دمـوع المـدينـة

 

إلى فداء الحوراني

 

محـمَّـد علـي الأتـاسـي

 

في وقت تحتفل التياراتُ الناصريةُ والقوميةُ بالذكرى الخمسين لقيام الوحدة السورية–المصرية، تقبع رئيسةُ "المجلس الوطني لإعلان دمشق"، الدكتورة فداء الحوراني، في السجن. وفداء هي ابنة السياسي السوري الراحل أكرم الحوراني الذي كان واحدًا من أهم صُنَّاع الوحدة ومن أكثر منتقديها فيما بعد. فيما يلي قراءة من وحي هذه المناسبة.

في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، أتاحت لي الظروفُ أن أقوم بأول زيارة للقاهرة بغرض إتمام بحث كنتُ باشرتُه عن فترة الخمسينيات في سوريا ومرحلة الديموقراطية المزدهرة بين العامين 1954 و1958 والتفاعلات والصراعات الاجتماعية والسياسية التي دفعت في اتجاه الوحدة السورية–المصرية.

كنت أتردد صباح كلِّ يوم، على مدى شهر كامل، على مكتبة القاهرة الكبرى في الزمالك لمراجعة أرشيڤ جريدة الأهرام العائد إلى تلك الفترة والمحفوظ بأكمله على شرائط الميكروفيلم.

في سيارات التاكسي العديدة التي كانت تُقلني صباح كلِّ يوم إلى المكتبة، كنت أتسلَّى، أنا القادم لتوِّي إلى القاهرة، بطرح السؤال الساذج نفسه على السائقين المصريين: "مَن تحب أكثر: عبد الناصر أم السادات؟" طبعًا تعددت الإجاباتُ وتنوعت، وإنْ كانت في غالبيتها لصالح عبد الناصر. تطلَّب الأمرُ منِّي بعض الوقت لألحظ أن خيار عبد الناصر كان يرتبط أحيانًا بنوع من "المسايرة" كوني شاميًّا، – و"الشوام" عمومًا، في عرف المصريين، يميلون إلى عبد الناصر، – وكان يرتبط في أحيان أخرى بنوع من الشطارة، كون الأجرة تزداد ارتفاعًا مع خيار عبد الناصر!

ذات مرة، في مواجهة سائق تاكسي في خريف العمر، قررت بدوري أن أتشاطر، فغيَّرت في صيغة سؤالي إلى الآتية: "حضرتك حزنت أكثر لما مات عبد الناصر أم لما مات السادات؟" تأمل السائق طويلاً في عيني من خلال المرآة وهزَّ برأسه وقال هازئًا: "يا عم إنت بتقول إيه؟! أنا حزنت أكثر شيء لما مات أبويا!"

جواب السائق الفصيح نبَّهني إلى خطئي، وعلَّمني درسًا بليغًا في ذكاء ابن البلد المصري، ومنعني من أن أكرر مثل هذه الأسئلة الساذجة التي لا تعني شيئًا آخر سوى الاستخفاف بعقول الناس!

الطريق إلى الوحدة

في مكتبة الزمالك، وأمام شاشة جهاز المطالعة، كنت أجلس ساعات طويلة، يومًا بعد يوم، أتصفح جريدة الأهرام، بدءًا من منتصف الخمسينيات، أمرِّرها عددًا تلو عدد، كما تَرِدُ متسلسلةً على شريط الميكروفيلم. شيئًا فشيئًا، أخذتني حالٌ من الترقب والانشداد، كحال مَن يتابع فيلمًا مشوِّقًا وينتظر الخاتمة على أحر من الجمر. صحيح أني كنت أعرف النهاية عن ظهر قلب وبوجهيها المتعارضين: الوحدة والانفصال، إلا أني، بحكم قراءتي لهذه الجريدة اليومية، التي كتب محرِّروها الأخبار والمقالات من دون أن يعرفوا ما الذي سيجري في اليوم التالي، رحت أتماهى مع هؤلاء المحرِّرين إلى درجة جعلتْني أعيش الأحداث في لحظتها، متناسيًا ما سيأتي بعدها.

هكذا راح شريط الأحداث يمر من أمامي بعناوينه العريضة، من مثل رفض الانضمام إلى حلف بغداد، إلى معاهدة الدفاع المشترك السورية–المصرية، إلى كسر الاحتكار الغربي لبيع منطقتنا السلاح، إلى تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، إلى مظاهرات التأييد والتضامن في مختلف أرجاء العالم العربي، إلى تفجير أنابيب النفط في سوريا، إلى التهديدات التركية، إلى إزالة آثار الاستعمار في تونس ومراكش ومساندة الثورة الجزائرية. ومن خلف هذه العناوين الكبيرة، كانت تمر العناوين الصغيرة عن مجريات الحياة اليومية في مصر، من مشاريع التحديث وصولاً إلى أفلام السينما والدعايات المتنوعة.

وفجأة راحت الوقائع تتسارع: من التظاهرات السورية الحاشدة تأييدًا للوحدة مع مصر، إلى تصويت مجلس النواب السوري، ومن بعده مجلس الأمة المصري، على مشروع اتحاد فدرالي غير مُلزِم بين سوريا ومصر، إلى رفع أكرم الحوراني، رئيس مجلس النواب السوري، العلم المصري إلى جانب العلم السوري على جانبَي منصة الرئاسة تحت قبة الپرلمان، إلى وصول وفد الضباط السوريين إلى القاهرة في 12 كانون الثاني 1958، من دون علم حكومتهم، ومطالبتهم عبد الناصر بالقبول بـ"الوحدة الفورية والاندماجية"، إلى وصول وزير الخارجية السوري صلاح الدين البيطار إلى القاهرة، بتكليف من الحكومة، وانضمامه إلى وفد الضباط وبدء المحادثات الجدية مع عبد الناصر، الذي وافق في النهاية على المضي قُدُمًا في الوحدة، مشترطًا أن يتم حل الأحزاب في سوريا وأن يحلَّ مكانها حزب الاتحاد القومي الواحد!

تتابع جريدة الأهرام، وأتابع معها الطريق إلى الوحدة: ففي 30 كانون الثاني، انتقل الرئيس شكري القوتلي على رأس وفد حكومي كبير إلى القاهرة، وتم الاتفاق على دستور الجمهورية المؤقت وعلى إجراءات توحيد البلدين، وتم تكليف رئيس الوزراء السوري صبري العسلي في اليوم التالي قراءة محضر الاجتماع المتضمن إعلان اتفاق الرئيسين على قيام "الجمهورية العربية المتحدة" أمام الناس المحتشدين بالآلاف أسفل شرفة قصر "شويكار".

في 5 شباط 1958، اجتمع مجلسا النواب في سوريا ومصر، كلٌّ على حدة في بلده وبحضور رئيسي الجمهوريتين، وصوَّتا على إعلان الجمهورية العربية المتحدة، وأعلن الرئيس شكري القوتلي ترشيح الرئيس جمال عبد الناصر لرئاسة الجمهورية الجديدة من خلال استفتاء عام في كلا البلدين. وفي 22 شباط، تم الاستفتاء، وفاز عبد الناصر بشبه إجماع وأصبح رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، على الرغم من أن قدميه لم تطآ بعدُ الأراضي السورية التي عمَّت فيها الأفراح والأهازيج بشكل لم يشهده تاريخُها المعاصر من قبل.

يوم 24 شباط 1958، توجَّه رئيس الأركان السوري عفيف البزري على رأس وفد كبير إلى مطار المزة الدمشقي لاستقبال المشير عبد الحكيم عامر الذي كان مفترَضًا وصولُه إلى دمشق للتحضير لزيارة الرئيس عبد الناصر المرتقَبة. فُتِحَ بابُ الطائرة، وإذا بجمال عبد الناصر شخصيًّا يطل منه! المفاجأة كانت كبيرة، لكن الضرورات الأمنية والخوف من المؤامرات ومحاولة اغتيال عبد الناصر التي تم الكشف عنها أخيرًا، كلها مجتمعةً فرضت على عبد الناصر أن لا يخبر أحدًا في دمشق بقدومه، حتى الرئيس القوتلي شخصيًّا!

توجَّه موكب رئيس البلاد الجديد من فوره إلى منزل الرئيس القوتلي في شارع أبو رمانة. وما هي إلا دقائق حتى كان الوفد في المنزل، وتم إيقاظ الرئيس القوتلي وإخباره، تحت وقع المفاجأة، أن الرئيس عبد الناصر في انتظاره في المنزل في صحبة الوفد المصري. وتم الاتصال برئيس المجلس النيابي أكرم الحوراني وبغيره من كبار الشخصيات وطُلِبَ منهم موافاة عبد الناصر في منزل القوتلي. وما هي إلا دقائق حتى علمت دمشق كلها بوجود عبد الناصر في منزل القوتلي، فتوجهت آلاف مؤلَّفة من الناس إلى شارع أبو رمانة وأحاطت بالمنزل من كلِّ صوب وهي تهتف لرئيسها الجديد وتطلب منه الخروج إلى الشرفة ليلقي التحية عليها ولتتمكن أخيرًا من رؤيته بلحمه ودمه! استغرق موكب الرئيسين لقطع المسافة من منزل القوتلي إلى قصر الضيافة، الذي لا يبعد عنه إلا مئات الأمتار، ساعات عدة بسبب مئات الآلاف من الناس الذين احتشدوا لتحية عبد الناصر، الذي أمضى أيامًا عدة محاصَرًا في القصر، يطل بين فترة وأخرى من على الشرفة ليخطب ويلقي التحية على الألوف المتدفقين من المدن السورية واللبنانية كلِّها لرؤيته والاستماع إليه؛ بل إن بعضهم كان يبيت الليل في العراء حتى يحجز لنفسه مكانًا قريبًا من الشرفة، يستطيع أن يرى منه عبد الناصر رؤية أوضح في اليوم التالي.

والحقيقة أن ردود الفعل هذه قد تبدو غريبة بعض الشيء في أيامنا الراهنة، حيث دخل التلفزيون إلى كلِّ بيت وبات الكثير من الناس يفضلون البقاء في بيوتهم والاستماع إلى خطابات القادة السياسيين عبر شاشة التلفزيون. أما في ذلك الزمن فلم يكن التلفزيون موجودًا بعد، وكانت علاقة الناس في سوريا مع "كاريزما" عبد الناصر تتم من خلال صوره في المجلات وخطبه التي يبثها راديو "صوت العرب"، قبل أن تتاح الفرصةُ لهم لرؤيته على شرفة قصر الضيافة.

دموع المدينة

في مكتبة الزمالك، جالسًا أمام شاشة المطالعة، وبعد أن بدأ التعب ينال مني، أقرأ كلمة عبد الناصر التي ألقاها أمام مجلس الأمة في 5 شباط، معلنًا فيها قيام الجمهورية العربية المتحدة، فتشدني منذ بدايتها التي يقول فيها:

في حياة الشعوب أجيالٌ يواعدها القدرُ ويخصها دون غيرها بأن تشهد نقط التحول الحاسمة في التاريخ.

ثم يمر عبد الناصر بالتاريخ المشترك بين الشعبين، لينتقل إلى تعداد مبادئ الجمهورية العربية المتحدة المكونة من إقليمين ورئيس واحد (مطلق الصلاحيات) ومجلس أمة، ويعلن ضمنيًّا حلَّ مجلس الأمة المصري، إلى أن يختم بالآتي:

لقد بزغ أمل جديد على أفق هذا الشرق. إن دولة جديدة تُبعَثُ في قلبه. لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق، ليست دخيلة فيه ولا غاصبة، ليست عادية عليه ولا مستعدية. دولة تحمي ولا تهدِّد، تصون ولا تبدِّد، تقوى ولا تضعف، توحِّد ولا تفرِّق، تسالم ولا تفرِّط، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو، لا تتحزب ولا تتعصب، لا تنجرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفِّر الرخاء لها، ولمن حولها، وللبشر جميعًا بقدر ما تحتمل وتطيق.

دائمًا في مكتبة الزمالك، أقع على الصفحة الأخيرة لعدد آخر من الأهرام، فأجد على كامل الصفحة ريبورتاجًا مصورًا عن الجلسة التاريخية التي عقدها مجلس النواب السوري في 5 شباط 1958 والتي أعلن فيها الرئيس القوتلي قيام الجمهورية العربية المتحدة وترشيح الرئيس عبد الناصر لرئاستها.

كان ذلك اليوم تاريخيًّا بكلِّ ما للكلمة من معنى. فألوف الناس في الشوارع يملئون الطرق والساحات المحيطة بقاعة المجلس. أما الطريق التي سلكها موكب الرئيس القوتلي، الممتدة من منزله في شارع أبو رمانة إلى مجلس النواب في شارع الصالحية، فقد اصطف على جانبيها حرس شرف رسمي من الجيشين السوري والمصري. وفي داخل قاعة المجلس البهية التي لم تمضِ إلا بضعة سنوات على إعادة بنائها بعد أن دمَّرها القصف الفرنسي في أيار 1945، جلس أكرم الحوراني على منصة الرئاسة، وفي مواجهته في الأسفل جلس رئيس الوزراء صبري العسلي وأعضاء الوزارة، وتحلَّق من حولهم أعضاء المجس النيابي بكامل عددهم، ماعدا الزعيم الشيوعي خالد بكداش الذي تغيَّب عن الجلسة وفرَّ خارج سوريا. وفي مدرجات الشرفات العلوية، جلس ضيوف الشرف، من سفراء وقناصل ورجال دين وضباط جيش، إضافة إلى زوجة الرئيس القوتلي وابنته هدى.

كانت لحظات مهيبة! فالرئيس القوتلي لم يأتِ فقط ليعلن قيام الجمهورية العربية المتحدة، بل ليبلِّغ السلك الدپلوماسي المعتمَد في سوريا نهاية مهماته، وأتى ليعلن للنواب انتهاء تفويضهم الشعبي وللمجلس النيابي حلَّه النهائي، وليُشهِرَ لنفسه ولشعبه انتهاء مهماته كرئيس منتخَب للجمهورية السورية، وليعلن للشعب السوري نهاية دولته العتيدة وقيام حلمه في الوحدة العربية.

إذا كان صحيحًا أن هذا الشعب دفع ثمن استقلاله بالدم، ابتداءً من شهداء أيار في العام 1916، إلى معركة ميسلون في العام 1920، إلى الثورة السورية الكبرى في العام 1925، إلى قصف دمشق ومعركة الاستقلال في العام 1945، فلعلَّه الشعب الوحيد في العالم الذي، في احتفالات الجلاء في العام 1946، يقوم رئيسه شكري القوتلي برفع علم الاستقلال السوري، الذي دفع الشعب لقاءه أفدح الأثمان، على السراي الحكومي ويخطب فيه قائلاً: "لن يرتفع فوقه بعد اليوم إلا علم واحد هو علم الوحدة العربية."

أمام شاشة المطالعة في مكتبة الزمالك، أقرأ كيف رحَّب أكرم الحوراني بالقوتلي عند باب المجلس ورافقه إلى القاعة حيث استقبله النواب بالتصفيق، فتوجَّه القوتلي إلى المكان المُعَد له في منتصف قاعة المجلس، وافتتح أكرم الحوراني الجلسة التاريخية بالكلمة الآتية:

باسم الله العلي القدير، باسم الشهداء الأبرار الذين فاضت أرواحهم في سبيل هذا اليوم، باسم المجاهدين الأحرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى ومنهم مَن ينتظر هذه الساعة، باسم كلِّ مَن أسهم في سبيل هذه الدقيقة، باسم الأمة العربية في الوطن العربي الأكبر، أفتتح هذه الجلسة. أحمد الله أن تكون هذه الحكومة وأعضاء هذا المجلس عاملين وشاهدين لهذه الجلسة التاريخية، وأن يكون الرئيس القوتلي – وهو مَن زكَّت نفسه التضحية وملأ قلبه الإيمان وتوَّجت هامته سلسلة الأمجاد التاريخية وحمل آمالنا في الحرية والكرامة والاستقلال – قد جاء اليوم ليحمل أمنيتنا في تحقيق وحدتنا. فاللهم اشهد أنه حقَّق الرسالة وأدى الأمانة! فله تقدير الوطن ومشارف المجد وهامات الخلود.

ثم قدَّم أكرم الحوراني القوتلي للنواب، مطلقًا عليه اللقب الذي سيرافقه مدى حياته الباقية: "الكلام الآن للمواطن العربي الأول: شكري القوتلي."

صعد الرئيس القوتلي إلى المنصة، واستهلَّ كلمته بالتذكير بشهداء أيار ومعركة ميسلون والثورة السورية الكبرى ومناهضة الاستعمار وكارثة فلسطين، إلى أن قال الآتي:

إن السوريين لم يصونوا استقلالهم إلا ليدفعوا إلى الأمام بعجلة الاستقلال العربي كاملاً، ولم يحتفظوا لأنفسهم بسلامة كيانهم وسيادتهم في أرضهم إلا ليُلقوها دعامةً راسخةً في بناء كيان عربي ذي سيادة. وقد شرَّفني أن أُعرِبَ عن ضمائرهم وشعورهم يوم الجلاء عام 1946 عندما رفعت علم الاستقلال وقلت: لن يرتفع فوقه بعد اليوم إلا علم واحد هو علم الوحدة العربية.

ثم أعلن الرئيس القوتلي مبادئ الجمهورية العربية المتحدة المكونة من إقليمين ورئيس واحد ومجلس أمة.

جالسًا أمام شاشة المطالعة في مكتبة الزمالك، أتابع القراءة وأتذكر كيف أن الرئيس القوتلي نذر نفسه للقضية العربية منذ كان مناضلاً في "الجمعية العربية الفتاة" إبان العهد العثماني، وكيف حُكِمَ عليه بالإعدام لكنه نجا بأعجوبة ولم يلقَ مصير مَن سبقه من شهداء أيار، وكيف قُدِّر له أن يكون رئيسًا إبان نيل الاستقلال. وها هو ذا، في عهده الثاني، رئيس يدشِّن عهد الوحدة. أتابع القراءة إلى أن يصل الرئيس القوتلي إلى تلك الفقرة المؤثرة في خطابه عندما يقول معتذرًا:

أرجو، أيها الإخوان الأعزاء، أن أكون باعتباركم، وباعتبار هذا الشعب العربي العظيم الذي يشرفني أن أنتسب إليه، مواطنًا عاديًّا – كما أرجو أن أكون، باعتباركم واعتباره، قد أديت واجبي نحو بلادي وأمتي، وكنت جديرًا بالثقة التي أوليتموني إياها خلال هذه الحقبة من الزمن العصيب. فإنْ قصَّرت، فعذري أنني عملت بصبر وإيمان وصدق وإخلاص، وإنْ أخطأت، فعذري أنني إنسان، وليس الإنسان بمعصوم. وإنْ فاتني شرفُ الاستشهاد ولم أكن بجوار الخالدين من أحرار هذه الأمة، فأمام الله أشهد أنني لم أجنِّب نفسي خطرًا، ولم أوفِّرها عن شهادة...

فجأةً يرتجف صوت القوتلي من على منبر المجلس النيابي وتخونه دموعُه. خلفه، إلى منصة الرئاسة، لم يعد أكرم الحوراني قادرًا على حبس دموعه، وعلى صفحة الأهرام الأخيرة، نرى صورة رئيس الوزراء صبري العسلي وهو يرفع عن عينيه نظارتيه السميكتين ويمسح دموعه. وينقل مراسل الأهرام كيف بكى العديدُ من النواب، وكيف بكت زوجة القوتلي وابنته... وبدوري، أشعر فجأة بالاختناق. لم أعد أستطيع إكمال القراءة! أطفئ جهاز المطالعة في مكتبة الزمالك، وأخبِّئ رأسي بين ساعدي وأجهش في البكاء! يأتي مسؤول المكتبة ليشد من أزري ويسألني ما الخطب. أعجز عن الإجابة، فأغادر القاعة ولا أعود إليها أبدًا، صارفًا النظر عن إكمال دراسة غطَّتْها دموعي!

ما وراء الدموع

اليوم، إذ تقبع رئيسة "المجلس الوطني لإعلان دمشق"، فداء أكرم الحوراني، خلف القضبان، وتُساق رهن الاعتقال إلى المستشفى بسبب تدهور حالها الصحية، ويُقبَض على زوجها غازي عليان، الفلسطيني الجنسية، وتُلغى إقامتُه في سوريا العربية ويرحَّل في اليوم نفسه إلى الأردن، فإنني لن أعود إلى جهاز المطالعة في مكتبة الزمالك. فبالتأكيد لم تعد تنتظرني أشرطة الميكروفيلم! لكنني سأقرأ، من وراء الدموع، كيف ضحَّى الشعب السوري وطبقتُه السياسية بحرياته السياسية وحِراكه المدني من أجل الوحدة العربية، وقَبِلَ بشرط عبد الناصر إلغاء التعددية السياسية، ففقد في النهاية الاثنتين معًا: الحريات والوحدة.

سأقرأ، ما وراء الدموع، كيف امتلك نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع آنذاك، خالد العظم، الجرأة الأخلاقية، فوافق على الوحدة ونبَّه في الوقت نفسه إلى خطورة إلغاء التعددية السياسية في سوريا. سأقرأ، ما وراء الدموع، ما كتبه أكرم الحوراني في مذكراته عن موقف خالد العظم:

كانت اعتراضات خالد العظم على محضر الوحدة مؤثِّرة في المجتمعين، ولاسيما ما يتعلق منها بالديموقراطية وضرورة تعدُّد الأحزاب، لأن جميع الحاضرين من المدنيين كانوا يشعرون في قرارة نفوسهم بالخوف من حكم سورية حكمًا ديكتاتوريًّا في ظل الوحدة، بالرغم مما كانوا يعلِّقونه على قيام الوحدة من آمال في تحقيق ما عجزت سورية عن تحقيقه. أشار الرئيس القوتلي في أحد هذه الاجتماعات إلى وجوب تدوين محضر بنتيجة المباحثات حول الوحدة، فكتبه صبري العسلي ودفع به للتوقيع، فوقَّعتُه بعد رئيس الجمهورية، ثم وقَّعه جميع الوزراء والضباط الخمسة الذين حضروا هذه الاجتماعات. وكان تعليق خالد العظم عند التوقيع: "إنني أوقِّعه وأسأل الله أن يبدِّد تحفُّظي."

سأقرأ، ما وراء الدموع، كيف أن الله لم يبدِّد تحفظات خالد العظم، وسأقرأ كيف أن الشعب السوري، الذي كان في أغلبيته العظمى مع الوحدة ومع عبد الناصر، فُرِضَ عليه في النهاية أن يتخلَّى عن صندوق الاقتراع وعن الستارة السوداء وأن يصوِّت في استفتاء يستخف بأصول العملية الانتخابية كلِّها. وسأقرأ، ما وراء الدموع، ما كتبه أكرم الحوراني في مذكراته عن هذا الاستفتاء:

توجَّهت صبيحة يوم الاستفتاء [الجمعة 21/2/1958] مع شكري القوتلي وأعضاء الحكومة وكبار ضباط الجيش في موكب حافل شقَّ طريقه بصعوبة وسط الازدحام الجماهيري إلى جامع سيدي هاشم في حي الشاغور، لنؤدي واجبنا في عملية الاستفتاء الذي جرى على النحو التالي: كان رئيس المركز يسلِّم المقترع ورقتين: إحداهما رُسِمَتْ عليها يدٌ تحمل العلمين المصري والسوري وكُتِبَ تحتها: هل توافق على وحدة سورية ومصر في الجمهورية العربية المتحدة؟ وفي أسفل الورقة دائرتان متساويتان، إحداهما حمراء مكتوب فوقها "موافق" والأخرى سوداء مكتوب فوقها "غير موافق"، وفي وسط كلٍّ من هاتين الدائرتين فراغ أبيض يملؤه المقترع. أما الورقة الثانية فقد استُبدِلَ فيها برسم اليد التي تحمل العلمين صورة لجمال عبد الناصر كُتِبَ تحتها: هل توافق على انتخاب جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة؟ كانت أجهزة المخابرات المصرية التي استلمت فورًا شؤون وزارة الداخلية هي التي صمَّمت هذا الأسلوب من الاقتراع العلني – وكان الاقتراع سابقًا في سورية يتم في الغرفة السرية، حيث يتحرر المقترع من أيِّ ضغط أو إكراه، وهو مكسب ديموقراطي حصل عليه الشعب في سورية نتيجة نضال شعبي وبرلماني.

ويضيف أكرم الحوراني متحسرًا:

لم يكن الاستفتاء على الوحدة وعلى رئاسة جمال عبد الناصر في حاجة إلى مثل هذا الأسلوب الفج، ولكن مَن يشعر بالأخطاء في غمرة الفرح الأكبر؟ أعلن وزير الداخلية المصري زكريا محيي الدين صباح يوم 22/2/1958 نتائج الاستفتاء في سورية ومصر، فكانت نسبة الموافقين في سورية 99.98% وكان عدد المخالفين 139 شخصًا، وكانت نسبة الموافقين في مصر 99.99. وهنا لا بدَّ لي من ملاحظة: إن أكبر نسبة للإقبال على الانتخابات عرفتْها سورية في أشد معاركها الانتخابية ضراوة لم تتجاوز 70% من مجموع الناخبين، ولم يكن الإقبال على مراكز الاقتراع يفوق هذه النسبة بحال من الأحوال.

في واحدة من الوقفات الصادقة مع الذات، يورد أكرم الحوراني نصَّ البرقية التي وجَّهها للرئيس عبد الناصر وجاء فيها:

لم يشهد تاريخنا الحديث انتخابًا ولا استفتاءً شعبيًّا أكثر تعبيرًا عن إرادة الشعب الحرة كهذا الذي جرى اليوم في كلٍّ من مصر وسورية. ولا غرو، فقد لمس الشعب من جديد في شخصكم تاريخ العرب كلَّه، بما فيه من مآثر وبطولات وأمجاد وبما تخلَّله من آمال ونضال.

وما وراء الدموع، ينتقد أكرم الحوراني نفسه بصراحة يُحسَد عليها، فيقول:

قد يستهجن القارئ، كما أستهجن الآن، تلك المبالغات الصبيانية التي أملتْ نصَّ هذه البرقية بما لا يليق صدورها من رجل مسؤول؛ وإنني لأعترف أن هذا الحكم من القارئ هو دليل على تقدم وتطور العقل العربي ونضجه. ولكن عذري كان في تلك الفترة التي لا أستطيع وصفها: كانت فترة طغى فيها الحلمُ الكبير على عقلانية الواقع المرير.

وما وراء الدموع، وربما بسببها أيضًا، سيحدث الانفصال بانقلاب عسكري في العام 1961 نفَّذتْه بعض وحدات الجيش السوري، وسيرفض عبد الناصر إنهاء التمرد بالقوة العسكرية وسيقول في كلمة مشهودة له وجَّهها لشعبه:

إني أعرف أن طعنة الصديق تمزِّق القلب، ولكني أطلب من الأمة أن ترتفع على شعورها بالألم [...] الوحدة إرادة شعبية، ولن أحوِّلها من جانبي إلى عملية عسكرية [...] أريد أن يعرف الشعب العربي في مصر أنه ليس هناك وقت يدعونا إلى التمسك بعروبتنا أكثر من هذا الوقت [...].

ما وراء الدموع، وربما بسببها أيضًا، سيوجِّه "المواطن العربي الأول" شكري القوتلي كلمةً جارحةً من الإذاعة والتلفزيون في الجمهورية العربية السورية مساء 23 تشرين الأول 1961 يسمِّي فيها انقلاب الانفصال "وثبة الشعب وانتفاضة الجيش الأمين" ويسأل: "لماذا استحالت الوحدة إلى سراب؟"، ليضيف:

كنت أقول لِمَنْ بيدهم الأمر كله إن إعلان الوحدة شيء، وممارستها شيء آخر. فبالعواطف قامت، وبالعقل والحكمة وبالحسنى تدوم.

ما وراء الدموع، وربما بسببها أيضًا، سيكتب أكرم الحوراني في مذكراته الآتي:

إن أهم الأسباب لانهيار الوحدة المصرية السورية عام 1961 وللانهيار العاجل للوحدة الثلاثية المصرية السورية العراقية عام 1963 ولانهيار الاتحاد الثلاثي بين مصر وسورية وليبيا بعد السبعينات، ثم انهيار كلِّ المحاولات التي جرت لتحقيق أيِّ نوع من أنواع الوحدة أو الاتحاد بين الأقطار العربية، إنما يعود بالدرجة الأولى إلى أن أنظمة الحكم في البلاد العربية كانت وما تزال إما أنظمة فردية أو ديكتاتورية عسكرية أو طائفية أو عشائرية يمارس الاستعمارُ نفوذَه عليها.

وما وراء الدموع، وبسببها أيضًا، سأتعلَّم من سائق التاكسي المصري أن الدموع والعواطف إنما تُذرَفُ لفقد الأهل والأحبة. أما السياسيون فعواطفنا نحوهم نعبِّر عنها من خلال صندوق الاقتراع في انتخابات حرة!

عزيزتي فداء، ها أنا ذا الآن أمسح دموعي – فلا وقت بعد الآن للدموع. عذرًا، لن ألوِّح لك بعد اليوم بمنديل دموعي، ولن أقول لك إننا على موعد مع الحرية – فهذا تحصيل حاصل. أعدك أنني في ذلك اليوم المنتظَر لن ألوِّح بمنديل دموعي، بل سأضع ورقة مواطنيَّتي في صندوق الاقتراع!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود