حول فكر الكاتبة السورية–المكسيكية

إكرام أنطاكي

 

روساليا لوبث إيريدا

 

عندما سمعت بذكرها أول مرة ككاتبة باللغة الإسبانية، لها موقعها واسمها على الساحة الثقافية في المكسيك، فاجأتْني غزارةُ إنتاجها وتعدده، رواية وشعرًا ودراسات، بسوية تحاكي فيها كبار كُتَّاب الإسبانية. وأثار دهشتي أكثر أن إكرام – وهي السورية الأصل – كانت معروفة بشكل واسع ولها حضورها المميز في المكسيك، بينما تكاد أن تكون غير معروفة إلا في حدود ضيقة في بلدها!

وجاءت مبادرة المركز الثقافي الإسباني في دمشق لتكريم إكرام أنطاكي وإحياء ذكراها في موطنها الأصلي من موقع الحرص على التواصل الثقافي، من جهة، وعلى إعطاء الصورة الحقيقية لقامة فكرية وضعت نتاجها كلَّه باللغة الإسبانية بمستوى جارَتْ فيه كبار مثقفي أبنائها، فعوملت كواحدة منهم.

1

ومع أنها تتحدث عن ذاتها كمواطنة مكسيكية فإن إكرام أنطاكي كانت تشعر أن المكان الحقيقي الذي تنتمي إليه يفوق الحدود الجغرافية. وليس غريبًا على إنسان عاشت تجربة استثنائية، حياةً وثقافةً، وتعددت مناهلُ ثقافتها واللغاتُ التي أتقنتْها – العربية والفرنسية والإسبانية – أن تمتلئ بهذه المشاعر مادام مشروعها الفكري مفتوحًا على الفكر العالمي الذي من أجله خاضت معركة حياتها الكبرى – التعلم والمعرفة – دون النظر فيما إذا كانت الظروف الثقافية والاجتماعية واللغوية مواتية لها أم لا. فقد كان شغلها الشاغل امتلاك ناصية المعرفة ومفاتيحها العقلانية. وهذه السمة واضحة في إنتاجها وفي كتاباتها وفي حواراتها وفي تصورها للكون وللحياة؛ حيث كانت أهمية اللغة بالنسبة لها لا ترتكز على جماليَّتها أو معانيها فحسب بل على كونها أداة نقل للمعارف والأفكار.

2

كتبت إكرام في أكثر من مجال، وفي أكثر من مكان. فقبل وصولها إلى المكسيك – المحطة الأخيرة في حياتها – كتبت بالفرنسية، إلى جانب دراستيها الأكاديميتين لنيل الماجستير والدكتوراه، دراسة عن العمليات الحربية وطقوسها لمتحف الإنسان في باريس، وعن علم السلالة الإثنولوجية في الأرياف. وبالعربية كتبت مجموعتها الشعرية اليتيمة مغامرات حنا المعافى حتى موته في الفترة القصيرة التي عادت فيها إلى دمشق قبل أن يحط بها الرحال في المكسيك.

 

لقد أخذها القدر إلى المكسيك دون أي رابط يجمعها بتلك البلاد ودون معرفة بلغتها. فألزمت نفسها بالتعلم من جديد وولجت حقل الفلسفة لتعرف تلك الأرضُ مرحلةَ نضجها وخصوبة إنتاجها.

تعكس كتابات إكرام شخصيتها القلقة والمقلقة. ففي المكسيك بدأت مرحلة البحث العقلي. لم تهمل جنسًا أدبيًّا إلا وكتبت فيه؛ لكن شاغلها الأساسي فيما كتبت كان الفلسفة. على خط البدايات ظهر كتابها ثقافة العرب الذي حصلت عليه على جائزة الدولة القيمة ماكدا دوناتو – هذا الكتاب الذي، بمقدار ما أظهر امتلاكها لأدوات الكتابة وشروطها العلمية، أبرز انتمائها إلى ثقافتها الأصلية دون انحياز. وتتناول هذه الدراسة أصل ثقافة العرب ومراحل تكوينها من وجهة نظر ومنظور عالمة الأنثروبولوجيا التي تحاول أن تقدم تفسيرًا لخصوصية الإنسان العربي في المجالات المختلفة، اللغوية والفلسفية والفنية والقيمية والحقوقية، في محيطه التاريخي والاجتماعي.

 

وهذا الكتاب ليس فقط للعامة والإعلان؛ بله حين نقرأه نلامس لهجة المؤلفة الاستفزازية وروح الاقتحام، ونشعر من خلاله بقوة شخصيتها التي اعتادت وضع استفهاماتها على كل الأشياء.

 

3

ظلت إكرام وفية لجذورها العربية، ثقافةً وانتماءً حضاريًّا. كما حرصت أن يحتل البعد العقلاني مكانه فيما كتبت. وبهذا الانتماء المعرفي والروحي قدَّمت رؤيتها في كتب للعموم، ككتاب الثقافة الثالثة الذي حصلت عليه على جائزة كتاب السنة في الفن عام 1990.

 

تلاه كتاب التأثير العربي الإسلامي، فكتاب مغامرات حنا في التاريخ، فكتاب تتمة مغامرات حنا الذي لم يمت؛ وهذان الأخيران كانا استكمالاً لمجموعتها الشعرية مغامرات حنا المعافى حتى موته؛ ثم كتاب بيت النار، وكتاب أبو حيان، لتتوِّج ذلك كلِّه بواحد من أهم أعمالها: روح قرطبة، حيث يلتقي ابن رشد مع ابن ميمون في حوار فلسفي حول قضايا فلسفية تتعرض للعالم الذي نعيش وللآخرة، لندخل معهما أجواء قرطبة المزدهرة. وتلك كانت رواية، رغم أن مضمونها الفلسفي عن العالم يسيطر على قيمتها الأدبية.

 

هكذا فهمت إكرام تجربتها فيما كتبت من أجناس وألوان أدبية. والعملية بالنسبة لها لم تكن تجربة أدبية بحتة بمقدار ما كانت عملية معرفية تهدف إلى تعميم المعلومات لتصبح في متناول الجميع.

4

تميزت السنوات العشر الأخيرة بانصراف إكرام إلى توسيع دائرتها الفكرية بين أفراد المجتمع. وبدا الغرض التعليمي وإيصال صوتها إلى الجميع واضحًا فيما قدمته. ودخلت حقل الإعلام لتكتب في الصحف والمجلات، وقدمت برامج إذاعية وتلفزيونية ذات مستوى رفيع. وقد جمعت برنامجها الأسبوعي وليمة أفلاطون في مجموعة كتب حملت العنوان نفسه، حيث تناولت موضوعات متنوعة، كالتاريخ والفلسفة والعلم والدين، لتعممها على الجمهور. كما ساهمت في إنشاء أكاديمية لتعليم أسلوب الحوار السقراطي.

 

لقد وصلت إكرام إلى قمة الشهرة، وذاع صيتها من خلال برنامجها وليمة أفلاطون، وأثبتت قيمة أعمالها. تقول: "... لقد اكتشفت في هذا البلد أني أستاذة جيدة وليس فقط كاتبة. وأنا إنسان تعرف بعض الأشياء، ولا أريد أن أحتفظ بها لنفسي فقط، إنما أبغي أن يشاركني بها الآخرون...".

انغمست إكرام في الحضارة الغربية، وامتلكت مفهومًا واسعًا لها؛ لكنها ترى أن هذه الحضارة، في سياق التطور الحضاري، تمثل آخر مرحلة، لكن ليس الأخيرة، في سلسلة الارتقاء. فهذه الحضارة، على عظمتها، قابلة للتجاوز. هي ذي تقول: "... الآن أعلن، بطريقة غير مبسطة، أني إنسان محافظة. ولكن على أرض الواقع لست هكذا، بل أطبق قول ابن رشد "فلنكن محدثين في كل ما يتعلق بالفكر، ولنكن محافظين في كل ما يتعلق بأمور الناس..."."

5

وقد امتازت كتبها الأخيرة بهذا الموقف؛ حيث يبدو وكأن إكرام، التي أحست في داخلها بدنو أجلها، أرادت أن تترك لنا ما يمثل ذروة نضجها العقلي: أعمالاً ودراسات تدور جميعًا حول موضوعات مختلفة، سياسية وأخلاقية واجتماعية – وبعضها نشر بعد رحيلها. في هذه الأعمال تحذِّرنا إكرام من الأخطار العاصفة التي حلت بالإنسانية في القرن العشرين وتطوراته المتسارعة. ولعل أهم ما قدمته في هذا الاتجاه كتاباها عند منعطف الألفية والوجيز في المدنيِّ المعاصر، حيث تحاول أن تحلل الحاضر تاريخيًّا، فتعود إلى اليونان لاستيعاب تكوين أفكارنا وحضارتنا. لكن صوت عالمة الأنثروبولوجيا يسيطر على تحليلاتها، كما يبدو الغرض من هذه الدراسات تعليميًا.

 

لقد أحست إكرام أنه، على الرغم من التقدم العلمي الهائل والمتسارع، فإن البشرية دخلت في أزمة تبدو وكأنها مستعصية، وأن العولمة، بوجهها المتوحش، تنطوي على خطر كبير على استقرار الكون والحياة؛ تقول: "... إن الحداثة التي اقتحمت حياتنا فجأة لم نتمثلها بعد. وهذا من العوامل التي تفتح الباب على مستقبل غامض... إن ميزة التاريخ الإنساني البحث عن القياس والتوازن. وحين يختل هذا التوازن تحدث تلك الانكسارات الكبرى في التاريخ. فنحن لا نستطيع أن نرفض الحداثة، من جهة؛ ولكن ذاكرتنا كشعوب تختزن موروثاتها القديمة، من جهة أخرى؛ وهذه حقيقة ليس من الإيجابي رفضها. فالأساطير، حين نرفضها، تعود للانبعاث بقوة هائلة، مما يؤكد حقيقة أن كل ما هو قديم ومدفون في ذواتنا مازال موجودًا تحت حداثتنا."

6

وربما كان كتابها عند منعطف الألفية هو الذي طرحت فيه أكثر القضايا خطورة. ففيه تعيد إكرام النظر في أسس عصرنا الحالي، حيث ترى أن القرن الحادي والعشرين لم يبدأ في مطلع في العام 2001 وإنما في العام 1991. فسقوط جدار برلين حدٌّ قاطع يميز عصرًا جديدًا هو عصر موت الإيديولوجيات الكبرى وتراجع الدولة المترافق مع سيطرة عصابات مسلحة وعرقية تفرض إرادتها بالقوة في الكثير من البلدان. وهكذا لم يعد الفارق واضحًا بين النزاعات الداخلية والنزاعات الخارجية.

إن ميزة هذا القرن الجديد هو سيطرة – إن لم نقل ديكتاتورية – التكنولوجيا والاقتصاد. لقد صارت العولمة طريقًا لا مفرَّ منه؛ ولكن، رغم إيجابيَّتها من بعض النواحي، إلا أنها لا تكفل التنمية للجميع.

إن انفجار العلم والتكنولوجيا يترافق مع انبعاث ذات الإنسان البدائية؛ ومع خشيته من المجهول تبرز نزعته عير العقلانية. لقد عرف العلم تطوره بتحرره من علاقته بالثقافة؛ وهنا تكمن خطورته لأن الإنسان، من خلاله، فقد صلته بالواقع. فالعلم في سياق النتاجات الثقافية الأخرى يبقى خاضعًا لظروفه التاريخية، كما أنه وليد ظروفه الثقافية...

وهذا الكتاب لم يحمل نبوءة أو تنبؤًا ولا تفسيرًا جديدًا، لكن أهميته تكمن في أنه يقرع ناقوس الخطر محذِّرًا الإنسان المفتون بنجاحاته وبتفوقه العلمي لما قد يحصل. تقول: "... لقد فشلت النظريات التاريخية، كما فشلت محاولاتها للتفسير الكلِّي للظواهر. اليوم بتنا نعرف أن نيل المعرفة ليس أمرًا باقيًا، بل هو قابل للزوال. كل قرن يعيد تفسير الماضي؛ وكل جيل يعكس منظوره للمستقبل وللماضي. والتنبؤ لا قيمة له لأنه من المتعذر إنشاء أنموذج. كل ما نستطيعه هو التنبؤ بمشكلات قابلة للحدوث، ثم السعي لحلِّها...".

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود