ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة:

مقام ’نعم ولا‘

 

محمد المصباحي*

 

بدايةً، لا بدَّ لي من الاعتراف بأنني أتيت إلى ابن عربي بالعَرَض لا بالذات – لا لأنني مازلت أعدُّ نفسي حتى هذه الساعة من أهل النظر، لا من أهل المشاهدة، وحسب، بل وأيضًا لأنني أتيت إليه، في لحظة أولى، من خلال ابن رشد، أي من خلال الموقف العقلاني من العالم – وآتي إليه الآن عبر ’حجاب‘ ما بعد الحداثة. وهناك أمر ثالث يشفع لعَرَضيَّتي في التعامل مع فكر الشيخ الأكبر، وهو أن هذا الفكر نفسه عَرَضي الهيئة؛ مما يسمح لي بهامش كبير من الحرية لدخول أرجائه والخروج منها دون مطالبة بأيِّ حساب مذهبي. ولعل هذه العَرَضية هي التي جعلتني أحبه واستمر معه – خصوصًا وأنه يرى أن المحِّبَ مطالَب بالتقلُّب والتحول. بقي لي أن أقرَّ، من ناحية أخرى، بصعوبة رؤية ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة؛ إذ كيف يمكن رؤية فكر رجل ينتمي إلى زمن ما قبل الحداثة من وراء حجاب فكر متمرِّد على الحداثة نفسها، رافضًا الانحباس في أية صورة مذهبية كانت؟

ثلاثة مداخل: المِرآة، ’نعم ولا‘، المقابلة

من أجل الالتفاف على هذه الصعوبات، سأستعين بثلاثة مداخل، هي عبارة عن أفكار تَداوَلَها ابن عربي نفسه: فكرة المرآة، وفكرة ’نعم ولا‘، ثم فكرة المقابلة. لقد توسَّلنا بهذه الأفكار لكونها تمنحنا حرية أكبر للجمع بين المطابقة والاختلاف، بين الجزم بأن الوجه الذي تراه في المرآة هو وجهك، وبأنه ليس وجهك في آنٍ واحد.[1] ولعل هذا هو بعينه ما تؤمُّ إليه الإجابة المتناقضة: ’نعم ولا‘، التي ردَّ بها ابن عربي على السؤالين اللذين طرحهما عليه ابن رشد في لقائهما المشهور بقرطبة[2]؛ فهي الأخرى تتردد بين الإثبات والنفي، دون شعور بالحرج الذي يشعر به عادة أهل النظر في مثل هذا الوضع. إن هذا الشعور المتناقض هو ما يتملَّك المرء عندما يقرأ فكر ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة. فإنك ما أن تكاد تشعر بالتقارب الودِّي بين الفكرين الأكبري وما بعد الحداثي، حتى يبتعد الواحد منهما عن الآخر فراسخ وبرازخ. لذلك لن تكفينا مرآة واحدة للنظرة المزدوجة التي نريد أن نلقيها على الأفقين الأكبري وما بعد الحداثي، بل سنستعمل مرآتين: المرآة الأولى هي التي ينصُّ عليها عنوان البحث، أي مرآة ما بعد الحداثة، التي سنسعى أن نَرى في مَجْلاها صورة الشيخ الأكبر أو صوره؛ والثانية مرآة ابن عربي، التي سنجلوها، عساها أن تعكس لنا جملة من صور ما بعد الحداثة.

ونرى أن مشروعية الرؤية في هاتين المرآتين المتقابلتين تقوم على أربعة مبادئ: أولها أن كلَّ إنسان هو مرآة في نفسه؛ والثاني أن هذه المرآة تعكس العالم كلَّه، أو كما قال في ’تجلِّي المعية‘، إن «الإنسان نسخة جامعة للموجودات [وإن] فيه من كلِّ موجود حقيقة»[3]؛ والمبدأ الثالث هو وجود «المناسبة» بين الإنسان والوجود، لأن المرآة لا يمكن أن تعكس إلا ما يناسب طبيعتها؛ والرابع أن الذات، عندما ترى نفسها في المرآة، فإنها تراها من حيث هي آخر، أو قل إن المرآتين يعكس كلٌّ منهما الأخرى، بحيث ترى نفسها في الأخرى. ومع ذلك، علينا أن نحتاط من المرآة؛ فهي لا تستطيع أن تعكس سوى مثال الشيء وشبيهه، لا الشيء نفسه. ومن ثَمَّ، إذا كانت المناسبة موجودة بين ما بعد الحداثة وابن عربي، فإنها لا تتعارض مع الاختلاف والخلاف؛ أليس ابن عربي هو القائل بأن «الخلاف حق حيث كان»[4]؟

ليس غرضنا، إذن، أن نثبت هويةً أو اختلافًا بين هذين الأفقين، وإنما غرضنا أن نستشف ما إذا كان فكر ابن عربي قادرًا على التَّماس مع مقتضيات الزمن الحاضر، وفتح آفاق جديدة لوجودنا وفكرنا، وإنهاض الهمة فينا لكي ننطلق من أجل تطوير لغتنا وأسئلتنا وذاتنا العتيقة وتجديد بنائها بما يتوافق وتحديات هذا الزمن الذي نحن فيه.

ولمَّا كنَّا قد جعلنا المرآة ومقام العلاقة الجدلية بين ’نعم ولا‘ وسيلتين لمقاربتنا، فإن طيف المقابلةالتي جرت بين الرجلين، والتي حكاها لنا ابن عربي، سيسكن هذه المقاربة من أولها إلى آخرها. وأول ما استدرجتْنا إليه علاقةُ المقابلة افتراض ’مقابلة‘ برزخية أخرى تجري ما بين ابن عربي وأحد مفكِّري ما بعد الحداثة، كأن تقول نيتشه أو هَيْدِغِّر أو ديرِّيدا. وإننا نتوقع أن يكون مآل مثل هذه المقابلة المفترضة أقل درامية من مقابلته مع فيلسوف قرطبة، وذلك لسببين: أولهما أن ما يجمع بين ابن عربي وما بعد الحداثة هو، من جهة ما، أقوى بكثير مما كان يجمعه مع أبي الوليد. فقد كانت فلسفة هذا الأخير تقوم على إخضاع الوجود لمقتضيات العقل وتحويله إلى علم وقوة، الأمر الذي يقتضي تقسيم الوجود إلى مقولات ومبادئ وجواهر وأعراض، تمهيدًا للسيطرة عليه وإخضاعه. وهذا ما يفسر الإجابة المترددة لابن عربي بين ’نعم ولا‘ على سؤال ابن رشد. ذلك أنه إن لم يكن الشيخ الأكبر يُنكِر على العقل حقَّه في معرفة الوجود، فإنه كان يستنكر ادِّعاءه احتكار معرفة الوجود، لأن المعرفة، في نظر الشيخ الأكبر، تحيل دومًا على اللامعرفة. أما ما بعد الحداثة، التي كانت نتيجة انقلاب جذري على العقل، وبالضبط على العقل التنويري، فلم تعد تؤمن بما تسمِّيه أوهام العقلانية: المعرفية والأخلاقية والإنسانية، حيث كفَّتْ عن الاعتقاد بأن العلم هو الوجه الوحيد للحقيقة، وبأن الماهية ثابتة وسارية في جوف الموجودات، وبأن البرهان قادر على الوقوف على نظام الأشياء كلِّها، وبأن المعرفة يمكن أن تكون موضوعية، وبأن الخير يمكن أن يكون مطلقًا، لا نسبية فيه ولا خلاف في شأنه. موازاةً لذلك، نادت ما بعد الحداثة إلى إعادة النظر في الوسائل المعرفية التي كان يُقصيها العقل، كالخيال والأسطورة، وعملت على إلغاء الازدواجيات التي كان يقوم عليها الفكر الاستدلالي، كالازدواجية بين الصورة والأصل، بين الذات والأعراض، وبين المبدأ والأثر.

أما السبب الثاني الذي نتوهَّم أن يكون وراء نجاح المقابلة المتخيَّلة بين ابن عربي وما بعد الحداثة، فيتعلق بسؤالها: ذلك أن سؤال أبي الوليد كان يتعلق بمدى مطابقة النظر مع الكشف؛ وكانت إجابة ابن عربي بـ’نعم ولا‘ في آنٍ واحد، لأن ابن عربي لم يكن ينكر طريق النظر، ولكنه كان يعارض أيَّ خلط أو توحيد بين هذا الطريق وطريق الكشف. أما مفكِّرو ما بعد الحداثة فقد توقفوا عن وضع مثل هذا السؤال منذ فجر نشأتهم – سؤال التطابق أو التقابل بين الكشف والبرهان – بحكم عدم إيمانهم بالغاية التي كان يؤمُّ إليها الفكر السابق عليها، وهي تحقيق الاتصال بالمبدأ الأقصى؛ أو أنهم، على الأقل، لم يعودوا يعبؤون بالبحث عن هذه الغاية. هكذا تكون العقبتان الرئيسيتان – عقبة هيمنة العقل على الوجود وعقبة سؤال التطابق – قد زالتا، لتنفتح الطريق أمام توارُد معالم التشابه والتناظر بين فكر ابن عربي وما بعد الحداثة.

وما دمنا قد توهَّمنا حصول هذه المقابلة في برزخ من الخيال ما بعد الحداثي، فقد ينبغي علينا أن نغير من استراتيجية السيناريو بعض الشيء، فنقلب الأدوار، جاعلين الطالب للمقابلة والواضع لسؤالها هو ابن عربي، وليس ممثِّلي فلسفات ما بعد الحداثة. أما عن السؤال المطروح، فلا يمكن أن يكون صامتًا، أو مرموزًا إليه على هيئة ’لا‘ أو ’نعم‘، وإنما يجب أن يكون صريحًا؛ في حين أن إجابة ما بعد الحداثة قد تكون بـ’لا نعم‘، وقد تكون بنفس الوتيرة التي كانت عليها إجابة ابن عربي على أحد سؤالي ابن رشد: ’نعم ولا‘، ولكن ليس بنفس الدلالة التي أعطاها لها ابن عربي؛ لأنه مهما كان تقارب ما بعد الحداثة من بعض أوجُه الفكر الأكبري، فإن ما بعد الحداثة ذهبت بعيدًا في انقلابها على العقلانية التنويرية، إلى درجة جعلتْها تستخلص نتائج ما كانت لتخطر على بال الشيخ الأكبر. لقد انتهت ما بعد الحداثة، بصفة عامة، إلى رؤية للعالم مختلفة جذريًّا عما كان يراهن عليه ابن عربي من حيث المضمون: فرؤية ما بعد الحداثة متشظِّية، تفكيكية وعدمية، رؤية مؤثَّثة بالأشباح والأطلال والفكر الخرائبي إزاء الوجود والمعرفة والإنسان والتاريخ والأخلاق، وإزاء كلِّ شيء ينتمي إلى الأجهزة الثقافية والحضارية القائمة – ولو أنها صاغت هذه الرؤية بالفكر ضدًّا على الفكر.[5] ولذلك لا نتوقع أن توجد ’ليلى‘ واحدة يسعى للقائها كلُّ مجانين ما بعد الحداثة، بل ’ليلات‘ – هذا إن افترضنا أنهم قادرون على العشق! حقًّا، كاد الشيخ الأكبر أن يلامس هذا الموقف، ولكنه وقف دونه، لأنه مهما نوَّع من ملامح ليلاه (الأحدية، الوحدانية، الوحدة، الهوية، الربوبية، الألوهية)، ومهما كانت سَعَة قلبه لاحتضان الصور كلِّها، فإنه بقي مؤمنًا بالحقيقة الواحدة. ولعل تلميحه إلى وَجْهَي التشابه والتباين بين موقفه وموقف السفسطائية ما يؤشر إلى نوع العلاقة التي يمكن أن تنشأ بينه وبين الأفق ما بعد الحداثي. فقد قال عنهم: «فالعالم كلُّه في صور مثل منصوبة. فالحضرة الوجودية إنما هي حضرة الخيال... وهذا لا قائل به إلا من أُشهِد هذا المشهد. فالفيلسوف يرمي به، وأصحاب أدلة العقول كلُّهم يرمون به، وأهل الظاهر لا يقولون به... ولا يقرب من هذا المشهد إلا السوفسطائية. غير أن الفرق بيننا وبينهم أنهم يقولون إن هذا كلَّه لا حقيقة له، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول إنه حقيقة. ففارقْنا جميع الطوائف.»[6] فما يظهر كأنه لعبة دلالات وصور خيالية بالنسبة للفكر المعاصر، هو عين الجد عند الشيخ الأكبر، لأن كلَّ الأشياء عنده لها شيء من نَفَس الرحمن.

’نعم و لا‘ والمتقابلات الأربع

إن استجلاء مرآة ما بعد الحداثة يقتضي منا أن نتبيَّن وجه انتماء ’الإجابة المتقابلة‘ لابن عربي إلى المتقابلات الأربع: التناقض، والتضاد، والإضافة، والملكة والعدم. فعن السؤال الأول المرموز لابن رشد: «نعم؟»، أجابه ابن عربي إجابتين متقابلتين في نظر العقل البرهاني، كانت أولاهما إيجابية: ’نعم‘. لكن ما أن استشعر ابن عربي بما أفرح أبو الوليد من إجابته، حتى انقلب عليها نحو إجابة سلبية: ’لا‘! هكذا يكون ابن عربي قد أثبت ثم نفى، مما يُدخِل إجابته المتقابلة على السؤال الأول ضمن تقابل ’التناقض‘، علمًا بأن هذا التناقض يوجد على مستوى الانفعال (الفرح/الانقباض)، لا على مستوى الفكر.[7] أما السؤال الثاني لابن رشد، الذي يتميز بوضوحه هذه المرة، فيطرح فيه صراحةً ما كان مضمَرًا في السؤال الأول، وهو مسألة مدى مطابقة طريقي النظر والكشف: «كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي: هل هو ما أعطاه لنا النظر؟»[8] عن هذا السؤال جمع ابن عربي في إجابته بين ’نعم ولا‘ دفعة واحدة، دون انتظار للأثر الانفعالي الذي قد تُحدِثُه الإجابة، مما يجعلنا نُدخِلها ضمن علاقة ’التضاد‘. في حين يمكن إدراج تعليق ابن عربي على هذه الإجابة: «وبين نعم ولا، تطير الأرواح من موادها»[9] ضمن علاقة ’الملكة والعدم‘. وأخيرًا، بوسعنا أن نتوقع أن قصده من جمعه بين ’نعم ولا‘ كان أن يبيِّن أن كلَّ واحد منهما موجود في الآخر، وكأن كلاً من ’نعم‘ و’لا‘ مكيال للآخر، مما يجعلهما أدْخَل في باب ’الإضافة الذاتية‘. إن هذه القراءة التقابلية لإجابة ابن عربي تجعلنا نذهب إلى أنه أراد أن يحوِّل التقابُل بين ’نعم ولا‘ من تقابُل إقصائي، ينفي المقابِل ويلغيه، إلى تقابل جَدَلي، يطلب المقابِل ليتفاعل معه. فـ’نعم ولا‘ في الفكر الأكبري متقابلان، ولكنهما متضايِفان تضايُفًا ذاتيًّا، بحيث لا يمكن لأحدهما أن يوجد بدون الآخر.

فإذا علمنا أن هذه المتقابلات الأربع تعود بأصلها، من جهة، إلى نظرية الواحد، بحكم تفرعها عن التقابُل الأول – وهو تقابُل الواحد والكثير – وتعود، من جهة ثانية، إلى نظرية الوجود، لكون ’المتقابلات الأربع‘ من لواحق مقولات الموجود، فإنه سيتبيَّن لنا أن استعمال ابن عربي للمتقابلات الأربع في إجابته المحيِّرة يدل، مرة أخرى، على أن لغته كانت تدور في أفق الوحدة، أي أفق الهوية والاختلاف، المناسبة والتقابُل، الاتصال والانفصال، الإضافة والمكيال، السلب والحركة – وهو أفق يجري فيه الجمع بين الأضداد دون أيِّ حرج نظري أو انفعالي. وهذه – لعمري – إحدى السمات القوية التي تجمع ما بين ابن عربي وروح ما بعد الحداثة.

ومع ذلك، فإن موقف ابن عربي هذا يجعلنا في حيرة من أمرنا، فلا نستطيع البتَّ في معنى الجمع بين المتقابلين ’نعم ولا‘: هل هو تعبير عن إمكان واستحالة الجمع بين الفلسفة والتصوف، بين النظر والكشف، بين الاتصال والانفصال؟ هل كان الجمع بين ’نعم‘ و’لا‘ اعترافًا بتاريخ الفلسفة ونفيًا له في نفس الوقت، أم هو اعتراف بجزء مما كانت تقول به الفلسفة، ونفي لجزء آخر منها؟ هل هذه الإجابة المتقابلة هي إقرار بازدواجية الحقيقة ذاتها، أم بازدواجية الطريق إليها؟ ثم هل إجابته بـ’نعم‘ أرادها أن تكون قطعية مطلقة، فنفاها بـ’لا‘ قطعية جازمة؛ أم أن القصد من إجابته بـ’نعم‘ أن يترك شيئًا من ’لا‘ في داخلها، والعكس؟ هل كانت غايته أن يثبت بأن «العيان يُغني عن البرهان»[10]؛ أم أنه كان يريد الجمع بين العيان والبرهان معًا؟ إن منطق الفكر الأكبري يمنعنا من استبعاد أيٍّ من هذه الأسئلة، ولا أيِّ جانب من هذه الإمكانيات المفترضة، لأن النفي الصارم الذي يَؤُول إلى العدمية، والإيجاب الجازم الذي ينتهي إلى الوثوقية، ليسا من شِيَمِ الفكر الأكبري القائم على القلب والتقلُّب.[11] فقد كان يقول إن «التجلِّي المتكرِّر في الصورة الواحدة لا يعوَّل عليه»[12]، وإن «الإقامة على حال واحد نَفَسَين فصاعدًا لا يعوَّل عليه عند أكابر الرجال»[13]. فابن عربي لا يمكن أن ينتمي لا لأصحاب ’نعم‘ ولا لأصحاب ’لا‘، لأنه يفضِّل أن يوجد في برزخ بينهما، متمتعًا بمقام الحيرة، التي كلما زادت حدَّتها ازداد كمال الإنسان.[14]

إن الدرس الذي نستخلصه من العلاقة الجدلية بين ’نعم ولا‘ هو أنه ليس بوسعنا أن نرى جُمَاع فكر ابن عربي دفعة واحدة في مرآة ما بعد الحداثة، لأن فكره غير قابل للحصر بسبب تحوله المستمر في مقامات ومواقع مختلفة، بحكم تجدُّد صوره اللانهائية، وتعدد أسئلته ومجالاته، وتنوع طرقه وغاياته. ولهذا سنقتصر في سعينا هذا على رؤية صورتين من صور ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة: صورة العقل في علاقته مع القلب، وصورة الوجود في علاقته مع الوجدان.

صورة ’العقل‘ الأكبري في مرآة ما بعد الحداثة

عندما نوجِّه نظرنا إلى مرآة ما بعد الحداثة تُطالِعُنا أوجُه تشابُه عديدة بين مفهومي العقل الأكبري وما بعد الحداثي. فبالنسبة للشيخ الأكبر، يتخذ العقل صورتين،[15] صورة فاعلة، يكون فيها العقل مرادفًا للـ’فكر‘، أي للقياس والممارسات الاستدلالية والحدِّية بصفة عامة، وصورة منفعلة، يتخذ فيها العقل معنى المكان، مكان قبول المعارف الآتية إليه إما من الله، أو من الفكر، أو من القلب.

يوجِّه ابن عربي نقده العنيف فقط لصورة العقل الفاعلة، أي للعقل بمعناه الفكري، حيث يرصد ثلاثة عيوب أساسية للعقل، تهمُّ ثلاثة مستويات: كيفية توصُّله بمعطياته، وأسلوب استعماله لهذه المعطيات في أفعاله المعرفية، ثم قيمة المعرفة التي يتوصل إليها. وهذه العيوب هي: عيب الوساطة، وعيب التقييد، ثم عيب الموضوعية والحياد.

إذا نظرنا إلى الكيفية التي يحصل بها العقل على معطياته المعرفية، فإننا نلفيه لا يستطيع أن يدرك بنفسه لا الظواهر الخارجية ولا المعاني الغيبية، وإنما هو يقوم بذلك بالواسطة، عن طريق الاستدلال والحد، سواء على صعيد الطبيعة أو على صعيد ما بعد الطبيعة.[16] فبالنسبة لظواهر الطبيعة، كالألوان مثلاً، أو أسرار الذات والأسماء الإلهية، يبدو العقل عاجزًا أن يقف عليها بنفسه ومباشرة. فالألوان إنما يدركها العقل عن طريق الحواس: «... وكذلك القوة البصرية جعل الله العقل فقيرًا إليها فيما توصله إليه من المبصرات، فلا يعرف الخضرة ولا الصفرة ولا الزرقة ولا البياض ولا السواد ولا ما بينهما من الألوان ما لم ينعم البصرُ على العقل بها؛ وهكذا جميع القوى المعروفة بالحواس.»[17] أما الصفات والأسماء والذات الإلهية فلا يمكن أن يدركها الإنسان إلا بالقلب والبصيرة. هكذا يبدو العقل غير مستقل بنفسه بالنسبة لموارده المعرفية، سواء إزاء الحواس والخيال أو إزاء القلب. من هنا جاء افتقارُه وتبعيَّته لغيره: «يا أخي، ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئًا مما ذكرناه إلا بوساطة هذه القوى، وفيها من العلل ما فيها.»[18] ويستخلص ابن عربي بأنه إذا كان لا مناص من التقليد، فلنقلِّد الخبر؛ فهو أولى من تقليد العقل، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمعرفة الذات الإلهية، التي يتكفل الله نفسه بالإخبار عنها.[19]

أما العيب الثاني للعقل، وهو عيب الحصر والتقييد،[20] فيتجلَّى في نظر الشيخ الأكبر في أرقى وسائله للبحث عن الحقيقة والتعبير عنها، وهما الحد والبرهان. ذلك أنه لمَّا كانت نظرية الحدِّ تنطلق من اعتبار أنه لا يوجد للشيء الواحد إلا حد واحد، بحكم حيازته لماهية واحدة فقط، وأن هذه الماهية محصورة في مقوِّمَين اثنين فقط، هما جنسها القريب وفصلها الذي يميزها داخل هذا الجنس عن بقية الماهيات، فإن حدَّ ذات الشيء معناه، في نظر محي الدين، إعطاء صورة فقيرة عنها، لأنه يستبعد كلَّ الصفات الأخرى التي تتحلَّى بها الذات، ما خلا الصفتين اللتين يُعتَقَد أنهما أساسيتان. ويظهر عيب التقييد بكيفية سافرة وغير مقبولة عندما يتطاول العقل على الذات الإلهية التي هي، بالتعريف، غير قابلة للحدِّ والتقييد، ولو كان تقييد إطلاق.[21] لكن ليس معنى هذا أن ابن عربي يتخذ موقفًا لاأدريًّا من الذات الإلهية؛ بل إنه يقترح بديلاً للوقوف على غناها وقابليتها للتحلِّي بصور لامتناهية، هو طريق القلب، لأنه مكان يَسَعُ كلَّ شيء، ولأنه لا يقيِّد ولا يحصر، بل يحيط بكلِّ الصور في تقلُّبها وتواردها المستمر على الذات.[22]

ونجد نفس العيب – عيب الحصر والإفقار – يخالط الممارسة البرهانية. فعندما يستعمل العقلُ البرهانَ لاستخلاص المعارف الجديدة وإثباتها من المقدمات والمبادئ، يركِّز انتباهه على أعراض الشيء الذاتية، دون اعتبار لباقي أعراضه الأخرى غير الذاتية، التي لها، هي الأخرى، أهميتها في التعبير عن جوانب غنية من معنى الشيء، مما يؤدي إلى إفقاره. وهنا يحضرني انتقاد هَيْدِغِّر لمفهوم المكان الفلسفي. فعندما تنظر الفلسفة إليه نظرًا برهانيًّا، أي بالاستناد إلى مبادئ وخلاصات علم الهندسة، تلغي وظائفه الفعلية والانفعالية، وتفرغه من امتلائه بالمعاني المتأتية من علاقته بالإنسان وبالأحداث الكبار التي جرت فيه.[23] وهنا لا بدَّ أيضًا من استحضار موقف ابن عربي من المكان، الذي كان يتعامل معه من حيث هو ذات ’مؤنثة‘، أي من حيث هو مكانة، لا من حيث إطار عقلي فارغ.[24] فالأمكنة عنده ليست على حدٍّ سواء، بل هي متفاضلة بحسب امتلائها بالأحداث والرجال: «من شرط العالِم المشاهِد، صاحب المقامات الغيبية والمَشاهد، أن يعلم أن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيرًا. ولو وُجِد القلب، في أيِّ موضع كان، الوجودَ الأعم، فوجوده بمكة أسنى وأتم. فكما تتفاضل المنازل الروحانية، كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية.»[25] وهذا ما يفسر شعور الإنسان بالزيادة والنقصان بحسب المكان الذي حلَّ فيه؛ فـ«... وجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر من بعض»[26]. بل إنه يقرر بأنه «لا شكَّ عندنا أن معرفة هذا الفن، أعني معرفة الأماكن، والإحساس بالزيادة والنقص، من تمام معرفة العارف وعلوِّ مقامه، وشرفه على الأشياء وقوة ميْزه»[27]. إن المكان، عند ابن عربي، إذن، ليس مقولة فلسفية أو أداة علمية فارغة لتحديد وتأطير الأشياء، بل إنه جزء من الزمان والتجربة الروحية للذين مروا به، وحدثت لهم إشراقات أو كرامات فيه أو بفضله.

العيب الثالث للعقل البرهاني، في نظر ابن عربي، يتمثل في ادِّعائه القدرة على الوصول إلى معرفة موضوعية ومحايدة تصمد أمام تحولات التاريخ، وتتعالى عن صراع الآراء وتَطاحُن المعتقدات. على العكس من ذلك، يذهب الشيخ الأكبر إلى القول بأن كلَّ معرفة مشروطة بذات ما، وبوضع معرفي وتاريخي معين؛ ولا يمكن القول أبدًا بحقيقة خارجة عن مُدرِكها وفاعلها الذاتي والموضوعي.[28] ومما يدل على ذلك أن المبادئ الأولى التي يستند إليها العقل في عملياته المعرفية، كمبدأ الذاتية وعدم التناقض والثالث المرفوع والسببية إلخ، ليست في مأمن من الخطأ والضلال. ولعل اختلاف أهل الفكر والنظر فيما بينهم خير دليل على أن عدم صحة دعوى موضوعية وثبات المعرفة العقلية،[29] في مقابل أهل الكشف والوجود من الأنبياء والأولياء، الذين لا نجد – حسب ابن عربي – أيَّ أثر للخلاف والصراع فيما بينهم؛ بل كلُّ واحد منهم يؤيِّد كلام السابقين عليه. وبهذه الجهة يكون شيخ مرسية أقرب إلى الإيمان بأن طريق الاتفاق والتسليم والتقليد أوْلَى وأسلَم للوصول إلى العرفان الحقِّ من الخلاف والصراع والابتداع.

لم يكن همُّ ابن عربي، إذن، البحث عن معقولية للوجود، بإخضاع هذا الأخير لمقولات العقل ومبادئه من أجل استثماره عمليًّا؛ لم يشأ قراءة الوجود من وراء حجاب الفكر، فيراه عبارة عن ماهية مدفونة في أعماق الظواهر والأشياء. لقد كان، على العكس من ذلك، ينأى بنفسه، قدر الإمكان، عن ’الموضوعية‘ الباردة التي تفصله عن الوجود، وتجعل هذا الأخير مجرد موضوع للعلم والسيطرة. لقد أراد الشيخ الأكبر أن يُبقِي الوجود قريبًا منه، شاخصًا أمامه، متجلِّيًا في صورة حسية أو خيالية يمكن أن تسكن نفسُه إليها. باختصار، كان ابن عربي أبعد الناس عن العقل الحسابي الحاصر للحقيقة والمستعمل لها، وأقرب ما يكون إلى العقل الجامع، عقل اللوغوس، العقل المنفعل بالوجود والراغب في مَدَدٍ من جُوده.

وهنا قد يلتقي هَيْدِغِّر مع ابن عربي. فهما معًا لم ينتقدا العقل من أجل إصلاحه وتقوية فعاليته، أو الزيادة من هيمنته على الوجود، بل انتقداه لغاية الاستعاضة عنه إما بـالفكر، المرادف للـشعر عند هَيْدِغِّر، أو بـالذوق والكشف عند ابن عربي، هذه الاستعاضة التي من شأنها تحرير الوجود من المقولات والماهيات والمبادئ العقلية، أي من الحُجُب التي تُنسي الوجود. ومع ذلك، علينا أن لا نفهم أن الغرض من انتقاد ابن عربي للعقل إلغاؤه وتفكيك المؤسَّسات التابعة له، كما فعل الغزالي؛ وإنما كانت غايته أن يبيِّن حدوده، وينبِّه إلى ضرورة دعمه بطريق الخبر والمشاهدة والكشف. فهو يعترف بأن نور العقل مُساوِق لنور الإيمان، ولو أنه لا يصل إلى مرتبة هذا الأخير. ولذلك فهو يوصي باستعمال النورين – العقلي والإيماني – معًا، لكن دون أن يتم الخلط بينهما.[30] فقد يشهد نور الإيمان لنور العقل، ولا يشهد نور العقل بصحة ما أعطاه الإيمان والكشف، لأن ما يقتضيه البرهان الوجودي من السلب والتنزيه بالنسبة للذات الإلهية غير ما يقتضيه الإيمان. يقول ابن عربي: «احذر أن تصرف نظرك الفكري فيما أعطاكه الإيمان، فتُحرَم عين اليقين. فإن الله أوسع من أن يقيِّده عقل عن إيمان، أو إيمان عن عقل – وإن كان نور الإيمان يشهد العقل من حيث ما أعطاه فكره بصحة ما أعطاه من السلوب، ولا يشهد نور العقل من حيث فكره بصحة ما أعطاه نور الإيمان والكشف.»[31]

أما بالنسبة للمعنى الثاني للعقل، أي العقل المنفعل القابل، فقد أُودع فيه قوة «القبول لما يعطيه الحق، ولما تعطيه القوة المفكِّرة»[32]. غير أنه في مكان آخر يجعل القلب وسيطًا بين العقل والحق، مما يسلبه القدرة على القبول المباشر من الحق: «فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب، لا بالعقل، ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر...»[33]. إن نور هذا العقل «يشهد بصحة ما أعطاه الكشف والإيمان:

للشَّـرع نـورٌ وللألبـاب ميـزان * والشَّـرعُ للعقـل تأييـدٌ وسلطـان

والكشـفُ نـورٌ ولكن ليس تدركـه * إلا عقولٌ لها في الوزن رجحـان»[34]

وبهذا النحو يتبيَّن لنا أن العقل المنفعل في الأفق الأكبري أفضل من العقل الفاعل، لأنه يتسم بالقبول، ولأنه يقبل إما مباشرة من الحق، أو عن طريق القلب، في مقابل العقل الفاعل الذي لا يقوى على إدراك الأشياء والذوات مباشرة، وإنما بالواسطة. وهذه العلاقة تفسِّر لنا الفرق بين paradigm الوحدة عند ابن عربي وparadigm الاتصال عند ابن رشد. فمحي الدين كان يطالب الراغب في الوصول أن يوقِّف العقل الفاعل من أجل العقل المنفعل، عقل القبول والتلقي؛ في حين كان paradigm ابن رشد يقوم على استنفاد إمكانيات العقل الهيولاني كلِّها، أي جعله ممتلئًا تمامًا، حتى يكتسب قوة جديدة يقتدر بفضلها على الاتصال بالعقل الفعَّال. بعبارة أخرى، تقوم استراتيجية ابن رشد على تحويل العقل الهيولاني إلى عقل فعَّال – وهذه هي لحظة الاتصال بالوجود؛ بينما تقوم استراتيجية ابن عربي على تحويل العقل الفعَّال (أي الذي يقوم بفعل التفكير النظري) إلى عقل هيولاني قابل للمَدَد والهبة الإلهية.

وقد كان ابن عربي يؤثر طريق الكشف والمشاهدة على طريق أهل النظر، بالرغم من أنها طريق غير حتمية ولا مضمونة النتائج، وبالرغم من أنها قائمة على الانتظار، أو بالأحرى على تدريب أهل الكشف على اكتساب فضيلة الاستعداد للانتظار، انتظار المَدَد الإلهي: «فمَن طَلَبَ الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه؛ وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك.»[35] ولعل هذا شبيه – وإن كان السياق مختلفًا للغاية – بما صرَّح به هَيْدِغِّر في حوار شهير له، نُشِرَ بعد وفاته بخمس سنوات. فحينما سُئل عما إذا كان للفلسفة من دور تلعبه في عالم يطحنه طغيان العولمة التقنوية، أجاب بأن مهمة الفلسفة تنحصر في إعدادنا لانتظار إلهٍ، هو وحده القادر على إنقاذنا من الهَوْل المنتظر.[36]

ومن البيِّن بنفسه أن انتقاد العقل هو، من جهة ما، دعوة إلى لاعقلانية، بحيث يمكن للمرء أن يترجم الأكبرية (التي هي ما بعد رشدية) وما بعد الحداثة معًا بما بعد العقلانية. ولعل أسلوب كتابة ابن عربي خير دليل على لاعقلانيته. إذ لمَّا كان الخبر مبدأ تفكيره، فقد اتخذت كتابتُه شكل الرواية والحكي[37]؛ فتجده غير معنِيٍّ ببناء نَسَقٍ متماسك يحترم فيه تسلسل الأفكار وانسجامها، غير عابئ باحترام وحدة الأجناس والأقوال الأدبية والعلمية، مفضِّلاً على ذلك التنقل بحرية من فكرة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر، ومن حكاية إلى أخرى، دون أيِّ وازع من منطق. وهذا ما أضفى على كتابته طابعًا ’فوضويًّا‘، يجعل معظم قرائه يتيهون في مفازاتها – إلا الراسخون منهم في أجوائها، الذين يجدون فيها مع ذلك نظامًا رائعًا في خضمِّ الفوضى العارمة. إن الفكر الذي لا يتقيَّد بشكل واحد للكتابة، الذي يأبى نصُّه الخضوع لأيِّ نظام قولي، ويرفض الامتثال للحواجز الصناعية والمصطنعة التي تفصل بين أجناس الأقوال والمناهج والمقاربات، النص الذي يمتزج فيه النثر بالشعر، والبرهان بالكشف، والعقل بالخيال، والفلسفة بالتصوف، وعلم الطبيعة بعلم الحروف، إلخ، يجعل صاحبه أقرب المفكرين الوسطويين إلى سماحة هذا الزمن. إن المفكر الذي يفضِّل اللغة على الأونطولوجيا، والتأويل على التفسير، والحكي على التحليل، المفكِّر الذي يبحث عن ليلاه بين الأطلال، وعن معنى للوجود بين الأحلام والأساطير، وعن الخلق في ثنايا الحروف والأفعال والأسماء، يرفعه إلى مقام المفكرين المغامرين الذين لا يترددون أمام إحراق سفنهم – سفن العلم والفلسفة – من أجل أن يتحركوا بريحهم التي في داخلهم – بريحهم الذاتية، لا بالريح الآتية إليهم من خارج. إن تخلِّيه عن المركز المِلِّي والفلسفي لقاء البحث في الأطراف والتخوم عن معنى طائش، أو دلالة متستِّرة وراء هذه الإشارة أو ذلك الرمز، يجعل منه مشاغبًا كبيرًا، ومحرضًا خصبًا للبحث عن التجديد بكلِّ الطرق؛ إذ لا فضل لطريق على أخرى إلا بقدرتها على خرق العادة. إن فكرًا ينأى عن الذاتية بمعناها الهَيْدِغِّري، في سبيل النظرة الموضوعية للوجود، أي في سبيل القرب من الوجود كما هو، لا كما يظهر عبر مقولات الإنسان، يجعله أقرب من أيِّ فكر آخر من أفق ما بعد الحداثة.

غير أنه، سواء بالنسبة لابن عربي أو بالنسبة لأفق ما بعد الحداثة، لا معنى للفصل بين العقلانية واللاعقلانية، بين المعنى واللامعنى، بين العقل والخيال، بين النظام والفوضى، مادامت المرجعية في الأفقين معًا هي الوجود، لا العقل. فإزاء الوجود: العقلانية واللاعقلانية هما على حدٍّ سواء؛ بل من شأن التخلِّي عن العقلانية الصارمة أن يخفف من ثقل الذات، ويسمح لها بتجاوز عوائق معرفية ضاغطة، كالتقابُل بين الذات والموضوع، بين الصورة والأصل، بين الظاهر والباطن، وبين البرهان والتمثيل. وفي هذا الاتجاه كان صاحب فصوص الحِكَم يقول أحيانًا إن النسخة هي مصدر الأصل، وأن الشبيه والخيالي يوجد في أصل وجود الأشياء الواقعية. وهذه النظرة إلى العالم هي التي جعلتْه ينوِّه بقيمة الخيال والصورة، ويحرِّض على التعدد والتحول في الطرق والمعارف، إيمانًا منه بأن «المعرفة إذا لم تتنوَّع مع الأنفاس لا يعوَّل عليها»[38].

ومع ذلك، وعند تدقيق النظر في المرآة على نحو عَدْل، نستطيع أن نرى ملامح من الاختلاف الدقيق بين انتقاد ما بعد الحداثة وانتقاد ابن عربي للعقل، موضوعًا وغاية ووسائل. فقد تكون عملية الانقلاب على العقل، أو الانقلاب على الانقلاب الذي قام به العقل، واحدة في شكلها؛ بل قد تكون واحدة في شعاراتها، ولكن موضوعها وأدواتها ومقاصدها مختلفة. فـموضوع النقد عند ابن عربي هو العقل من حيث هو أداة معرفية تتطاول على الوجود الإلهي بوسائلها المقيِّدة والحاصرة؛ أما موضوع نقد ما بعد الحداثة للعقل فهو الوجود الطبيعي، أي ادِّعاء العقل حيازته لحقيقة العالَم الطبيعي وقدرته على استعمال هذه الحقيقة لقضاء ’مآرب أخرى‘ لا صلة لها بالمقاصد العلمية. كما لم تكن غاية ابن عربي من انتقاده العقل تحرير القلب من قيد العقل، من أجل إطلاق العنان للغرائز والانفعالات الجسدية، أو من أجل توسيع أوراش بحث جديدة، أو استحداث زوايا جديدة للنظر إلى الوجود، كما تفعل ما بعد الحداثة، بل من أجل تحويل اتجاه الطاقة البشرية الحسية والوجدانية والفكرية نحو الأفق الأعلى. ولذلك كان البديل الذي قدَّمه ابن عربي هو الاتكال أساسًا على تأويل الأخبار والقصص والإشارات الواردة في الكتب المنزَّلة والسُّنَن الشارحة لها، لا على المشاهدة الحسية أو التفكير الشاعري، كما تفعل ما بعد الحداثة. باختصار، شيء مما كان يقول به ابن عربي صارت تروم إليه ما بعد الحداثة، لكن لا من أجل العودة إلى روح القرون الوسطى، الثَّمِل بالمقدس والعجيب والخارق للعادة، بل للقفز إلى عصر الوجود الافتراضي، الوجود الذي تمَّ تشكيله من عالم العدد والصورة والحركة – عالم الوحدة النابعة من الإنسان.

صورة الوجود الأكبري في مرآة ما بعد الحداثة: نسيان الوجود

الصورة الأكبرية الثانية التي نود مشاهدة جانب منها في مرآة ما بعد الحداثة هي صورة الوجود. لقد أحدث ابن عربي، شأنه في ذلك شأن هَيْدِغِّر، انقلابًا داخل الانقلاب الذي قامت به الفلسفة على غيرها من أجناس القول اللاعقلاني منذ فجر نشأتها عند اليونان. وكانت غاية الانقلاب الأكبري استعادة الموجود لمشروعيَّته بعد أن اغتصبها العقل. وقد تجلَّى هذا الاغتصاب خاصة في تحويل الوجود إلى مجرد مَسُود للإنسان–السيد. لذلك كان على ابن عربي أن يقلب علاقة السيد بالمَسُود بين الإنسان والوجود. فبدلاً من أن يكون الإنسان سيدًا على الوجود، غدا في الرؤية الأكبرية مَسُودًا له. وبذلك توقَّف الوجود عن أن يكون موضوعًا، ليصبح ذاتًا ناطقة باسم الإنسان. وبلغة هَيْدِغِّر الريفية، يكون معنى عودة المشروعية للموجود أن يتوقَّف الإنسان عن أن يفرض نفسه سيدًا للوجود، ويقنع بأن يكون مجرد راعٍ له.[39]

بيد أن إعادة الاعتبار إلى الوجود بالنسبة لابن عربي كانت من حيث إن الوجود هو الله، من حيث هو وجود واحد أحد، من حيث هو وجود مقدس يقتضي العبودية والعبادة، لا من حيث هو وجود وحسب. إن إعادة المعنى للوجود عند صاحب الفصوص متلازمة ومتآنية مع إعادة المعنى للإنسان، باعتباره كائنًا منذورًا لأن يعرف الله، لأنه خَلَقَه من أجل أن يعرفه ويعترف به.[40] من هنا نفهم لماذا كان مسعى الشيخ الأكبر موجَّهًا نحو غائية أخروية، خلافًا لمسعى ما بعد الحداثة التي لم تعد تعنيها لا البداية ولا النهاية.

غير أن الذي أثار استغراب ابن عربي هو نسيان الإنسان للوجود، وكأن ’نسيان الوجود‘ من صميم الطبيعة البشرية. حقًّا، لم يطرح الشيخ الأكبر إشكالية النسيان على مستوى تاريخ الفلسفة أو تاريخ الميتافيزيقا، كما سيفعل هَيْدِغِّر، وإنما على مستوى تاريخ الوجود البشري من حيث هو تاريخ لنسيان الله. وهذا ما جعل لغة ابن عربي زاخرة بلغة النسيان والحضور، كالغفلة والسهو والنوم والحجاب، من ناحية، واليقظة والشهود والكشف والتذكُّر، من ناحية أخرى، بحيث يمكن اعتبار التقابل بين قاموسَيْ الحضور والنسيان من بين المحركات الأساسية للتجربة الصوفية عند ابن عربي. لقد ربط الشيخ الأكبر ربطًا اشتقاقيًّا وذاتيًّا بين الناس والنسيان، معتبرًا ’الناس‘ اسم فاعل مشتق من النسيان.[41] لكن ماذا نَسِيَ الإنسان؟ أو ما هو موضوع نسيان الإنسان؟

هناك ثلاثة موضوعات مترابطة لنسيان الإنسان عند ابن عربي، وهي: الصورة، والنفس، والله. فمن جهة، بما أن صورة الإنسان هي نفسُه، فإن «مَن نَسِيَ صورتَه نَسِيَ نفسَه»[42]، أو بالأحرى مَن نَسِيَ صورته أنساه الله نفسَه؛ ومن جهة ثانية، لمَّا كانت صورة الإنسان ليست شيئًا آخر سوى صورة الله – استنادًا إلى حديث نبوي يعتمد عليه ابن عربي كثيرًا لبناء نظريته في الإنسان –، فإنه يترتب على ذلك أن مَن نَسِيَ نفسَه، أي صورته، نَسِيَ الله؛ لكن، من جهة ثالثة، من نَسِيَ الله، نسيَه الله، إشارة إلى قوله تعالى: «نَسَوا الله فنسيَهم»، وكأن النسيان متبادل بين الإنسان والله، من غير أن يكون له نفس المعنى، لأن النسيان البشري أدْخَلُ في مقولة الانفعال، بينما النسيان الإلهي هو من مقولة الفعل؛ إذ إن نسيان الله هو أن يُنسي الإنسانَ نفسَه.

هكذا تتضح العلاقة المتبادلة بين عدم معرفة الإنسان بذاته وعدم معرفته بالله. فانفصال الإنسان عن صورته هو انفصال عن الله، وانفصاله عن الله هو انفصال عن صورته ونفسه. غير أن معرفة الذات تنطوي على مفارقة: فالإنسان لا يعرف ذاته إلا إذا أفناها؛ أي أنه لا يرى ذاته في مرآة ذاته إلا إذا جلا وجْه مرآته. وهذا تلميح لنسيان آخر أشار إليه ابن عربي، منتقدًا إياه في مضمار انتقاده لبعض المتصوفة، لاسيما متصوفة الحلول، الذين بسبب ادِّعائهم بأنهم لا يشهدون من الله إلا أعيانَهم وأحوالَهم، يُنسِيهم الله أنفسَهم.[43]

ويتخذ مضمون نسيان الإنسان لله صورتين، يمكن الاقتراب منهما من خلال مقولتين: إما عن طريق مقولة الإضافة، فيكون نسيانُ الإنسان لله نسيانًا لـعبوديته له[44]؛ أو عن طريق مقولة الجوهر، فيكون نسيان الإنسان لله نسيانًا، لكون «الحق سمعَه وبصرَه وجميعَ قواه»[45]. إنها لحظة حضور وشهود قوية، حينما يحصل للإنسان الوعي بأن الحقَّ سمعُه وبصرُه وجميع قواه: أليست هذه اللحظة هي إحدى المعاني القوية لوحدة الوجود الأكبرية؟

لكن مَن المسؤول عن هذا النسيان المزدوج: نسيان الذات، من حيث هي نسيان لله، ونسيان الله، من حيث هو نسيان للذات؟ من بعض أقواله نفهم أن النسيان طبيعة ذاتية للإنسان[46]؛ ومن بعض أقواله الأخرى نتبيَّن أن صاحب النظر «وحده ... الذي يدخله السهو»[47]. من هذه الجهة، يصبح الفكر علةً لنسيان الوجود، أو بعبارة محي الدين، إن «الاشتغال بالفكر حجاب»[48]، في مقابل التذكُّر الذي هو أداة حضور وانكشاف الوجود. ولعل هذا التقابُل هو ما شجَّع صاحب الفتوحات أن يُسَمِّي المتصوفة أحيانًا بـ«أهل الكشف والوجود»[49]، وأحيانًا أخرى بـ«أهل التذكُّر»[50]. ذلك أن ’الذاكرة الوجودية‘ تمكِّن هؤلاء القوم، في آنٍ واحد، من أن يكون الله حاضرًا دائمًا في قلوبهم، ومن أن يرجعوا إليه مباشرة، لا بواسطة الاستدلال الفكري أو الرؤية العقلية. ومن هنا جاء تنويهه بصاحب الذوق الذي «لا غفلة عنده عن ذلك جملة واحدة...»[51]. هكذا يحقِّق المتصوف ما يعتبره ابن عربي مهمة الإنسان الكبرى، وهي الحضور الدائم لله في القلب، نظير حضور الله مع الإنسان، أينما ولَّى وجهه.

فإذا ولَّينا وجهنا شطر هَيْدِغِّر، فإننا نجده يربط نسيان الوجود أيضًا بالإنسان وبمصير الوجود ذاته، من حيث هما أمران متلازمان.[52] غير أن موضوع هذا النسيان الهَيْدِغِّري ومعناه يختلف كثيرًا عما كان يؤمُّه الشيخ الأكبر. فموضوع نسيان الوجود عند الفيلسوف الألماني لم يكن الوجود الإلهي، ولا حتى وجود الموجود، أو مجموع الموجودات، وإنما كان موضوعه حقيقة الموجود.[53] لم يكن موضوع نسيان الوجود عند هَيْدِغِّر، إذن، ينتمي إلى مجال الثيولوجيا ولا إلى مجال الأونطوثيولوجيا، وإنما إلى مجال الميتافيزيقا، باعتبارها تاريخًا لاحتجاب الوجود بالموجود. فالموجود يُنسِينا الوجود عن طريق الإنسان،[54] أي عن طريق عقله الذي يحوِّل الموجود إلى تقنية. ولذلك كان تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ هيمنة العقل على الموجود. وهذا ما يسميه هَيْدِغِّر تارة بالإنسية، وتارة أخرى بالعدمية، التي استفحل أمرُها أخيرًا إلى درجة تمكَّنت معها من الهيمنة الكونية على مقدَّرات الموجود كلِّها. لقد صار حضور الموجود الطاغي بفعل التقنية، أي بفعل العقل، حجابًا على الوجود – وهذا هو معنى نسيانه. بهذا النحو يصير العقل، من حيث هو عقلانية وتقنية، والإنسان، من حيث هو إنسية، هما المسؤولين عن نسيان الوجود. أو بتعبير آخر، إن ’النزعة الذاتية‘، أي إرجاع الوجود إلى الذات، هي المسؤولة عن نسيان الوجود.[55]

ومن ثمَّ لا يمكن تجاوز نسيان الوجود إلا بنسيان النسيان ذاته، وذلك إما بدفع تاريخ الميتافيزيقا إلى نهايته، أي بدفع العدمية إلى استنفاد كلِّ إمكاناتها، أو بالتخلِّي عن العقلانية والإنسية والذاتية، أي بالتوقف عن جعل العقل محور الموجود والكفِّ عن المناداة بشعار الإنسية، وذلك من أجل العودة إلى الوجود. وتقتضي هذه العودة عند هَيْدِغِّر إعادة النظر في المخاطب بالسؤال. فبدلاً من توجيه سؤال الحقيقة إلى الموجود، علينا أن نوجِّهه إلى الوجود.[56] ومن ثَمَّ، لا يمكن تجاوز العدمية والإنسية معا إلا بالتخلِّي عن الميتافيزيقا – التي انحازت إلى الموجود، باحثة عن حقيقته من خلال مفاهيم ومقولات وأسئلة غيَّبَت الوجود في مبادئ وأصول وغايات – والتوجُّه مباشرة إلى الوجود، لمساءلته عن حقيقته من حيث هو مختلف عن الموجود. لقد وحَّد هَيْدِغِّر بين النسيان وكلٍّ من العدمية والإنسية والذاتية والتقنية، لأن القاسم المشترك بين هذه المقامات هو الإنسان من حيث هو حيوان عاقل. إن طغيان الإنسان، باعتباره أحد الموجودات، قد حَجَبَ الوجود. ولذلك كان هدف هَيْدِغِّر الأخير تعويض الذاتية بالموضوعية؛ وهذا نفسه ما رام إليه ابن عربي تحت مسمَّى مقام الفناء. لكن ليس معنى هذا أنه، من أجل الكشف عن الوجود والقرب منه بوصفه موضوعًا، يجب أن يحتجب الإنسان، أو أن يطمس فكره، بحجة أنه أداة تحويل الموجود إلى علم وتقنية، أي أداة تحويله إلى إرادة للقوة والهيمنة. بل إنه عند تقليب أقوال هَيْدِغِّر المتقلِّبة، يظهر لنا أن حقيقة الوجود توجد في الإنسان.[57] أليس الإنسان هو راعي الوجود وحامي حماه، وهو الناطق باللغة التي هي مسكنه ومأواه؟!

هكذا نصل إلى أن الرجلين كانا ينشدان معًا كشف الحُجُب عن الوجود، والقرب منه، الذي هو قرب من ’الأصل‘.[58] بيد أنه إذا كان القرب من ’الأصل‘، في نظر هَيْدِغِّر، هو قرب من النشأة، من لحظة الانبثاق بمعناه الفيزيائي، أي القرب من الطبيعة، دون أيِّ مبالاة أو اهتمام بسبب ظهورها في حوادث وظواهر وموجودات، ومن غير اللجوء إلى سؤال الـ’لمَاذا‘،[59] فإن ابن عربي، وإن كان هو الآخر من المناهضين للسببية وللسؤال اللمِّي والماهوي، لأن ذلك أدْخَل في باب قلة الأدب، وبالرغم من أن الشيخ الأكبر كان يريد أن يتَّحد بلحظة الإبداع في معناه العنفواني، فإنه لم يصل به الأمر إلى أن يحرِّر الأشياء – وبخاصة الإنسان – من وسواس البحث عن الأسباب والغايات؛ لم يصل به الأمر إلى أن ينظر إلى الوردة في ذاتها، من حيث هي موجودة فقط، لا من حيث هي مقيَّدة بسؤال ’لماذا؟‘، كما فعل هَيْدِغِّر.

***

ما الذي رأيناه، إذن، في المرآة أو المرآتين المتقابلتين؟ ما رأيناه هو ’المثيل الآخر‘، أو ’الآخر المثيل‘، لا المثيل المتطابق، ولا الآخر المغاير. نعم، لا ننفي أن رؤيتنا كانت خاضعة لطبيعة المرآة ذاتها، التي تأبى إلا أن تُظهِر، في عزِّ المماثلة، شيئًا من المخالفة. إن الوقوف على الاختلاف بين الأفقين الأكبري وما بعد الحداثي – ممثَّلاً في هَيْدِغِّر – أمر أساسي بالنسبة لنا، حتى نحتفظ بحقِّ البقاء على مسافة منهما معًا. ذلك أنه لم يكن غرضنا من تطلُّعنا لرؤية ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة، ومشاهدة هذه في مرآة ابن عربي، أن نثبت بأن الحداثة قد تراجعت عن أسُسها القوية الأولى تراجعًا قاطعًا، مرتدة بنفسها إلى فكر صوفي خالص، أو أن نثبت أن ابن عربي استطاع بفكره أن يتجاوز حاجز الزمن والتاريخ، وأن يتطابق مع غيره تطابُقًا مطلقًا، وإنما كانت غايتنا أن نرى هذا في ضوء ذاك، وأن نبرز جملة من الانعكاسات والتقاطعات المتبادلة بين المرآتين، الأكبرية وما بعد الحداثية، عساهما أن تكونا ضامنتين لإمكانية نجاح لقاء مستقبلي بين العقل والقلب، بين النظر والكشف، بعد أن فشل هذا اللقاء في الماضي بين ابن رشد وابن عربي.

لقد بدا لنا أن ما بعد الحداثة ماضية في مصادرتها لكلِّ أحلامنا، في مقابل ابن عربي الذي كان يحرص على أن يَبقى في عالم من الحلم. لقد كان يفكر بالحلم وفي الحلم، يؤوِّل الحلم بالحلم، وكأنه كان يخشى أن يستيقظ فيجد نفسه في عالم خالٍ من الحلم، كما هو حالنا نحن أبناء هذا الزمن. ولذلك، فنحن مازلنا نحتاج إلى الأحلام، وإلى الأحلام التي تفسِّر الأحلام – لكن لا الأحلام التي تعود بنا إلى الوراء، إلى الأساطير التي استنفدت تأويلها، بل إلى الأحلام التي تقفز بنا إلى الأمام قفزة أونطولوجية.

*** *** ***


* أستاذ الأدب العربي الحديث، كاتب وباحث في الأدب السردي العربي. سيرة حياته:

http://www.chez.com/medmesbahi/mon_cv.htm

[1] إن منطق المرآة – وهو منطق أونطولوجيا الخيال – يحرِّرنا من هيمنة المنطق الصوري والأونطولوجيا التابعة له، مادام المنطق المرآوي ينطلق من رؤية هيراقليطية–سفسطائية تضع الصيرورة مبدأً لتصور العالم، مما يجعل الجمع بين الأضداد أمرًا لا يثير أيَّ حرج لدى القائل به. عن أهمية المرآة في فكر ابن عربي انظر مايكل سيلس:

Michael A. Sells, Mystical Languages of Unsaying, Chicago, 1994, pp. 63-64, 73.

[2] عن رواية ابن عربي للقائه مع ابن رشد انظر: الفتوحات، 1: 153-154؛ انظر تحقيق عثمان يحيى، القاهرة، 1985، السِّفر 2، ص 372-373؛ انظر بعده هوامش 8-10.

[3] كتاب التجلِّيات، ضمن رسائل ابن عربي، بيروت، ب.ت.، ص 11.

[4] الفتوحات، 4: 296.

[5] بالنسبة لهَيْدِغِّر لا يمكن القيام بتغيير في الفكر إلا بنفس الفكر الذي كان أصلاً له، لا غيره. انظر مثلاً:

Martin Heidegger, “Only God Can Save Us,” in Heidegger, The Man and the Thinker, ed. by Thomas Sheehan, Chicago, 1981, p. 62.

[6] الفتوحات، 3: 525.

[7] صاغ ابن عربي سؤال ابن رشد المرموز كالآتي: «وقال لي: نعم؟ قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه. ثم إني استشعرت بما أفرَحَه من ذلك، فقلت له: لا، فانقبض وتغير لونُه وشكَّ فيما عنده.» (ن.م.، 1: 154).

[8] ن.ص.

[9] ن.ص.

[10] رسالة لا يعوَّل عليه، ضمن رسائل ابن عربي، ص19.

[11] عن طبيعة التقليب التي يتصف بها القلب يقول: «فإن القلب معلوم بالتقليب في الأحوال دائمًا؛ فهو لا يبقى على حالة واحدة. فكذلك التجلِّيات الإلهية؛ فمَن لم يشهد التجلِّيات بقلبه ينكرها. فإن العقل يقيِّد وغيره من القوى، إلا القلب فإنه لا يتقيَّد، وهو سريع التقلُّب في كلِّ حال. ولذا قال الشارع «إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء». فهو يتقلَّب بتقلُّب التجلِّيات؛ والعقل ليس كذلك. فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل.» (الفتوحات، 1: 289)؛ كما يقول: «فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل. فلو أراد الحق في هذه الآية بالقلب أنه العقل ما قال «لمن كان له قلب». فإن كلَّ إنسان له عقل، وما كلُّ إنسان يُعطَى هذه القوة التي وراء طور العقل المسماة قلبًا في هذه الآية... فالتقليب في القلب نظير التحول الإلهي في الصور...» (ن.م.، 1: 289).

[12] رسالة لا يعوَّل عليه، ص 3.

[13] ن.م.، ص 2.

[14] عن علاقة الحيرة بالكمال: «فالكامل من عظمت حيرتُه، ودامت حسرتُه، ولم ينل مقصوده لما كان معبوده، وذلك أنه رام تحصيل ما لا يمكن تحصيله، وسلك سبيل من لا يُعرَف سبيله.» (الفتوحات، 2: 212)

[15] هناك صورة ثالثة للعقل، يكنُّ لها ابن عربي تقديرًا عظيما يفوق تقديره للخيال، وهي صورة العقل في معناه الميتافيزيقي الذي يبوِّئه مكانة أول مخلوق خلقه الله؛ انظر مثلاً: الفتوحات، 1: 46؛ 2: 67؛ وهذا العقل الأول هو ’القلم‘ بلغة الشرع. انظر: كتاب الوصايا، ضمن رسائل ابن عربي، ج 2، ص 4.

[16] عن افتقار العقل إزاء غيره يقول: «إن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وإن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول.» (الفتوحات، 1: 289)؛ ويضيف في ن.ص.: «وقد علم الله أنه جعل في القوة المفكِّرة التصرف في الموجودات والتحكم فيها بما يضبطه الخيال من الذي أعطته القوى الحسية، ومن الذي أعطته القوة المصوِّرة...» (ن.م.، 2: 319)؛ كما يقول: «فإن العقل ليس له مجال بميدان المشاهد والغيوب. فكم للفكر من خطأ وعجز، وكم للعين من نظر مصيب. ولولا العين لم يظهر لعقل دليل واضح عند اللبيب.» (ن.م.، 2: 628)

[17] ن.م.، 1: 289؛ عن تبعية العقل للحواس والخيال يقول: «وإدراك العقل على قسمين: إدراك ذاتي، هو فيه كالحواس لا يخطئ؛ وإدراك غير ذاتي، وهو ما يدركه بالآلة التي هي الفكر، وبالآلة التي هي الحس. فالخيال يقلِّد الحس فيما يعطيه، والفكر ينظر في الخيال، فيجد الأمور مفردات، فيحب أن ينشئ منها صورة يحفظها العقل، فينسب بعض المفردات إلى بعض. فقد يخطئ في نسبة الأمر على ما هو عليه، وقد يصيب؛ فيحكم العقل على ذلك الحد، فيخطئ ويصيب. فـالعقل مقلِّد، ولهذا اتصف بالخطأ.» (ن.م.، 2: 628)

[18] ن.م.، ج 1: 289.

[19] عن عيب التقليد يقول: «فقد علمنا ما عنده [العقل] شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول. فإذا كان بهذه المثابة، فقبوله من ربِّه لما يخبر به عن نفسه تعالى أوْلى من قبوله من فكره – وقد عرف أن فكره مقلِّد لخياله، وأن خياله مقلِّد لحواسه؛ ومع تقليده، فهو غير قوي على إمساك ما عنده ما لم تساعده على ذلك القوة الحافظة والمدركة... فتقليد الحق أوْلىَ.» (ن.م.، ج 1: 289)؛ ويضيف: «... فيعرف الأمور كلَّها بالله، ويعرف الله بالله؛ إذ لا بدَّ من التقليد. وإذا عرفتَ الله بالله، والأمور كلَّها بالله، لم يدخل عليك في ذلك جهل ولا شبهة ولا شك ولا ريب.» (ن.م.، 2: 298)؛ «فقلِّد ربك؛ إذ لا بدَّ من التقليد، ولا تقلِّد عقلك في تأويله، واصرف علمه إلى قائله، ثم اعمل حتى تنزل في العلم كهو. فحينئذٍ تكون عارفًا، وتلك المعرفة المطلوبة والعلم الصحيح.» (ن.م.، 2: 298)

[20] عن عيب التقييد، يقول: «فإن العقل تقييد من العقال.» (ن.م.، 3، ص 198)؛ لكن إن كان العقل «مقيدًا بالتقلُّب، فلا يبرح يتقلَّب، فهو صحيح» (ن.ص.)؛ انظر أيضًا: مايكل سيلس، م.م.، ص 78-79.

[21] انظر: الفتوحات، 2: 661؛ 3: 162؛ ويقول: «فإن الله لا يقبل التقييد، والعقل تقييد، بل له التجلِّي في كلِّ صورة.» (ن.م.، 3: 515)؛ ويذهب ابن عربي إلى أنه حتى وصف الله بالإطلاق تقييد له! انظر مثلاً: ن.م.، 3: 219؛ 4: 332؛ غير أنه يقبل أحيانًا وصف الله بالإطلاق في التقييد؛ انظر: ن.م.، 3: 454.

[22] عن طبيعة القلب وسعة أرجائه انظر: ن.م.، 1: 56؛ 1: 91؛ 1: 289-290؛ 1: 331؛ 1: 366.

[23] عن الفرق بين مفهوم المكان في الهندسة والفلسفة عند هَيْدِغِّر، انظر:

Heidegger, L’Être et le temps, tr. Alphonse de Waelhens, Paris, Gallimard, 1964, p. 131.

[24] يقول عن المكان: «المكان إذا لم يؤنَّث لا يعوَّل عليه، يعني المكانة.» (رسالة لا يعوَّل عليه، ص12)

[25] الفتوحات، 1: 98.

[26] ن.م.، 1: 99.

[27] ن.م.، 1: 99؛ كما يضيف في نفس الصفحة: «... قد أخبرني أنه يُحس بالزيادة والنقص على حسب الأماكن والأمزجة، ويعلم أن ذلك راجع أيضًا إلى حقيقة الساكن به، أو همته كما ذكرنا. ولا شك...».

[28] عن اختلاف المعقول باختلاف النسبة إلى المنسوب إليه، انظر مثلاً: ن.م.، 2: 319.

[29] عن اختلاف مقالات أهل النظر في مقالاتهم، انظر مثلاً: ن.م.، 2: 319؛ غير أن هَيْدِغِّر كان يعتبر الصراع الذي يدور بين الفلاسفة ليس سوى صراع عشاق؛ وإلا فإن الحقيقة واحدة والجميع يقولون الشيء الواحد نفسه؛ انظر:

Martin Heidegger, Lettre sur l’humanisme, in Questions III, Paris, 1965, pp. 110, 152.

[30] عن خطورة الجمع بين طريقي الإيمان والبرهان يقول: «الذي أوصيك به، أيها الأخ الإلهي... أنه عليه، مع اعتمادك على ما اقتضاه البرهان الوجودي مما ينبغي أن يكون الحق عليه سبحانه من التنزيه والتقديس، فتجمع بين العلم الذي أعطاك الإيمان وبين العلم الذي اقتضاه الدليل العقلي؛ ولا تطلب الجمع بين الطريقين، بل خذ كلَّ طريقة على انفرادها.» (كتاب الوصايا، رسائل ابن عربي، ج 2، ص 1)

[31] ن.م.، 2، ص 2.

[32] الفتوحات، 2: 319.

[33] ن.م.، 1: 289.

[34] ن.ص.

[35] ن.م.، 1: 95؛ ولعل طبيعة المقاربة الاستعدادية لابن عربي هي التي جعلت بيتر كوتس يصف نظرية الوجود عند ابن عربي بأنها «أونطولوجيا الاستعداد» dispositional ontology. انظر:

Peter Coates, Ibn ‘Arabi and Modern Thought, Oxford, Anqa Publishing, 2002, pp. 11, 29.

[36] بصدد مهمة الفلسفة الانتظارية في زمن العولمة التقنية، انظر:

Martin Heidegger, “Only God Can Save Us,” pp. 57, 60 ; cf. « Que veut dire ‘penser’ ? », in Essais et conférences, tr. J. Beaufret, Paris, Gallimard, 1958, pp. 164-165.

[37] ومن المعلوم أن لهذا الأسلوب في الكتابة نظائر عديدة لدى الفلاسفة المعاصرين، كبول ريكور Paul Ricœur  وجان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard، وريتشارد رورتي Richard Rorty، وألسدير ماك إنتايِر Alasdair MacIntyre، حيث يجعلون من الحكي جوهر كلِّ خطاب، سواء كان فلسفيًّا أو علميًّا أو قانونيًّا أو أدبيًّا.

[38] رسالة لا يعوَّل عليه، ص 10؛ قارن مع ما يقوله هَيْدِغِّر: «وحده الفكر ذو الصور المتعددة قادر... على الإجابة على «السؤال» (سؤال كتاب الوجود والزمن) ذي الأوجه المتعددة تعددًا داخليًّا» (رسالة إلى ريتشاردسون). انظر:

M. Heidegger, « Lettre à Richardson », Questions IV, Paris, Gallimard, 1976, p. 188.

[39] عن مفهوم الراعي عند هَيْدِغِّر انظر مثلاً: رسالة في الإنسية، ص 119.

[40] هذا هو مضمون الحديث القدسي: «كنت كنزًا لم أُعرَف، فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق، وتعرَّفت إليهم، فعرفوني.» (الفتوحات، 3: 367)

[41] ن.م.، 1: 618.

[42] ن.م.، 2: 359.

[43] عن انتقاده لبعض المتصوفة الذين أنساهم الله أنفسَهم يقول: «ولما خلقنا الله على الصورة الإلهية كان في نسياننا الله أن أنسانا الله أنفسنا؛ فنُهِينا عن ذلك. فإنه من نَسِيَ نفسه بالضرورة نَسِيَ ما لله عليها من الحقوق وما لها من الحقوق. فتركوا الله إذ علموا أنهم لا يشهدون من الله ما هو الله عليه، وإنما يشهدون من الله أعيانهم وأحوالهم لا غير. فلما علم الله هذا من بعض عباده الذين لهم هذا الوصف أنساهم أنفسهم، فلم يروا عند شهودهم أن أحوالهم عين ما رأوا، فيقولون في ذلك الشهود «قال لي الله» و«قلت له»، وأين هذا من مقام قولهم «لا نرى من الحق إلا ما نحن عليه». فلم يكن لهم ذلك إلا من كونه تعالى أنساهم أنفسهم.» (ن.م.، 3: 553)

[44] عن كون نسيان العبودية هو سبب تسمية الإنسان باسم الناس، وبأن النسيان من طبيعة الإنسان، أي من صورته، يقول: «ورد في الخبر أن «الله خلق آدم على صورته»، فكان في قوة الإنسان من أجل الصورة أن ينسى عبوديته. ولذلك وصف الإنسان بالنسيان فقال في آدم «فنسي». والنسيان نعت إلهي. فما نسي إلا من كونه على الصورة؛ فمازلنا مما كنَّا فيه. قال تعالى: «نسوا الله فنسيهم» كما يليق بجلاله.» (ن.م.، 2: 244)؛ وفي مكان آخر يتكلَّم على النسيان بوصفه عقابًا للإنسان: «فإذا كانت حياة العبد عارضة لا ذاتية، فينبغي أن لا يزهو بها ولا يدَّعي. فما ادَّعى وقال أنا، وغاب عن شهود من أحياه، عَرَضَ له الموت العارض – أي هذا أصلك – فردَّه إلى أصله، ولكن غير طاهر بسبب الدعوى ونسيان من أحياه.» (ن.م.، 1: 379)

[45] ن.م.، 1: 594؛ انظر أيضًا: 1: 397؛ 1: 486؛ 1: 618؛ ونقرأ أيضًا: «... وقال أيضًا – وهو من باب الإشارة والتحقيق – «قل أعوذ بربِّ الناس ملك الناس». فمن باب التحقيق لما سمَّاهم «الناس»، ولم يسمِّهم باسم يقتضي لهم أن يكونوا حقًّا أضافه نفسه إليهم باسم «الملك»؛ ومن باب الإشارة اسم فاعل من النسيان، معرفًا بالألف واللام لأنه نَسِيَ أن الحقَّ سمعُه وبصرُه وجميع قواه في حال كونه كله نورًا.» (ن.م.، 1: 618)

[46] كما يظهر من قوله: «والإنسان نشأة عنصرية تطلبه حقائق متجاذبة بالفعل صاحب غفلة ونسيان.» (ن.م.، 3: 268)

[47] ن.م.، 1: 736؛ عن نسيان ربِّ النعمة انظر: الفتوحات، 2: 482.

[48] ن.م.، 2: 523.

[49] عن تسمية المتصوفة بـ«أهل الكشف والوجود»، انظر مثلاً: ن.م.، 1: 38؛ 2: 523.

[50] عن تسمية المتصوفة بـ«أهل التذكُّر»، انظر: ن.م.، 1: 180. نشير إلى أن هَيْدِغِّر هو الآخر يربط الفكر بالتذكُّر؛ انظر: «ماذا يعني الفكر؟»، ص 161-162، 164، وبالحضور أو الكشف، ن.م.، ص 166-169:

« Que veut dire ‘penser’ ? », in Essais et conférences, tr. J. Beaufret, Paris, Gallimard, 1958 ; cf. aussi Question IV, pp. 181-182.

[51] الفتوحات، 3: 235؛ ويضيف في نفس الصفحة عن حصانة أصحاب الذوق من الغفلة قائلاً: «ومن ليس له هذا المقام ذوقًا يغفل عن الحقِّ بالأشياء حتى يستحضره في أوقات ما. فهذا هو الفارق بين أصحاب الذوق وبين غيرهم.»

[52] عن نسيان الوجود عند هَيْدِغِّر، يمكن الرجوع مثلاً إلى:

Heidegger, Introduction à la métaphysique, tr. G. Kahn, Paris, Gallimard, 1967, pp. 31, 121 ; cf. « Temps et Être », in Questions IV, p. 58.

[53] بالنسبة لهَيْدِغِّر الوجود ليس هو الله، ولا هو الجوهر ولا الماهية. انظر: رسالة في الإنسية، ص 102.

[54] عن أن الموجود هو الذي ينسينا الوجود، انظر مثلاً:

Heidegger, Concepts fondamentaux, tr. P. David, Paris, Gallimard, 1985, pp. 89-90 ; cf. Lettre sur l’humanisme, pp. 104, 114-115.

[55] عن كون النزعة الذاتية هي المسؤولة عن نسيان الوجود، انظر مثلاً: مارتن هَيْدِغِّر، رسالة في الإنسية، ص 125.

[56] عن توجيه السؤال إلى الوجود انظر: ن.م.، ص 88، 123.

[57] حول كون حقيقة الوجود هي في نفس الوقت التفكير في الإنسان، أو أن ماهية الإنسان أساسية لحقيقة الوجود، انظر: ن.م.، ص 124، 135.

[58] عن مفهوم القرب من الوجود عند هَيْدِغِّر، انظر: ن.م.، ص 102، 114-115، 120.

[59] عن أهمية السؤال المنزَّه عن أية غاية، انظر:

Questions IV, p. 128 ; M. Heidegger, Le principe de la raison, tr. par A. Préau, Paris, Gallimard, 1962, p. 108.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود