الإنسان: كائن علاقة

 

أميمة الخش

 

كثيرًا ما تساءلت، وأنا أرنو إلى شجرة أو إلى وجه إنسان، إن كان الجمال الذي أبصر ماثلاً في الشجرة، في الوجه، أم في الشعور الذي يعتمل فيَّ إذ ذاك. هذه الخبرة الجمالية المعجزة – التي هي عينها الشعور بالقدسية – هل هي من صلب وجود الأشياء أم في شعور الإنسان المرهف بالتناسب والتناغم في العلاقات بين الأجزاء، وفي استشعار اللحمة الواحدة التي تبطِّنها؟

إذا كان الجمال من صلب وجود الأشياء لماذا يتفاوت الناس في إدراكهم الجمالي؟ لماذا يعجز الكثيرون منهم عن استشفاف الجمال في تفاصيل الحياة، أو، في أحسن الأحوال، لا يرون الجمال إلا بفكرهم وحده؟ لا بل لماذا يستجملون أشياء على غاية من القبح – كالدبابة وحاملة الطائرات – على ما فيهما من إعجاز تقني؟! وإذا كان الجزء، مجردًا، ينطوي على جمال لماذا لا تستطيع نفسي أن تتصور جزءًا من العالم بمعزل عن النسيج الكلِّي الذي ينتسج فيه؟

مفتاح الجواب على هذه التساؤلات، إذن، مخبوء في النفس الإنسانية التي ترنو إلى الأشياء. فإذا كنت أنظر إلى الأشياء، بفكري وحده، نظرة "تشريحية"، ضاعت مني الوحدة السارية فيها، وغرقتُ في الأجزاء، حتى تغيب عني العلاقات التي تربط الأجزاء فيما بينها. أما إذا انفتحت على العالم بكلِّية ملَكاتي الإدراكية فلن أرى غير الوحدة المبطِّنة للأجزاء.

عندما يستغرق الإنسان في الطبيعة، مستسلمًا لها، متفاعلاً معها بكلِّية ملكاته، ففي وسعه أن يستشعر الجمال فيها والغبطة في نفسه، ويترك لنفسه أن تفصح عن مكنوناتها. في تلك اللحظات يمكنه أن يعاين القدسية فيه من غير ما حاجة إلى أماكن مشيدة، لأنه يكون وما حوله واحدًا، لأنه يستشعر اللحمة المبطِّنة للأجزاء. وحين يدرك ذلك في أعماقه يكون في قلب الحياة. أما وقد ابتعد الإنسان عن موطنه الأصلي – الطبيعة – فقد شيد في داخله ومن حوله الحواجز والحدود.

يقول الفيلسوف الهندي ج. كريشنامورتي: "أن نكون يعني أن نكون على علاقة." والعلاقة هي التواصل – تواصل الإنسان مع داخله، وتواصله مع الآخرين من حوله، وتواصله مع الكون والطبيعة، في خبرة جمالية كلِّية. من هنا أستغرب من أولئك الذين يقصدون الأماكن القريبة أو البعيدة لكي يعاينوا القدسية خارج ذواتهم، وقد أخمدوا وعيهم بالعلاقات التي تربط فيما بينهم، وتربطهم بكلِّ ما حولهم!

لقد كرَّس الإنسان المعاصر الانفصالية، عن قصد أو عن غير قصد، واغترب عن ذاته، وعن الآخر. فتراه يفكر، ويتكلَّم، ويتحرك، و"يتواصل"، لكن من وراء حاجز سميك. فكيف يكون حال هذا "التواصل" يا ترى؟! أليس هو القطيعة بامتياز؟ وحين ينقطع الإنسان عن ذاته وعن الآخر يعيش في عزلة موحشة تنعكس في سلوكه الذي نراه في هذه الأيام: ضياع، وتشتت، وتسطيح لكلِّ القيم والمعايير.

وما ينطبق على الإنسان الفرد ينطبق على الشعوب وعلى الدول. فقد أقامت الدول أيضًا الحواجز فيما بينها، حواجز القومية، والعرق، والدين، والثقافة، بوصفها محدِّدة لهوياتها، ورفعت فيما بينها ألوية العداء، وأذكت مشاعر الحقد ونيران البغضاء بين شعوبها التي استجابت دون أن تحاول التفكير في المصير الذي تنساق إليه.

وكلما انتفخت الدول وكبرت زادت في سماكة الحاجز الفاصل فيما بينها وبين سائر الدول الأخرى. فها هي ذي الدولة الكبرى في العالم تعتقد أن مدنيَّتها هي الأفضل، وثقافتها هي الأشمل، وقيمها هي الأكثر إنسانية. ولذلك أغلظت في سماكة الحاجز الذي رفعته بينها وبين العالم أجمع. وقيام هذا الحاجز هو نفسه الذي يدفعها إلى فرض ثقافتها ومعتقداتها وسياستها وسيطرتها على شعوب الأرض كافة.

لا خلاص للإنسان إلا في إعادة وعي اللحمة التي تشده إلى الكلِّ، في خبرة جمالية تقوض الحواجز والسدود، وتفتح الكوى في النفس الإنسانية للإطلال على الوحدة، على العلاقة.

ألم يقل "أبله" دوستويفسكي إن "الجمال هو الذي سيخلِّص العالم"؟!

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود