"مسيحُ" هاجر أو صوفة المضحِّي بنفسه والحملُ الإلهي

 

علي زيعور

 

1.    صوفةُ الضحيةُ أو اسماعيلُ هاجر كالفادي والقربان المشيع. إشاعة الذات رفعٌ لها إلى الله وتسييبها أو قتلها الرمزي تضحية بها*

التصوُّف وصوفة هما التمشيُع الجاهلي أي التضحية بالنفس ونذرُها وتسليمها لله. وبنو صوفة، في الجاهلية، هم الأشياع، الشيعة، المنذورون لله تعالى، ولأهل بيت الله، أي للكعبة، وأهل الكعبة. و"الأشياعي"، الصوفي، هو المستشيعُ الذاتي أو الشيعاوي: إنه الذي يُشيع ذاته، ويتخلَّى عنها تمامًا، كي يبقى ويستمر حيًا في علاقةٍ مع الله هي نذريهٌ، وابتغاء مرضاته. وبذلك فهو المنذور الذائب في الله، الصوفي عائشًا لله، أو من أجل الله، وفي الله، أو قربانًا، وضحية هي فدوٌ، وفداء. وهو الذي نذر نفسه لله، وبذلك فهو يعيش منزويًا منقطعًا، صائمًا صامتًا، مُباعًا لله، لا يملُك نفسه. إنه حمل، غنمة، مُقدم كقربان لله تعالى أو ذبيحة، كفديٍ يشتري خطايا أهل بيت الله، أو يفتديهم بحريته الشخصية، وفناؤه عن نفسه إذابةً لها في محبَّتهم والدفاع عنهم وتكفيرًا عن ذنوبهم.

ربما يكون بنو صوفة، الساميُّون العرب في مكة، أبناء إسماعيل هاجر وإبراهيم، ولعلَّهم هم الأنبياء الذين لم يرد ذكرهم في القرآن الكريم، أو من الأنبياء الذين طُمِسوا وغُمروا... وهم، بحسب المتخَّيل والإيمانوي والرمزي، الممهِّدون بل المؤسِّسون لأفكار لاهوتية من نحو الفداء، تألهُن الإنسان والذوبان فيه تعالى، التضحية بالذات خدمة ونذرًا ومحبةً، تقديم النفس مجانًا أو إِشاعتها وتسييبُها لأجل الله مجانًا وحبًا بالله لأنه الله وليس خوفًا أو طمعًا. هل المسلم الحنيفي (الجاهلي) هو إذن من سلَّم أمره لله؟ إنه من باع نفسه لله ولأهل الله، وبات مُشاعًا (شيعاويًا). وبالتالي ضحيةً مرفوعةً لله، تطهيرًا للنفس والجماعة. وهل من علاقةٍ هاجعة ظلِّية بين الإحمس والشراة والطائفين والبكَّائين والذين كان حجُّهم مكاءً وتصدية؟

 

2.    التصوُّف والمشاعية المنذورة بالمعنى الظلي الفِياوي مربوط بالغنم والصوف وبني صوفة

التصوُّف هو وضعُ الصوفِ على الجسد تعبيرًا عن تمثُّل خصائص الصوف، أي عن امتصاصٍ نفسانيٍّ لدور الغنم. وتلك الخصائصُ سحريةٌ تربط لابس الصوف، ربطًا ميثولوجيًا ودينيًا، بالغنم من حيث هو حيوانٌ يقدَّم كضحية لله أي قربانًا، وتكفيرًا، وتطهُّرًا. والصوفيُّ هو الضحية، هو قربان لله. هو نعجة مقدَّمة للمعبد، لزائري المعبد. وكما يكون لحمُ الضحية مُشاعًا يأكل منه الحُجَّاج الجاهليون، فإنَّ المضحى به (المنذور من أهله، أو الناذر نفسه، الصوفي...) لا يملك نفسه، بل هو مُشاع يُكرَّس للمعبد ولِما يدور حول المعبد.

فوضعُ الصوفِ على الشخص كان يرمز، في الجاهلية، إلى ربطِ الشخصِ بالتضحِّي، بالمشاعية، بالتخلِّي عن الذات في سبيل الله وخدمةً للدين والكعبة وأهل الدين وأهل الله. إنَّ وضع الصوف على شخص (على رأسه وعلى جسده، أو حتى تطويل شعره) هو جعلُ ذلك الشخص ضحيةً مقرَّبة لله، أو رمزًا للقربان والتطهُّر[1].

 

3.    المعنى اليُنبوعي لكلمة إشاعة النفس أو تشييع[2] الذاتِ وتسييبُها ونذرُها

تفسير التصوُّف يوضِّح فهمنا للاستشياع على أنه، في جذوره، حركة إعطاء النفس لله، والتضحية بالذات خدمةً للدين والكعبة، ولأهل الله ولأهل البيت (الكعبة). وهكذا كان الاستشياع طقسًا جاهليًا يرتبط بالتخلِّي، والتضحية بالنفس، والمبايعة على الموت، وتسليم النفس لخالقها. كان التشيُّع طقسًا، أو طريقةً في التعبُّد، قوامها إفناء الذات، والتقشف، وتطويل الشعر، والزهد والتخلي والانقطاع أي إماتة معنوية للفرد طلبًا للمغفرة والتقرُّب من الله. يؤكِّد هذه النظرة كون التشيُّع كلمة مشتقة من المشاع أو الشيوع. والمشاع، أو الشيوع، مصطلح غنيٌّ بالمعاني: فهو بشكلٍ خاص يعود إلى التضحية في الجاهلية. ولفهم التشيُّع كطقس جاهلي يجب ربطه بالاحتفال التضحوي أي بالنذور، والأضاحي عمومًا، والنذور المقدَّسة (الحامي، السائبة، الوصيلة، المُسيِّب، نذرُ ولدٍ للكعبة، ذبحُ ولدٍ عند الكعبة)، وشعائر التقرُّب إلى الله وبيته (الكعبة). وذلك لا عند العرب فقط، بل وعند الأمم القريبة منهم (الساميون عمومًا أي الإعرابيون، الكنعانيون، العِبريون).

في تلك الاحتفالات الدينية كانت تتمُّ تحويلاتٌ في الملكية: فما هو فرديٌّ، خاص مملوكٌ كان يتحوَّل إلى عامٍّ، شائعٍ أو مُشاع، سائبٍ ومتروكٍ لله. فبذلك يكون الشيعي هو، بعملية احتفالية مماثلة أي لارتباطه بقومٍ، الشخصُ المتحوِّلُ من ملكية نفسه وجسمه إلى متخلٍّ عن الجسد والذاتِ ومنتقِلٍ إلى مشاعية، وموتٍ معنويٍّ، وإعطاءِ النفس لقضيته ولقومه، ودخولٍ في خدمة أهل البيت أو أهل الكعبة، أهل الحقِّ، أهل الله.

 

4.    التصوُّف والتشيُّع أو التمشيُع مرتبطان في الجاهلية باحتفالاتٍ تضحوية بشرية

في تلك الفرضية، نحن نرى أنَّ التصوف مبايعةٌ على الموت، وخروج من الذات وتسليمها لله ولبيته ولزوَّار بيته. أي أنَّ الصوفي هو المُشاع، ذلك الذي لا يملك نفسه بل هو قدَّمها وضحَّى بها للتطهر، أو وفاءً لنذر، وتزكية، وما إلى ذلك. ويكون الصوفي، إذن، والمتمشيِع من نبع واحدٍ منبجسٍ من احتفالاتٍ ترمي للتزكي عن طريق التضحية بالذات، والدخول في المشاعية، وخدمةِ قضية الله، والارتباطِ التشاركي والرمزي بالكعبة (قا: المُجاور، المُرابِط، المجاهِد أي، بعامة، المسَلِّم أمره).

5.    أدلة مؤيدة للفرضية المطروحة

مِن الممكن تقديم أدلة كثيرة، نحاول أن نجعل منها مؤيدة ومُسانِدة. لعل بعضها تعسُّفيٌّ، لكن بعضها الآخر يقتبل الاحتمال، بل وبعضها طريف يقترب من الصحة وإن استلزم التدقيق التاريخي الأكثر والنظر النقدي الأهدأ[3].

 

6.    المُشاعون، الأصفياء، الصوفية، الأولياء (شُرطة الخميس والتشيُّع أو التمشيُع الجاهلي ثم الإسلامي).

يقول ابن النديم: إنَّ عليًا سمَّى من خرج معه لمقاتلة طلحة والزبير: الشيعة. وسمَّاهم أيضًا: الأصفياء، الأولياء، شُرطة الخميس، الأصحاب[4].

والملفِت أنَّ هذا النص لم يتوقف عنده أحد لتفسير كلمةِ شيعة. بل إنَّ الشيبي يصرِّح بأنَّ هذا الرأي لابن النديم هو: "غريب"[5]. وفي فرضيتي، هذه، يكون رأي ابن النديم هو الحُكم الحقيقي. أمَّا لماذا لم يؤخذ به، فلأسبابٍ سنرى بعضها فيما بعد. ثم إنَّه قول يؤكِّد رأينا في أنَّ الصوفيين هم الأصفياء. وبالتالي فكلمة صوفي هي صفِيٌّ. وصفيٌّ ووليٌٌّ وشيعيٌّ وصوفيٌّ صفاتٌ تعني أمرًا واحدًا، وتقوم على التضحية بالذات تقرُّبًا من الله. يضاف أيضًا أنَّ الاستشهاد، والوقوف في الصفِّ الأول في الجيش، وفداء الناس بالذات الفردية، وما حول ذلك من صفاتٍ هي كلها ميزاتٌ تعبُّدية، وطقوسٌ تضحوية، ونعوتٌ حول الفدي والهدي، وشعيرة التضحية بالبدنة.

وإذن، فالشيعة اللغوية أو الجاهلية بحسب التسمية الأولى لها، كلمةٌ أطلقها عليٌّ، أو قادة الجيوش، على أصحابه. وهي كلمة كانت ترمز إلى: الأصفياء، الصوفيين، الأولياء، الأصحاب. وهذه الكلمات مرتبطة، هي بدورها أيضًا، بالتضحية والفداء والمشاعية، وبالتقشُّف والمبايعة على الموت لأجل قضيةٍ إلهية. لكن الكلمة الاستعارة تحمِل، كما ورد في نصِّ ابن النديم، معنى آخر أيضًا: فما هو؟

7.    شيعة صوفة هم الجماعةُ المهيأة للاستشهاد وشعيرةٌ ورمز مؤسِّس وصوفة الغنم و"النبي"

تشيُّعُ صوفة هو الإعلام بوضعِ شرطةٍ كالتصويف الذي هو وضع صوفٍ أي الإعلام بالصوف. لِنعد الى نصِّ ابن النديم (الفهرست، ص 223) حيث يقول: إنَّ عليًا أطلق على جماعته الذين خرجوا للحرب معه كلمة: شرطة الخميس. وأودُّ التوقف عند كلمة شرطة.

1.    رأينا في فرضيتي عن التصوُّف أنَّ الصوفي هو الذي أعلم بالصوفِ. ففي موقعة بدر أعلم عليٌّ والمسلمون بالصوف. وكذلك أعلمت خيل الملائكة (أي وُضِع الصوفُ على أذنابها)، والملائكة. وقلتُ: إنَّ وضع الصوفِ يرمز إلى التهيؤ للاستشهاد، والمبايعة على الموت، وتقديم الذاتِ ضحيةً لله أو لقضيةٍ إلهية (بيت الله، المجاورين، المسيّبين المُشاعين...).

2.    وفي فرضيتي، اليوم، إنَّ المشيِّع أو المشاعي بحسب صوفة – في الجاهلية – هو الصوفي الجاهلي، أو هو المُبايع على الموت، المُضحِّي، المتقشف، المستعد للاستشهاد، المقدم نفسه ضحيةً لله قربى وقربانًا أو تكفيرًا أو ما حول ذلك من تقديم البشري ذاته على أنها: هديٌ وفديٌ ونذرٌ.

3.    والدليل على هذه الفرضية الجديدة، بمعناها الإسلامي، هو أنَّ عليًا يسمِّي جماعته شيعة. وشيعة تقول القواميس، وهذا ما نسبه المؤرخون للتصُّوف والتشيُّع، أنَّها أول كتيبةٍ تشهد الحرب وتتهيأ للموت[6]. أي أنَّ الشيعة هم الناس المستعدون للاستشهاد، والسائرون في مقدِّمة الجيش: هم المبايعون على الموت، المضحُّون بأنفسهم، هم الضحايا المقرَّبة لله، هم مُلكُ الجماعة ولا يملكون ذاتهم. إنهم الصوفيون بالمعنى الذي قلنا إنه للصوفي، وهم أصفياء بالمعنى الذي أقوله لكلمة أصفياء أي صوفيين، فالصوفيون والأصفياء واحد.

4.    وحيث أن الصوفي هو الذي أعلم بالصوف، كما ورد في الفقرة (أ)، فإنَّ الشيعي هو الذي أشرطَّ أي وضع الشرطة وهي، كما يقول القاموس المحيط، العلامة[7]. فالإعلام بالصوف، في بدر، هو وضع الشرطة أو هو الإعلام بالشرطة أو هو وضع علامة. والعلامة، في وضع الصوف أو في وضع الشرطة، تعني طلب الاستشهاد وتقديم الذات ضحية، والمبايعة على الموت، ولبس الكفن من أجل قضيةٍ إلهية، وتعبيرًا عن نكران الذات. (را: المعنى المطمور لكلمة معلّم في القاموس الصوفي، قا: المقلِّد أي واضع القلادة كما الخزام، المُعلم).
بعد التكرار، الذي كان لا بدَّ منه أعلاه، نقول: إنَّ الشيعة كلمة تعني الكتيبة الجيشية التي نقدم ذاتها فداءً، وهديًا، وقربانًا لله. الشيعة هي الأضاحي، الذبائح، أو هي مصطلح رمزي نفهمه بربطه بالتضحية بالبشر، وبذبح الذات، وبالاستشهاد، ونكران الفرد أي إعطاء الذات لله أو للجماعة أو للمعبد بل وجيران المعبد وأهله.

ويكون ذلك الاحتفال، أو تلك الشعيرة، بواسطة وضع شرطةٍ هي علامة مميزة وجدنا أنها كانت، كما قلنا في عمل آخر، عند الصوفية الجاهليةِ عبارةً عن قطعة صوفٍ توضع كشارة. فالتعبير عن تلك المرموزة، الصوفية أو الشيعية، يجري وفق أوالياتٍ الإعلام (للمقارنة كما فعلنا في عملنا الآخر: التسويم، الإشعار، التقليد للضحية أي وضع قلادة، التصويف. صار ابني صوفة)، نذر ولدٍ للكعبة أو للذبح، للتسييب أو كبش فداء.

5.    الشرطة والصوف، كعلامةٍ ترمز للتضحية والاستشهاد أو للتسييب والتكفير: إضافة على ما ورد أعلاه (في الفقرة: 4) قد نستطيع أن نجد، بعدُ أيضًا، بصيص دليل يضاف. فقد قلنا إنَّ الإعلام يكون بوضع قطعةِ صوفٍ أو بوضع شرطة، وفي الحالتين تعبير عن الخروج عن الذات إلى ملكية إلهية، وتعبير عن التضحية والاستشهاد. ألا نستطيع السير خطوة أعمق فنطرح إمكانية وجود علاقةٍ ما بين الشرطة والصوف؟ لا بدَّ، في الفرضيات العلمية، من نوعٍ من التخيل قبل أن نفتش عن المؤيدات والسندات. نودُّ، إذن، الظنَّ بأنَّ الشرطة هي صوف أو شيء ما قريب من الصوف أو قريب من الغنم الرامز، سحريًا، إلى الضحية المشيعة والهدي وما إلى ذلك من طقوسٍ تعبديةٍ وتكفيرية جاهلية. يقول القاموس المحيط: إنَّ الشَّرَطَين هما نجمان من الحَمَل (الغنم، الضحية، الفدي، الهدي)، وهما قرناه[8]. فهل تكون الشَّرَطة، إذن، الإعلام بواسطة حملِ قرني حمل[9]، وهنا نكون في التشيع؛ بواسطة وضعِ الصوفِ وعندئذٍ نكون في التصويف أي الإعلام بالصوف؟ وفي الحالتين فإننا نبقى، كما قلنا، في التعبير عن بيع الذات ضحيةً بواسطة امتصاص خصائص الغنم أي نقل خصائصه إلى البشر عن طريق أكله أو ارتداء صوفه أو حمل قرنَيْه. وإذا طُرِح السؤال عن إغفال المؤرخين لهذه الفرضية في تفسير أصل التصوف، ثم في تفسير مصطلح شيعة، عندئذ نلجأ للجواب المعروف: لقد محا المسلمون ما لم يتوافق مع القرآن من طقوسٍ تعبديةٍ جاهلية. وهناك ردٌّ آخر يقول بأنَّ الطقوس الدينية والميثولوجية والمعتقدية لا تموت بل تتغيَّر ثوبيًا، وتبقى في اللاوعي الجماعي مع الهاجعات الكثيرة والخبرات الصدمية المطمورة.

 

8.    شيعة صوفة المنذورة أو الشِّيع أي أهل مكة

تدلُّ كلمة الشِّيع والأشياع، في بعض آيات القرآن، على أهل مكة. فالقرآن، في آية "وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ"[10] يخاطب أهل مكة. كذلك فإننا نجد المعنى عينه في: "كَمَا فُعِلَ بِاَشْيَاعِهِم مِن قَبْلُ"[11]. والقرآن يعني أهل مكة أيضًا، في: "ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ"[12]. ذلك ما يقوله مقاتل بن سليمان أقدم، أو من أقدم، من فسَّر القرآن تفسيراً كاملاً، وصاحب الوجوه والنظائر أو الأشباه والنظائر (تحقيق شحاته، القاهرة، 1975، ص 154).

فهل نستنتج من هذه الأحكام لمقاتِل، أو هل تُحمَّل تلك الأحكام، ما نستطيع الظنَّ بأنَّ كلمة شيعة كانت تعني، من بين ما تعني، أهل مكة؟ إذا كان أهل مكة هم الشيعة، فهذا يعني، مرةً أخرى، أنَّ التصوف والتشيُّع لقبان متشابهان أو أنَّ كليهما يعني أهل مكة أي أهل الله، وأهل الحق، وأقرباء الله. وبخطوةٍ أخرى، أو بمزيدٍ من الكلمات، فإنه إذا صح ما فهمناه من أقوال مقاتل يكون عندئذٍ الصفيٌّ هو الصوفي، ويكون الصوفي والمعلِمون والمقلَِّدون صفاتٍ مختلفة لظاهرةٍ تضحوية واحدة أو لطريقة عيشٍ وسلوكٍ واحدة تقوم على الخروج عن الذات، والانقطاع لله، والتضحية بالنفس، وتقديمها قربانًا أو فداء، وكبشًا وحَمَلاً.

 

9.    الفتوة دليل آخر على وحدة التصوف وتشيُّع النفس

هما وحدة واحدة داخل طريقة واحدة هي التقشف والمشاعية. ذلك أنَّ الفتوى هي مبايعة على الموت، وهي تضحية بالذات، وتسييبها أو تقديمها في سبيل الله وخدمة عباده. ولقد اعتبر الفتيانُ عليًا أساس طريقتهم، ومثلهم الأعلى، والنبع لقيمهم. فقد قال الخليفة العباسي الناصر لدين الله: إنَّ عليًا "هو أصل الفتوة ومنبعها ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها، وعنه تروى محاسنها وآدابها، وإليه دون غيره تنتسب الفتيان، وعلى منوال مؤاخاته النبوية الشريفة نسج الرفقاء والإخوان". وهنا نقف أمام نقطتين: الأولى هي أنَّ الكوفة من أوائل الأرباض التي ظهرت فيها الفتوة (وهو ما جرى في مجال التصوف والتشيُّع). والثانية هي أنَّ القول "لا فتى إلا عليٌّ" ظهر في موقعة أًحُدُ، عند خطرٍ استلزم الإشاعة للذات، والتضحية بها، والإعلام، والفتوة، والاستشهاد، والتسويم، والتصويف، والتقليد، وتقديم النفس كحملٍ أو كبشٍ فداء، أي فداء للبشرية، وهديًا، وقربانًا إلخ. لعلَّ الفتوة، هنا، تعاد إلى أنها مبايعة على الموت خدمةً لمصلحة عليا.

كما أنها، فوق ذلك، انقطاع وتعبد، وهي تزهُّد وإشاعة الذات. لقد كان الفِتيان، وأهل الفتوة والملامة، متقشفين، صابرين، يساعِدون المحتاجين، يضحون بأنفسهم لمصلحة جماعةٍ مؤمنةٍ أو لمصلحةٍ عليا. يُظهرون غير ما يُخفون، يميتون النفس ويلومونها باستمرار. وإذن، فنحن نفترض تبادلية مشتركة بين معركة بدر، وبين الفتوة في أحد، والمشارطة على الجنة أي وضع الشََّرَطة في قول علي الوارد في ابن النديم. ففي المعارك الثلاث هذه كانت القضية معتبرةً إلهيةً أو مقدَّسة، وكانت الأوضاع حرجة تتطلَّب الفداء بالذات أو المبايعة على الفناء. وذلك ما دل عليه: الشَّرطة والعلامة أو التسويم بالصوف واللجوء إلى رموز الفتوة ومشاعية النفس والتضحية الذاتية.

 

10.                      الشرطة والاسشاعة والخروج عن الذات إلى شرطة الله

رأينا أنَّ عليًا سمَّى أصحابه بالشرطة. ومرةً أخرى نكرر أنَّ الشرطة هي الكتيبة الأولى في الجيش أي التي تضحِّي لأجل المجموع وتشارط على الموت. وبذلك المعنى فإنَّ الشرطة تلتقي، في الجذور، مع الكلمة شيعة: كلاهما يدل على بذل النفس لأجل الله، وعلى الفداء، و...، و...

ويؤكد لنا، بالإضافة على ما سبق، أنَّ الشرطة هي، كما رأينا، نصٌّ نجده عند الطبري الذي يتكلم عن شرطة الله. وهؤلاء قوم يقدِّمون النفس خدمة لقضية عليا، ويبذلون المُهج في سبيل الجماعة والدين. وهنا تؤخذ في نظرةٍ واحدةٍ وفي وحدة دلالية مصطلحات مثل: شرطة الله، جند الله، شيعة الله، أهل الله... وهي كلها تدلُّ على الجماعة التي تبذل المهجة تقرُّبًا لله، وما حول ذلك ممَّا ذكرنا أعلاه.

 

11.                      الشيعة الصوفية هم الجيش. جيشٌ معيَّن أو طائفة الفدائية في الجيش والمنذورون الجاهليون

يقول مقاتل، الذي اشتهر بمعرفته، إنَّ الشيعة هي الجيش. وهكذا قرأ آية "الذي من شيعته" بأنها تعني (الذي من جيشه). فكلمة شيعة، وفق قول مقاتل، وردت في القرآن على خمسة وجوه: الوجه الأول منها يدل على الجيش؛ ويعني خامسها أهل مكة، وهو الوجه الذي قرأناه أعلاه. كما رأينا هنا أنَّ الشيعة بمعنى جيش تفسيرٌ أوردته القواميس الكبرى (الفيروز آبادي، أعلاه: سابعًا، فقرة: 3)؛ فالشيعة هم أول الجيش. ثم رأينا أنَّ ابن النديم يعني بالشيعة "شَرَطَة الخميس" (الجيش). ولعلَّ الشيعة بمعنى جيش موجودة في تسمية شيخ التوَّابين باسم "شيخ الشيعة".

وإذن، يكون الاستنتاج المعقول استنتاجًا يسند فرضيتنا التي ترى أنَّ الشيعة كتيبةٌ تفدي جيشًا، وتُقدم النفس هديةً أو ضحيةً لقضية جماعة، أو جيشٍ أو دين، أو مصلحةٍ مقدَّسة. وهكذا فإنَّ جيش الشيعة يعني جيش التوابين ويعني، كما سبق، جيش جماعة أشاعت النفس أي خرجت من ملكية الذات طلبًا للتضحية بالذات، ودخلت في الفناء، في ملكية الله، في المشاعية والتسييب الذاتي وتقديم النفس قربانًا وفداء ومحبَّاوية.

 

12.                      مفترضة وآرائية – السائب أو المسيَّب أي الضحية المشيَّعة (التشيُّع والتصوف والتسيب والنذر والضحية وتشييع المتوفى أي الإماتة وتركه بين يديِّ الله)

صار، الآن، سهلاً الإسراعُ في تقديم ما نظنه أدلةٌ أخرى على كون التشيُّع والتصوف والفتوةِ طرُق تعبُّدٍ عربية قبإسلامية، وصدرإسلامية. هنا نقول، بعدُ أيضًا، إنَّ في النذر المتعلِّق بالأضاحي سندًا يضاف: إنَّ السائبة حيوان يُضحى به وفق قواعد وعند شروطٍ محددة. ذلك النذر كان يجري أيضًا على البشر، أي كان هناك معتقد يُنذر فيه فرد، حتى قبل أن يولد، لخدمة المعبد أو للخروج عن امتلاك الذات للدخول في المشاعية وبيع الذات أي في ملكية الله أو ممثليه. ولسنا نفصِّل هنا، يكفي تذكُّر الكثير من الأسماء العربية التي تشير إلى ظاهرة التسييب مثل: ابن المسيَّب، السائب، السائبة (ولعلَّ الإحمس غير بعيد، هو أيضًا، عن ذلك التقدير). فهل يكون سائبة الله، ذلك الذي يضع القيد في عنقه، وضأن الله وحمل لله أو الفدي والهدي، وصوفة الله، والمشاع لله، شعائر ظاهرةٍ تعبُّديةٍ واحدة؟ كلها ظواهر مقدسة، وكلها تشترك في هدفٍ واحد هو مشيعة النفس كيما تعيش، على حد المخزون اللاواعي في الجذر (ش و ع) المتضمن لمعنى العيش ومعنى الشَّيع والشيوع ومعنى الموت في كلمة تشييع المتوفى.

 

13.                      خلاصة الفرضية وأسانيدِها

كان التشيُّع الجاهلي، في رأيي، حركةً تعبِّر عن ارتباط الفرد بقضيةٍ سامية، بالله، ارتباطًا هو تخلٍّ عن الذات بتقديمها ضحية وجعلها مشاعًا أي ملكية للقضية المقدَّسة، أو ملكية لله، وقربانًا له.

تزعم فرضيتنا أنَّ الشيعي، في الأصل والبدايات أو الجاهلية بل واللاوعي الديني الإسلامي، هو التائب أو الذي يبحث عن محو الشعور بالذنب بواسطة التقشُّف، والتزهد، وإشاعة الذات لأهل الله أي تمليكها لله.

ظهر لنا أنَّ التشيُّع كان اسمًا آخر للزهد في الجاهلية، ثم في صدر الإسلام. كأن التشيُّع طريقةُ تعبُّدٍ عرفها العربُ الأقدمون بل ونجدها تحت أسماء مختلفة في العبادات الكنعانية القبإسلامية. وهي طريقة تقوم على إعلاء الفقر، والزهد، والاهتمام بالروحانيات اهتمامًا لا يُعلى عليه.

الشيعة صفة تُطلق على جماعةٍ خرجوا إلى الحرب. فهم شيعة أي مبايعون على الموت، ومؤمنون بقضية عليا يعطيها الفرد كلَّ نفسه، ويستشهد لأجلها؛ وصفة تطلق على الفرد المشيِّع، والمملوك للكعبة والله، والمنذور أو المضحَّى به.

الشيعة تعني الأصفياء الذين هم الصوفيون، وأهل الصَّفَّة، ولابسو الصوف أي الذين يتخلون عن الدنيا قربى لله. الشيعة هم الصوفيون، الأصفياء، الأولياء، واضعو الشَّرَطة أي العلامة. إنهم المُعْلمون، والمقلَِّدون الذين يضعون القلادة في رقبة التضحية الرمزية بحيوان أو بشري.

الشيعة تسمية قديمة لأهل مكَّة. وتعني أنَّ هؤلاء هم أصفياء الله، وأولياؤه، وأصحابه، وأهله، وجيرانه وأهل بيته. لقد أبقى التاريخ المعروف على هذه النعوت لأهل مكة، وهي نعوت تطلق أيضًا، في قسم كبير منها، على الصوفيين.

الشيعة اسم من أسماء الجيش أو الطائفة من الجيش التي تكون في الطليعة وعلى استعداد للموت. وكالفدي والهدي للكعبة تكون تلك الطليعة ناذرةً الذات أو منذورةً للفناء. يتأكد هذا المعنى في قول مقاتل أنَّ الشيعة تعني الجيش، وفي كلام ابن النديم أنَّ الشيعة هي شرطة الخميس، وفي القواميس اللغوية.

هل الشيعة، نظير صوفة، كلمة (جامدة) تعني الضحية؟ كأن يقال: شيعة تقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكَّر والمؤنث. هل هي حالة الشخص الذي أشاع نفسه لله وللجماعة: لقد كان هناك المشيَّعة من الأضاحي، وتحت الجذر (ش و ع) نجد الأمر بالتقشف وتطويل الشعر، ثم الظاهرة وعكسها (جمَعَ القوم وفرَّقهم). إنَّ الفرضية تستحق أن تدرس من حيث الجذور، في الأصل أو التجربة الينبوعية، بمعزل عن التطور السيمانتيكي للكلمة ولمحمولاتها التي أثقلها التاريخ والعواطف والمآسي.

كل المصطلحات السابقة تؤكِّد جزئية تلك الشرائع التعبُّدية تشيُّع، تصوُّف، إحمسية، تضحية بالذات، تقديم النفس هديًا، جعلُ الذات مسيحًا يفدي ويضحي بنفسه أو إسماعيل ذبيحًا، فالأرومة هي الإسلام الجاهلي، الحنيفية؛ وهو تسليم النفس لله تعالى.

*** *** ***

الأوان، الخميس 8 آذار (مارس) 2012


 

horizontal rule

*  تمهيدة تحليلنفسية إناسية في استكشاف الرموز والتجارب الأقدم أو الخبرات الطفولية المكبوتة داخل اللاوعي الثقافي الديني. فهنا آرائية حول الهذا والأصول والمنسي كما المطرود، حول المتخَّيل أو الإيماني والحدسي والاثلوث العربي الجاهلي (أُمنا هاجر والابن إسماعيل والوالد إبراهيم).

[1]  را: رموز الصوف ووظائف الرمزية... في: زيعور، العقلية الصوفية ونفسانية التصوُّف.

[2]  أي إشاعة النفس أو نكرانها والتضحية بها، خدمةً لأيديولوجيا أو دين أو عقيدةِ الشخصيات المؤسِّسة، ظاهرة نفسية روحية تلحظ في: الإسلام، المسيحية...، المذاهب، الأحزاب.

[3]  را: التفسير الصوفي للقرآن عند الصادق، بيروت، دار الأندلس، 1978.

[4]  ابن النديم، الفهرست، تحقيق رضا تجدد، طهران، 1971، ص 223.

[5]  الشيبي، الصلة، ص 18.

[6]  الفيروز آبادي، ج 2، ص 381.

[7]  م. ع.، ج 2، ص 381، ابن منظور، بيروت 1956،ج 7، ص 332.

[8]  الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص 381.

[9]  القرآن، القمر: 51.

[10]  سورة القلم، الآية 51.

[11]  سورة سبأ، الآية 54.

[12]  سورة مريم، الآية 69.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود