الرابح هو الببغاء

 

يارا خالد البرازي

 

كانت الأيام تمضي ببطء، دون أيَّة أحداث ملفتة، في مدينة صغيرة جدًا، فاترة جدًا، جميلة جدًا، تقع على شاطئ صخري عال أمام بحر سوريا العظيم.

ورغم اتساع البحر اللامحدود، والفضاء المفتوح على كل الممكنات كل مساء، إلا أني لاحظت، في سن مبكرة، كم هي خالية مدينتي من أي شيء.

لا شيء يحدث، وإذا حدث وحدث شيء... يبقى خالدًا أبديًا لا يُنسى. يولد في كل لحظة من جديد، وكأنه يتناسخ عبر الأفواه والأفكار. يتقمص كل يوم شخصية راويه ويتحول مع السنين إلى هوية ما، يحصرونك ضمنها، وتصبح أنت الإنسان، كائنًا محدودًا، أسيرًا لحدث ما أو غلطة ما اقترفتها قبل أن تفتح عينيك.

قررت أن أتركها منذ ذاك الزمان، بعد أن تركتني أتساءل. وتابعت محاولاتي إلى أن نجحت وانطلقت في رحلة نسيان كما يقول ماركيز.

ومؤخرًا فقط، قرأت لأدونيس جملة يقول فيها إن العالم العربي يبدو له كبلدة أو قرية صغيرة تعيش بعيدًا عن الحياة الواقعية، تحيا خارج التاريخ. ولذا فهي لا تؤثر ولا تشكل فرقًا.

والحقيقة أني توقفت طويلاً مقارِنةً تشبيهه للعالم العربي بتلك القرية المتأخرة، بمدينتي الصغيرة وكيف هربت منها.

وأسأل اليوم: كيف يفر الإنسان من قريتنا هذه، وطننا العربي هذا، تخلفنا هذا، وحلمنا الجماعي المكسور هذا؟

كيف ننطلق في اتجاه العالم المتحضر–الحياة الحيَّة ونحن مشبعين بفراغنا الرهيب. فحين هربت أنا من مدينتي كنت أحمل مكنونات نادرة أستعملها كل يوم لأحيا دون أن أذوب كالملح في طوفان البشر المتهادي دون دليل في مدينة كبيرة مثل دمشق. فماذا يستعمل الإنسان العربي عندما يهجر وطنه ويغادر غربًا؟

فهو لا يستطيع أن يعاصر المكان الذي سيرحل إليه. وبعد أن يغادر ويغيب عن القرية، لن يستطيع أبدًا احتمال العيش فيها مجددًا إذا فكر في ذلك.

مأساة متعددة الأوجه، متجددة عبر الزمان، مقيتة.

ما هي الميزات التي يملكها المواطن العربي اليوم؟

صفر.

يولد الطفل العربي، في كل البيوت باختلاف المستويات المادية والاجتماعية، ليجد أن أفضل غذاء يقدم له هو كل غذاء مزيف.

ومن هنا تبدأ الحكاية.

الزيف في كل شيء، الكذب في كل جرعة ماء، الضعف في كل ملعقة سكر توضع في الشاي، فاخر الاسم رديء النوعية.

في الحليب الممهور بأختام الصحة، المشين لدرجة الخجل من فراغه من كل مادة مغذية.

وقس على ذلك كل الخضراوات والفواكه التي ترتدي المبيدات الحشرية والهرمونات بدلاً من القشور.

والقمح المخزن منذ عهد بني العباس في الصوامع، الفاقد لكل الخير.

لا خير، لا غذاء، لا نظافة، لا في القلوب ولا في الأيدي ولا في البطون.

فأي مواطن هذا الذي سينتج من هذه المعادلة البشعة.

وبعد إساءة البناء الجسماني، يتدرج الطالب العربي في المدرسة، التي ستتولى، بكل نجاح، مهمة تكريهه وأهله في كل كتاب، في الاجتهاد والنجاح. ستسرق منه كل أحلامه وطموحاته. وستقولبه لتجعل منه مواطنًا نموذجيًا سكوتًا مطيعًا مهزوزًا بيدين طويلتين، ممهورتين بأختام الجامعات التي تشهد بأنه انضم لقافلة الخريجين، حاملي الشهادات العليا في الجهل والتخلف.

وسيعلِّق كل واحد منهم شهادته تلك في صدر الغرفة، متباهيًا بما يؤكد مشروعية انمحاء شخصيته، وانضمامه للجمع الغفير الرمادي المغبر الذي يبدو من بعيد كسرب أسماك ساكن، مثل صنم مجيد بين زمنين، أو كقطيع خرفان يهشونها، يسيرونها، يجوعونها، يسيئون معاملتها، يهينونها، يرمونها، يمسحون بها أوساخ بقية الأمم، لا فرق... فالمهم عند العربي الإنتماء إلى تلك الجماعة، وعدم الخروج عنها. والأهم، عدم التميز، والتهرب من كل صرخة إبداع يطلقها عقله الحبيس.

تقتل المدارس المبدع، وتوقف اكتسابه للعلوم الحقيقية، وتنسيه ذاته، وتتهجم على معتقداته النامية كالبراعم الصغيرة تحت نور الواحد الأحد؛ لتدوسها، وتزرع في تربته بذارها المعدلة جينيًا نحو الاعتقاد المنظم بإله يناسب المؤسسات – كل المؤسسات – ولا يخيف أحدًا.

بدليل أن الدين لم ينجح حتى اليوم في تغيير سلوك المجتمعات.

تربي المدارس الكذب في نفس التلميذ العربي المجتهد، وتدربه على ارتداء الأقنعة. تنمي فيه الأنانية، وتهمس له كل يوم: كن ببغاء... كن ببغاء... فالرابح هو الببغاء.

ماذا نتوقع من هذا الفرد، الناشئ؟ كيف سيستقبل العالم، وهل سيفكر يومًا في هجر الوكر الدنيء الذي يعيش فيه؟

وإذا خرج... كيف سينزع الكذب من دمه؟ كيف سينسى الأقنعة والوجوه؟ كيف سيرمي مقتنياته الهشة التي رباها الشبر بالنذر؟

كيف سيقف وحده عاريًا دون قطيع؟

يتماهى، يتموه، ينتهي، يبدأ من جديد، ويموت كل مرة... مرتكبًا نفس الخطايا.

يتكرر كل يوم في كل شخص يحلم فقط في أن يأكل، ويشرب، وينام، ويذهب يوم العطلة لعند أمه.

وفيما يخص المستقبل، يرى أنه فعل كل ما يجب في إنجابه لأبناء يحملون اسمه فقط (لأن من خلَّف ما مات)، يساعدوه وحده عندما يشيخ، يحملوا جثته عندما يموت، يوارونه الثرى دون منيَّة الغريب، دون الاكتراث بقدرتهم على مساعدة أنفسهم... هذا أمر تافه!

فالمهم أن توجد بجسدك. لا يجب أن تقبل بعدم التواجد. ولا يهم أبدًا ماذا تفعل، أو بماذا تفكر.

هذه، ببساطة، هي آمال الفرد العربي ومبرراته في إنجاب الكثير من الأولاد.

إلى جانب أنه يجب أن يتكاثر كي يحرر أحفاده ذات يوم ما سُرق منهم. وأنه يجب أن يتكاثر أكثر ليباهي به نبيه (بعدده) وليس بعدته، يوم القيامة، شعوبًا أخرى لم ولن تبزه عددًا أبدًا.

فليحيا وطن الببغاوات إلى الأبد، شامخًا، متغنيًا بخرافات يرددها صغاره صباح كل يوم في مدارسهم، بهتافات جوفاء لا يليق بها سوى اسم الخيال اللاعلمي.

فلتحيا الأكاذيب وحدها، وأوهام الوحدة والحرية على صخرة تتكسر تحت قدميها النفوس. كل النفوس.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود