رجال ونساء

يكافحون من أجل السلام

 

خالص جلبي


لم يصدِّق بارابا أذنيه لما سمع ما سمع من المسيح – عليه السلام – فكرَّر عليه السؤال: «لم أفهم عليك بالضبط: هل تريد مني أن أحبَّ الرومان الذين أذاقونا العذاب المهين؟!» أجابه المسيح بهدوء: «نعم، هذا ما أعنيه بالضبط.» هز بارابا رأسه يائساً. فقد عقد الآمال على عيسى بن مريم أنه سيكون مخلِّصهم من الرومان. فلما سمع ما سمع أعطى المسيح ظهره ولم يعقِّب.

بعد عدة أيام ألقي القبض عليه بتهمة قتل بعض الجنود الرومان، فحُكِمَ عليه بالإعدام. ثم نُفِيَ إلى مناجم الكبريت في صقلية، فلبث فيها بضع سنين. وعندما انهار المنجم على رؤوس من فيه نجا ببدنه ليكون لمن خلفه آية، وأُرسِلَ للعمل في حقول الزيتون. وكانت قصة نجاته المتكررة سبباً في اختياره لمدرسة المجالدين في روما. وهناك رأى الرياضة الدموية التي يعشقها الشعب الروماني، فاشترك فيها ونجا من القتل بأعجوبة. ولكن روحه كل هذه الفترة كانت تعذِّبه، ولم تجد هدوءها إلا عندما اعتنقتْ دعوة المسيح السلامية. ومات شهيداً مع حواري المسيح.

إن قصص المجالدين فصل دموي لا ينسى من التاريخ الروماني. وقد تحولت المجالدة إلى تقليد روماني ومؤسَّسة عملاقة، دامت 700 سنة، تقوم بتخدير الشعب الروماني. وقد بُنِيَ الكولوسيوم بارتفاع 160 قدماً على مساحة ستة أفدنة ليتسع لثمانين ألف متفرج. وبعد ثورة سبارتاكوس عام 73 لم يعد المجالدون من لغة واحدة تحت سقف واحد، فعُزِلوا بعضهم عن بعض. ويُروى عن قيصر أنه ملأ قاع الكولوسيوم بالماء، وأجرى فيه السفن وأحرقها، وجعل العبيد والمساجين – بالآلاف – ينحر بعضهم بعضاً أمام استحسان الجمهور وهتافه. وأما تيطس Titus فقد دفع إلى الساحة Arena في يوم واحد بخمسة آلاف مجالد ليقتل بعضهم بعضاً. وقام تراجان، لمدة 122 يوماً متواصلاً، بتسلية شعب روما بدفع الحيوانات المفترسة والمجالدين في وجه بعضهم بعضاً، فقُتِلَ من الضواري عشرة آلاف ومن البشر 11 ألفاً، بمعدل تسعين ضحية بشرية يومياً. وكانت التسلية تبدأ صباحاً بالوحوش، عندما يهجم دب كاليدوني على رجل مقيَّد محكوم بالإعدام، فينهش لحمه حتى العظم، مروراً ظهراً بإعدامات جماعية للمجرمين وللمسيحيين، وانتهاءً بعد الظهر بحفلات المصارعين بعضهم مع بعض ومع الضواري.

كانت المجالدة تشتمل على ألوان من التسلية لا تنتهي تنوعاً في السلاح واللباس. وأما الجثث من البشر والحيوانات فكانت تضمها حفرة واحدة مخصصة لها. كان الجمهور الذي لا يشبع من منظر الدم يصيح «منسا»، ويرفع إصبعه للأعلى في حالات العفو عن المهزوم، أو يقول «جوغولار»، ويشير بإبهامه إلى الأسفل، ويعني الذبح من الوريد للوريد. وفي عام 65 ميلادي أُدخِلَت متعة جديدة باقتحام النساء للملعب في ثياب فاضحة، وأحياناً مبرزات ثدياً واحداً، يتقاتلن حتى الموت. وقد لمعت فيهن بعض الأسماء، مثل أمازونيا وأريخيليا، حتى ألغى الإمبراطور سبتيموس سفيروس مجالدة النساء عام 200 م. وفي أنقاض مدينة بومبي التي دفنها بركان فيزوف عام 79 م تم العثور على أفضل مخلفات حفلات الدم من ألبسة المصارعين وطقوسها المريعة. كانت روما قاهراً لا يرحم، وتحكم مساحة واسعة بوحشية لامتناهية.
في هذه الظروف من العنف الهائل وسفك الدماء وعدم الإيمان بالآخرة جاء المسيح يقابل السيف الروماني بكلمة السلام، فلم يحاول تغيير الإمبراطورية بالانقلاب العسكري، بل بالصبر على الأذى ونشر الفكرة، حتى تحولت روما إلى المسيحية بعد ثلاثة قرون، واعتنق قسطنطين المسيحية عام 325 م. وإننا نتساءل فعلاً لماذا كان الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – يوصي أتباعه في مكة بعدم الدفاع عن أنفسهم؟ كما نتساءل، بالمقابل، لماذا لم يستخدم عيسى بن مريم القوة المسلحة؟ ولفهم هذه النقطة يجب أن ننتبه، كما يقول مالك بن نبي، إلى ظاهرة "الحضانة الحضارية" في كل دعوة. فالرسول – صلى الله عليه وسلم – أنهى مرحلته الأولى بتحويل المجتمع سلمياً في عقدين ونيف، في الوقت الذي لم يحقق أتباع المسيح ذلك إلا في ثلاثة قرون. ونحن نعرف عن فكرة "الحضانة"
incubation أنها ظاهرة كونية، سواء في علم الأمراض أو تخمر الخبز أو نمو الشجر وولادة الإنسان؛ وهي تنطبق على الأفكار والحضارات. وإذا كان إبراهيم – عليه السلام – «نواة أمة» («إن إبراهيم كان أمة» – النحل 120) فإن محمد – صلى الله عليه وسلم – صَنَعَ أمة. وهكذا فهناك فترة كمونية بين البذرة والتشكل وبين الفكرة وتمكُّنها؛ وكانت في الإسلام سريعة دامت 23 سنة، ولكنها في المسيحية احتاجت أربعة عشر ضعفاً. ودعوات الأنبياء متشابهة، تمشي على نسق واحد في التحقق؛ وهي تغيِّر المجتمع سلمياً بتغيير رصيد ما بالنفوس.

ويروي لنا تاريخ الهند أن الملك آشوكا، من أسرة موريا، الذي اعتلى العرش عام 273 ق م بعد نهاية غزوات الاسكندر قام، على غرار من سبقه، بتوسيع مملكته عسكرياً. وفي إحدى غزواته في شرق الهند قتل مائة ألف وجرح نظير ذلك من الناس، فهاله منظر الدماء والآلام. وكان اجتماعُه براهب نقطة التحول في تفكيره عن عبثية الحرب، فغير حياته بالكامل من السيف إلى الكلمة والتربية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الدم إلى الهداية. ولقد أطلق في مملكته كل ألوان التسامح الديني مع الآخرين من كل الأديان، وصبَّ جهده لترميم البنية التحتية بما يفيد منه العباد، وبلغت به الرحمة حداً أن هيأ مشافي لمعالجة الحيوانات المريضة. وهكذا طلَّق آشوكا الحرب إلى غير رجعة، وتحولت مملكته إلى روح وريحان وجنة نعيم، وذهب اسمُه سلفاً ومثلاً للآخرين. إن قصص هذه النجوم الإنسانية تدفع الإنسان للخشوع والأمل في الجنس البشري من حيث إنه مستودع لمشروع هائل.

ومن نفس الهند تكرر منظر مؤثر في محكمة بكراتشي عام 1921، عندما رفض مولاي محمد علي الالتحاق بصفوف القوات البريطانية ليقاتل القوات العثمانية التركية. وينقل لنا كتاب أيها المحلفون: الله... لا الملك وقائع تلك المحاكمة المثيرة، حيث اعتمد الرجل في دفاعه على أنه لا طاعة لمخلوق، ولو كانت ملكة بريطانيا، إذا كانت الأوامر تخالف عقيدة المسلم. وإذا كانت بريطانيا تدَّعي حرية الفكر بحسب مبدأ فولتير "إنني مستعد أن أموت من أجل تمكينك من التعبير عن رأيك، ولو كنتُ مختلفاً معك في الرأي" فقد قام مولاي محمد علي بالدفاع عن آرائه الشرعية في عدم سماح دينه له أن يقتل مؤمناً متعمداً. قال: «لقد قلت في مذكرتي للمحكمة الابتدائية أنه إذا أُكرِهَ المرءُ، تحت وطأة التهديد بالموت، على أكل لحم الخنزير فليس له فقط أن يأكل اللحم، بل يتحتم عليه أن يأكله. وكذلك يستطيع أن يعلن أنه كافر مادام مطمئناً بالإيمان. غير أنه لا يستطيع أن يقتل مسلماً، ولو أُكرِهَ على ذلك.» ويعلِّق جودت سعيد على موقف الرجل: «إن مولانا محمد علي اعترض على الذي يقتل أخاه في سبيل المترفين وأصحاب الامتيازات». ولكن «الإشكالية الكبرى أن الجهل يمكِّن أصحاب الامتيازات من التلاعب بالجاهل، ويمكن استخدامه ضد مصالحه». والمسألة التي نعيشها الآن، نحن المسلمين، «مأساة معرفية»، وإن «المتدين الجاهل مثل غير المتدين الجاهل»؛ فكلاهما، مع الغرق في الجهالة، يتحول من «الأناسي» إلى عالم «الأشياء» المسخَّرة بيد الأقوياء. وما يحدث في أفغانستان هذه الأيام هو التطبيق الميداني لهذه الأفكار.

وعندما يَرِدُ في بريد اليونسكو (عدد يونيو 1990): «في حوالى عام 2000 لن يشكِّل ما اتفق على تسميته الجنس الأبيض سوى 11% من سكان الأرض. ولا يُستبعَد حدوث مواجهة بين الجناح الراديكالي في العالم الإسلامي وبين ما يتبقى من الحضارة المسيحية. ويبدو أن صراعاً من هذا القبيل لا مفرَّ منه». يعقِّب على ذلك جودت سعيد بقوله: «ولكن لماذا يخاف جوزف برودسكي محرِّر المقالة إلى هذا الحد؟»، ويقول معلِّلاً: «في النظام العالمي الجديد حصل تفاهم بين من يملكون المعرفة وصاروا صفاً واحداً؛ وإن كانوا يتجاذبون الامتيازات إلا انهم متفقون في ما بينهم ويعرفون الحدود التي يلتزمونها». وإذا انشطر العالم على هذه الصورة البئيسة فهذه هي المسألة التي جاء من أجلها الأنبياء ودافع عنها في مرافعته مولاي محمد علي، أنه لا يريد أن يتحول إلى أداة في يد الجبارين.
لقد كانت بريطانيا تفتح الهند، ثم تأخذ الهنود فتفتح بهم العراق؛ وكذلك فعلت فرنسا. وكما يقول جودت سعيد: «لبُّ المشكلة العالمية هنا أن يكون الإنسان مثل البندقية تستجيب دائماً للطلب. ولا شك أن البندقية التي لها قدرة على عدم الاستجابة عند الطلب بندقية لا يوثَق بها ومرفوضة من العسكريين. كذلك الشخص الذي يناقش الأمور ولا ينفذ إلا الأوامر الصحيحة التي يعيد اختبار صحتها بنفسه، ولا يكتفي بأوامر قادته، لا يصلح أن يكون عسكرياً عند هؤلاء.» أليست الجيوش مهزلة عندما تُبنى على قاعدة «نفِّذْ ثم اعترض»؟ ما قيمة الاعتراض بعد التنفيذ؟

لكن يبدو «أن قانوناً جباراً يحكمنا وجاذبية ساحقة تُخضِع تفكيرنا». وكما يقول علي شريعتي في كتابه الإنسان والإسلام: «إذا أردتَ أن تستخدم شخصاً وتجعله مطيعاً وتطمئن من وفائه عليك أن تسلب منه شخصيته، لأنه إن كانت له شخصية لا يمكن أن يكون خادماً جيداً؛ ولكن فاقد الشخصية خادمٌ جيد ومطيع ووفي.» وعندما كان ستالين يراقب من خلف ستارة محاكمة بوخارين ليطمئن على وصوله إلى حبل المشنقة، انحنى الضابط الذي رتَّب المسرحية يهمس في أذن ستالين بسرور: «هل أعجبك الإخراج والحبكة؟» التفت ستالين إليه ببرود وقال: «إن الرفيق بوخارين أفنى عمره من أجل الحزب، ومن يتآمر عليه لن ينجو من العقاب.» فزاغت عينا الضابط لأنه سمع حكم إعدامه بأذنيه. وهذا ما حصل. فقد أعدم بيريا، رئيس الاستخبارات الروسية KGB، بوخارين بطلقة في القذال، ثم كلَّف من يقتل الضابط الواشي. ثم جاء الدور على بيريا بعد موت الطاغية ستالين فقُتِلَ بيد رفاق الحزب.

إن بارابا وآشوكا ومولاي محمد علي أطلقوا الطاقة التحررية في قلب الإنسان: أن لا يقتل، ويرفض تنفيذ أوامر القتل. وبهذه الطريقة تتعضَّل مفاهيم القوة أن تملك رقاب العباد، أو أن يملكها الطواغيت. ومادامت هذه القوة التحررية لم تولد فسوف تبقى ملاعب روما تدفع بالقرابين البشرية بألف شكل على الذبح. «إنه المبدأ الذي يفجر الطاقة الإنسانية. والجاهلون هم موضع النزاع بين مَن ينشر العلم ويكتم العلم أو يفرض الصمت».

كان صديق لي في زيارتي، فسألته عن موقفه من القتل. قال: «أنا لن اقتل، مهما دفعوا لي.» قلت له: «لم يأتِ الامتحان الصعب بعد. هي روح طيبة أنك لا تقتل، ولكنك لو هُدِّدتَ بالقتل إن لم تقتل فما أنت فاعل؟» قال: «يا روح ما بعدك روح! سوف أقتل.» قلت له: «هذا هو مفتاح الطاغية إلى قلوب العباد. وبهذه الطريقة تستمر الحروب ويؤسَر الخلق في مصائد الفئران.»

ويذكر الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي سبباً لإسلامه أنه كان معتقلاً في جنوب الجزائر في جلفة، حيث قام المعتقَلون في أحد الأيام بتنظيم مظاهرة في المعسكر، فحذَّرهم الضابط الفرنسي بالانصراف إلى الخيم وإلا أطلق النار عليهم. يقول غارودي: «ومضينا في عصياننا، فأمر حاملي الرشاشات – وكانوا من جنوب الجزائر – بإطلاق النار علينا، فرفضوا؛ وعندئذٍ هددهم بسوطه المصنوع من طنب البقر، ولكنهم ظلوا لا يستجيبون. والذي أبقاني حياً إلى الآن كان بفضل هؤلاء المحاربين المسلمين.»

***

في 5 ديسمبر من عام 1955 كانت الخياطة روزا باركس Rosa Parks في طريقها إلى منزلها بعد أن أنهت يوماً حافلاً بالعمل. كانت قوانين المرور في مدينة مونتغمري من مقاطعة ألاباما الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية تنص على أن يدفع السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي، ولكن أن يصعدوا الحافلة من الخلف؛ كما كان محظوراً عليهم أن يركبوا في المقعد المجاور لمرور الركاب Isle. كذلك كان القانون يقول إن الأسود يجب أن يخلي موقعه للأبيض في الازدحام. ولكن ذلك اليوم البارد من ديسمبر كان على موعد مع حدث جلل. فقد صعد رجل أبيض إلى الحافلة ووقف أمام روزا باركس – وهي السوداء – ينتظر أن تقوم وتترك مقعدها له (وهو شيء عجيب كان يحدث قبل نصف قرن في أمريكا خلاف كل أعراف الدنيا بتخلِّي الرجال عن مقاعدهم للنساء!). لكن روزا باركس قررت أن تفعل شيئاً جديداً يكسر القانون العنصري، فرفضت بكلِّ بساطة التخلِّي عن مقعدها للأبيض. وأمام إصرارها، تدخلت الشرطة، فانتزعتها من مقعدها بالقوة، وأجبرتها على دفع غرامة، فأوقفَت في الحجز لمخالفتها قانون الولاية.

ولكن الحادث في ذلك اليوم كان الشرارة التي أوقدت ناراً هائلة في غابة جافة عظيمة من مشاعر محتقنة ضد الظلم والتمييز العنصري. لم تلجأ المقاومة إلى السلاح وأعمال العنف، بل كانت سلمية مدنية؛ فقاطع السود الحافلات لمدة عام كامل. ورُفِعَت القضية إلى أعلى هيئة دستورية في البلد، واستمرت المحاكمة مدة 381 يوماً. وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر روزا باركس في محنتها. وهكذا انكسر القانون العنصري إلى غير رجعة. وفي 27 أكتوبر من عام 2001، بعد مرور 46 سنة عليه، تم إحياء ذكرى الحادثة في التاريخ الأمريكي، حيث أعلن السيد ستيف هامب، مدير متحف هنري فورد في مدينة ديربورن في ميتشيغن عن شراء الحافلة القديمة المهترئة من موديل الأربعينات التي وقعت فيها حادثة السيدة روزا باركس التي قدحت الزناد الذي دفع حركة الحقوق المدنية في أمريكا للاستيقاظ، بحيث تعدَّل وضع السود. وقد تم شراء الحافلة بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي. واليوم، بعد أن بلغت روزا باركس الثمانين من العمر، تذكر في كتاب صدر لها لاحقاً بعنوان القوة الهادئة عام 1994: «في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي، والتجأت إلى الله، فأعطاني القوة التي يمنحها للمستضعفين.» وهي تذكِّرنا بدعاء نوح في القرآن الكريم: «فدعا ربَّه إني مغلوب فانتصر» (القمر 10).
هذا الأسلوب الهادئ البسيط هو الذي يكسر أشد القوانين جبروتاً وتيبساً وعنصرية بـ"رفض الطاعة". إنه أسلوب خفيٌّ محجوب، قريب ومبارك ونبوي، في المقاومة المدنية؛ ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن الطاغية لا يقاوَم بقتله، بل برفض طاعته وعدم التعاون معه في الشر. ولكننا، على ما يبدو، نؤمن بأن سيد الحلول هو القتل الذي لا يولِّد إلا مزيداً من القتل؛ وبيننا وبين الفهم سنة ضوئية!

ففي أفغانستان تُجبَر المرأة الآن على خلع برقعها؛ وكانت من قبل على يد طالبان تُجبَر على وضعه! وفي عاصمة عربية تم الهجوم على جميع النساء في يوم نحس مستمر، فخُلِعَت الأغطية عن رؤوسهن أجمعين، ظناً أن الإكراه هو الحل المناسب للتخلص من الرجعية إلى التقدمية، على حدِّ زعمهم. والذي حدث أن هذا العمل الأحمق الصاعق كان له مفعول عكسي، فازداد عدد النساء اللواتي يغطين شعورهن. وهكذا أصبح جسد المرأة موضع الصراع السياسي بين الفرقاء الإيديولوجيين المتصارعين، باعتبارها قاصراً يجب أن تُعلَّم ماذا تلبس وماذا تخلع. وحتى اليوم يتبرع «الذكور» في الحديث عما يناسب المرأة، ولا يتركون «المرأة» تقرر لنفسها، بوعي وإرادة، فتختار ما تلبس. وقد يظن بعضهم أن التغطية بالقوة عين التقوى. ولكن كلا الخلع والتغطية من منطلق الإكراه يحكمه قانون نفسي واحد؛ وهو في أعماقه، كما يقول مالك بن نبي، يحمل دوافع جنسية خفية. فخلع ملابسها للإباحة هو الوجه المقابل للتغطية المفرطة.

ومقابل قصة روزا باركس تأتي قصة المكافِحة السلامية بيرثا فون سوتنر Bertha von Suttner (1843-1914) التي نشأت في عائلة أرستقراطية في براغ. في عام 1889 نشرت قصتها بعنوان تخلصوا من السلاح Die Waffen nieder التي أصدرها ناشر على استحياء وطبع منها ألف نسخة فقط، ليتحول الكتاب إلى أفضل الكتب رواجاً، ويُترجَم إلى كل اللغات الأوروبية. وهي قصة آسرة تتحدث عن زوجة عاصرت أربع حروب متتابعة في القارة الأوروبية، وخسرت زوجها وولدها في ساحات القتال، وقررت أن تقول لا للحرب.
حاولت بيرثا فون سوتنر أن تنظم حركة عالمية من أجل السلام؛ إذ كانت تشم رائحة الحرب وترى سحبها القائمة القادمة عبر الأفق الأوروبي. فالحرب التي سُمِّيت بـ"العظمى" كانت فاجعة الفواجع، وهي التي فرَّخت الشيوعية والنازية والفاشية، ومهدت للحرب العالمية الثانية. وأهم إنجاز لتلك المرأة أنها، من خلال علاقتها الطويلة مع ألفرد نوبل، عالم الكيمياء السويدي، أوحت إليه بفكرة جائزة نوبل للسلام. وفي جوِّ الحرب المشحون عام 1914، مُنِعَتْ فون سوتنر من المحاضرات، وسخر الجميع من سذاجتها، وهلَّل الجميع للحرب، وخذلها أقرب الناس إليها من أصدقائها الذين كانوا معها في الصف السلامي، فماتت قبل طلقات جافريلو برنسيب على الأرشيدوق النمساوي في سراييفو بسبعة أيام في 21 يونيو من عام 1914.
إن قصة النساء المكافحات من أجل السلام تظهر بأجلى صورة في قصة ملكة سبأ، وهي واردة في إحدى سور القرآن الكريم عن امرأة في غاية الذكاء والحكمة، استطاعت أن تطوِّق الصراع المسلح مع سليمان الحكيم بحكمة اقتربت فيها من حكمة النبي. ففي الوقت الذي هدد فيه سليمان – عليه السلام – بإرسال الجيوش ("لنأتينَّهم بجنود لا قِبَل لهم بها ولنخرجنَّهم منها أذلة وهم صاغرون" – النمل 37) كانت تقوم بحكمة بإطفاء نار الحرب من خلال الرسل والهدايا، حتى إنها ذهبت بنفسها لمقابلته بدل الاستعداد للحرب، واعتنقت الدين الجديد حباً في العدل أكثر من الخوف من جيوش سليمان الجرارة من "الجن والإنس والطير فهم يوزعون" (النمل 17).
ومقابل نموذج روزا باركس الأمريكية السوداء وبيرثا فون سوتنر الأوروبية، نشرت مجلة دِرْ شبيغل (عدد 44، 2001) هذه الأيام المقالة الكاملة المترجمة لداعية السلام الهندية أرُندهاتي روي
Arundhati Roy. وعندما قرأتُ مقالتها باللغة الألمانية أصبتُ بالحسرة لأنها قالت أكثر مما نكتب، وتم نشر المقال بالكامل بدون حذف الرقيب، مما يدل على مأساة الفكر العربي واختناقه ومصادرته. ومما جاء في مقالتها أن «عَلَمَ» الدولة يخدم تماماً في لفِّ الرؤوس كي تختنق عن أي تفكير؛ فإذا مات الناس في ميادين القتال خَدَمَ مرة أخرى في لفِّ الجثث المقطعة المشوهة. ثم قامت باستعراض فريقي الحرب في أفغانستان، ونقلت عن بوش قوله «إننا أمة مسالمة» وعن توني بلير «إن بريطانيا شعب سلامي»، وقامت باستعراض لائحة الحروب الأمريكية: كوريا (1950-1953)، غواتيمالا (1954)، إندونيسيا (1967-1969)، كوبا (1958)، الكونغو (1959-1961)، لاوس (1965)، فييتنام (1964-1973)، كمبوديا (1961-1973)، غرينادا (1969-1970)، ليبيا (1983)، سلفادور (1986)، وكذلك نيكاراغوا – باناما (1989) والعراق (1991)... واليوم أفغانستان. وعلقت على أحداث 11 سبتمبر أنها غيرت أموراً جوهرية خمسة: الحرية والتقدم والرفاهية والتقنية ومفهوم الحرب. وكان عنوان مقالتها «الحرب تعني السلام أم السلام هو الحرب؟»، لتصل إلى جملة لاذعة: «إنهم يريدون منا أن نعتبر فجأة أن الخنازير أصبحت خيلاً، وأن العذارى انقلبت ذكوراً، وأن الحرب هي السلام!» وعند ظاهرة طالبان تذكر فكرة مهمة، وهي أن حرب العشرين سنة في أفغانستان كلفت 40 مليار دولار، وسبعة ملايين لاجئ، ومليوناً ونصف مليون قتيل، وعدداً من الألغام الأرضية يفوق عدد السكان يقدَّر بحوالى 15 مليون لغم أرضي ضد الأفراد، يموت من انفجارها كل شهر أربعون من الأطفال. وإذا كان التقدم والحداثة قد دخلا أفغانستان فقد جُلِبَ التقدم على صورة مدفع فوق ظهر حمار! فلم تعرف أفغانستان التقدم إلا بتوريد الأسلحة الحديثة، فأتقن الأفغان القتال وصناعة الموت، وانتُزِعَتْ الرحمةُ من قلوبهم، مما يذكِّر بحرب «داحس والغبراء» في الجاهلية، لنكتشف بمرارة أن حرب الجهاد الإسلامية لم تكن إسلامية بقدر ما كانت حرباً أمريكية، خاضها شباب مسلمون مغفَّلون.

إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. وإن اعتماد السلاح لحلِّ المشاكل يرهن صاحبها لقبضة القوة. ومن اعتاد قتل العدو اليوم سوف يقتل الصديق والرفيق والأخ غداً. وها نحن نسمع عن أحكام إعدام منفَّذة على رجال طالبان على أيدي رجال القاعدة. وهذا الدرس مهم في إدراك أن القوة لا تحرِّر بل تأسر. وفي نهاية مقالتها تصل روي إلى أن حرب أفغانستان ليست حرب حضارات سخيفة، بل حرب توسع وهيمنة، وأن أربع مؤسَّسات في أمريكا – هي مصانع السلاح والبترول والإعلام مع الخارجية – تشكل ورماً متجانساً وخطيراً في توجيه أمريكا والعالم، وأن دِكْ تشيني وبوش لهما علاقات خاصة مع هذا الكارتل.
إن كفاح أرُندهاتي روي وروزا باركس وبيرثا فون سوتنر، ومن قبلُ إيميلين بونكهرست البريطانية التي قادت مظاهرة في 18 نوفمبر عام 1910 من أجل حقوق المرأة (تعرضت فيها النساء للضرب من قبل رجال الشرطة الألف والغوغاء لمدة ست ساعات متواصلة، ماتت فيها سيدتان فيما يُعرَف بيوم "الجمعة الأسود" في تاريخ الحركة النسائية)، وكذلك روزا لوكسمبرغ من ألمانيا التي خطبت في 791 وفداً نسائياً من 27 دولة من العالم عام 1900 ضد التسلح وبناء الجيوش الخرافية والأجهزة الأمنية العملاقة وخوض حروب الجنون... – كل هذا يشكل رفداً متواصلاً في نشاط المرأة لكي تعيد الإنسان إلى بناء الحضارة والحب والتخلص من مرض العنف والدمار.
إن المرأة موديل متطور عن الذكر،خصَّصت له مجلة دِرْ شبيغل الألمانية عدداً كاملاً بعنوان «الجنس الهش». ولعل مستقبل الجنس البشري سينتهي في يد المرأة التي تنتج الحياة وتصون الحياة.
وفي النهاية نذكر من التراث الشرقي امرأة إيرانية هي قرة العين، هزَّت الأوساط السياسية في منتصف القرن التاسع عشر بنشاطها الجم في تحرير المرأة وإعادة الاعتبار إليها ككائن مساوٍ للرجل، فاعتلت المنابر وخطبت في الناس، فأثَّرت وأبكت، وكانت في غاية الجمال والفصاحة وقوة الشخصية والحجة. وكان مصيرها عام 1852 حكم الإعدام، فقدمت منديلها الحريري لتُشنَق به، فجُرَّتْ من شعرها بذَنَب بغل، ثم أُحرِقَتْ حية على إحدى الروايات. يقول عنها علي الوردي في كتابه موسوعة تاريخ العراق الحديث، متأسفاً، إنها سبقت عصرها – ولو جاءت متأخرة لكانت من أعظم شخصيات القرن. وكما يقول الصادق النيهوم: «المرأة في بلادنا لم تشارك في هندسة مجتمعنا. ولا نعتقد أن ثمة فرقاً بين هفوة المرأة والرجل، ولا نريد مجتمعا يوزِّع امتيازاته حسب طول الشوارب. والمساواة بين الرجل والمرأة مستحيلة في أي مجتمع لا تتساوى فيه فرص الكسب. وهل تستطيع أن تفعل شيئاً مجدياً سوى أن تقف وراء منصة وتتسول من الرجل حقوقها؟»
في محفل سياسي بمناسبة عيد الشهداء، ضمَّ العديد من الأمهات وتقدم الخطباء فيه يتكلَّمون عن أهمية الأم في تقديم الشهداء للمعارك، قام أحد المتكلِّمين فقال: «أيتها الأمهات أريد أن أقول لكن أن لا تسمعن لأقوال هؤلاء. وإن عيد الشهداء هو موسم تقديم القرابين البشرية لآلة الحرب. إن كل فريق يدَّعي أن من مات على مذهبه ملاك وشهيد، ومن مات من الفريق المقابل مجرم وشيطان رجيم. فلا يخدعكنَّ السياسيون بعد اليوم، وانتبهن أن لا تقدمن أولادكنَّ طعاماً لفوهات المدافع.»

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود