هدى النعماني في نقطة على الهاء... وعي العالم والقصيدة

 

عهد فاضل

 

منذ فترة طويلة لم تعهد الكتابة الشعرية ذلك النوع من الأدب المسمى بـالصوفي، أو ذلك الأدب الذي تسيطر عليه الرؤى الماورائية الرمزية، مع أن بعض التجارب مازالت تعبر عن حساسيتها في مناخ من قوة الرمز الصوفي كتجربة الشاعر المصري أحمد الشهاوي. ويعود تقلص المساحة التي ينتشر فيها الأدب الرمزي الصوفي إلى مجمل التغيرات الجوهرية التي وسمت أدب السبعينات وما بعده، من انتقال همَّش الشفوي ومَرْكَزَ الذاتي، وكذلك من مجمل الاستبدالات التي انحرفت بالجماعي إلى الفردي، ومن الغيري إلى الأنوي، ومن الشمولي البلاغي إلى التجاربي حيث تعود اللغة إلى المكان الذي تكون فيه أكثر من ناقل أو أداة وتصبح جزءًا من عملية الشعر نفسها.

تجسدت بعض الاعتراضات الموجهة إلى الشعر الرمزي الصوفي في أنه، في كثير من الأحيان، لا يعكس التجربة الذاتية بقدر ما ينقل المفاهيم أو التصورات، كأن يعلو المفكر فيه المنقول على العياني التجريبي، لتتحول اللحظة الشعرية معه إلى عملية استعادة ذهنية اعتقادية تقوم على اليقين العقلي ونفي الانخطاف المميز للحظة الشعرية. وعلى خلاف ما كان يمهر به بعض المتصوفة من دمج الاعتقاد باللحظة، أو الذهني بالعابر، كتجربة الحلاج وابن الفارض اللذين كانا يعبِّران عما يمكن تسميته بـ"اليقين المتحرك" في نتاجهما الشعري وحياتهما إلى درجة أنهما كانا يكتبان الشعر في نومهما!، أي أن التجربة بالنسبة إليهما هي نشاط داخلي عالٍ يلغي المسافة بين العقلي واللاشعوري. عند هذه النقطة كانت الرمزية الصوفية على اتصال مع الشعر على خلفية الالتقاء باللحظة، هذا من دون الإشارة إلى الالتقاء التقني المتمثل بالعالم الشعري وأدواته.

وما تغير في تنظيرات أدبية معينة، تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي، أن الرمزية الصوفية تجسدت مقولات يمكن تداولها كأوليات متفق عليها رسخت مبدأ البديهي العقلي على التجاربي، فوقعت القراءة على كثير من رمزية صوفية من دون حمولة شعرية واضحة، ما أدى إلى زوال أثرها السريع لغياب نقاط الالتقاء مع "الشعرية" في أكثر معانيها اتفاقًا بين النقاد أو القراء. وتحولت الرمزية الصوفية إلى ما يشبه "الالتزام" في مرجعيات السبعينات. وأتت النتيجة شبه الكاملة بزوال الأثرين سريعًا: الالتزام والرمزية الصوفية. هذا لم يعن أن الرمزية الصوفية توقفت عند حد التعطيل (كما يسمى في أدبيات الصوفية!) بل استمرت تجريبًا كسواها من آداب، ومن أشكال هذا الاستمرار ما نجده في كتاب الشاعرة هدى النعماني نقطة على الهاء، الصادر لدى دار هدى النعماني (بيروت، 2004).

يتركز المحور الجوهري في كتاب النعماني على الغائب بصفته مخاطبًا يتكون من أصلين: إمكان الوجود وإمكان الغياب. وفي الصفتين هاتين يبرز المنادى برزخًا يجمع في ذاته صفات المنادي نفسه. وهي من أوليات الوعي الصوفي المرتكز إلى عدم القطع المطلق بين العاشق والمعشوق، الغائب (المنادى) والحاضر (المنادي)، ليكون فعل الحب حركة مشتركة بين الطرفين سعيًا وراء تغييب الحد الفاصل. في الصوفية التي تعودنا عليها في التراث العربي كان فعل القرب والبعد يتخذ شكلاً تصعيديًا شعوريًا (حسبت أنك إني)، أو كما يُقْسم ابن الفارض شعريًا للتعبير عن شدة الوجد وصدقه: "ما استحسنت عيني سواك ولا صبوت إلى خليل". في تجربة النعماني تنهض اللغة لتحل محل "الوجد" أو التصريح:

مديةٌ مذهلة مديتكَ إن التعود فيك
رادعٌ مد الموت وجلله حاضٌ سمة الإذكاء والفوح
لو بات صوتك حبلاً طويلاً يجني الثمار
حرمة أسلاف وأنساب وأصلاب
فتنة كهنة وأحبار ونساك
عطف صيرورة وقبالة وقرابين
لك القبلة المحيية؟ قدر محتم أنت
بدء درب ولانهاية درب.

هنا نجد الفارق بين الإحساس الصوفي والوعي الصوفي. فبينما يكون الأول تحويلاً لموضوعه رؤيةً في حال من الانخطاف واللاتمايز، يكون الثاني تعريفًا عقليًا للحال وقبضًا مفهوميًا عليه، أي كالفارق بين الحلاج وابن عربي أو بين ابن الفارض وعبد الغني النابلسي! فنجد التعابير عقلية المنشأ كالصيرورة، والتعابير المرتبطة بالحال أو بالشعور كالفتنة والقبلة. على أن محاولة الشاعرة النعماني تظهر في دمج المستويين، العقلي واللاشعوري، في لحظة واحدة.

في البدء يبارك النقد محاولة كهذه، فهي على الأقل تتضمن شيئًا من القسمة بالتساوي، أو نوعًا من "الهدنة" النقدية تخفف التناقض بين الشعوري والعقلي. وهذا يقبل، مبدئيًا، في حال نجاح التساوي واستمراره. أما في حال الانجراف إلى مفعول الرمزية الصوفية، فإن شيئًا كبيرًا من الرفض والتشكك سيتولد ويعيد الخلاف إلى أولياته: بين المفكر فيه المعرَّف، واللاشعوري العابر كما سنقرأ في المقطع الآتي والذي عنونته الشاعرة باسم يحيل، بقوة، إلى أدبيات الصوفية: للخاصة الخاصة، إذ تقول فيه:

ألفٌ تقفز من الشفة إلى الشفة
لا تترك جرحًا،

وفي مقطع يليه:

تنزل السين والشين حلبة الرقص تسكران معًا،

أو في مقطع تتركز فيه جرعة الرمزية إلى الحد الأقصى.

تجد القراءة في هذا التوتير العالي للغة بعضًا من أساس الخلاف بين الوعي الصوفي والإحساس به، إذ تراه يتحول طقسًا لغويًا صرفًا على خلفية من طواسينية معينة لا تتفق، كثيرًا أو قليلاً، مع التدفق اللاشعوري الواسم للحظة الشعرية. أي أن انحيازًا كهذا، للرمزي وحده، بل المغرق في رمزيته، سيوسع شقة الخلاف التي تحدثنا عنها آنفًا. تستخدم الشاعرة النعماني أكثر من طريقة لردم الهوة بين مستويي المعرفة المتجسدين بالعقلي واللاشعوري، فإضافة إلى الدمج تستخدم الثنائية الأسطورية أو غير الأسطورية في المخاطبات وبما يذكر بكثير من حواريات درجت من القديم إلى الحديث:

قيل لها تنبهي أيتها النائمة إلى نومك
وتيقظي أيتها القائمة إلى قيامك
من مشارق ومغارب الكون سينبلج الفجر على صدرك
لن تنامي أبدًا
فلم تنم أبدًا.

وهنا حيث التذكير الواضح:

قيل لها تغاوي في أثوابك
وتوهجي في قلائدك
فقد آثرتُ فيك الأناة والبهجة
وجئت أنتظرك على كل فج
فأسلمت طواعية إلى عصارة قلبه
وأحاطت خزامى قلبها بدفء العناق.

يلاحظ مثلاً، في مقطع كهذا، كيف يقوم فعل الحب بدور تقني فاعل، إذ يردم الهوة بين العقلي واللاشعوري، هذا إضافة إلى قوة الاستعادة المتمثلة بالحوار حيث يصبح الحدث مزيجًا من الاسترجاع والانخطاف في حال واحدة، وهي قيمة صعبة التحقق كل حين.

الشكل العام الذي بدت فيه قصائد النعماني – وهي الشاعرة التي نشرت ما يزيد عن عشرة كتب بدءًا من العام 1970، وتكتب باللغتين الإنكليزية والفرنسية إضافة إلى العربية – هو في هذا التقصد الواضح للاختزال والتكثيف في آلية من التقطيع المانع للتنامي كي يتسنى لها التقريب ما استطاعت بين الرمزية الصوفية، كوعي وحال، والكتابة الشعرية، كنظام تعبيري، فيأتي كسر التنامي لديها على خلفية الانحياز للمقطع (الحال!) أو الإشراق لتعزز تجربتها في هذا الانسجام بين وعي العالم ووعي القصيدة.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود