واقعية الرواية الحديثة: قراءات ورؤى

حسين رحيم٭

 

هناك في أعماق أعماقي الدخيلة التي لن يصلها أحد أبدًا، في الجانب المعتم منها تعيش كائنات تصنع الضوء من عتمة ذلك المكان وتخافه، أحدها صبي يتيم لا يجيد اللعب وتتكور كفاه على بلُّورة مسحورة تريه كل العالم إلا ما يهواه. من هناك، تحديدًا من هناك، تبدأ الحكاية صعودًا نحو أعالي فردوس الكلمات. هناك حيث الأشياء كلها قاعدة في مكانها. الحب ساكن عند حضرة الفؤاد، الغضب تحت ركام الكبت. الفرح طائر مغناطيسي، التجاذب والتنافر أخلاقه. لكن، يتوقف الجميع مهابة لإعادة صياغتهم من جديد. كل تلك الأشياء، أشياء الروائي، في عرس الروائي الكبير.

في البدء علينا أولاً أن نتعلم التمييز بين الأسئلة الحقيقية والأسئلة المزيفة. من هنا نتبين إن كنا على الطريق الحقيقي لمسيرة الإبداع والتواصل مع عوامل ديمومة وتواصل قوة الكتابة وتماسكها في عالم كل ما فيه يسير في اتجاه التفكك والتمزق والقزمية؛ أم على الطريق الآخر الدائري. ولا شيء، لا شيء.

هل في مقدور الفلسفة أن تتبين حقيقة الإبداع؟ أيمكن شرحه؟ أيكون وحيًا إلهيًا أم حدسًا خارقًا، أم وليد عمل شاق؟ وهل الحتميات التاريخية والاجتماعية والنفسية عوامل شارحة للإبداع الفني أم أنها عوامل تختزله؟ هذه الأسئلة وغيرها تكوِّن مدخلاً للأسئلة الحقيقية، تلك الأسئلة التي تملك الشجاعة الكافية للمراجعة، مراجعة كل شيء، كي نبدأ بداية حقيقية.

منذ بدء التاريخ وُجدت الأساطير والملاحم الكبيرة، والتي كانت هويات متنوعة لمسيرة شعب، ومغامرات أبطال خارقين يواجهون الموت ببسالة من أجل معشوقتهم الأميرة النائمة، وإطارها قصص حب عظيمة. وكانت هذه الفنون الشفهية والمكتوبة، وإن ظهرت بلبوس الشعر والسجع، هي نافذة الخيال الوحيدة لإنسان ذلك العصر كي يمارس التحليق بعيدًا عن واقع بغيض لا أمل فيه ولا رجاء. لكن بعد ظهور المكننة المتمثلة بالطباعة ظهرت الكتابة الروائية المعروفة المؤلف، ومنذ ذلك الزمان والرواية لها حيزها الإبداعي في المشهد الثقافي على الرغم من مزاحمة التلفزيون وقبله السينما بما يمتلكانه من وسائل جذب وتشويق للمتلقي، يضاف إليهما وسائل الاتصال الأخرى كالموبايل والإنترنت بما تمتلكه من قدرة على اختزال المسافات المكانية والزمانية والتسريع في كل مفاصل الحياة مما أفقد الإنسان روح التأمل وذلك بتحويل الحاضر إلى مجموعة لحظات تنفجر كفقاعات الصابون وتذوي.

رغم هذا وذاك ما زال للرواية متعتها الخاصة بقرائها، وهو النظر من خلالها إلى عوالمٍ تغاير الواقع الإنساني وتقلبات النفس البشرية من خلال الثالوث الخطير: المال/الجنس/السلطة. لكن يبقى الإنسان، هذا الكائن الإشكالي، هو سيد موقف الرواية عبر تاريخها الطويل. إنه يتأرجح بين كبرياء الجبال ونكوص الوهاد، بين الثورة والتمرد على الثورة، بين التوحد والذوبان في الجموع. وقد منحتنا الرواية شخصيات كان ينقصها وجود من لحم ودم كي يتغير العالم إلى الأفضل. إنها خطاب إلى الأفضل في الإنسان. ولكن، كيف يمكننا قراءة موجودات محيط الرواية؟ بادئ ذي بدء علينا أن نتخلى عن واقعيتنا، وذلك في نظرتنا للأشياء، وألا نقدرها بعد في كينونتها بل بوصفها صورًا لا غير. فالرواية في الواقع هي ورق وحروف وكلمات وغلاف لذلك يجب عدها شيئًا غير ما هي عليه، وذلك كي نفهم وندرك جماليتها، نقيض ما يدركه العتال الذي يحمل الكتب. كذلك لتقويم أي عمل إبداعي يجب التمييز بين ما هو شعري ومسرحي وروائي لأن الموقف الجمالي ينفصل عن كل استحواذ حيوي، وإهمال كل شاغل واقعي، فالجمال ينبجس من خلال ضرب من الحلم أو اللعب كما يقول الفيلسوف الفرنسي فرديناند آلكيه. لذلك لا يمكننا أن نتأمل مؤلفًا نثريًا كما نتأمل لوحة فنية أو نستمع إلى مقطوعة موسيقية وذلك لأن النص النثري لا نراه بل نرى من خلاله. وفي هذا يقول سارتر إن الألفاظ قد تضللنا إذ تبدو أنها تعبر عن الأشياء، بينما هي تبتعد عنها. وفعلاً تتدخل الألفاظ في تكوين الواقع كما يبدو لوعينا دون أن تبدو أنها تلامسه وذلك من خلال مراعاة حذقة للغاية. إن هي إلا حروف ثم مفردات ثم كلمات ثم جمل ثم سطور... ويتغير العالم، بلا قرع طبول الحرب، بلا دماء.

وقد تميزت الرواية عبر تاريخها الطويل بتفرد أساليب كتابها عن بعضهم البعض، وهذا ما جعلهم يعبرون عصرهم إلينا ويتخلف الكثيرمن مجايليهم في ذلك العصر ويطويهم النسيان. لذلك قرأنا لهم، حيث إن جيرارد جنيت يؤكد أن التفرد الأسلوبي ليس هوية رقمية لفرد ما، بل هوية متميزة لنموذج، ربما لا سابق له لكنه قابل لتطبيقات لاحقة لانهائية. ولكن بما تمتلكه الرواية من تعددية التأويل والرؤى تصبح النمذجة التي ذكرها السيد جنيت ليست نهائية بسبب من أن قطار الرواية ما زال منطلقًا ولم توقفه أي محطة نقدية. ربما أوقفته بعض المحطات في أوقات ما مثل الرومانسية والواقعية والواقعية الاشتراكية. لكن الانعطافات كانت سمة طريق زمانه السريع. وهذه الانعطافات صنعها أولئك المتفردون بأساليبهم التي فتحت عوالم جديدة في الرواية لدرجة كان تقليدهم صعبًا على من حاول، وبقوا مؤثرين على أجيال في الكتابة.

والآن، أين وصلت الرواية الحديثة؟ وهل أن الروايات التي وصلت مراتب عليا في سلم جوائز الرواية هي الأفضل؟ قطعًا إن الجواب يحمل وجهي العملة. لكن لا شك أن فضل الجائزة الجميل هو أنها تجبر البعض على قراءة الرواية بدوافع عديدة، كذلك توسِّع من مساحة القراء لها بلغات أخرى وتمنح إحساسًا للروائي بأهمية ما يكتب، لكنها لا تصنع مبدعًا. فهذا ماريو فارغاس يوسا، الروائي البيروني الحائز على نوبل هذا العام، يعد من أعظم الأدباء للدول الناطقة باللغة الإسبانية بحسب وكالة رويترز، وقد انحاز هذا الروائي منذ بدايته إلى المتخيل وإلى حرية العبارة التي لا تحدها قيود، وإلى الحق في إعادة إبداع العالم من خلال الحكاية الخرافية. وقد بدأ ذلك منذ روايته الأولى الكلاب والمدينة وحتى روايته الأخيرة امتداح الخالة. وقد كان يوسا راغبًا، بصفته روائيًا، أن يشهد على حقيقة أليمة وهي بلاده التي يمزقها العنف والتعصب واللاتسامح. ومن ما قالته الأكاديمية السويدية عن اختياره لنوبل: لبراعته في رسمه المفصل للصراع على السلطة وتصوير المقاومة والثورة والهزيمة داخل الفرد. وهو يقول عن نفسه: أنا روائي ينتمي إلى المدرسة الواقعية القديمة ودافعي إلى الكتابة يأتي من الداخل، من القعر المعتم والغامض. والرواية فن الكذب والكذب أفضل دليل على انتصار الخيال. إن رفض يوسا لواقعه البغيض دفعه إلى الخيال الشعبي والخرافات التي عالجها بفنية عالية وتلاعب بشخصياته وسيرهم باصرار، وهو العاشق لأعمال سارتر والبير كامي، والمتحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، والمرشح لرئاسة جمهورية البيرو، وأشياء أخرى منها خصومته الحادة مع صديقه ماركيز الذي اتهمه بمغازلة زوجته مرسيدس بعد السبعين من العمر. أما أورهان باموق، وهو أول تركي يفوز بجائزة نوبل، فيرى النقاد أن رواياته تأتي كأحد النماذج الكلاسيكية النادرة والناجحة للرواية الشاملة في القرن العشرين على خلفية الواقعية النقدية بوصفها مزيجًا من عوالم تولستوي وستندال على نظرية جورج لوكاتش وبأسلوب المتاهة حيث يشتبك الحاضر مع الماضي بفنتازيا بورخيسية حديثة. وكانت أول رواية له هي عائلة جودت بيك، والتي نالت عدة جوائز، ومن ثم توالت أعماله. وعن رواية اسمي أحمر فقد استغرق في كتابتها عشرة أعوام، أربعة منها في شراء الكتب التي تخص فن الطباعة والنقش على السجاد وستة لكتابتها، وترجمت إلى لغات عديدة. بينما نجد أن رواية واحة الغروب للمصري البهاء طاهر، والتي فازت بالبوكر العربية في دورتها الأولى، والتي قالت عنها لجنة الجائزة إنها رواية تتحدث عن الأمال والأحلام والآلام في تجربة إنسانية حقيقية تختلط فيها المشاعر بانكسار من خلال الصور الإشراقية – هذا الذي تخطى السبعين والمؤلف للعديد من الروايات –؛ قد لا تكون أفضل ما كتب. أما السعودي عبدو خال فقد حظي بالبوكر بروايته ترمي بشرر، والتي يصور فيها عالمين يشكل تناقضهما عنصرًا دراميًا فعالاً في أغلب النصوص الأدبية وهما الغنى والفقر؛ بيوت تعيش في حضيض الفاقة وإلى جانبها قصر فاحش الثراء. وفي هذا التجاذب والتنافر فيما بينهما معروف من سينتصر في النهاية.

إذًا، العودة إلى الواقعية لكن بلا حاضر معاش هو ما يميز رواية النخبة الآن، فالكل يهرب إلى ماض ليعيد صياغته بترادفية غير منطقية مع الحاضر، وأبطال هم أولاد عصرهم ولا يمكن تجاوزهم للمستقبل الغريب عنهم، أو العمل على افتراض حاضر آخر صنعته مخيلة الروائي خارج الموضوعية والتأمل. لكن، هل بإمكاننا أن نقوِّم الحاضر بموضوعية وتأمل؟ إنه أمر ليس بالسهل، لأنه يعني التجرد من وجودنا اليومي، وارتداء عيون أخرى لا تلونها المشاعر والانفعالات، والمحافظة على تلك المسافة الوهمية بيننا وبينه كالنار التي تكتوي بها إن اقتربت منها ويلفك البرد أن هربت منها. هذه مسافة الروائي. وفي هذا تقول جوليا كرستيفا: إن العباقرة هم من يستطيعون تقويم حاضرهم، أما الباقي فقدرتهم تصب فقط على الماضي. وربما الأجيال اللاحقة، والتي سلَّحها الزمن بالمسافة المناسبة، تكون قادرة على التقييم الموضوعي والتأمل.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ روائي عراقي.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود