هل عوليس بطل رغم كل شيء؟

 

هانيبال السعد

 

يمثل عوليس بطلاً ميثولوجياً يعاني عذاباً شديداً ويجتاز المهالك، منذ مستهل رحلته حتى يحقق هدفه النهائي، ويؤوب منتصراً إلى المكان الذي انطلق منه. على عوليس، البطل المستعدّ أبداً، أن يكابد طوال رحلته قدراً كبيراً من المعاناة النفسانية والذهنية والجسمانية. لكنه يبلغ بنجاح هدفه النهائي: الخلود.

*** *** ***

 

ينسج الشاعر هذا السر القديم المعروف نسجاً هو من الإبداع بحيث يستمتع بالعمل كل أنواع القراء أو المستمعين. يكابد عوليس عذاباً هائلاً لتحقيق الخلود في "بلاد الشمس". والواقع هو أنه حين يعود سوف يحمل معه، إذا جاز التعبير، معرفة وفهم[1] حالته اللاثنوية الحقّة (حالة بَـرَبْـرَهْـمَـن[2]). ولن تبقى رؤيته وفهمه على حالهما أبداً عندما يعود إلى مرتبة الوجود هذه.

إن رحلة عوليس تبدأ في

كهف جميل أغبش تقدِّسه الحوريات اللواتي يدعين النيادات. وفي الكهف ثمة آنية كبيرة وجرتان حجريتان ذواتا عراوٍ، فيهما يحتفظ النحل بعسله وله بابان، باب مفتوح على الشمال يجوز للبشر الفانين أن ينزلوا منه؛ وباب على الجنوب، مخصص بالحري للآلهة، لا يدخل منه البشر، إنما هذا هو طريق المخلَّدين. (140)

سوف يعاني عوليس انطلاقاً من هناك عذاباً عظيماً ويؤدي مهمات صعبة، يرشده هرمس أو أثينا عبر بحر أسود غائم عظيم. وهو في طريقه سوف يقاسي مشقات عديدة يبتليه بها آلهة آخرون مثل بوسيذون. ولسوف يفقد بطلنا اتجاهه من شوط إلى آخر لكنه سوف يُنتشَل بأعجوبة بأمر من زفس. وخطوة خطوة سوف يغوص أعمق فأعمق في البحر المظلم المبهم، طوال الطريق إلى هاذِس، وحتى يبلغ بلاد الشمس، مروراً بسكيلا وخاريبذس. وإذ يحقق عوليس هدفه فإنه يعود أدراجه خطوة خطوة إلى حيث بدأ.

لقد فطن كارل غ. يونغ بوضوح إلى حبكة الأوذيسة:

من التنويعات الأخرى على موضوعة البطل والتنين تنويعة الـكاتافاسيس، النزول إلى الكهف، الـنيكِيا. فلنتذكر في الأوذيسة عندما ينزل عوليس إلى العالم السفلي لاستشارة تيريسياس العرّاف. موضوعة الـنيكِيا هذه نجدها في كل مكان في العصور القديمة على امتداد العالم كله عملياً. وهي تعبِّر عن الإوالية النفسانية لانطواء العقل الواعي في الطبقات الأعمق للبسيكي اللاواعية. ومن هذه الطبقات يُشتَقُّ سياق مشخِّص ميثولوجي لاشخصي، هو النموذج البدئي، بعبارة أخرى. (يونغ، ص 38)

إنها رحلة عوليس في ليل نفسه المظلم؛ في بحر لاوعيه المظلم المبهم.

تبدأ مغامرة عوليس عندما يغادر إيثاكي إلى طروادة لمحاربة الآخيين،[3] ثم بعد سقوط طروادة "من إليون حملتني الريح إلى إسماروس الكيكونيين. هناك دمرت المدينة وقتلت الرجال. ولقد استبقينا النساء والكثير من الماشية والمتاع، اقتسمناها لكي ينال كل رجل حصة عادلة." (94) ثم يهاجم الكيكونيون سفينته ويُقتل أناس كثيرون. تهب عاصفة شديدة فيفقد عوليس ورفاقه الاتجاه في البحر تسعة أيام. لكنهم في اليوم العاشر يبلغون أرض أكلة النَبَق [اللوتس] (95). على المستوى النفساني، (يكاد) عوليس ورفاقه يجتازون عتبة الوعي.

يسلك عوليس مسلك القيادة وقهر النفس والجسارة. فهو يقهر نفسه عن أكل النبق الحلو كالعسل ويعين رفاقه فعلاً:

عدت بهم إلى السفن قسراً، وهم ساخطون متبرمون وعندما صرت بهم إلى هناك شددت وثاقهم ودكنتهم تحت المقاعد. ثم أمرت الباقين بالإسراع في ركوب السفينة، إذ إنني لم أشأ لهم أن يذوقوا طعم النبق ويودِّعوا الوطن. (96)

إن عوليس يمضي أعمق فأعمق. إنه ورفاقه يعبرون عتبة اللذة العادية.[4]

الشوط التالي هو شوط سَمْل عين ابن بوسيذون، الكِكْلوبوس المارد أوحد العين، والنجاة برفاقه من كهفه. هناك يسلك عوليس بحكمة ومعرفة رفيعة. عندما يسأل الكِكْلوبوس عوليس عن اسمه فإن عوليس الماكر يجيب "لاأحد". على هذه النقطة يعلِّق جوزف كِمبل:

إن السَمْل الرمزي للعين ("عين الثور"، المقايِسة لباب الشمس إلى الآخرة)؛ اسم لاأحد الرمزي (التجرُّد من الذات لدى العبور إلى الآخرة: لأنه لم يؤكِّد طبعه الدنيوي، اسمه الشخصي وصِيْتَه، اجتاز عوليس  حارس العتبة الكونية للدخول إلى فلك قوى عبرشخصية، لا سلطان للأنية عليها)؛ التواحُد مع الكبش (حيوان شمسي رمزياً: قارن بأمون المصري). (البطل ص 167)

يصوغ الشاعر، بما يلفت النظر، جواب عوليس بحيث يحتمل القراءة على كلا المستويين. الأول من أجل القصد الحقيقي، للإشارة إلى أن الرحلة تتم في العالم اللاواعي. والثاني للاتساق مع السرد السطحي. يحيك الشاعر كلا المستويين عن قصد بحيث يستمتع به القراء أو المستمعون كافة وهذه سمة هامة من سمات الأدب العالمي.

على المستوى الثاني سوف ينجو عوليس بفضل جوابه بما أن رفاق الكِكْلوبوس المارد أوحد العين لن يمدوا له يد العون. إذ عندما يسألون رفيقهم عن سبب زئيره الصاخب فإن جوابه يضللهم: "أيا رفاقي، لاأحد يقتلني غيلة وليس بأساً!" (101) عندئذٍ ينصرف الكِكْلوبيون الآخرون ولاأحد (عوليس) ينجو.

غير أن لاأحد يصرح باسمه للكِكْلوبوس الأعمى عندما يبلغ ورفاقه عرض البحر غير بعيد عن الجزيرة: "أيها الكِكْلوبوس، إذا ما اتفق لأحدهم أن سألك عمّن سَمَل عينك القبيحة، قل له إن عاميك كان عوليس، غازي طروادة، ابن لايرتس، ساكن إيثاكي." (104) إن تجرد لاأحد الكامل من هويته الواعية لم يتم بعد. إذ إن بوسع الكِكْلوبوس الآن أن يستعمل اسم لاأحد الشخصي [عوليس] ليستنزل نقمة أبيه بوسيذون على عاميه ويقضي عليه (104).

أما وقد بلغنا هذا الحد ينبغي أن نكون قد أدركنا كيفية تطور الملحمة على كلا المستويين. ففقط عبر معاناة يبتليه بها إله - هو بوسيذون - سوف يتعمّق بطلنا في المضيّ في ليل نفسه المظلم.

في الشوط التالي ينبغي على عوليس أن يُعمِل الكثير من ضبط النفس. فهو يبلغ جزيرة إيولوس، إله الريح. يكرم إيولوس وفادة لاأحد ويقدم له هدايا كثيرة، بما فيها كيساً من الريح يستعين به على عبور البحار العميقة. وقرب الجزيرة يحدث أمر غير متوقَّع. يستسلم عوليس للنوم فيفتح رفاقه كيس الريح، ظانين أنه مليء بالذهب والفضة.[5] فإذا بالريح تعود بالسفينة إلى جزيرة إيولوس (النكوص إلى الحالة السابقة). ويضطر المسافرون إلى البدء من جديد، من هناك، إلى المجهول. وفي اليوم السابع يبلغ عوليس الذي ما يزال لاأحد ورفاقه معقل لاماس، لكن الأهالي يرمون سفنهم بصخور ضخمة. ولاتنجو منها إلا سفينة عوليس.

ثم يحط بهم المقام في إيويا حيث تعيش كيركي، وهي إلهة رهيبة من بنات هيليوس، واهب النور للبشر (107). إن كيركي هي التي تعطي عوليس سرّ ما تبقى من رحلته. تحوِّل كيركي رفاق لاأحد إلى خنازير. يقرر بطلنا مساعدة رفاقه. وبينما هو في طريقه إلى بيت كيركي، يظهر له هرمس ويعطيه تعويذة تبطل مفعول شراب كيركي السحري. يطلق عوليس رفاقه من إسارهم ثم يتزوج كيركي. يعلِّق جوزف كمبل على ذلك بقوله:

هذا "النكاح المقدّس" لبطل يملك 300 خنزير في منزله مع إلهة تقلب الرجال إلى خنازير ثم تردّهم إلى طبيعتهم، أوسم وأطول من ذي قبل، يقودنا إلى التذكر بأن الخنزير، في ميثولوجيا وشعائر ذيمترا وبرسفوني في إلفسينا وفي مهرجان أنثيستيريا، كان الحيوان الأضحوي الذي يمثل ثيمة الموت والولادة الجديدة كما هو الأمر أيضاً في الشعائر الميلانيزية لقد عَبَر عوليس على جزيرة كيركي، يحميه نصح هرمس، إله القادوس، وسلطانُه، إلى سياق مسارَرات ملازِمة للجانب المقابل للجانب الذي يمثله فلك حياته البطولي السابق من الموروث الكلاسي المثنّى. ففي الأوذيسة، كما في الميثولوجيا الميلانيزية، كانت الإلهة، التي هي في وجهها الرهيب غولة العالم الأسفل المقتاتة بلحم البشر، في وجهها الودود مرشدة ذلك العالم وحارسته، وبهذه المثابة، واهبة حياة الخلود. (البطل ص 171)

إن كيركي تعلِّم عوليس: "عليك أن تذهب إلى بيت هاذِس وبرسفوني المروِّعة لتستشير تيريسياس الرائي الثيبي الكفيف [] وحده يملك البصيرة، بينما الآخرون ظلال طائرة" (114) ويجيب عوليس: "أيا كيركي! لاأحد قُيِّض له يوماً أن يسافر إلى هاذِس في سفينة سوداء" (114).

يتبع عوليس تعليمات كيركي ويصل أخيراً إلى ضفاف هاذِس. هناك يلتقي بأشباح رفاقه، أبطال معركة طروادة، وذويه، ويتكلم معهم. هناك أيضاً يتكلم مع تيريسياس ويحصِّل المزيد من المعرفة عما سيفعل لاحقاً، ولاسيما مع طالبي الودّ الذين يفسدون بيته ويتحرشون بزوجه النبيلة بنلوبي. يعلِّمه تيريسياس كيف يقدم القرابين للموتى. لكن برسفوني، إلهة هاذِس، هي التي تسرّ إليه بالتعليمات الأخيرة.

يبحر "عوليس المستعد أبداً" (123) إلى جزيرة الشمس (قارن بـشمبهالا المنقول التيبتي). يصف جوزف كمبل ذروة رحلة بطلنا الداخلية:

كانت مخاطر الطريق هي الآتية: أ. هنّادات البحر و ب. الصخور المدببة، أو، باتخاذ مسار بديل، بَ. سكيلا وخاريبذس. الخطر الأول يرمز إلى غواية غبطة الفردوس، أو، كما يقول صوفيّو الهند، "تذوُّق العصير": قبول السعادة الفردوسية بوصفها الغاية (النفس المتمتّعة بموضوعها)، بدلاً من المثابرة على بلوغ الإشراق اللاثنوي المتعالي. الخطران الآخران يمثلان على حد سواء العتبة الأخيرة للخبرة الصوفية التوحيدية، التي تفضي إلى ما يتعدى أشفاع الأضداد: عبور في الخبرة فيما يتعدى مقولات المنطق (أ ب، أنت لست ذاك)، فيما يتعدى كل أشكال الإدراك، إلى مشاركة واعية في الوعي المبطون في كل شيء. اختار عوليس المسار بين أشفاع الأضداد، سكيلا وخاريبذس، وجاز. (البطل ص 172)

وبذلك حقق لاأحد الخلود (أصبح غناني،[6] إذا جاز القول).

المهمة الموكولة إلى البطل المولود الجديد هي الآن الإياب إلى حالته الواعية. سوف يعاني عوليس عذاباً شديداً نفسانياً وجسمانياً وذهنياً (قارن باستيقاظ كونداليني) وهو يعود خطوة خطوة إلى حالته الواعية.

في كتابه شعائر المسارّرة ورموزها يورد مرشيا إلياده روايات مشابهة لخبرات دينية مستقاة من ثقافات عديدة. ولقد كرّس فصلاً كاملاً لشعائر الأسرار الإلفسينية. إنه يلحظ:

كان الذين يلتمسون المسارَرة، آنذاك، يسعون من خلالها إلى الحصول على مقام أونطولوجي إنساني فائق، إلهي نوعاً ما، وإلى ضمان نجاتهم بعد الموت، إن لم نقل خلودهم. والأسرار، كما رأينا لتوِّنا، تستعمل النموذج الكلاسي: الموت الصوفي، تليه ولادة جديدة روحية. (ص 113)

المحطة التالية في رحلة عوليس هي جزيرة كاليبسو، حيث سيُحتجَز البطل (الذي مازال لاأحد) مدة ثماني سنوات. إنه يريد العودة لكن الإلهة اصطفته لنفسها بعلاً. هنا تتدخل أثينا تدخلاً عجائبياً فتقنع زفس بإرسال هرمس مرشد النفس لإطلاق سراح عوليس.[7]

الوقفة التالية الهامة في الرحلة تحل عندما ينتهز رفاق عوليس فرصة قيلولته لكي يتجاهلوا تحذيره ويذبحوا قطيع هيليوس هيبيريون (135). ينزل بهم العقاب عندما يرسل بوسيذون الناقم من جراء سَمْل عين ابنه الكِكْلوبوس ريحاً عاتية ليحطم سفينة عوليس (64). لا ينجو من هذه المصيبة غير عوليس. تعطي إينو بنت قدموس عوليس طلسماً إلهياً يصونه من الغرق في البحر. يبلغ عوليس الشاطئ الفياقي، لكنه يكون قد ضل طريقه تماماً.[8]

قرب شاطئ الجزيرة يصرخ عوليس: "[] أخشى أن تمسك بي العاصفة من جديد وتحملني إلى البحر العميق [] أو أن يرسل لي الطالع وحشاً من جوف البحر []" (67) لكن أثينا "ألقت في روعه أن يرتمي على صخرة ويتشبث بها بكلتا يديه []" (67) وهذه طريقة رمزية جميلة لوصف عودة المسارَر "لاأحد" شوطاً شوطاً إلى واقعه الواعي.

يتمكن عوليس من الوصول سالماً إلى شاطئ الشعب الفياقي (مستوى آخر بعدُ) حيث تأخذه ابنة الملك ألكينووُس إلى قصر والدها. هناك يُمتحَن بطلنا (استرداد العقل) فينجح في استهواء الملك بأن يقص عليه قصته. يغالي الملك في تكريم عوليس (الذي مازال لاأحد) ويقدم له هدايا كثيرة ويرسله في سفينة إلى إيثاكي.

""[] واستيقظ عوليس الوسيم حيث كان نائماً في مسقط رأسه." أكان من الممكن للأمر أن يقال بصورة أجلى؟" (كمبل، البطل ص 175) إن لدى جوزف كمبل وكارل يونغ ومرشيا إلياده أخباراً لنا: لم يغادر عوليس بجسمه إيثاكي قط! لا حاجة للأركيولوجيين إلى تكلف مشقة التنقيب عن هاذِس أو ذرع المتوسط بحثاً عن تلك الجزر الغريبة التي يقطنها مَرَدَة غريبون. لقد تمت رحلة عوليس في العالم الأسطوري، ومجالها الجغرافي هو بحر لاوعيه الشاسع المبهم، حيث تعدم أنيّته أي دور حقيقي.

كل الثقافات عبر العالم تنطوي على منقولات أسطورية مشابهة. ولقد خصص مرشيا إلياده كتباً عديدة لمقارنة هاتيك المنقولات منقولات تنطوي على رسالة الأوذيسة نفسها.

فهل عوليس بطل؟ نعم هو كذلك، ولكن

إن المناقب البطولية التي تخطر ببالنا في عالم البصر والوعي هذا لا تنطبق ببساطة على مثل هذه الرحلة. إن للصفات التي يتخلق بها عوليس ويبديها (كالاستبداد،[9] وارتكاب المجازر،[10] وقتل الأبرياء، والتجسس، والكذب، وعدم الصراحة في القول، والخيانة، والجبن، ونقص التورّع، وانعدام المسؤولية، والسلوك مسلك الأطفال، والسلوك مسلك النساء) قيماً مختلفة، بما أن الإرادة البشرية السوية لا قيمة لها في عالم الخبرة الأعلى ذاك. يُعنَى كتاب الملاحم باستحضار قيم مختلفة للتعبير عن هذه الحالة غير العقلانية المعقّدة.

إن عدم أخذ هذا بالحسبان لابد أن يقود إلى تشويش كبير. فالقراءة الحرفية تفضي حتماً إلى إغفال القيم الحقيقية لهذه الملحمة العظيمة.

إن دَدْلي يانغ، إذ يحلل ما إذا كان عوليس بطلاً مثالياً بالمقاييس الأدبية، يعبِّر عن رأيه بقوله:

[] مما لاريب فيه أن الأوذيسة واحدة من أعظم قصص العالم، لكنها أكثر من مقزِّزة بعض الشيء" (ص 289). ويضيف: "مع أن في الأوذيسة الكثير من الهذر والإملال، تبدو لي أجزاؤها المؤنَّقة أمْيَز من حيث استيفاؤها الشروط الأدبية المحضة (إنْ وُجِدت)، وأوسع مدى، وأوضع حكمة، وأعظم قيمة [] (ص 285).

وتعترف جِنّي شتراوس كلاي بأن القراءة الأدبية تجانب الصواب. فهي ترى أن

تصريح فلوطرخس يوحي بأن الصلة بن عوليس ومريونس صلة محض "أدبية"، إنما بأنها تجد انعكاساً في الموروث المنقول المتجسِّد في الدين. عليّ أن أترك لسواي استكشاف "كنوز الميثولوجيا البعيدة" هذه. غير أن القرائن، مهما كان مبلغ التلميح فيها، كافية لتبيان أن لفيف التداعيات المعقَّد الواصل بين مريونس وعوليس ليس من قبيل المصادفة المحضة. (ص 126)

لقد نسج هوميروس العبقري برقة شديدة شعائر إلفسينا القديمة سرداً يروق لكل قراء العالم. ولايخامر ك. كرنيي شك في أن القصد من الأوذيسة ومن حبكتها هو طقس إلفسينا القديم. ففي كتابه علم الميثولوجيا (الذي كتبه بالتعاون مع يونغ) يعلق كرنيي على الأوذيسة، النشيد 6، 106 كما يلي:

على أن ليتو غير منسية عندما نستدعي رؤيا أرتميس. فهي حاضرة، تستمتع بمشهد أرتميس وهي ترقص. لم يتورع الشعراء الميثولوجيون الأقدمون العظام، من نحو إسخيلوس، والخبراء في الميثولوجيمات القديمة، من نحو كاليماخوس، عن الإشارة بأن الأمر كان يخص كوري [بنتاً] واحدة وأماً واحدة، ألاوهي ابنة ذيمترا، سواء دُعيت أرتميس أم برسفوني. (ص107)

وهو أيضاً يستخدم الأوذيسة، النشيد 11، 634 لتوضيح هذه النقطة:

تورد الأوذيسة براهين على أن القدرات المميتة الملازمة للعالم السفلي الهوميري يمكن أن تُعتبَر إشارات إلى هذه الإلهة. إن واحدة من هذه القدرات، ألاوهي القدرة على الترويع، على التحجير من الرعب، على التحويل إلى حجر، بحوزة رأس الـغورغو. هذا ما يخطر ببال عوليس عندما يرى جماهير الموتى التي لاتحصى مقبلة نحوه: فلربما أرسلت برسفوني رأس الغورغو من هاذِس! إن حشد الظلال والأشباح المرعبة هي على التوالي التجلِّيان غير المتعيِّن والمتعيِّن لعالم الموتى. ومع أن العالم المذكور هو مجال برسفوني وزوجها، فإن أشكاله المتعيِّنة تشير إلى ذيمترا الأصلية. (ص 126)

لاريب أن رحلة عوليس هي رحلة المسارَرة في الأسرار الإلفسينية. والدليل على ذلك رائع. إن إشارات هوميروس الحاذقة إلى أشواط شعائر الأسرار بيّنة للقارئ الحصيف. يصف إلياده الأسرار الإلفسينية كما يلي:

تأسست الأسرار الإلفسينية، شأنها شأن الطقوس الذيونيسية، على أسطورة إلهية؛ من هنا فإن توالي الشعائر كان يعيد تحيين الحدث البدئي المسرود في الأسطورة، وكان المشتركون في الشعائر يُعَدُّون تدريجياً للمثول أمام الحضرة الإلهية. فعلى سبيل المثال: عشية وصولهم إلى إلفسينا كان المرشَّحون للمسارَرة يكفّون عن الرقص والهرج عندما يتناهى إليهم أن كوري قد اختُطفت. فكانوا يمسكون بالمشاعل، يبكون ويندبون، ويذرعون كل مكان مفتشين عن كوري. وفجأة كان بشير يعلن أن هيليوس قد كشف عن مكان وجود كوري؛[11] فكان المرح والموسيقى والرقص يعمّ كل شيء من جديد. وبذلك تصير أسطورة ذيمترا وكوري معاصرة من جديد؛ إذ يحصل اغتصاب كوري ونحيب ذيمترا الآن وهنا،[12] وإنه بفضل قرب الإلهتين هذا، وأخيراً وبفضل حضورهما، ينال المسارَر mystes خبرة المسارَرة التي لا تنسى []. وإن شكلاً من الموت المسارَري، أي النزول الرمزي إلى الجحيم، غير مستبعَد، إذ إن التلاعب بلفظتي "مسارَرة" teleisthai و"موت" teleutan كان شعبياً للغاية في اليونان. "الموت هو المسارَرة"، كما قال أفلاطون. فإذا كان الصندوق السرّاني، كما يبدو أغلب الظن، يمثل الآخرة، فإن المسارَر، إذ يفتحه، ينزل رمزياً إلى الجحيم []. ولقد أتى فلاسفة وثيوصوفيون عديدون بتأويلات مجازية للشعائر المسارَرية. ومعظم هذه التأويلات كان يحيل شعائر الأسرار إلى الأشواط المتوالية التي كانت النفس البشرية تقطعها في معراجها إلى الله. (شعائر صص 110-111)

مع أن عوليس عاد إلى إيثاكي فإن رحلته لم تنته بعد. يلتقي هو وابنه تيليماخوس بعدئذٍ في كوخ راعي الخنازير الذي يشغله الأب. يعلِّق جوزف كمبل على ذلك بقوله:

بحيث إننا نجد من جديد في ملحمة المغادرة، والمسارَرة، والعودة هذه أن مبحث الخنزير الإلفسيني-الميلانيزي القديم يحمل الثيمة العظيمة ويؤطِّر اللحظات السامقة لاندغام عالمي الأبدية والزمن، الموت والحياة، الأب والابن. (كمبل ص 176)

في النهاية يؤوب بطلنا عوليس، ومايزال لاأحد، إلى بيته في إيثاكي ويقتل طالبي ودّ زوجه (الذين يمثِّلون ماخلّفه المسارَر من حالته السابقة). فعلى عوليس أن يطهِّر كافة المستويات الدنيا للاوعي لأن حالته الطاهرة لاتطيق أية مواحدة مع أدواره وعوائده القديمة. إذ لقد أصبح حقيقياً بالكلية. وبذلك يتم النكاح الروحي، ويعرف عوليس شريكته الروحية.

ومع نهاية الحكاية، يضطلع عوليس بنوع من الألوهية. ويخبرنا هوميروس بأن عوليس وحده من يستطيع أن يوتِر القوس العظيمة (222). قوس زفس يؤول إلى عوليس (الإنسان الخالد يدرك الآن كل الإدراك على مرتبة الوعي). وقوس عوليس يصير رامي صواعق زفس. وعلى هذا النحو تكتمل دائرة قصة عوليس، من بطل طروادة المنتصر إلى الناجي المنتصر من رحلة في أعماق وعيه الجوانيّ.

فهل عوليس بطل؟ إذا قُرِئَت قصة عوليس كسرد، فإنها تُظهِر رجلاً كثيراً ما يفتقر طبعه إلى البطولة. أما إذا قرئت على الصعيد الميثولوجي، فإن الأوذيسة تُرينا بطلاً بالمعنى الميثولوجي والنفساني الأعمق.

*** *** ***

 

المراجع المقبوس عنها

Campbell, Joseph. The Hero With a Thousand Faces. New York: Bollingen, 1973.

---------------------.  The Masks of God: Occidental Mythology. New York: Viking Penguin, 1964.

Clay, Jenny Strauss. Homer’s Odyssey: Modern Critical Interpretations. London: Chelsea House, 1988.

Eliade, Mircea. Essential Sacred Writings From Around the World. New York: Harper & Row, 1977.

------------------. Rites and Symbols of Initiation. New York: Harper Colophon, 1975.

------------------. Shamanism. New York: Bollingen, 1974.

Homer. The Odyssey. Translated by W.H.D. Rouse. New York: The New American Library, 1994.

Jung, Carl G. Psychology and Alchemy. New York: Bollingen Foundation, 1952.

Jung, Carl G., and C. Kerenyi. Essays on a Science of Mythology. New York: Bollingen Foundation, 1969.

Al-Saad, Hannibal. “Theodicy in Job and King Lear”. Unpublished work.

Young, Dudley. Origins of the Sacred. London: St. Martin’s Press, 1991.


[1] إن كلمات بنلوبي الأخيرة إلى عوليس هي: "تعال أخبرني عن محنتك. فإني يخيَّل إليّ أن يوماً سيأتي ينبغي عليّ فيه أن أتعلّمها، ولا ضير في معرفة آن أوانها." (مقبوس في كمبل ص 177)

[2] قصدي من ذلك الإيضاح، غير أن المزيد من المقارنة المتأنّية يجب أن يتم قبل التوصل إلى هذه النتيجة.

[3] إن إثبات ما إذا كان عوليس هو عينه عوليس الإلياذة أو لم يكن يقع خارج إطار هذا البحث.

[4] يعلق جوزف كمبل على أكل النبق: "(مبحث ليثي، تحوّل الذهن المتناسي عن العالم الأسطوري، أي الباطن)" (كمبل ص 156).

[5] على المرء أن يبقي في باله أن الملحمة تسير على مستويين. الفعل اللاعقلاني الذي يجلب سوء الطالع شائع للغاية في الأدب بعامة. أنظر بحثنا غير المنشور "الانتصار لله في أيوب والملك لير".

[6] غناني كلمة سنسكريتية تشير إلى كل من يستعلي على الثنوية ويحيا دائماً في حالة بربرهمن المطلقة.

[7] تبدأ الملحمة مع عوليس المحتَجَز في جزيرة كاليبسو وهذا عندما تقلع سيرورة مسارَرة تيليماخوس. لقد زامَن الشاعر كلا الفعلين مزامَنَة جميلة حتى يؤوب الأب والابن سوية من المهمة الأخيرة، ألاوهي قتل طالبي الودّ بما يسمح للنكاح الروحي أن يتم. وبذلك يصبح تيليماخوس الطفل الروحي لهذا النكاح.

[8] قارن مع خبرة كريشنامورتي في استيقاظ كونداليني كما وردت في كتاب بوبول جيكار عنه.

[9] أنظر: Carl G. Jung & C. Kerenyi, Essays on a Science of Mythology.

[10] قارن بقصة موسى الشاب في رحلته الأسطورية مع "الخضر"، الذي "أتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنّا علما" (الكهف 65). لقد خرق الخضر السفينة التي ركباها، ثم قتل غلاماً، ثم أقام جداراً يريد أن ينقضَ، فلم يستطع موسى الشاب أن يدرك تأويل هذه الأفعال الغريبة للوهلة الأولى. وقد قال له الخضر ثلاثاً: "إنك لن تستطيع معي صبراً" (الكهف 67، 72، 75). أنظر كذلك "الانتصار لله في أيوب والملك لير".

[11] تجد مناقشة مطوّلة حول "كوري" في Essays on a Science of Mythology. 

[12] قارن بوصف هوميروس لصفات عوليس البطولية (الأوذيسة 123).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود