كـوكبنـا، ذواتنـا

 

ڤاليري هارمْس[*]

 

بتنا نعرف جيدًا كبيئيين أن تلوث الهواء والماء والتربة يشكِّل تهديدًا مباشرًا لسلامة كلٍّ من الناس والموائل الطبيعية. ومع ذلك، قلما نتوقف في قلب المعركة كي نتأمل في الضريبة العاطفية الهائلة التي تُرافِق التدهورَ البيئي؛ كما أننا لا نسأل ما الذي فيما صنعه الإنسانُ دَفَعَنا إلى إساءة التعامل مع الطبيعة بهذه القسوة.

علم النفس الإيكولوجي ميدان جديد صاعد يُكامِل ما بين علم النفس والمذهب البيئي، منكبًّا على دراسة الطرق التي تؤدي إلى أذية الأرض من جراء سلوك الناس وعلى كيفية معاناة الناس بدورهم من تدهور الأرض.

وضع ثيودور روزاك Theodore Rozak مصطلح «علم النفس الإيكولوجي» Eco-psychology في متناول الجمهور مع نشر كتابه صوت الأرض: اكتشاف علم النفس الإيكولوجي. يعمل روزاك أستاذًا للتاريخ في جامعة ولاية كاليفورنيا، هيوارد، كما أنه أحد مؤسِّسي «معهد علم النفس الإيكولوجي».

تراكمت لدى ممارسي علم النفس الإيكولوجي وثائق وفيرة حول الاعتلال النفسي الذي تتسبَّب فيه البيئةُ المتدهورة، حتى بات من المرجَّح استعمالُها في المحاكم كموجب للتعويض و/أو الإنذار القضائي. يقول روزاك:

«السلامة» مصطلح قانوني عويص. ينبغي على علماء النفس الإيكولوجي أن يتمكَّنوا من المحاجَجة المقنعة بأن أية منشَأة أو مهنة أو سياسة تنتقص من التنوع الحيوي biodiversity هي بمثابة اعتداء مباشر على السلامة الروحية للجوار أو الجماعة أو الإقليم الحيوي أو النوع البشري ككل وبأنه ينبغي إيقافها.

بذا يمكن للناشطين أن يكتشفوا في دراسات علم النفس الإيكولوجي أداةً هامةً في حملاتهم القانونية والسياسية والتربوية.

يتقصَّى أحد جوانب علم النفس الإيكولوجي الأسباب البشرية الكامنة وراء مشكلاتنا البيئية. فعلى سبيل المثال، ينشأ الكثير من الطلب على استخراج مواردنا الطبيعية واستعمالها عن نماذج الاستهلاك لدى الناس. لكن الإغراق في شراء أشياء جديدة، حتى دون وجود حاجة إليها، هو إدمان يتضاعف أثرُه مع النمو السكاني ويرهق البيئة. والأعمال التي تخطِّط عمدًا لدورات رأس المال السريعة والبضائع السريعة الاهتلاك تمتثل للاستهلاك هي الأخرى.

إن خوف الإنسان من الطبيعة وما ينجم عنه من رغبة في السيطرة عليها يحرِّضانه على استغلال موارد كوكب الأرض. وقد أمست عادةُ النظر إلى الطبيعة من منظار اقتصادي بحت أمرًا واضحًا منذ تدجين الحيوان وظهور التصنيع. والآن، مع تشظِّي الطبيعة وخسران التنوع الحيوي، مافتئ البشرُ محرومين من الطبيعة حرمانًا أكبر: لسنا محرومين من جمال الطبيعة ومن قيمتها الاستجمامية وحسب، بل ومن الموارد التي نحتاج إليها للبقاء أيضًا. يشعر الكثيرون منَّا بالذنب تجاه حال العالم، وبالقلق من عدم معرفتنا إن كانت صحتنا مهددة أم لا، وباليأس من احتمالات نجاح أجيالنا القادمة.

اكتسب علم النفس الإيكولوجي زخمًا لأن كثيرين من المرضى يذكرون لأطبائهم النفسيين الحزن العميق لديهم الناجم عن افتقاد الحياة البرية وعن تدهور الكوكب. وقد أصبح بعض الأطباء النفسيين، مثل سارة كون، يعتقدون أن روابط الناس العاطفية بكوكب الأرض تعادل علاقاتهم الشخصية من حيث الأهمية. وتعتقد كون أن ولاء الناس وتضامنهم مع الطبيعة يمكن له أن يساعدهم في معالجة المشكلات البيئية وأنهم، بعملهم هذا، قد يُبرِئون الطبيعة وأنفسهم أيضًا.

على سبيل المثال، تعتني إحدى العاملات في الخدمة الاجتماعية بولاية فلوريدا بالأولاد اليتامى اليافعين، وقد اصطحبتْ مجموعةً من الشباب الساخطين المنعزلين والمشوَّشي الذهن في رحلة أسبوعية إلى ممرات منطقة Appalachian الوعرة. وعن خبرتها قالت:

كنت مقتنعةً بأن هؤلاء الأولاد لن يتحرَّروا من ماضيهم حتى يتركوا المدينة ويكتشفوا روابطهم الخاصة مع الأرض. [...] أعتقد أن الكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية في مناطقنا المدينية تنجم عن انفصالنا عن الأرض. ومن اللافت للنظر أنه ما من أحد منهم مَرِض، كما أنهم لم يناقشوا حياتهم السابقة في المنزل أو يقلقوا منها أو يفسِّروها. كنت أرى كلَّ يوم علامات الارتياح تتبدى في خطواتهم ووجوههم، وراقبت المصاعب وهي تتبدَّد.

من الأهداف الرئيسية لعلم النفس الإيكولوجي أن يغيِّر الطريقة التي يحاول البيئيون بها تغيير الجمهور. فعلى سبيل المثال، ليس من المجدي معاملة الناس كما لو أنهم أشخاص متوحشون شرهون لأن هذا الأمر يعزِّز اللامبالاة والنفور. وقد لحظ يان بيييا Jan Beyea، الرئيس السابق لـ«الجمعيات الوطنية للعلماء»، أن

[...] البيئيين يحتاجون إلى مراقبة حالتهم النفسية في حذر شديد. يحس الكثير من أصدقائي بمثل هذا الاندفاع العاطفي، إذ يتصورون أنفسهم يخوضون في غمار معركة بين الأخيار والأشرار، ممَّا يُفقِدُهم رؤية ما يسعون لأجله.

يعلِّم علم النفس الإيكولوجي أنه من الأجدى التركيز على حاجتنا المشتركة إلى المنظومات الداعمة للحياة التي تقدِّمها الأرضُ لنا وللأنواع الحية الأخرى غيرنا. ويمكن لنا رصد مثل هذا المفهوم عند إ.و. ولسون E.O. Wilson، عالم البيولوجيا الشهير في ميدان الحفاظ على البيئة، الذي يعتقد بأن لدى البشر حاجةً فطريةً للانضمام إلى أشكال الحياة الأخرى على الكوكب، نوعًا من الغريزة يدعوها بـ«الولع الحيوي» biophilia.

فبدلاً من إلقاء اللوم، الذي لا ينجم عنه غير تفاقُم الشعور بالذنب واليأس والرفض، يعلِّم علم النفس الإيكولوجي أن ما هو أكثر فعالية يتمثل في التركيز على حاجتنا المشتركة إلى الحفاظ على المنظومات الداعمة للحياة التي يزوِّدنا بها كوكب الأرض، وكذلك إلى الاهتمام بالأنواع الحية الأخرى الموجودة معنا.

ثمة حاجة متبادلة بين الإيكولوجيين وبين علماء النفس إلى تحديد المسؤوليات الدقيقة عن السلوك المتَّسم باختلال وظيفي الذي يقود إلى مشكلات بيئية، كما وإلى تشخيص آثار التدمير وخسران الحياة البرية والموائل الطبيعة. وقد بدأ هذا الحقل الدينامي، بعد أن وطَّد جذوره، يتفرع إلى اتجاهات كثيرة، وبدأت البحوث تدخل إلى ميادين من قبيل: علم نفس الطفل ذي التوجه الإيكولوجي، دمج تقنيات السلامة في الثقافات النقلية مع نظريات العلاج النفسي الغربية، توصيات علم النفس الإيكولوجي لمشروعات الأعمال، ووصل حتى إلى ميدان الأحلام واللاوعي الإيكولوجي.

*** *** ***

ترجمة: معين رومية


 

horizontal rule

[*] ڤاليري هارمس Valerie Harms: باحثة إيكولوجية تمزج في أعمالها بين المذهب البيئي وعلم نفس الأعماق. وضعت ثمانية مؤلَّفات، من أشهرها:

-          Sanctuary: Nature Meditations, Random House, 1997.

-          The Inner Lover: Using Passion as a Way to Self-empowerment, Shambhala Publications, 1992.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود