الرجل الذي صار إلهاً*

 

أنطوان شنكرا

 

كلَّما أمعنَّا النظر في تاريخ المسيحية، وخاصة في السنوات الأولى لنشأتها، ازداد حرجنا حيال هذا التاريخ. وهنا تحضرنا صورة العلماء الذين تواجههم مشكلة مشابهة عندما يرجعون بتصوراتهم وحساباتهم إلى غابر الأزمنة، إلى لحظات الانفجار الأولى التي يكتنفها الغموض. وينقسم العلماء إلى فِرَق يفضل بعضها أطروحة ما، في حين أن يدافع بعضها الآخر عن سواها. وغالباً ما تنشب بين هذه الفِرَق مشاحنات متأججة وعنيفة. فكيف بالتالي إذا تحدثنا عن موضوع ديني تأصل في النفوس وفي الأعراف وفي التقاليد؟ حسبنا هنا أن نشير إلى ردود الفعل العنيفة التي واجهها فيلم تجربة المسيح الأخيرة لمارتن سكورسيزي، على الرغم من تحذير المخرج في مطلع الفيلم بأن فيلمه خيالي لا يمس شخصية المسيح الحقيقية، والتي قادت إلى حوادث عديدة تراوحت بين المظاهرات الصاخبة وحرق دور السينما وإلحاق الأذى بالحضور! ومن المؤسف، بل من المحزن، أن الذين يقومون بأعمال الشغب هذه يدَّعون الدفاع عن المسيحية وعن رسالة المسيح في المحبة والتسامح!

لا يدَّعي كاتب هذه الأسطر لذاته أي حق في البت في قضايا اللاهوت المعقدة، لكنه يعتقد بأنه يحق له، كما يحق لكل إنسان، أن يسأل بصورة مفتوحة ومنفتحة عن كيفية وقوع الأحداث التاريخية التي لا يمكنه، ولا يمكن لغيره، أن يبدِّلها مهما فعل ومهما قال!

وكما أن العلماء يبحثون عن أثر، أو عن صدى باقٍ من أثر الانفجار الكبير المتوقَّع، وكما أنهم يحاولون تنقية هذه الآثار عند اكتشافها من الشوائب التي أثقلتها على امتداد الكون والسنوات الضوئية، نجد أنفسنا حيال المشكلة ذاتها عند محاولتنا تلمس هذه الآثار ومصداقيَّتها في تاريخ المسيحية.

فنادراً ما أتى كتَّاب العصر الذي يفترض أن يكون يسوع قد عاش فيه على ذكره في كتاباتهم. لهذا تبقى الأناجيل مرجعنا الرئيسي بهذا الخصوص. وإذا نظرنا إلى تاريخ هذه الأناجيل، تبيَّن لنا أن ذلك العصر عرف كتابات وأناجيل عديدة أخرى تم تناقلها واستخدامها، وأنه لم يُصَر إلى سحبها من التداول إلا بعد عدة قرون، فتم اختيار بعضها فقط، كالأناجيل المعتمدة اليوم (متى، مرقس، لوقا، يوحنا). وقد شهدت هذه الأناجيل تعديلات عديدة، وتمت إضافات أو حذوف أو تعديلات على العديد من مقاطعها بحسب مزاج النُسَّاخ. وتزداد الصعوبة عندما نعلم أن جماعات دينية وفلسفية عديدة وُجِدت قبل حياة يسوع وأثناءها وبعدها، وأن عناصر عديدة من تعاليمها جاءت لتجتمع مشكِّلة جانباً كبيراً من المعتقدات المسيحية ذاتها.

وقد تكشف ذلك خاصة إثر اكتشاف المكتبة الغنوصية القبطية في مصر (1945) ووثائق جماعة قمران الأسينية في فلسطين (1947).

كان الأسينيون طائفة دينية يهودية تدعو إلى الزهد والتأمل الروحي بانتظار المخلِّص ونهاية العالم. ونجد في المسيحية عناصر أسينية عديدة: المعمودية، القربان المقدس، المخلِّص الموعود، نهاية العالم، الخ... (راجع كتاب جون ألِّغرو، مخطوطات البحر الميت**، وبالعربية تأملات ميخائيل نعيمه في كتابه من وحي المسيح).

أما الغنوصيون، فكانوا على نقيض الأسينيين (الغنوص، من اليونانية gnosis = معرفة) لا يدْعون إلى الزهد، ولا يعتقدون بضرورة وجود سلطة دينية، إضافة إلى اعتقادهم بأن التجربة الروحية تتم هنا والآن، ولا حاجة إلى انتظار مخلص، الخ...

نجد عناصر من هذه المعتقدات في أحاديث عديدة للمسيح، وفي معارضته للتقليد وللقانون. وتضم المكتبة الغنوصية المكتشَفة إنجيل توما الذي تبيَّن أنه استُخدِم على نطاق واسع حتى تم سحبه في القرن الخامس (راجع مثلاً كتاب إيلين بيغلس الأناجيل الغنوصية***). وإذا نظرنا إلى الطقوس والرموز المسيحية، لوجدنا أن عدداً كبيراً منها استُعير من ديانات أخرى. فتاريخ ولادة يسوع يتوافق مع انتصار ميترا الفارسي على الظلمات، وصورة الراعي الصالح الذي يحمل الحمل على كتفيه – مثَّلت، قبل المسيح، للآلهة أبولون، ميترا، هرمس الإغريقي... إلى آخر ما هنالك من المقارنات والاقتباسات.

ثمة مشكلة أخرى مع الأناجيل، ألا وهي صمتها عن حقبة كاملة من حياة يسوع. وقد أطلق ذلك العنان لخيال عدد من الكتاب حاول بعضهم أن يقتفي آثار يسوع في الهند وفي غيرها من البلدان المجاورة...

يحاول جيرالد مسادييه –  المحرِّر المسؤول في مجلة Science & Vie أن يتعامل مع كل هذه المعطيات المتناقضة ومع غيرها. وقد أمضى عشر سنوات في كتابة روايته، فحص خلالها عدداً هائلاً من الوثائق والدراسات، ونهل منها وعلَّق عليها في مجلد يضم كل مصادره ويعادل في حجمه حجم الرواية، تم نشره بعد الرواية.

تحتوي رواية مسادييه بالطبع على تفصيلات خيالية عديدة، لكن المؤلف حاول دائماً أن يعطي لأحداث روايته مصداقيَّة تاريخية بقدر المستطاع. لهذا نجد شرحاً مستفيضاً للوضع السياسي القائم في المنطقة وللعديد من الأفكار والنزعات الدينية في ذلك الوقت.

تتمحور الرواية حول شخص يسوع. ويقدم المؤلف تحليلاً مدهشاً لشخص يوسف والد يسوع. ويبيِّن من مقارنة عناصر تاريخية عديدة أن ولادة يسوع حصلت على الأرجح، في سنة 7 ق م!

أما الفترة السابقة لحياة يسوع العلنية، فيتصوره فيها يجوب الشرق الأدنى ويلتقي بأصحاب أفكار عديدة ويتعرف إلى ما لديهم، ينتمي إلى جماعة قمران ليختلف معهم فيما بعد.

يُظهِر مسادييه كذلك كيف أن يسوع لم يصرح مرة بأنه المخلِّص المنتظر، بل حاول دائماً تخليص محادثيه من براثن إسقاطاتهم الدينية الراسخة. ويحاول المؤلف إظهار عبقرية يسوع الخاصة في مواجهة التيارات الدينية والفلسفية العديدة في عصره.

أما أشد ما في رواية مسادييه إدهاشاً فهو دراسته المستفيضة لمحاكمة يسوع ولصلبه. والنتيجة التي توصل إليها أكثر مدعاة للدهشة: لقد صُلِب يسوع لكنه لم يمت على الصليب! إذ لم يتم كسر ساقيه، كالمصلوبين الآخرين، وتم إنزاله عن الصليب بعد بضع ساعات من صلبه، في حين يمكن للمصلوبين أن يبقوا معلَّقين على الصليب أحياء لبضعة أيام أو حتى أسابيع.

وشَرْحُ المؤلف للمفارقات السياسية والدينية شائق ومحيِّر. ولقد حالت هذه الإشكالات دون ظهور يسوع مرة أخرى علنياً في المنطقة. ولا يذكر المؤلف شيئاً عن حياة يسوع المفترضة واللاحقة لصلبه، بل يكتفي بالقول إنه ربما ذهب إلى آسيا.

وهنا أريد أن أفتح فاصلة سريعة. لقد صدرت في السنوات الأخيرة عدة كتب تتحدث عن موضوع زيارة يسوع للهند. حتى إن بعضهم قال إنه رأى مع الرهبان التيبتيين وثائق تتحدث عن هذا. ويضيف آخرون إنهم قد عثروا على قبر يسوع في كشمير )راجع مثلاً كتاب كلارا بروفيت سنوات يسوع المفقودة****). وحاول آخرون استخدام كفن تورينو Linceul de Turin/Suaire الذي اعتُقِد لسنوات أنه الكفن الذي لُفَّ جسد يسوع به بعد صلبه – إما ليبرهنوا بواسطة آثاره الغريبة على أن المسيح قام أو ليبرهنوا على أنه لم يمت على الصليب بل بقي حياً (راجع كتاب هولغر كرشتن، يسوع عاش في الهند*****). لكن فحصاً حديثاً للكفن بواسطة الكربون 14 بين أنه حديث العهد وأن صناعته ترجع إلى القرن الثالث عشر تقريباً. وبهذا تسقط دراسات ومشاحنات لا تحصى قامت بين جماعات عديدة، في حين يبقى لغز الكفن والآثار المنطبعة عليه قائماً، لا نعرف أصلها الحقيقي.

والحقيقة أنني لا أرى أن الكتابات الخاصة بزيارة المسيح إلى الهند تمكنت من الإتيان ببيِّنات مقنعة بهذا الشأن.

أما دراسة مسادييه فهي، كما أشرت، تعتمد دراسة تاريخية معمَّقة. ويبقى أنه يكفي أن نجد وثيقة جديدة حتى يسقط جانب كامل من هذا العمل، تماماً كما هي الحال مع الانفجار الكبير.

لهذا أعتقد أن الأسئلة المطروحة تبقى مفتوحة وأن يسوع يبقى محتفظاً بكامل سره، رغم ازدياد معرفتنا بعصره من النواحي الدينية والسياسية والاجتماعية. ولا يمنع ذلك كتاب مسادييه من أن يكون رائعاً مثيراً، يطرح أسئلة جوهرية تدعونا إلى محاولة تعميقها.

*** *** ***


* Gérald Messadié, L’homme qui devint Dieu, Robert Laffont, Paris 1988, 611 pp.

 

** J. Allegro, The Dead Sea Scrolls.

*** E. Pagels, The Gnostic Gospels.

**** C. Prophet, The Lost Years of Jesus.

***** H. Kresten, Jesus Lived in India.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود