كانت مستأجرة الطابق السفلي من بنايته الواقعة في أعلى حي أبو رمانة)، ليُسقِطوا ويشتموا ببذاءة سياسياً عجوزاً ومريضاً كان ذات يوم أحد أكفأ وأشرف القادة السياسيين السوريين لفترة ما بعد الاستقلال.

وكانت قرارات العزل السياسي التي أصدرتْها الحكومة الأولى للمرحوم صلاح البيطار (957)بحق جميع خصومها من السياسيين الذين اعتبرتْهم معادين للوحدة، كالسادة "ناظم القدسي (958)، ورشدي الكيخيا (959)، وخالد العظم (960)، ومأمون الكزبري (961)، ومعروف الدواليبي (962)، وصبري العسلي (963)، وأكرم الحوراني (964)، و... خالد بكداش (965)، إلخ."، وما لحق تلك القرارات من مراسيم تقضي بإحالة بعض هؤلاء إلى المحاكمة...

كما توقفت معظم صحف عهد "الانفصال" عن الصدور، ولم يبق منها بعد الثامن من آذار 1963 إلا البعث والوحدة والمضحك–المبكي (المستقلة المحايدة) واللواء (إخوان مسلمون) التي استمرت في الصدور بعض الوقت...

وكانت محادثات الوحدة بين حكومات مصر وسورية والعراق قد استمرت حتى 17 نيسان 1963، وسط أجواء بدأ يتضح فيها للجميع عمقُ التناقضات بين الناصريين المطالبين في مظاهراتهم بالإعادة الفورية للوحدة مع مصر، وبين مجلس الثورة والحكومة، حيث كان البعث مهيمناً...

الأمر الذي كانت تعبِّر عنه بحدة الهتافات الناصرية التي كانت تؤكد على أنه لن تكون هناك...

"لا دراسة لا تدريس حتى عودة الرئيس..."

(عبد الناصر) الذي كان موقفه، خلال محادثات الوحدة، متحفظاً على دور حزب البعث ومداه في الوضع السوري الجديد، ومتسائلاً عمَّن تكون القيادة الحقيقية (افهم العسكرية!) لانقلاب الثامن من آذار...

"فعبد الناصر (966)، كزعيم "انقلابي" محنَّك، لم يكن يريد أن يكون غطاءً لحزب البعث الذي كان يسعى، في المقابل، إلى تغطية سيطرته على سورية والعراق بغلاف ناصري. والقلائل فقط في حينه كانوا يعلمون من كانت القيادة الفعلية لانقلاب 8 آذار 1963 في سورية..."

حتى جاءت مَحاضر تلك المفاوضات التي نُشِرَتْ بعد استعار الخلاف بين البعث وعبد الناصر، وكشفتْ للمرة الأولى عن أسماء كلٍّ من المقدم محمد عمران (967) والرائد صلاح جديد (968) – رحمهما الله – فبدأ يتضح للملأ أن تنظيماً عسكرياً بعثياً – إن لم نقل "لجنة عسكرية" – كان قائماً إلى جانب جماعة زياد الحريري (969)، وأنها كانت القوة الأساسية التي وقفت وراء الانقلاب.

 "أي، إن نظرنا من وجهة انتمائهم نرى أن جميعهم كان من ريف حمص وحماه والساحل..."

"لكن الانتماء المذهبي أو الفئوي أو الطائفي لم يكن مهماً من وجهة نظر مثقَّفي تلك الأيام، خاصة وأن ميزة بلدنا كانت – وما زالت – تكمن في ذلك التنوع المذهبي والإثني الكبير الذي يشكل المسلمون السنة والعرب فيه الأغلبية العظمى، من جهة، وفي ذلك التعايش بين مختلف طوائفه وأعراقه من جهة أخرى..."

وأتذكر أنه، في سني طفولتي وشبابي، لم يكن يجري البتة، على الأقل في الوسط حيث ترعرعت، التطرق لمثل تلك "الفوارق"، إن وجدت. فمثل ذلك الحديث كان يبدو معيباً...

"لكن ما حدث من بعدُ جَعَلَ الأمور في بلدنا تتغير بعض الشيء، مع الأسف... على الأقل بالنسبة للبعض، من الدهماء وذوي المصالح..."

 ويزفُّ ميثاق 17 نيسان 1963 للجماهير العربية المترقبة نبأ قيام الوحدة بين سورية ومصر والعراق!

ولكن كان المطَّلعون فقط يعلمون أن هذه المحادثات قد فشلت...

أو على الأقل هذا ما كنت أتمنَّاه يومها، وقد أصبحتُ متعاطفاً بعمق مع الشيوعيين الذين كانوا يُذبَحون في العراق، وكتحصيل حاصل، معارضاً، من حيث المحصلة، للوحدة وللناصريين وللبعث... أولئك الذين كنت، كمعظم أبناء البلد، أتابع صراعاتهم بشماتة. فتلك كانت المتنفَّس الوحيد لسخطي ورفضي لهؤلاء. ولكن لما لم تكن الشماتة متنفَّساً حقيقياً، ولما كنت أصبحت في حينه "ثورجياً"، فقد كان أول ما انعكست ثورتي تجاهه، مع الأسف، هو ذلك الوسط الذي أحبَّني ورعاني (وأقصد أهلي والمدرسة)، والذي أصبحت رافضاً لـ"مفاهيمه وقيمه البالية"!

توجَّهت يومها إلى مكتب مدير المدرسة الأب يوسف عطا الله (970) طالباً لقاءه، فاستقبلني بحرارة وسألني بمحبة عما أريد. أجبته بجلافة أن ما أريده فقط هو موافقته على عدم حضوري القداس الأسبوعي من الآن فصاعداً. ولما سألني عن السبب أجبته: "لأني لم أعد مؤمناً يا أبونا!" فتبسم، وقدَّم لي سيجارة، قبلتُها في حينه شاكراً، رغم أني لم أكن أدخن، ثم نظر إلي بمحبة وأجابني: "ليكن ما تريد يا أكرم (971)..." فشكرته، وهرولت خارجاً من مكتبه مطأطأ الرأس حزيناً. فقد كنت أشعر بخجل شديد من نفسي، ولم أكن أدرك السبب. كان شعوري العام، وقد حققتُ ببساطة ما طلبت، هو شعور مرير بالهزيمة. لكني لم أفهم ذلك الشعور إلا لاحقاً جداً...

وأتذكر، للمناسبة أيضاً، ذلك الامتحان الجزئي الذي أجروه لتثبيت معلوماتنا فيما يتعلق بالجزء الثاني من الباكالوريا الفرنسية، وكيف كان تحضيري له غير كافٍ. فقد كنت بدأت أفكر بألا أتقدَّم إلى تلك الشهادة، مكتفياً، كصديقي نواف نصير (972)، بالتركيز فقط على الباكالوريا السورية... وكيف سألني الأستاذ بغدادي (973)، قبل الامتحان بقليل، عن مدى استعدادي، فأجبته:

-       ليس كما يرام يا أستاذ. على كل حال، لقد قررت أن أبتَّ في موضوع تقدمي للباكالوريا الفرنسية على ضوء نتائج هذا الامتحان...

فابتسم، ولم يجبني. ولم أفهم في حينه معنى ابتسامته. فقط شعرت بأنه سيخبر الأب عطا الله (974) بجوابي. وكان تقدمي لهذا الامتحان الذي لم يكن جيداً، إنما كان، وفق تقديري، أقل من الوسط.

وجاءت الصفعة لي هذه المرة، عبر النتائج التي أعطتْني في كل ما تقدمت به علامة شبه كاملة. ففهمت يومها أنه لم يعد يحق لي التراجع، إنما بات يجب عليَّ، على الأقل إكراماً لمن عبَّر لي، من خلال تلك النتائج التي لم أكن أستحقها، عن محبته وثقته، التقدمُ لتلك الامتحانات...

وكان هذا ما حصل في أوائل حزيران، حين تقدمت بسهولة نسبية ونجاح لامتحانات الجزء الثاني من الباكالوريا الفرنسية التي دامت ثلاثة أيام، وكانت هذا العام في مدرسة اللاييك في دمشق، تلتها بعد أسبوع الباكالوريا السورية التي تقدَّمتُ إليها أيضاً بسهولة ونجاح. ولكن بجودة أقل مما كان يُفترَض...

وكنت ألتقي كل يوم، في أثناء تقديم امتحانات الباكالوريا الفرنسية، بقريبتي سامية (975) (ابنة نعيم (976)) التي انقطعتُ، مع الأسف، عن رؤيتها منذ تاريخه، والتي كنت في حينه شديد الإعجاب بنعومتها وتهذيبها. لقد سألتني قبل امتحان التاريخ أو الجغرافيا (فالنظام الفرنسي كان يقضي في حينه باختيار إحدى تلك المادتين بالقرعة) عن استعدادي في مادة الجغرافيا. وأجبتها:

-       يا سامية أنا دارس فقط تاريخ...

فنظرت إلي بتعجُّب وقالت:

-       ولكن ماذا إذا كان الامتحان جغرافيا؟!

فأجبتها بكل جدية – وكانت تلك هي الحقيقة المضحكة:

-       سوف أرسب يا بنت عمي...

فلم تستوعب أني كنت جاداً، وقالت لي:

-       أنا لا أصدقك! أنت تمزح يا غليظ!!

فضحكنا وافترقنا. ثم تقدمنا للامتحان الذي كان حظي فيه جيداً، حيث جاءت الأسئلة – لحسن حظي – تاريخية، فنجحت بسهولة، كان سببها هذه المرة، كما سبق وأشرت، حسن تأسيسي السابق في المدرسة، وليس عمق دراستي خلال هذا العام الصاخب الذي لهوتُ فيه أكثر من المعتاد...

فقد كان هذا العام صاخباً فعلاً... حيث تفجر الصراع بشكل علني بين البعث الذي بات مسيطراً على الجيش، وإن لم يكن يشكِّل سوى أقلية صغيرة جداً على صعيد البلد، وبين الشارع السياسي الذي كان يسيطر عليه الناصريون. ففي نهاية نيسان 1963 كانت الشائعات في البلد تتحدث عن تسريح العديد من الضباط الناصريين من صفوف الجيش الذي كانت تجري في صفوفه، بالمقابل، تعيينات مكثفة لمن هبَّ ودبَّ... الأمر الذي أدى إلى استقالة الوزراء الناصريين الخمسة الأبرز من حكومة السيد صلاح البيطار (977)، بمن فيهم وزير الدفاع آنذاك اللواء محمد الصوفي (978)؛ كما استقال أيضاً نائب رئيس الأركان اللواء راشد قطيني (979)...

"وكان أحد أعداد المضحك–المبكي يصور السيد صلاح البيطار (980)، الذي حلَّ بشكل طبيعي مكان الوزراء المستقيلين الخمسة، مجتمعاً إلى نفسه يبحث معها شؤون وزاراتهم..."

وكانت محاولات لتطويق الخلافات المتفاقمة بين البعث والناصريين، وسط أجواء ضاغطة من الشارع الناصري ومن القاهرة... وكانت صدامات بين قوات الأمن والمتظاهرين الناصريين الذين حاول البعثيون دون جدوى مجابهة مظاهراتهم بأخرى مضادة، لكنها كانت في حينه هزيلة جداً...

التقينا يومها – وكنت أتنزه قرب قصر الضيافة مع شارل (981) – بصديقنا المشترك، الطالب في مدرسة البطركية للروم الكاثوليك، جورج عين ملك (982)، وهو على رأس إحدى تلك المظاهرات البعثية الصغيرة. ففهمنا أن جورج صار، كما عبَّر لنا بكل حماس، مناضلاً بعثياً...

 وأتساءل اليوم إن كنت أضحيت، في حينه، مقتنعاً بذلك المنطق الذي جعلني أختار طريق الشيوعية، كما كان مقتنعاً بمنطقه "ذلك الآخر" الذي اختار في حينه طريق البعث (أو أي طريق "عقائدي" آخر)...

واستمرت المظاهرات والاضطرابات الناصرية، ولم تتوقف آنذاك حتى...

كان، للمرة الأولى في تاريخ سورية المستقلة، إطلاق الرصاص على المتظاهرين، بأمر من قائد قوات المغاوير المرابطين في حينه قرب الإذاعة، الرائد (البعثي من جبل الدروز) سليم حاطوم (983)...

وتوقفت عن الصدور الصحف الناصرية التي كانت أهمها صحيفة الوحدة. وكانت ردة فعل عنيفة من القاهرة التي أجَّلت المحادثات التي كان من المقرَّر بدؤها في 12 أيار حول تكوين "قيادة عسكرية موحَّدة " للدولة الموحَّدة المفترضة، وصعَّدت من حملتها الإعلامية ضد ما أسمتْه "التسلط البعثي المتزايد على مجمل الأوضاع في سورية" التي تحولت صحافتها "العلنية" إلى صحافة بعثية فقط!

ثم كانت محاولة أخيرة (لست واثقاً من جدِّيتها) استمرت يوماً واحداً لإعادة الألفة البعثية–الناصرية... فاستقالت حكومة السيد صلاح البيطار (984)، وكُلِّف السيد سامي الجندي (985) بتشكيل حكومة جديدة تعيد الألفة المفقودة بين البعث والناصريين، لكنه أعلن في نفس اليوم عن فشله. وأعيد في نفس اليوم (13 أيار 1963) أيضاً تكليف السيد صلاح البيطار بتشكيل الوزارة التي جاءت هذه المرة بعثية صرفاً، وصار اللواء أمين الحافظ (986) نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية...

وكان إبعاد العقيد زياد الحريري (987) وجماعته من الجيش، الذي بدأ يصير "عقائدياً" بعد أن سيطرت عليه سيطرة كاملة اللجنة العسكرية البعثية...

"وكانت "دولة إسرائيل المزعومة" تتابع بإصرار سياستها الهادفة إلى التقرب من الولايات المتحدة بهدف إقناعها بأنها الحليف الأمثل في المنطقة..."

" وكان إسرائيل، المستفيد جداً من عدم رغبتنا في التفاوض معه حول أي موضوع، قد بدأ منفرداً في تحويل مجرى نهر الأردن لصالحه..."

"بينما كانت دولنا تتخبط في محاولات عقيمة لمنعه من تحويله. لكن محاولاتنا فشلت جميعاً على أرض الواقع بسبب التفوق العسكري والذرائعي لتلك "الدولة المزعومة" الذي لم يكن بوسع الحكام العرب، المشغولين بالمزاودة بعضهم على بعض، تفهُّم أسبابه..."

والأصوات كانت تتعالى، والتعبئة الإعلامية كانت تتصاعد، مردِّدة عبر الأثير أن:

"نهر الأردن ما بيتحول..."

ونهر الأردن كان بدأ يتحول رغماً عنَّا. والجميع تقريباً كان يدعو آنذاك إلى تحرير كامل تراب فلسطين. والذين استولوا على فلسطين كانوا يستعدون لما هو آتٍ، مبرِّرين استعداداتهم تلك بما كنَّا ندعو إليه...

قضينا العطلة الصيفية لذلك العام في منزل مستأجر في بلودان كان يقع وسط البلدة. كنت ما أزال على صلة بشلَّتي في المدرسة. ولكن هذه الصلة كانت تضعف بشكل متناسب مع تطور ميولي الشيوعية، تلك الميول التي كانت تدفعني للمزيد من التقرب من فاروق (988) الذي كان أضحى صديقي المفضل...

الذي سألته ذات يوم، وقد صرت شبه مستيقن من علاقته بالحزب الشيوعي السوري، أن يعيرني ما لديه من كلاسيكيات شيوعية. فأعارني أولاً البيان الشيوعي لماركس وإنجلز الذي قرأته بحماس... حماس لم يكن يعادله إلا ذلك الذي تملَّكني حين قرأت خلال نفس الفترة رواية عناقيد الغضب للكاتب الأمريكي جون شتاينبك الذي كان أيضاً، حين كتب روايته تلك، "شيوعي" الميول... تلك الرواية التي صورت تصويراً رائعاً معاناة العمال الزراعيين الأمريكيين وآلامهم، وكيف يدفع الإنسانَ إلى "الثورة" التي أصبحتُ، نظرياً على الأقل، مقتنعاً أشد الاقتناع بضرورتها عن طريق ما اعتقدته "الحزب الثوري الحقيقي الوحيد"...

ثم عبَّرت لفاروق (989) عن رغبتي في الانتساب إلى الحزب الشيوعي، سائلاً إياه أن يساعدني بذلك من خلال معارفه. فضحك وأجابني: "سنرى." ولكن...

بانتظار أن "يرى"، كان بعض ما عشته خلال هذا الصيف مأسوياً...

فقد ازدادت وتيرة الخلافات الصاخبة بين والديَّ، واتخذتْ بالنسبة لنا أبعاداً نفسية مؤلمة. وازدادت أيضاً مشاكل أخي سمير (990) بحكم بلوغه؛ وكانت تلك أمور سرَّعت في "هروبي" وإكرام (991) نحو ذلك العالم الخارجي الذي بات يستحوذ على القسط الأعظم من اهتمامنا...

وتحول الخلاف البعثي–الناصري من خلاف عقائدي فقط إلى خلاف عقائدي مسلح...

وكانت المحاولة الناصرية الفاشلة الأخيرة للاستيلاء على السلطة... تلك التي تمَّت في وضح نهار ذلك اليوم 18 من تموز 1963 والتي كان البعثيون مستعدين للقائها... فكانت معارك شوارع أوْدَتْ بأرواح الكثير من الضحايا، وأنهت، بالتالي، رسمياً مشروع تلك الدولة الموحدة الثلاثية، معيدة الحرب الإذاعية بين سورية ومصر إلى أسوأ أيامها "الانفصالية"! – مع فارق أنه، في هذه المرة، كان "الانفصال" قد أصبح "وحدوياً"!

لم يتمكن والدي (992)، في مساء ذلك اليوم، من الالتحاق بنا في بلودان، بسبب اضطراب الأوضاع وإعلان منع التجول؛ فقط اتصل بنا هاتفياً لطمأنتنا. ثم التحق بنا في مساء اليوم التالي برفقة عمِّي جورج (993). قضينا السهرة جميعاً نستمع منهما إلى ما رأوه، وكان بالنسبة لهما مرعباً... أقصد معارك شوارع في قلب دمشق، وسط النهار – وهو أمر لم تعرفه البلاد من قبل.

وعدت إلى دمشق فور هدوء الأحوال والإعلان عن بدء التسجيل في الجامعة، لأسجَّل طالباً في كلية الهندسة المدنية...

واجتمعت بفاروق (994) الذي سألني إن كنت ما زلت مصراً على طلبي للانتساب إلى الحزب الشيوعي. ولما أجبته بنعم، أعطاني آخر عدد من صحيفة الأخبار اللبنانية المطبوعة على ورق رقيق جداً ونشرة "حياة الحزب" الداخلية لأقرأهما. وقال لي:

-       غداً إذاً سنلتقي، في تمام الساعة ...، عند موقف "القزازين" الواقع في منتصف شارع بغداد.

قضيت تلك الليلة، بعد أن قرأت النشرات التي أعطانيها فاروق (995) من أولها لآخرها، في نوم مضطرب بسبب شدة انفعالي. فما كنت مقدِماً على فعله كان عملاً سيغير مجرى حياتي.

وجاء ذلك الغد ولقاؤنا... ودخولي معه (للمرة الأولى بالنسبة لي) إلى حيٍّ لم أكن أعرفه من قبل، اتَّجهنا عبر أزقته الضيقة نحو منزل متواضع قرع فاروق بابه، ففتح لنا شاب أسمر نحيل، خفيف الشعر، طويل القامة، واستقبلنا بترحاب وبحرارة.

كان يدعى نذير يزبك (996)، صديق فاروق والطالب في السنة الثانية في كلية الطب، الذي سحله ذات يوم (خلال الانفصال) البعثيون والناصريون والإخوان، وأضحى مسئولي الأول في الحزب الشيوعي السوري.

*** *** ***

 

الفصل السادس: سنوات الصخب - آ: الجامعة والرفاق والآخرون1 الفصل الخامس: مرحلة انتقالية - مدرسة الآباء العازريين3
 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود