في حُرِّية الاعتقاد الدِّيني

 

عقيل يوسف عيدان[1]

 

تواجِهُنا، سواء كنا يهودًا أم مسيحيين أم مسلمين، أم كنا من المؤمنين في صورة عامة، بدرجات مختلفة وفي بيئات متباينة إلى حدٍّ ما، مشكلةٌ كبرى من مشكلات عصرنا الراهن، مشكلة هي بمثابة الركن من صرح حقوق الإنسان، وأعني بها مشكلة حرية الاعتقاد الديني.

فانطلاقًا من إيماني المسلم إيمانًا لا يقتصر على الانتماء إلى ثقافة معينة، بل إيمانُ التزام تامٍّ بالشهادتين وبإتمام الفرائض، سأتناول هذه المشكلة التي أضفى عليها ما كان في الربع الأخير من العام الفائت من قضية توماس ياديجاري (الذي كان يُعرَف سابقًا باسم حسين) الذي رفض العودة إلى بلاده إيران بعد أن قررت حكومةُ نيوزيلندا ترحيله بسبب مخاوفه من إعدامه من جراء تحوله من الإسلام إلى المسيحية؛ وقبلها قضية عبد الرحمن الأفغاني الذي كاد أن يُعدَم لـ"ارتداده" عن الإسلام.

مشكلة الحرية الدينية ليست، طبعًا، بالمشكلة الجديدة. إذ إن وراءها تاريخًا طويلاً، تاريخًا دمويًّا في الغالب الأعم. ومع الأسف، ومن زاوية لاهوتية، يمكن مشارفة المشكلة باعتبارها أقدم بكثير أيضًا. فهي ترتبط، على المستوى "الكياني"، بخلق الإنسان نفسه: ذلك أن نبي الله آدم المخلوق حرًّا قد اختار بملء إرادته أن يعصى ربه، والله قد احترم حريته هذه. فالحرية، في تجلِّياتها كافة، ومع كلِّ ما تعد به وما تستتبعه من مخاطر، تجد إذًا تأسيسها الأصلي الأول في الفعل الإلهي، السامي، الخلاق نفسه؛ والرهان على حرية الإنسان إنما هو، منذ البداية والمصدر، رهانُ الله تعالى.

وللنقاش الذي يعنينا سوابق في التاريخ. أما الصورة التي أمسى يُطرَح عبرها اليوم، مع مستلزماته المرتبطة بحقوق الإنسان في مجملها، فقد انطلقت أولى صياغاتها الحديثة في أوروبا ابتداءً من القرن التاسع عشر بتأثير من فلسفة التنوير les Lumières وجهود الموسوعيين les encyclopédistes الأوائل، من أمثال ديدرو ودالمبير.

وفي ردة فعل على "دكتاتورية" الأديان، كاد التركيز أن ينحصر يومذاك على الحق في الإلحاد، أي عدم الإيمان، وذلك لا في الدهاليز الخفية، بل جهارًا نهارًا وباعتزاز. فلم يعد الإلحاد داءً مشينًا يتستر المرءُ عليه ويحجبه؛ لا بل صُودر العقل لمصلحة الإلحاد وحده، حتى أضحى النعت بـ"العقلاني" rationnel لا يحمل حصرًا إلا على ذوي الأذهان المستنيرة التي اطَّرحت تخييلات الإيمان وأساطيره.

وهكذا غدت الحرية الدينية، من سبيل الخطأ، مرادفًا للإلحاد؛ وهو أمر لم يكن من شأنه توضيح النقاش والحث على الاعتدال. وقد بلغ من شدة الاختلاط في المعمعة أن توصَّل الناس إلى نسيان ما هو بديهي، ألا وهو أن الحرية الدينية هي أيضًا حرية الإيمان: الإيمان بما يرغب الإنسان أن يؤمن به، وبما هو مقتنع به، وأن لا وجود لإيمان حقيقي من دون حرية.

فقد امتزج تاريخ الحرية الدينية الحديث في أوروبا امتزاجًا حميمًا بتاريخ الانفكاك من المسيحية. وفُهِمَتِ العقلانية rationalisme، بما لها من مكانة كبيرة في عصر الأنوار، على أنها متنافية مع الوحي الذي لا حظَّ له في الازدهار إلا في فردوس الظلامية obscurantisme.

ومع التأخير عن أوروبا زهاء القرن، بدأت المشكلة تنطرح على الإسلام. وهنا أيضًا اتخذت، في جملة ما اتخذتْه من مظاهر، مظهر ردة الفعل على "دكتاتورية" الدين، وباتت من جراء ذلك ترتبط بتزايد الانفكاك من الإسلام، الذي يثير من الضجة أقل كثيرًا مما تثيره الصحوةُ الإسلامية، إلى حدِّ أنه قد يفوت كليًّا نظر المراقب غير المتمرِّس. غير أن هذا الانفكاك أو التفلت واقع ملموس، ولاسيما في الطبقات العليا – ماليًّا أو ثقافيًّا – من المجتمع، كما أشارت بعض الدراسات، وإن كان للشرائح الأقل حظوةً حظٌّ منه، وبخاصة في أوساط المدن.

لقد باتت مشكلة الحرية الدينية تنطرح اليوم علينا – نحن ورثة تراث نبي الله إبراهيم – بمصطلحات شديدة الشبه بتلك التي عرفتْها أوروبا، وإن لم تكن هي نفسها، وذلك في درجات من الحدة والأولويات الملحة وردود الفعل التي قد لا تكون مختلفة إلا اختلافًا مؤقتًا. الحرية الدينية، الحرية الحقيقية، تلك التي تترك فعلاً لكلِّ إنسان أن يقرر اختيار مصيره في حرية، تعنينا كلنا إذًا، من مؤمنين وملحدين، نحن الملتزمين التزامًا مخلصًا بالكرامة الإنسانية المرتبطة بحرية قرار كل إنسان. فالسلام يتوقف عليها، سواء على المستوى القومي أم الدولي.

فنحن نلاحظ على المستوى القومي، في الشرق كما في الغرب، في الهند، پاكستان، لبنان، إيرلندا، الفلپين وغيرهم ربما، أن دورة الحروب الدينية، أو بالأحرى الحروب المتذرعة بالدين، لم تُقفَل. وعلى المستوى الدولي، توشك التناقضات بين الإيديولوجيات المتمركزة حول تصورات متباينة للحرية أن تتسبَّب في كارثة على قدر من الضخامة يهدد بوضع حدٍّ نهائيٍّ للمغامرة البشرية. فقد قدَّرت بعض التقارير أن الطاقة التدميرية التي يمتلكها قادة هذا العالم تساوي أربعة أطنان من المتفجرات لكلِّ إنسان!

ولا يكفي لاستئصال الشر عدم الاعتقاد بوجوده، إما إفراطًا في الثقة في "توازن الخوف" – وهو توازن هش يُعاد النظر فيه باستمرار بفعل اختراعات مكلفة – وإما لواذًا بالتواكل – وهو موقف مريح ومشبوه، يفضي إلى استرخاء المؤمن أو يستدرجه إلى سُبُل مزيفة. وهو ينطوي، فضلاً عن ذلك، على مخاطر جعله غير مستحقٍّ لمعونة الله الذي حَبانا العقل وخلقنا أحرارًا لكي نبني صيرورتنا بالعدل وكدِّ اليمين.

*** *** ***


[1] باحث وكاتب كويتي، إيميله: ayemh@yahoo.com.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود