پسيكولوجيا الخوف من الموت

 

محمد قاسم عبد الله[1]

 

تُعتبَر ظاهرةُ الموت من الظواهر التي شغلت أذهانَ الناس والمفكرين منذ العصور القديمة والتي بات العلماء يدرسونها حاليًّا من وجهات النظر العلمية المختلفة (البيولوجية، الطبية، الفلسفية، الدينية، والپسيكولوجية). وقد توصلتِ البحوثُ الپسيكولوجية التجريبية والسريرية إلى بعض الحقائق الهامة المتعلقة بموقف الإنسان من الموت وبمدى متات ذلك إلى صحته النفسية والجسمية أيضًا.

سوف نبيِّن في هذا المقال بعض الحقائق والمعطيات العلمية الپسيكولوجية عن الخوف من الموت. وإننا لنحضك أن تنظر إلى توجهاتك ومعتقداتك حول موتك أو موت مَن تحب. أجل، ربما كان موضوع هذا المقال محزنًا ومثيرًا للانفعال؛ لكننا نعتقد أن هذا البحث سيجعلك أكثر تفهمًا للموت وتقبلاً له ولفقد أيِّ شيء ذي أهمية في حياتك. إذا توافَقنا على أن عمرنا محدود، ففي إمكاننا أن نتخذ الكثير من الخيارات ونقوم بالعديد من الإنجازات في الأوقات المتاحة لنا بحيث تصبح منتجةً مثمرة.

تصوَّرْ فكرة الموت من منظورها العريض، ثم اسأل نفسك السؤال التالي: ما هي الأمور والأشياء الخاصة بي التي ليست من الحيوية والنشاط على ما ينبغي؟ ما هي الحالة الانفعالية التي أماتتْني نفسيًّا (كما سنأتي على ذكره) أو التي تميتني حاليًّا؟ ماذا أفعل حين أعي السبل التي لم أتَّبعها والأنشطة التي لم أمارسها وأميزها عن تلك التي ليست حيويةً في حياتي؟

عندما نتقبل حقيقة موتنا، نَخبَر العزلة والانفراد – ولذلك ترتبط فكرةُ الموت بهما. إن وعينا لحالة فنائنا وعزلتنا يساعدنا على القيام بأعمالنا وعلى اتخاذ الخيارات المتعلقة بحياتنا وبالكيفية التي ينبغي علينا أن نحياها بها؛ وبالتالي، سوف نتقبل مسؤوليتنا النهائية عن الدرجة التي ستكون عليها حياتُنا من جودة وسواء.

خوفنا من الموت

مع أن الخوف الحقيقي من الموت يبدو في نظر غالبية الناس شيئًا محتمًا – أو سويًّا حتى – في الحياة فمن الممكن أن يرافقه خوفٌ مستبد ومتكرر من موتنا أو موت الأشخاص الذين نحبهم أو يهمنا أمرُهم في حياتنا والذين لا يمكن لنا أن نتمتع بالحياة من دونهم. فمن جهة أولى، ربما كنا نخشى الانخراط الحقيقي في الحياة أو الاهتمام بالآخرين أو حتى تكوين آمال حول المستقبل؛ ومن جهة ثانية، ربما كنا لا نبالي أصلاً بحقيقة الموت من خلال إقناع أنفسنا بأنه لا يوجد فيه ما يستحث تفكيرنا وبأنه "حين لا بدَّ لشيء ما أن يحدث فليحدث"!

إن الشباب بخاصة يتصفون بمشاعر الاهتمام بالمستقبل وبالحياة حصرًا. فالموت يبدو بعيدًا عن تفكيرهم؛ أو هم غالبًا ما يفكرون فيه حين يصيب "الآخرين" فقط وليس أنفسهم. بعضهم الآخر يتبنون اتجاهات ومواقف لامبالية ويتحدون الموت، على أساس الظن بأنهم غير قابلين للاضطراب والفناء، أو يحاولون مواجهة قلق الموت بالعديد من الوسائل الدفاعية النفسية. ولأن حالة الخوف من الموت مرعبة فإنهم يرفضون حقيقته ولا يفكرون فيه إلا حين يتقدمون في العمر. مثل هؤلاء الأشخاص، عندما يعمِّرون (يكونون على أبواب الشيخوخة والعجز)، يشعرون بأن هناك الكثير من الأشياء والأمور التي عليهم إنجازها وتحقيقها قبل موتهم، وذلك لأنهم لم يفكروا مسبقًا بقضية الموت في جِدية؛ وهذا يعني أنهم لم يُعمِلوا تنبؤًا وتفكيرًا مسبقًا في موتهم.

إن الخوف من الموت يسير جنبًا إلى جنب مع الخوف في الحياة – ومن الحياة! إذا كنا نخاف الموت فإننا نخاف الانخراط في مشاريع الحياة المتعددة ومواقفها أيضًا. وإذا عشنا اللحظة الحالية فقط وانخرطنا فيها انخراطًا تامًّا قدر الإمكان فإننا بعيدون غالبًا عن التفكير في قضية نهاية الحياة. إن الخوف من الموت يتضمن خوفنا من مظاهره المختلفة مثل: فراق الذين نحبهم، فقداننا لأنفسنا، مواجهة المجهول، فقدان الوقت الذي يمكن لنا فيه إنجاز الكثير مما لم ننجزه، إلخ.

يصف كافاناو (1972) في كتابه المُعَنْوَن مواجهة الموت[2] مخاوف امرأة كانت تكابد خبرة الموت (الاحتضار) بسبب السرطان. وقد بين أن المخاوف التي عانتْها المريضة المحتضرة لم تكن على تلك الدرجة من الرعب والإثارة، كما يُتوقع عادة، وأن محاولاتها لتجنب المخاوف والهروب منها كانت أكثر إيلامًا وإزعاجًا من مخاوفها الحقيقية ذاتها! فإذا كان في إمكاننا مواجهة خوفنا من الموت فإننا نملك فرصة العمل من أجل تغيير نمط حياتنا، وذلك بإجراء تغييرات في علاقاتنا مع الآخرين ومع أنفسنا. يقول غوردون[3] (1972) إنه إذا كان في إمكاننا أن نتعايش وفكرة أن هذه اللحظة هي آخر لحظاتنا فإننا سنجد أن العديد من المشكلات والصراعات تتلاشى وتجد حلاًّ، بحيث تكون الحياة أبسط وأكثر إرضاءً لنا.

الموت ومعنى الحياة

إننا نتقبل فكرة الوجوديين القائلة بأن قبول الموت يرتبط ارتباطًا وثيقًا باكتشاف معنى الحياة وغايتها. ومن أقوال قدماء الإغريق بهذا الصدد: "تأمَّلِ الموتَ وتوقَّعْه إذا أردت أن تتعلم كيف تعيش." وقد عقَّب بعضهم على ذلك بقوله: "ما من أحد يتمتع بطعم الحياة الحقيقية سوى ذاك الذي يكون مستعدًا دومًا لمفارقتها"، و"إن ذات الإنسان تولد وتنشأ حين يواجه الموت فقط". والأمثلة التي تشهد على صحة هذه الأقوال تأتي من أشخاص يعانون أمراضًا خطيرة تجعل حياتهم تدنو من نهايتها. إن مواجهتهم للموت تحدوهم إلى ممارسة الكثير من الأنشطة في تلك الفترات القصيرة من حياتهم؛ إذ إن ضغط الوقت وضيقه يدفعهم إلى اختيار السبل والبدائل التي يقضون من خلالها أيامهم الأخيرة.

لقد وجد إرفِنْ يالوم[4] (1980) أن مرضى السرطان في العلاج الجماعي group therapy استطاعوا النظر إلى أزمتهم بوصفها فرصةً حرَّضتْهم على إحداث تغيير جذري في حياتهم؛ إذ ما إن اكتشفوا أنهم يعانون من مرض خطير (السرطان) فإن بعض التغيرات الداخلية الذاتية عندهم شملت جوانب مثل:

-       إحساس بالتحرر وبالقدرة على اختبار الأمور التي يريدون القيام بها وتحقيقها فعلاً.

-       إعادة تدبُّر سوابق حياتهم وتخصيص انتباه أقل للأمور التافهة.

-       إحساس متزايد بالحياة في هذه اللحظات وتقدير واضح لحقائقها.

-       تواصُل عميق مع أحبائهم أكثر من ذي قبل.

-       مخاوف شخصية أقل حول الآخرين وتناقص الاهتمام بالأمان.

في كتابه المُعَنْوَن هل هناك جواب عن الموت؟[5] شدد كوستنباوم (1976) على فكرة أن وعينا للموت يمكِّننا من أن نخطط لحياة غنية؛ إذ إنه يجعلنا نرى حياتنا رؤية كلِّية، كما يدفعنا إلى البحث عن الأجوبة الحقيقية والنهائية. إنه يرتبط بقدرتنا على تشكيل الهوية الشخصية المميِّزة لكلٍّ منا: فمن خلال قبول موتنا الشخصي نتمكن من تحديد نمط الهوية التي نريد. فكما يقول كوستنباوم، يوضح لنا توقُّعنا للموت مَن نحن ومَن نكون. مثل هذا التوقع يُعتبَر وعيًا عقليًّا وخبرة متفهمة: إنه يجعلنا على تماس مع آمالنا ويوجِّه حياتَنا برمتها.

إن معنى حياتنا يتوقف على واقع أننا كائنات فانية، محدودة القدرة على الفعل. إن في مستطاعنا أن نتخذ قرارات واعية في حياتنا أو أن ندعها كما هي: يمكن لنا أن ندع الأحداث تحرِّكنا وتتلاعب بنا كما يحلو لها أو أن نكون فعالين في الاختيار بحيث نبتكر الحياة التي نريد.

الانتحار

الانتحار suicide أحد الأسباب المؤدية إلى الموت في الكثير من المجتمعات، وخاصة المجتمع الأمريكي، وهو في تزايد مستمر. وقد كتب الباحث كاليش[6] (1985) أن انتحار المراهقين في تزايُد مستمر. لقد تبيَّن أن أكثر الأمراض المسببة للموت هي على التوالي: أمراض القلب، سرطان الرئة، التهاب القصبات الهوائية، سرطان الپروستات، أمراض الشرايين، الانتحار، الحوادث، سرطان المعدة، سرطان المثانة، ابيضاض الدم leukemia.

إن العديد من أسباب الموت هذه مرتبط بالاختيار choice، كما يقول جيرالد كوري[7] (1982). إذ إن الناس قد يرتكبون بعض أشكال الانتحار البطيء بإحجامهم عن ممارسة التمرينات والأنشطة وبعدم قيامهم بأعمال يشغلون بها أجسامهم وأجهزتهم الحيوية. وبذلك فإن معدل الانتحار المتزايد يمكن اعتباره أعلى بكثير من المعدل الفعلي الذي بيَّنتْه الدراسات إذا ما أخذنا في الحسبان هذه الطرق المتنوعة التي يقصِّر فيها الشخصُ حياته بنفسه من حيث لا يدري. ثم إن الكثيرين يعيشون ما يُسمَّى "نصف الموت" half-dead؛ أي أنهم "أنصاف أموات" من جراء معاناتهم الاكتئاب depression، حيث لا تمتُّع بالحياة ولا أنشطة مطلقًا، بل همود وحزن وانغلاق. فكيف يعيش مثل هؤلاء؟!

إن محاولي الانتحار ينظرون إلى الحياة على أنها "لا تطاق" unbearable. فإذا كانوا يشعرون بذلك، فهم حتمًا لا يملكون بدائل وخيارات. وبما أن فرص التغيير لديهم ضئيلة جدًّا فهم يقرون أن موتهم أفضل من مساعيهم وكدحهم لإيجاد معنى حين تنعدم إطلاقًا مثل هذه المعاني؛ إذ ذاك فإن الانتحار يغدو "الخيار النهائي" ultimate choice. صحيح أن الكثيرين من الناس يقتلون أنفسهم وينهون حياتهم، سواء عن طريق الإهمال والتجاهل أو عن طريق انتهاج أفعال وسلوكيات محددة، إلا أن السؤال الأهم هو: كيف يريد الشخص أن يحيا ويعيش فعلاً؟

ماذا تُظهِر لك خبرتُك الشخصية بهذا الخصوص؟ ربما شعرتَ باليأس أحيانًا؛ وقد تتساءل عما إذا كان من المفيد أن تحيا أصلاً. هل مررت بمثل هذا الشعور في الواقع؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي كان يجري في حياتك، فدفع بك إلى الرغبة في الموت؟ ثم ما هي العوامل التي حالت دون تلك الدوافع والأحداث والتأثير عليك سلبيًّا وأبقتك محتفظًا بقدرتك على الحياة؟

ما هي المعاني الضِّمنية التي ينطوي عليها الانتحار؟

ربما كان الانتحار تعبيرًا عن صرخة استغاثة أخيرة: "لقد صرخت، ولكن لا أحد سمعني!" ربما كان فعلاً عدوانيًّا أو تعبيرًا عن قسوة أو محاولةً مستميتةً لإسماع الصوت ولفت النظر: "لعل ذلك يدفع بعض الناس إلى الحديث عنِّي وإلى الشعور بالأسف على الطريقة التي عوملت بها." أو لعله تخلُّص من حالة يأس وإنهاء لحالة ألم مستديم.

هل تعرف شخصًا ما قد انتحر؟ عادة ما يَخبَر مَن هم على معرفة بشخص منتحر عددًا من المشاعر، مثل الذنب والغضب والخوف، التي لا تظهر في العادة ظهورًا واضحًا صريحًا: "ليتني كنت أكثر حساسية وحذرًا وأشد اهتمامًا." وربما يشعرون بذلك: "لم يدُرْ في خلدي أن هذا الأمر المهول يمكن له أن يحدث؛ وإني لأتساءل إن كنت فعلت كلَّ شيء في وسعي لمنعه." وإذا عبَّروا عن غضبهم في كلمات فلربما قالوا: "إنني غاضب عليك لأنك تركتني! لماذا لم تُعلِمَني كم كنت منعزلاً وتعاني الوحدة؟!" وربما يشعرون بالخوف: "إذا حدث ذلك له فربما أكون قادرًا على فعل الشيء نفسه!"

مراحل الاحتضار والموت

لقد أصبح علم الموت thanatology من الموضوعات الهامة التي يدرسها علماء النفس والاجتماع والأطباء النفسيون والأطباء والباحثون في ميادين متنوعة. وتُعتبَر إليزابيث كوبلر روس الرائدةَ في الدراسات الحديثة حول الموضوع. ففي كتابيها المُعَنْوَنين في الموت والاحتضار[8] والموت: شوط النمو النهائي[9] (1969، 1975) بحثتْ المظاهر النفسية والاجتماعية للموت والاحتضار. إن فهمك لتلك الأمور قد يساعدك على تقبُّل الموت وعلى أن تكون أقدر على مساعدة الأشخاص الذين هم في أواخر حياتهم.

إليزابيث كوبلر روس (1926-2004)

والمراحل الخمسة التي توصلت إليها الباحثة من خلال دراستها لمرضى السرطان تتوالى كما يلي:

1.     مرحلة الإنكار Stage of Denial: ينكر الشخص خطورة حالته.

2.     مرحلة الغضب Stage of Anger: يقول المريض لنفسه: لماذا أنا بالذات؟ إضافة إلى الغضب الذي يُسقِطه على أيِّ شخص آخر.

3.     مرحلة المساومة Stage of Bargaining: يحاول الشخص أن يقيم نوعًا من التوافق والتسوية مع القدر.

4.     مرحلة الاكتئاب Stage of Depression: تحل مع ضعف الشخص ووهن طاقته حين يتطور المرض عنده، إذ يشعر بالخسارة الكبيرة المقبلة والنهاية المحتومة (اليأس).

5.     مرحلة التقبل Stage of Acceptance: يتقبل الشخص حالته ومصيره وتنتهي المقاومة[10].

ما المغزى من مثل هذه الدراسات؟

هناك اتجاه نحو الاهتمام المباشر بأفراد أُسَر المحتضرين، وذلك لمساعدتهم وتوجيههم إلى ما يجب عليهم القيام به لمساعدة المريض المحتضر. مثال على ذلك تلك الحركات الهامة الناشئة التي تُسمَّى "حركة وبرنامج النزلاء" Hospice Movement and Program والتي بدأت في إنكلترا في العام 1967، ثم انتشرت من بعدُ في أوروبا وأمريكا. إن مصطلح hospice استُعمِل في القرون الوسطى أساسًا لوصف أمكنة انتظار المسافرين؛ أما لاحقًا فإن مثل هذه الأمكنة أُنشئت من أجل الأطفال اليتامى والمرضى والمعمِّرين العجَّز في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث اهتمت الطائفة الكاثوليكية بهؤلاء الأفراد لتقديم المساعدة لهم.

لقد لاحظ كاليش (1985) أن "حركة النزلاء" الحديثة قد غيَّرت النظرة إلى الاحتضار من حالة "لا شيء يمكن فعله لمساعدة المحتضر" إلى حالة "أحرى بنا أن نفعل ما في وسعنا لتقديم أقصى درجات الرعاية والاهتمام له". وهذا يتضمن مقابلة المرضى وأُسَرهم وكل مَن له علاقة بهم، وذلك للاهتمام بالضغوط النفسية والاجتماعية التي يمر بها المحتضر. وقد حقق هذا البرنامج نتائج إيجابية في خفض حالات القلق anxiety والتوتر tension والكثير من الأعراض البدنية bodily symptoms التي كان يعانيها المريض أو المحتضر.

الحزن والأسى على الميت والانفصال وأشكال الافتقاد الأخرى

لقد بينت بعض الدراسات التجريبية والسريرية أن المراحل الخمس نفسها التي يمر بها المحتضر يمر بها كل إنسان حين يفتقد شيئًا ما أو يعاني الانفصال، كالطلاق مثلاً – هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، فإن هناك مراحل يمر بها المقربون من المحتضر ومن الشخص الذي يعاني الافتقاد والانفصال. فالحزن والتعزية والأسى تُعزى إلى كشف مشاعر الأسف والغضب والذنب لهذا الافتقاد ذي المغزى. وهذه الحالة ليست بسيطة في الواقع.

دَعْ نفسك تحزن وتأسى: هل عشت حالة افتقاد في سابق حياتك؟ وكيف تعاملت مع هذه الخبرة؟

من الأمور التي نفتقدها والتي تثير فينا مشاعر الحزن والأسى فقدان أحد أفراد الأسرة أو الأقارب أو أحد الأصدقاء أو الأشخاص المهمين في حياتنا، فقدان عمل ذي قيمة في نظرنا، الانفصال والطلاق، افتقاد أشياء مادية ذات قيمة خاصة في نظرنا، ترك مكان كنا نعيش فيه، فقدان الثقة في شخص ما والخيبة من إخلاصه. فهل هذه الحالات جميعًا متشابهة من حيث استجابتُنا لنوع الافتقاد ونمطه؟ وهل سلكتَ سلوكًا ناجحًا حين مرورك بمثل هذه الخبرات؟ هل أغلقتَ دونك باب الحزن ولم تعانِ الأسى أبدًا لأن موضوع الافتقاد كان مثيرًا للتوتر؟ أم عبَّرتَ عن مشاعرك حيال الشخص المهم في حياتك فقط؟ ثم هل مازلت تختبر هذه المشاعر كما كنت من قبل؟

إن العديد من الباحثين في المظاهر الپسيكولوجية للموت والافتقاد يوافقون على أن الأسى والحزن ضروريان. والأساس الذي تشترك فيه النظريات كلها حول الموضوع يشدد على السيرورة بعامة: المبادرة اللازمة للتحرك من مرحلة الاكتئاب إلى مرحلة التحسن والشفاء. ومع أن بعض الناس قد يتعاملون تعاملاً ناجحًا مع المشاعر المتعلقة بالافتقاد فإن خسارة بعضهم الآخر قد تكون دائمة ويعيشونها باستمرار. ففي حالة الأسى والحزن الناجحين، لا يتثبت بعض الناس على هذا الافتقاد ولا ينغلقون دون حالات الموت والافتقاد الأخرى. والشيء المهم الآخر في النظريات التي بحثت هذه الظاهرة هو أن جميع الناس يمرون بحالة الأسى والحزن بالدرجة نفسها، لكنهم لا يمرون جميعًا بالمراحل نفسها وعلى الترتيب نفسه.

حالتان:

أ. بعضهم ينكر الحزن والأسى: كيلي (19 سنة) طالبة جامعية مرت سابقًا بخبرة موت والدها؛ وقد كانت موضع دراسة پسيكولوجية حول ظاهرة الموت والحزن على المتوفى. لقد قالت إنه لدى وفاة والدها منذ خمس سنوات أنكرت الحدث ورفضتْه، معتقدةً أنه لم يمت أبدًا، بل مازال حيًّا، قانعةً نفسها بأنه مسافر في إجازة وسوف يعود. إن العديد من أشكال التفكك قد حدث في الأسرة، حتى إن اسم الأب بات من النادر ذكرُه ولم يعد أحد يزور قبره. كذلك الأمر مع صديقاتها اللائي لم تكن لتعترف لهن بأنه مات إطلاقًا؛ غير أن بعض الأصدقاء المقربين كان يعرف أنها يتيمة الأب.

كيلي تصف نفسها بأنها لم تمر بمشاعر حب أو حزن وبأنها تحسد الناس الذين يبدون عفويين ومبتهجين. وقد كتبت بعض القصائد لأستاذها، تعبِّر فيها عن مدى خسارتها وافتقادها لوالدها وعن رغبتها الشديدة في زيارة قبره التي يحول الخوفُ دونها. أما الآن، وبعد مرور خمس سنوات على وفاته، فقد بدأت بالتعبير عن مشاعر الحزن والأسى على موته، كما بدأت تسمح لنفسها بالشعور بالألم، وستكون لاحقًا قادرة على أن تعيش خبرة التمتع والابتهاج بحياتها على نحو مشابه أيضًا.

ب. تقبُّل الحزن والأسى: توني (17 سنة) خَبِرَ وفاة جدِّه البالغ من العمر 57 سنة بسبب نوبة قلبية. ولقد تحدث إلى الكثيرين عن جدِّه، عن أي نوع من الرجال كان، وقال إنه حزن كثيرًا على وفاته. إن المثير هو الإصغاء لوضعه إجمالاً ولردود أفعاله على مأتم جده وجنازته. ولأن جده كان شخصية مرموقة فإن حشودًا ضخمة حضرت الجنازة والكثير من الناس مازالوا يتحدثون عنها. لذلك بكى كثيرًا، وكان من الصعب عليه أن يعيش تلك الخبرة الانفعالية. وقد شدد جده قبل أن يموت على أنه لا يريد مأتمًا بعد الجنازة لأنه لا يريد للناس أن يعيشوا خبرة الحزن تلك. وعلى الرغم من الصعوبة التي يشعر بها توني حين يتألم أو يلاحظ ألم الآخرين فإن ذلك يمكِّنه من التعامل تعاملاً فعالاً مع موت جدِّه. صحيح أن ردَّ فعله كان سلبيًّا حيال الجنازة والمأتم، لكنه، على العكس من كيلي، لم يتنكر لمشاعر الحزن والأسى في نفسه.

للكثير من المجتمعات طقوس وشعائر rituals خاصة بالأسى والتعزية والمآتم والحِداد. فالممارسات الطقوسية الجنائزية في مجتمعات مثل المجتمعين الإيرلندي والروسي تعبِّر عن مشاعر الحزن وتُظهِرها صراحة. وتوجد لدى العديد من المجتمعات، كما في بلادنا، فترة حداد رسمي تدوم عادة سنة كاملة؛ ولدى بعضها الآخر طقوس لمساعدة الناس في انفعالاتهم التي تظهر في الذكرى السنوية للوفاة. ثمة في هذه الثقافات أو المجتمعات سمة واحدة تشترك فيه جميعًا هو الانخراط المباشر في خبرة الحداد والحزن والانشغال بهما. أما في المجتمعات الأمريكية، فيُمنع الأشخاصُ الذين مروا سابقًا بتلك الخبرة من أن يعيشوها أو يَخبَروها ثانية، حيث يُمنعون من الذهاب إلى المقبرة.

إن الاتجاه الحديث في البحوث الپسيكولوجية هو أن يَخبَر الأشخاص موت الأفراد المحببين إليهم فعليًّا بحيث يعبِّرون عن انفعالاتهم ومشاعر حزنهم، فيحضرون المآتم لما لها من آثار إيجابية أنجع بكثير من عملية قمعها repression.

الموت بالمعنى النفسي

عند الحديث عن الموت، وجد بعض العلماء (ومنهم ج. كوري) أن من الضروري توسيع مفهوم الموت، بحيث يشمل الموت بمعناه الپسيكولوجي والاجتماعي بطريقة ما. فلعل الشيء الميت أو الذي يموت فينا هو شيء نريد إعادة إحيائه أو بعثه من جديد، أو شيء ما لا بدَّ أن يموت من أجل القيام بإحياء وإنماء جديدين. هناك أشياء تنمو ونريد لها أن تتقدم في العمر، في حين أن ثمة أشياء أخرى نسرِّع في موتها قبل أوانه الفعلي. إنك تتخلى عادة عن خبرة أمان الحياة والطمأنينة في كنف والديك، مع بقائها حيةً فيك، بحيث تنمو، وذلك من أجل الإمساك بزمام مرحلة الانفصال القادمة والعيش المستقل. وربما فقدتَ شيئًا ما ذا قيمة لك، حتى وإنْ كان متناقضًا مع نموك أو تطورك اللاحق. سنتحدث الآن عن بعض الأشياء التي ندعها تموت فينا أحيانًا وتلك التي نود بعثَها حية من جديد.

هل يمكن لك أن تكون عفويًّا ومازحًا؟

هل الطفولة جزء من حياتك أم أنك دفنتها عميقًا في أغوار نفسك؟ هل يمكن لك أن تكون مرحًا وهزليًّا، ضحوكًا وعفويًّا؟ باعتبارنا "راشدين"، كثيرًا ما نكون جديين للغاية، فاقدين لقدرتنا على الضحك. إذا وجد الشخص نفسه واقعيًّا وموضوعيًّا في الاعتراف بذلك فإن من الصعب عليه أن يكون مرحًا ضحوكًا؛ وعليه أن يتساءل عن الرسائل الداخلية التي تمنعه من الانطلاق: هل يقمعها الفرد تجنبًا للأخطاء وخوفًا منها؟ هل يخشى أن تُطلَق عليه صفةُ "السذاجة" أو أن يقابله الآخرون بالاستهجان؟ إن في إمكان الشخص أن يتحدى هذه الرسائل الداخلية التي تقول: "لا تفعل"، "افعل"، أو "يحسن بك ألا تفعل"، فيجرب سلوكًا جديدًا يتحلى بصفات البساطة والمرح والعفوية؛ وفي إمكانه بعدئذٍ أن يحدد إنْ كان يرغب في السلوك الجديد الذي يشبه سلوك الأطفال في بعض الأوقات أو في أكثرها. ومهما يكن قرار الفرد فإن ذلك يتوقف عليه بالذات، ويجب أن يصدر عنه صدورًا أصيلاً بدلاً من أن يكون من بقايا الماضي.

هل تعيش مشاعرك وتحياها؟

في إمكاننا أن نكبت الكثير من المشاعر فينا ونُميتَها، سواء كانت مفرحة أو مؤلمة؛ إذ يمكن لنا أن نقرر أن تلك المشاعر تتضمن خطر مكابدة الألم وأن من الأفضل لنا أن نفكر في المضيِّ قُدُمًا في طريقنا في الحياة. وفي حال اختيارنا كظم مشاعر الاكتئاب والحزن، غالبًا ما نكبح قدرتنا على التمتع والابتهاج أيضًا. إن الانغلاق على بساطتنا وضعفنا يعني الانغلاق على قوَّتنا أيضًا. يمكن للفرد أن يقيِّم إحياءه لحالته الانفعالية ولمشاعره عن طريق الإجابة عن الأسئلة التالية:

1.     هل أدع نفسي أبكي إذا شعرت برغبة في البكاء؟

2.     هل مررتُ بحالة ابتهاج غامر ووَجْد؟

3.     هل أجيز لنفسي البقاء قريبًا جدًّا من شخص آخر، لصيقًا به؟

4.     هل هناك بعض المشاعر التي أكظمها وأكتمها؟

5.     هل أخفي مشاعر عدم الأمان والخوف والاتكال والغضب والملل؟

هل أنت حي في علاقاتك؟

إن لعلاقاتنا مع الناس المهمِّين في حياتنا طريقها الخاص إلى الضعف والانحلال أو الخمود. من السهل عليك أن تكوِّن علاقاتٍ مع غيرك تتخذ وجهةً روتينيةً واعتياديةً، بحيث تفقد كلَّ إحساس بالدهشة أو بالعفوية. هذا النوع من التمويت وفقدان الحيوية يشيع شيوعًا خاصًّا في بعض العلاقات الزوجية؛ لكن من شأنه أن يؤثر في علاقاتنا بعامة وأن يُضعِفها أيضًا. وعندما تنظر إلى العلاقات المهمة ذات المغزى في حياتك، عليك أن تفكر في كيفية إحيائها فيك وتفعيلها في الآخر. هل تعطي لكلِّ شخص مجالاً للنمو والتطور والارتقاء؟ وهل تستثير العلاقةُ طاقتَك وتحفز نشاطَك في الحياة؟ هل تعيش علاقة راسخة ومريحة؟ إذا شعرت أنك لم تحصل على ما تريد من علاقة مع أصدقاء أو من علاقة حميمة، لا مناص لك من أن تتساءل: ماذا في وسعي عملُه لإحيائها ودفعها دفعًا حيويًّا؟ إن مطالبة الشخص بهذا من الأفراد الذين يعقد معهم علاقات ذات مغزى قد يبعث فيهم أيضًا حياةً جديدة.

إلى أية درجة يعيش الشخص حياته؟

لقد بيَّنت البحوثُ الپسيكولوجية أن بعض الناس لم يقيِّموا تقييمًا واقعيًّا الدرجةَ أو الأوقاتِ التي يعيشون فيها حياتهم فعلاً. فتخيل أنك واحد من أولئك الناس الذين سيطر عليهم الروتين والملل يوميًّا ولم يقدِّروا نوعية حياتهم وطبيعتها حق قدرهما. هل قيل لك إنك في غالبية أوقاتك لا تعيش حياتك؟ إن الإنسان يبدأ بالنظر إلى ما فقده وإلى الأشياء التي يجب أن تكون على غير ما هي عليه الآن. فللنَّظر في الفرص المختلفة والنقاط الجوهرية ذات المغزى في الحياة أهمية كبرى في عملية التقييم هذه. فقد يشعر الشخص بأن عليه أن يكف عن كثير من الأشياء "العقيمة" في حياته قبل أن يتداركه الوقت.

إن واحدًا من الأمور التي ينبغي على الإنسان أن يفكر فيها جديًّا ويتخيلها هي قضيةُ موته، بما يشمله من جنازة ومأتم وتوقُّع لما سيقوله الناس بعد موته أيضًا. ويمكن للشخص أن يدوِّن ذلك كلَّه تدوينًا منهجيًّا على الورق، بما يتيح له أن يتطلع إلى حياته الحالية وإلى ما يرغب أن تكون عليه. من هنا نقول إن تقبُّل الموت يرتبط ارتباطًا وثيقًا باكتشاف معنى الحياة. فذلك يتيح لنا أن نتعلم كيف نعيش بحق. وهنا نتذكر قول بعضهم: "ليس المهم أن نعيش حياة طويلة، بل أن نعيش حياة عريضة."

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] باحث من سورية، دكتور في الصحة النفسية، مدرس في كلِّية الآداب بجامعة حلب، عضو الجمعية الأوروبية لعلم نفس الشخصية.

[2] Kavanaugh, Robert E., Facing Death, Penguin Books, Baltimore, 1972.

[3] Gordon, David C., Overcoming the Fear of Death, Penguin Books, Baltimore, 1972.

[4] Yalom, Irvin D., Existential Psychotherapy, Basic Books, New York, 1980.

[5] Koestenbaum, Peter, Is There an Answer to Death?, Spectrum Books, Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1976.

[6] Kalish, Richard A., Death, Grief, and Caring Relationships, 2nd Edition, Brooks/Cole Publishing, Monterey, CA, 1985.

[7] Corey, Gerald, Theory and Practice of Counseling Psychotherapy, Brooks/Cole Publishing, Monterey, CA, 1982.

[8] Kübler-Ross, Elisabeth, On Death and Dying: What the Dying Have to Teach Doctors, Nurses, Clergy and Their Own Families, Simon & Schuster/Touchstone, New York, 1969.

[9] Kübler-Ross, Elisabeth, Death: The Final Stage of Growth, Spectrum Books, Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1975.

[10] راجع: أحمد م. عبد الخالق، قلق الموت، سلسلة "عالم المعرفة" 111، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1987.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود