لـلإيـجـار

ميسون أسدي

 

فجأة، أصبح لدينا في العمارة شقة للإيجار، كل الشقق يسكنها مالكوها واثنتين مع إيجار طويل الأمد...

حدث ذلك بعد وفاة العجوز اليهودية "أم تسفيكا" التي تسكن في الدور الثاني وانتقال ملكية شقتها إلى ابنها "تسفيكا"، وهو الشقيق المدلل والأصغر لثلاث أخوات، كلهن متزوجات ووضعهن المادي جيد، وأوصى الوالد قبل وفاته بأن تكون الشقة من نصيب تسفيكا.

قرر تسفيكا أن يستثمر الشقة، فقام بترميمها وتوضيبها على أحسن وجه، وأعلنها للإيجار، وهو يعرف مسبقًا أنه لن يألو جهدًا في تأجيرها. بعد الإعلان، انهالت عليه الاتصالات، فهمدت حركته واحتار فيما يختار. انتقى أربعة طلاب عرب يدرسون في الجامعة، وأخذ من كل طالب مائة وخمسين دولار، وحصل على 600 دولار، في الوقت الذي كان يأمل بالحصول على أربعمائة دولار فقط. ومنذ ذلك الحين قرر أن لا يؤجرها سوى للأكاديميين.

توجد في حيفا جامعة ومعهد العلوم التطبيقية، التخنيون، والعديد من المعاهد العليا الأخرى. وتمتاز جامعة حيفا والتخنيون بكثرة الطلاب العرب دون الجامعات في البلاد، نتيجة موقعها الجغرافي في شمال البلاد، حيث التواجد العربي الكبير، إضافة إلى العرب الموجودين في حيفا، وعددهم غير قليل.

كان "تسفيكا" يلتقي بالطلاب الأربعة، أو بمندوب عنهم، مرتين فقط: عند استئجارهم الشقة وعند مغادرتهم. وكان بين الحين والآخر يتم استدعاؤه لتصليح عطب أو خلل في الشقة ومحتوياتها الأساسية، وغالبًا لم يكن يحضر بنفسه، بل يرسل أحد التقنين من طرفه ليقوم بالمهمة. ونادرًا ما كان يأتي إلى الشقة أو الالتقاء بالمستأجرين، حتى أنه كاد ينسى وجه المستأجر بعد مغادرته ولا يعرفه إذا التقى به مرة أخرى.

قبل سنة ونيف، وتحديدًا في شهر أيلول، اتصلت به فتاة عربية وأعلمته بأنها تريد استئجار الشقة مع زميلاتها، فعيَّن موعدًا للقائها في الشقة كما كان يفعل دائمًا مع بقية المستأجرين.

حضرت "أريج" وبصحبتها زميلتها "سماهر" إلى الشقة في الموعد المحدد، وكان تسفيكا ينتظرها وهو على أهبة الاستعداد بعد أن أوكل إلى عامل النظافة تنظيف وترتيب الشقة من مخلفات المستأجرين السابقين. أوراقه جاهزة ويحفظ جيدًا الإسطوانة التي يكررها دائمًا كالديك المنفوش وبلهجة يشيع فيها الاقتضاب: "الشقة مؤلفة من ثلاثة غرف وصالون ومطبخ، تطل من الجهة الغربية على سفح جبل الكرمل وقبة البهائيين وحدائقهم المعلقة، وتطل من الجهة الشمالية على البحر، الرجاء المحافظة عليها وإعادتها كما كانت".

دخلت أريج وسماهر، ونظرتا إلى الشقة يمنة ويسرة، وقالت أريج: أنا أريج وهذه زميلتي سماهر. وتولت إجراء الحديث معه. تكلم تسفيكا بشكل آلي ومداهن، ولم يعر انتباهًا كبيرًا للمستأجرة الجديدة. إنها مجرد زبون آخر. وخلال ذلك، لاحظ بأن الفتاة الأخرى تحدق به بصورة ملفتة للنظر، فحانت منه التفاتة نحوها، وعندما التقت عيناهما وأمعن النظر، توقف عن الحديث لحظة ثم استمر في الشرح لأريج وعيناه مسمرتان على سماهر. وعندما كانت تطرح عليه بعض الأسئلة كان يجيبها وهو ينظر إلى سماهر. لم يدرك ما الذي جذبه إليها، ولماذا تنظر إليه بالمثل.

ولأول مرة، همَّ تسفيكا بالخروج من الشقة ناسيًا أن يأخذ توقيع المستأجرة الجديدة على الاتفاقية، فقامت أريج بتنبيهه إلى ذلك. عاد ووقع كما يلزم بعد أن تعتعته البحلقة بعيون سماهر. وأثناء قيادته للسيارة لم تغب سماهر عن باله، فتساءل: ماذا جرى لي مع هذه الفتاة؟ وما الذي شدني إليها، أأنا معجب بها؟ هل هي معجبة بي؟! أنا متزوج وهي ليست آية في الجمال. لا، لا. إنه ليس إعجابًا، وليس حبًا من النظرة الأولى، كما يقولون، إنه شيء آخر، لكن ما هو يا ترى؟!!

حاول تسفيكا أن يفكر بأشياء أخرى ليطرد صورة سماهر من مخيلته، لكن عبثًا. كانت الصورة تقفز أمامه بعد برهة قصيرة. فكر بها طوال الليل وهو مستلق بجانب زوجته التي يحبها بشدة. وفي الصباح وقف ليحلق ذقنه فتراءت له سماهر في المرآة.

إنغمس تسفيكا في ورشته الكبيرة مع مشاكل الزبائن ونسي سماهر. عند الظهيرة رن هاتفه المحمول وإذا بصوت أريج على الجانب الآخر، تسأله إن كان باستطاعتها أن تتسلم الشقة مع زميلاتها اليوم. فأجابها بكل سرور: وسآتي لأسلمك إياها بنفسي بعد الظهر.

قال ذلك، رغم أنه سلمها المفتاح عند توقيع الاتفاقية، وكان بإمكانها الدخول إلى الشقة بدون أن يأتي بنفسه، ويكفي تصريح منه، كما جرت العادة. لكنه كان يأمل برؤية سماهر، وهذا ما حصل بالفعل.

فتح لهن الشقة عند الساعة الخامسة عصرًا، وجلب معه عدة نسخ للمفتاح وقام بتوزيعها على الفتيات الأربعة، وقال بلياقة واحتشام: احتفالاً بهذه المناسبة سوف أعد لكن فنجان قهوة بيدي. فقالت أريج: لا، أنا سأجهز القهوة. ثم قام بمساعدة الفتيات على نقل أغراضهن من السيارة إلى الدور الثالث، وكان هذا كرمًا مبالغًا من طرفه. عندما استقرت الفتيات، جلس معهن لاحتساء القهوة وتبادل الحديث. سأل أريج: هل أنتن من قرية واحدة؟ وكان يحاول إزاحة نظره عن سماهر، التي فعلت العكس، وحدقت به طويلاً. عندها وجه سؤاله مباشرة إليها: من أين أنت؟ فقالت: أنا من قرية المزرعة المحاذية لمدينة عكا، وأعرف حيفا جيدًا فقد كنت أرافق أبي مرارًا إلى عمله هنا في ورشة الخواجا "زغدون".

عندما سمع تسفيكا اسم زغدون، ارتعش واحمرت وجنتاه من التوتر فسألها: أي ورشة وأي زغدون؟!

فأجابته سماهر: ورشة تصليح بناشر السيارات التي تقع في حيفا في المدينة التحتى.

نظر تسفيكا إليها مدققًا وقال: هل تقصدين زغدون "ابو تسفيكا" كما يسميه العرب؟!

- أجل...

فقال لها ودقات قلبه تتسارع: وهل تعرفين من يملك هذه الورشة اليوم؟

- لا، ولكني سمعت أنه بعد وفاة زغدون ورثها ابنه ولا أعرف ماذا فعل بها...

ضحك تسفيكا قائلاً: يا للمصادفة. أنا تسفيكا وما زلت أدير نفس الورشة ولكني لم أرك في حياتي، رغم أني أعرف والدك حسن المعرفة، أأنت ابنة رشيد الحاج؟

تفاجأت سماهر بنفس قدر المفاجأة التي حصلت لتسفيكا وسؤال واحد راودهما: كيف أنهما لم يعرفا بعض ولم يلتقيا أبدًا من قبل، وبينهما تلك النظرات والجذب المتبادلة؟

قال تسفيكا: تشبهين والدك...

فردت عليه بمسحة تهكم: وأنت تشبه والدك أيضًا.

قبل أن ينتهي اللقاء، صرح تسفيكا، وبشكل مفاجئ، أنه سوف يخفض الأجرة إلى مئة دولار لكل فتاة إكرامًا لسماهر. كان يقول ذلك وهو يفكر كيف سيخفي الأمر عن زوجته. وخرج الجميع من اللقاء سعداء.

في اليوم التالي اتصل تسفيكا بالشقة وطلب سماهر، وسألها إن كانت بحاجة إلى أي شيء. شكرته وقامت بدعوته إلى العشاء، فقال إنه هو الذي سيدعوها احتفاءً بقدومها إلى حيفا.

جلس تسفيكا وسماهر في مقهى، ليس بعيدًا عن الشقة، وهذه المرة كان الحديث أكثر جرأة ومباشرة، وقالت سماهر: كيف لم نلتق من قبل ووقع بيننا هذا الانجذاب الفوري؟

- نويت أن أسالك بالمثل؟ الحقيقة لم أعرف سر هذا الانجذاب، صحيح أن العلاقة بيني وبين والدك كانت مميزة، فكلما ذهبت إلى ورشة أبي كان يأخذني والدك لشراء بعض الحلوى والألعاب باستمرار، كان أبي يسر لذلك... هل تصدقين أنني لا أعرف إذا كان لوالدك أولاد أم بنات. لم أسأله عن ذلك أبدًا. كنت أعرف لمجرد أنني سأصل إلى الورشة أتوجه مباشرة إلى والدك، فيتلقاني بالأحضان.

- وأبي أيضًا لم يحدثني عنك، رغم أننا نعرف جيدًا أن الخواجا زغدون له ولد اسمه تسفيكا وثلاث أخوات... أمر غريب فعلاً!

- اشترى لي والدك الهدايا المتنوعة، حقيبة مدرسية جديدة عند افتتاح السنة الدراسية، وزارني عدة مرات في المدرسة. كان ينتظرني عند المدخل وهو يحمل لي الهدايا الثمينة. وكلما كان والدي يرفض لي طلبًا كنت أقول له مهددًا بأنني سأتوجه إلى العم رشيد ليلبي طلبي. وهذا ما كان يحصل. حتى أمي كانت تشكو لوالدك حياتها الصعبة مع أبي، الذي يقضي ساعاته الطويلة في المشغل ويبخل عليها بالمصروف. فأمي كانت مبذرة في نظر والدي، الذي كان يفقد صوابه عندما تطلب منه مصروف البيت، ويجن جنونه حين يرى أنها فتحت كيسين من السكر في آن واحد، أو ألقت ببعض بقايا الطعام في النفايات. لم يكونا على وفاق طوال حياتهما...

سكتا برهة عن الكلام، وجال تسفيكا بنظره في جوانب المقهى الشرقي المتواجدين فيه في شارع بن غوريون في حيفا. قال وكأنه اكتشف ضالته: اسمعي يا سماهر، أذكر وأنا ابن سبع سنين أن أبي سافر إلى البرازيل لمدة شهر كامل ليشتري أجهزة للمشغل ويرسلها إلى عمي ديفيد الذي تولى إدارة المشغل في غياب والدي، وقد أوكل إلى والدك تولي شؤون البيت واحتياجاتنا.

تنهد تسفيكا وواصل حديثه: لا أدري يا سماهر لماذا كان أبي يثق بوالدك ثقة عمياء، رغم أن العلاقة بين اليهود والعرب، كما تعرفين، ليست بأفضل حال...

- صحيح، الفلسطيني في هذه البلاد مُتهم حتى تثبت براءته من قبل الدولة وأغلبية مواطنيها، حتى أن رجال الشرطة يعتدون عليك في الشوارع لمجرد أنك تبدو عربيًا...

- للأسف، في الشارع اليهودي يقولون إن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة... وأنا أقول إن اليهود لا يعرفون إلا لغة القوة.

- دعنا نطلب العشاء...

- أطلبي أنت، لك ولي...

- هل تحب الفتوشية؟

- وما هذه؟

- إنها رز وقطع من لحم الدجاج مع بصل أخضر، ويأتي إلى جانبها صحن لبن (زبادة)...

- يبدو أنها لذيذة... واطلبي أيضًا سلطة خضار عربية...

- سأطلب صحن فتوش لي ولك...

- وما هذا أيضًا؟!

- إنه سلطة عربية مع قطع صغيرة من الخبز المحمص... صنف طعام اخترعه الفقراء ويضم العديد من بقايا الخضراوات والخبز... لكنه يقدم اليوم في المطاعم الفاخرة.

حضرت النادلة العربية وطلبت منها سماهر كل ما قالت بالإضافة إلى إبريق من عصير الليمون مع النعناع. وعندما برحت النادلة، سألت سماهر تسفيكا: كيف توفي والدك؟ فمنذ أن توفي والدي لم نعد نسمع عنكم شيئًا.

تأوه تسفيكا بحسرة وقال: توفي والدي بالسكتة القلبية بعد أن عانى كثيرًا من قلبه. وقد حدث الأمر فجأة. عاد مرة من عند الطبيب وهو مكتئب جدًا، وعندما سألناه لم يجب. وقد سألت الطبيب بنفسي لكنه طمأنني، وقد شعرت بأن أبي والطبيب يخفيان أمرًا ما... منذ تلك الزيارة للطبيب تغيرت معاملة أبي لأمي، وأصبح قليل الكلام، وينظر إلى أمي نظرات مريبة. وأخذ يعاني من مرض في قلبه إلى أن توفي أثناء شجار تافه حصل بينه وبين أمي. هل تصدقين بأنه أوصاني، وهو على فراش الموت، بأن أزور والدك المريض. لكنني لم أفعل.

- كم يؤسف أن أسمع ذلك، فهذه هي مفارقة حياتنا، لقاءات وفراق. من المهد إلى اللحد.

أحضرت النادلة كل ما طلباه. وفجأة، سألها تسفيكا باللغة العبرية: هل مسموح التدخين هنا؟

فقالت النادلة: بإمكانك أن تتكلم بالعربية...

فأجابها تسفيكا: لا أعرف العربية للأسف...

فنظرت النادلة إليه مستغربة وسألته: ألستما شقيقان؟!

فقال لها وهو يبتسم: لا.

وابتسمت سماهر أيضًا وقالت بالعربية: لا، نحن لسنا شقيقين، بل مجرد صديقين.

قالت النادلة: أنتما متشابهان إلى حد كبير. ذات العيون وذات الشفاه ونفس الشعر. يخلق الله من الشبه أربعين!!!

حيفا

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود