الجائزة الكبرى

 

هيفاء بيطار

 

لم تتوقع نظيرة أنها يمكن أن تربح الجائزة الكبرى لليانصيب الخاص برأس السنة، وأنها بطرفة عين ستملك ستين مليون ليرة. كانت تلك اللحظة كافية كي تقطع أنفاسها وتجعلها تترنح وتسقط أرضًا. تسارعت أنفاسها حتى اللهاث، ورشحت عيناها بالدموع وهي تهمس بصوتٍ متشقق: "أنا أختنق". لولا الدكتور فاضل الذي تنظف شقته كل أسبوع لأغمي عليها فعلاً. أسرع يحضر كيسًا من الورق ويجبرها أن تتنفس فيه، محاولاً طمأنتها بأن حالتها ستتحسن، وبأن فرط التهوية الانفعالي الذي تحسه، سيزول.

لم يفرح أحد لفوز نظيرة بالجائزة الكبرى لليانصيب. كل من يعرفها اعتبر أن من العار أن تفوز "لفَّاية"، وهو اللقب الذي يسبق اسمها دومًا، بستين مليون! كما لو أن الملايين يجب أن تكون من نصيب شخص ذي "قيمة"، ليس من الضروري أن يكون مليونيرًا، بل على الأقل أن يكون مرموقًا. أما أن تحصل "اللفاية" نظيرة التي تشطف معظم أدراج البنايات في المدينة بالجائزة الكبرى، فهذا أمر غير لائق، ويثير القرف والسخط في نفوس هؤلاء الذين تعمل عندهم خادمة.

جثم إحساس ثقيل على صدر نظيرة منذ فوزها بالجائزة الكبرى، وأخذت ابتسامات تشنجية ترتسم على وجهها، وراحت تطقطق أصابعها بعصبية حتى كادت تخلع سبابتها من فرط انفعالها. لم تعرف كيف تعبر عن انفعالاتها، ولم توفق في صياغة عبارة واحدة. تلعثمت بكلمات هي نفسها لم تفهمها، وبرطمت بأخرى. العبارة الوحيدة التي عبَّرت عن حالتها وسمعها كل من حولها مستغربين: "الله يموّتني ويريحني".

كيف تجمهر كل هؤلاء المحبين حول "اللفاية" نظيرة، حال انتشار خبر فوزها بالستين مليون، وكيف تحول اسمها للتو من "اللفاية" إلى السيدة. مبروك ست نظيرة، والله أنت تستحقين كل خير. تقدَّم مصوِّر من نظيرة والتقط لها صورًا عدة، حاول أن يعدِّل من وضعية رأسها، ورجاها أن تسيطر على انفعالاتها وترسم ابتسامة لطيفة على وجهها بدل هذه التكشيرة المخيفة. لكنها كانت تشعر طوال الوقت بذهول، وبدا فرحها لا يطاق، وهيمن عليها إحساس غريب أنها تتبخَّر. لم تفهم لماذا ألحَّ عليها هذا الشعور بالتبخر، وتمنَّت لو تتحول بخورًا ذكي الرائحة.

حدقت إلى الوجوه حولها، صُعقت وهي تنقِّل نظرها بين وجوه لطالما تعاملت معها بدونية واستخفاف إن لم تقل باحتقار. من أين جاؤوا؟! كيف تجمهروا حولها مهنئين ومتوددين؟! ماذا يريدون؟ هل هم سعداء لأجلها حقًا؟! لم يهمها أن تفكر فيهم، إذ بدا فَرحها لا يُطاق، فرح له قدرة على نهش الروح، كما لو أن مئات الحشرات الصغيرة تفترس روحها اللينة الأشبه برغيف طازج. كان فرحها مؤلمًا جدًا. فرح ثقيل ثقيل جعلها تفقد ذاكرتها فلم تعرف مَن هي. غاب ماضيها وحاضرها، ولم يبقَ سوى طنين في أذنيها يردد إلى ما لانهاية عبارة: "ستون مليون ليرة".

أحست أنها تلامس الفراغ، أو أنها مقيمة داخل فقاعة كبيرة كبيرة تعزلها عمن حولها. رغبت لو تتمسك بشيء، لو تتكئ على صورة أو ذكرى، تريد شيئًا يعيد إليها إحساسها بكينونتها، بوزنها. ياه، إنها تمامًا تشعر بانعدام الوزن، كرواد الفضاء الطافين في الفراغ.

الذكرى الأولى التي أعادتها إلى ذاتها، يوم جلست شبه مترنحة في عيادة طبيب الأمراض العصبية وقال لها محذرًا: "شوفي يا نظيرة إدمانك المورفين ما عاد مقبولاً، أنت تدمرين جهازك العصبي وصحتك، كم مرة سأعدد لك أضرار المورفين؟!".

تذكرت الضحكة الرخوة التي ردَّت بها، وكيف ابتلعت ريقها الجاف لتسأل بسخرية لا تخفى: "أهو أكثر ضررًا من التعاسة يا دكتور؟!"

أهذه هي الذكرى التي ستتكئ عليها؟! هل من معنى لها وهي تقفز إلى عالم الأثرياء. "اللفاية" المليونيرة، يا سلام؟!

ما عادت نظيرة تتعرف نفسها مذ ربحت الملايين، وبدت حركاتها خرقاء، كأن تتلمس وجهها أو تقرص خديها وفخذيها، أو تنفجر ضاحكة أو باكية بدون سبب، في الواقع تشعر بعجزٍ عن تحمُّل فرحها. فرحها هائج أشبه بحرق، وأحيانًا تحسُّه أشبه بألم كبير، أو تتخيله يشبه جرحًا مفتوحًا لكنه غير نازف. فكرت أن وجع الحزن يشبه الجرح النازف، أما وجع الفرح فيشبه الجرح غير الناز... خافت أن تكون هذه الأفكار بداية جنون، وبدأ قلق حقيقي يساورها: "هل يمكن أن تجنّي يا نظيرة؟!".

لكن بعد أيام تمكنت نظيرة من اجتياز أزمة هياج الفرح، وبدأت تساؤلات عدة تعذبها. فهي تؤمن أن كل ما يحصل للإنسان من أحداث في حياته، مقدَّر له منذ البدء، تؤمن بالقدر، فقدرها امرأة فقيرة، هكذا أراد الله.

وكان هذا الإيمان يخفف من نقمتها على ظروفها، وفقرها الذي أجبرها أن تعمل خادمة في البيوت وأن تشطف أدراج العديد من البنايات. لكن الله عز وجلَّ أراد أن ينصفها وأن يجعل القدر في خدمتها وسخيًا معها، وتربح الجائزة الكبرى. تؤمن نظيرة أنه مكتوب لها أيضًا أن تربح ستين مليون، لكنها لا تجرؤ أن تعاتب ربَّها وتسأله: "طيب يا ربي لماذا لم تأذن أن أربح الملايين وأنا في العشرين من عمري، لماذا عزَّ قدرك وجلالك قدَّمت لي الستين مليون وأنا في الخامسة والأربعين؟!".

كلما غاصت نظيرة في أفكارها وصلت إلى طرق مسدودة، إلى درجة استسلمت وآمنت أن هناك أشياء وحوادث في الحياة يجب ألا تحاول فهمها.

ماذا يعني أن تربحي ستين مليون يا نظيرة، وأن تنتقلي بلمح البصر من "اللفاية" نظيرة شطَّافة الدرج إلى السيدة نظيرة صاحبة الملايين! كان عليها أن تقوم برحلة إلى ماضيها كي تُقلع إلى مستقبل مباغت وغريب عنها، مستقبل لامع، تنهمر فيه الملايين كمطر غزير.

لا يمكنها أن تتنصل من ماضيها، ماضي الذل والعار والخنوع، ماضي يلخَّص بعبارة دقيقة: انعدام الكرامة، أجل انعدام الكرامة. في كل مرحلة من مراحل حياتها كان سحق كرامتها ضروريًا لتعيش عيشة الكلاب كما تقول بينها وبين نفسها. والداها انفصلا حين كانت في الثالثة من عمرها، وتزوج كل منهما، وصارت ابنة الثلاث سنوات عبئًا عليهما. كانت تنتقل من بيت أمها، إلى بيت والدها مذهولة، عاجزة عن استيعاب ما يحصل في نفسها من ألم كبير على نفس طفلة. في التاسعة من عمرها حاول زوج أمها التحرش بها. كانت تنكمش مشلولة من مداعباته وإحساس قاتم يجثم على صدرها، وخوف وتقزز وذعر يسمرها في مكانها. كل خلية في جسدها تنكمش وهي تتلقى مداعبات فاسق كانت تناديه "عمو"، وحين بلغت الحادية عشرة رغب بمضاجعتها، فامتلكت الشجاعة لتملأ الدنيا صراخًا، لكن ألمها الأكبر حين وقفت أمها عاجزة عن الدفاع عنها، وأمرتها ببرود أن تنتقل للعيش عند والدها.

لم تكن زوجة أبيها أكثر رحمة. ألقت على عاتق الطفلة كل أعباء المنزل. كانت مستعدة أن تعمل ليل نهار مقابل نظرة حنان من عيني والدها، لكن العامل الفقير ما كان قادرًا على التفوه بسوى الشتائم ولعن الحظ والقدر.

من حسن حظ نظيرة أنها تملك جسدًا قويًا. كانت تتباهى أنها لم تمرض يومًا، ولم تضطر لزيارة طبيب الأسنان ولا مرة، وبدأت تعرض خدماتها على البيوت كخادمة، تخرج من بيت والدها فجرًا، وتعود عصرًا مهدودة القوى، وتعطي كل المال لزوجة أبيها. كان يمكن عمرها أن يمضي بهذه الطريقة لولا الحب، وحده الحب جعلها تعلن الثورة على حياتها. أحبَّت بكل خلية في جسدها شابًا في عمرها يدرس هندسة مدنية، وكانت تلتقيه في غرفة بائسة على السطح يتشارك فيها مع صديق له، صارت تدخر المال لتعينه في معيشته، تطبخ له وتغسل ملابسه، وتضاجعه. أدخلها الحب في غيبوبة النشوة. كان واقعها كله قاسيًا وخشنًا وظالمًا، ما عدا اللحظات التي تمضيها مع حبيبها فوق فرشة حقيرة، وفي كل مرة تسأله متى نتزوج، يتهرب من سؤالها ويقول: "حال تخرُّجي". فتبكي وتقول: "أرضى أن أعيش معك على حصيرة، أرضى أن أعيش معك في كوخ، لكن عليك أن تتزوجني، أنت تعرف، شرف الفتاة سمعتها".

استمرت علاقتها معه أربع سنوات، كانت تعطيه المال، وضاعفت من عملها في خدمة الأسر الثرية ليتمكن من استئجار غرفة أنيقة ولينفصل عن صديقه، لكنه خذلها بعد تخرجه وتزوج زميلة له في كلية الهندسة. لم تجد من معين لها في تهدئة آلام روحها سوى المورفين... الدواء الذي كانت تتناوله سيدة في الستين تعاني من سرطان في العظام، وتئن طوال الوقت من الألم. نظيرة التي عملت خادمة للسيدة، وكانت تعطيها الدواء الرحيم.

لم تشعر نظيرة بكرامتها يومًا. في الحقيقة هي لا تعرف معنى الكرامة والاعتداد بالنفس. فمنذ طفولتها لم تُعامَل إلا كإنسانة غير مرغوب بها ولا قيمة لها. إنها خادمة. ترسخ لديها شعور أنها من طينة غير طينة البشر. وبعدما هجرها الشاب الذي أحبته وتزوج بأخرى، وجدت نفسها بعد فترة زوال الصدمة مقتنعة تمامًا أنها تستحق هذا الهجر، فهي ليست من مستواه. إنها وضيعة ومستواها أدنى من مستوى الناس الذين تخدمهم، أو حتى من أفراد أسرتها. لذا لم تمانع حين زوَّجتها زوجة أبيها من رجل في عقده السابع، دفع مهرًا يشكل ثروة لأسرة فقيرة مثل أسرة نظيرة. سلَّم والدها مئتي ألف ليرة، وأخذ نظيرة بعدما ألبسها ثلاث اسوارات من الذهب وخاتمًا.

صار إحساسها بانسحاق كرامتها مختلفًا وهي زوجة للعجوز. ولولا وفاته بجلطة قلبية بعد ثلاث سنوات من زواجها منه، لكانت جنَّت. طردها أولاده من البيت الصغير الذي اعتقدت أنه سجَّله باسمها، تبيَّن أن العجوز خدعها، وأن الأوراق التي وقعَّتها معتقدة أنها صارت مالكة البيت هي أوراق مزورة.

امرأة مخذولة ومُهانة على رصيف الحياة، لا أسرة تؤويها، ولا قلب رحيمًا يتفهم مأساتها. كانت تشعر أنها عارية وعاجزة، وعادت إلى العمل في البيوت، لكن جسدها لم يعد قويًا كالسابق. تجاهلت آلام مفاصلها، واستأجرت غرفة بائسة تحت الدرج في إحدى البنايات. مات الأمل في روحها وهي ترى كيف يلاحقها رجال وشبان بغرض مضاجعتها مجانًا أو مقابل مبالغ تافهة.

لم تشعر مرة واحدة أن هناك قلبًا أحبها. بين وقت وآخر كانت تتسلى بشراء ورقة يانصيب وتحلم كما حلمت سندريلا بالأمير. إخوتها من أمها وأبيها يتجاهلونها حين يلتقونها في الطريق، ابن أخيها من والدها صار مهندسًا يحس بالعار من وجود عمَّة سيئة السمعة و"لفاية"، تشطف الدرج.

رحلة الماضي أشعرتها بشعور تتعرف إليه للمرة الأولى، شعور ساحر، مضيء، كنور يطرد العفن والقرف من الروح، الكرامة. الجائزة الكبرى الحقيقية أنها احتاجت لستين مليون ليرة كي تشعر بكرامتها كإنسانة، كي تراهم كل هؤلاء المسوخ القساة القلوب، السفلة، يتملقونها ويتحلقون حولها، منتظرين فتات ملايينها.

الكل يرسم لها المشاريع والخطط التي ستجعل الستين مليون تتضاعف وتتضاعف، الكل يركع أمام الست نظيرة صاحبة الملايين، والكل حائر ومغتاظ من صمتها، من الابتسامة المحيِّرة التي تردُّ بها على طوفان مشاريعهم واقتراحاتهم لزيادة ملايينها.

لن يعرفوا أن نظيرة اتخذت قرارها، وهو التبرع بالملايين للأيتام. ستخصص المبلغ كاملاً للأيتام بعد أن تضمن لنفسها حياة كريمة، وأن الجائزة الكبرى الحقيقية أنها استعادت كرامتها.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود