معابر في مرآة الذات

3

دارين أحمد

 

حين نخرج من وَهْمِ الصور الملتفة من مختلف الجهات على حقيقة ذواتنا، نستطيع أن ننظر في المرآة دون وَجَلٍ يختبئ في أقنعة الاسم، السلطة، المركز، بأنواعه المتعددة؛ نستطيع أن نعدَّ مكانًا مناسبًا لسيد مزيف يحكم هذا العصر، مُحاصِرًا بسمومه الورقية الخضراء براءةَ الإنسان فينا، جمالَ الطبيعة، إذ يكتمل بما نسكبه من معرفة فيها، مخدِّرًا بوجهه الاستهلاكي طبيعتنا الحقَّ التي لا تتوانى عن بثِّ إشارات هنا وهناك، في داخلنا وفي انعكاسات هذا الداخل على العالم، بكلِّ ما فيه من تناقضات ظاهرية.

إنها القدرة على الخوض في غمار الصواب والخطأ، والعود المكرَّر إلى نزع ما يضيق من أحزمة، في انطلاقة انعتاقية نحو التناغم.

ومعابر التي أعلنت في بداية الربيع عودًا ثانيًا إلى "مرآتها"، احتضنتْ، منذ البداية، ذاتًا قادرة على التمييز بينها وبين صورها، فنأتْ عن زيف التوحُّد بالصور وعن حَصْرِ الثنائية الملازم لهذا التوحُّد. لذلك، كان في حضنها متَّسع لنا – نحن التائهين في محافل الصور.

وأيضًا، كان لها ولنا الكثير من الأسئلة.

ما هي معابر؟ ولنبدأ من النقطة الأولى أو النصِّ الأول الذي أعلن، بشكل مكثَّف مختصر، "ذات" معابر الواقفة أمام "مرآتها" الآن، وتحديدًا من السؤال البسيط العميق: "بماذا يختلف خطابُهم عن الخطابات المطروحة في "سوق الفكر"؟"

لأنه من الضرورة أن تقوَّس سوقُ الفكر ليبلغ المعنى أقصاه! ولأننا نعلم أن توصيف معابر بمنبر حرٍّ للتفكير لا يفي حقَّ اتجاهٍ – تتبنَّاه معابر – خارجٍ بمجمله عن سوق الفكر وبضائع المنابر الحرة!

نتوقف عند التجلِّي الأول، لنفضَّ أوهام التبادل السلعي – بمفهوم السلعة السائد حاليًّا – للأفكار؛ هذا التجلِّي الذي تمَّتْ صياغتُه في النصِّ الافتتاحي الأول بالقول: "[...] بدون أيِّ ادِّعاء بامتلاك الحقيقة، ولا حتى على الصعيد النسبي، وبالتالي بدون أية رغبة في الإقناع من أيِّ نوع."

ونطلُّ، من خلال هذه العبارة، على الصراع الأزلي بين محدودية الإنسان ولانهائية المعرفة، بين أصابعه الخمس وزئبقيَّتها. نطلُّ على الوهم الذي بناه فتحٌ متأخر لوعي الإنسان: "الإرادة" – تلك المَلَكة العظيمة التي تُمسك، بيد من حديد، حريةً مزعومة وحقيقةً محاصرة بالرغبات؛ حرية مزعومة بتعاميها عن الأسباب التي ساهمت في تشكُّلها.

هو افتراض قائم على الفصل بين الإنسان وما حوله، في تشكيل خاطئ للعلاقة بينه وبين الأشياء. انتقالٌ من علاقة تفاعُلية، تتمخَّض عن نموٍّ سليم، إلى علاقةِ تبعية، تفرض السيادةَ على الإنسان، من خلال افتراضه سيادتَه على كلِّ شيء، وحقيقة لا تتعدى كونها صنمًا كبيرًا نحتمي به بعضنا من بعض.

ملايين الأضاحي البشرية قُدِّمَتْ، بتبجيل مرعب، على مذبح امتلاك الحقيقة. ومازلنا نصرُّ – أفرادًا وجماعات – على قدرتنا على امتلاك ما نريد – بما في ذلك الحقيقة المنزَّهة عن جميع أوهامنا!

إنكِ، معابر، وقد قبضتِ بِيَدٍ على تلك الرغبات الملغومة في تحويل المسار البشري، بكلِّ تنوعاته واختلافاته، إلى مسار بلون واحد، يُقْصي رافضَه ويكفِّر السؤال، بسطتِ يدك الأخرى إلى المشترَك الواحد، متعدِّد الأشكال، الذي يجمعنا جميعًا تحت اسم ندَّعيه، دون أن نفرِّق بينه وبين أسماءٍ يصنعها. إنه الاسم الجدير بكلِّ معرفتنا: "إنسان"!

وقفتِ في مكان نستطيع أن نفهم فيه إمكانية – بل ضرورة – أن نكون جزءًا وكلا معًا، ممتلئين لا مالكين، عارفين لا ساعين إلى فرض ممتلكاتنا المعلوماتية، ملتزمين بحرية لا تعبأ بوهم السيادة.

فأي مكان خَطِرٍ هذا؟!

يقول يونغ: "أن تفكِّر خلافًا لما يُفكَّر به اليوم عمومًا هو أمر تعوزه دائمًا مشروعية راهنة، ويبعث على الضيق، بل يكاد لا يكون سليمًا ينمُّ عن مرض وتجديف، وينبئ بمخاطر اجتماعية على ذلك الذي يسبح ضد التيار."

وأي تيار، معابر، هذا الذي تسبحين ضده؟

ها هي نتف منه، وزَّعتْها أصابع بريهان§ بمهارة، وبمرارة أيضًا! ها هو مكوَّم، كالصدأ على الروح، في صورة امرأة سوداء تحمل رضيعًا يبحث عن ثدي أمِّه ولا يجد إلا الجوع.

ها هو يضحك على لسان قائل: "لا يهمني مادمت خارج البؤرة!" ويلسع على لسان قائل: "أنا وحدي من سينظف البؤرة!" ويبكي على لسان قائل: "لم أعد أحتمل... أحرقوا البؤرة!"

وأية مشروعية ستقدِّم لمعول يهدم بناءً أجوف لا يحتمل عُرْيَ صفحاتك من أوسمة المصالح؟!

إذن، نحن أمام خطاب مشروعيتُه هي ذاته. وذاته مشترَك يُبنى لا يُعطى، ويَكشِف لا يَستُر. تَميُّزُه هو انطلاقُه من جوهر واحد مشترك لدى الكل. وهو، بتميُّزه هذا، قرَّر العبور من البوابة الأصعب، ساعيًا إلى خلق "معبر" حقيقي. فماذا كان؟

"عام من معابر – نجاح وفشل": افتتاحية الإصدار الخامس.

إنها الوقفة العلنية الأولى أمام "المرآة" في ضوضاء واقع عالمي مأسوي، مازال يصرُّ على أن بإمكانه أن يكون رأسًا أو قدمين فقط – في تجاهلٍ مؤلم لكلِّية الإنسان، وكلِّية العالم، وللروابط العميقة والمتشابكة التي تجمع ما قد يبدو لِعَيْنِ الناظر مفترِقًا.

لم ولن يكون الحلُّ أبدًا ليصبَّ في سَمْلِ العين الناظرة، بل في العمل على إزالة الغشاوات والشوائب التي تملؤها، عبر طريق أساسي هو المعرفة والجهد الحقيقي المبذول للتواصل معها على صعيدي الذات والموضوع – كلٍّ على حدة، من جانب، وفي تشابكهما المعقَّد، من جانب آخر.

فماذا قدَّمَتْ معابر؟ وماذا قدَّمنا نحن – قرَّاء معابر؟

نقرأ في الوقفة الأولى اختصارًا بسيطًا لما قدَّمتْه معابر لهذا العالم الواسع، ولهذا العالم العربي، الغارق في تناقض روحي–علمي، يتمثل في تخلُّفه، تطرُّفه، استعلائه الهارب من الواقع؛ اختصارًا لما يمكن أن يشكِّل قاعدة الانعتاق نحو التناغم: إنه ذلك "الخط الإنساني الجديد–القديم، العلمي والروحي معًا".

وأيضًا، نقرأ: ماذا قدَّمنا نحن؟! نقرأ النداء في شكله الجنيني، قبل أن يتحول إلى بصمة منهج يسبح ضدَّ تيارٍ قاعدتُه الأساسية "المادة"، وحربته الوحيدة "المال".

ذلك "النداء" الذي كان صلة الوصل بيني كقارئ "مستهلك" لنصوص معابر وبين أولئك "الأقل من ثلاثة"، الأكبر من أيِّ عدد!

كان التساؤل الذي نقرؤه واضحًا في عيني معابر، وهي واقفة أمام مرآتها للمرة الثانية،ª محرِّكًا حدا بي إلى الاتصال بالرقم المعلَن في أسفل الصفحات، متوقِّعةً – لسيادة التيار الذي نعيش – أن أجد مؤسَّسة أو مركزًا إلخ، ليفاجئني على الطرف الآخر من الخط أكرم أنطاكي، كاتب "ذاكرة الباطن" (التي كانت أول ما قرأت في معابر).

أصدقائي، ليس لأن الأمر شخصي، بل لأن الـ"معابر" الإنسانية التي انطلقتْ من معابر كانت طريقًا يُشعِرني الآن أن السؤال المطروح في بداية إعلان الوقفة الثانية "من نحن؟ وما هي؟" يحضن إجابة واحدة لا يمكن امتلاكها، بل لا يمكن الوصول إليها، لأنها ليست "هناك" أو "بعد"، بل هي "هنا والآن"، تعيش سرمديَّتها التي خطَّتْ بيد الغاليين أكرم وديمتري:

"نفكِّر في أولئك الذين، في بدايات العصر الإسلامي، ترجموا أرسطو وفلاسفة الإغريق إلى السريانية والعربية، وفي العصر الوسيط الأوروبي، ترجموا ابن رشد وابن سينا وفلاسفة الإغريق من العربية إلى اللاتينية، ونتساءل: هل كانوا يتوقعون يا ترى النتائج المستقبلية العظيمة لما قاموا به آنذاك؟! ومثلهم أولئك من علماء فرنسا القرن الثامن عشر وفلاسفتها، الذين جمعوا تلك الموسوعة – خلاصة علوم عصرهم، التي كانت الأولى من نوعها في التاريخ – تراهم هل كانوا يتفكَّرون فيما سيتفتَّق عنه مشروعُهم الثقافي من نتائج؟!

"ونشطح متسائلين: هل كان بولس الرسول، قبل ألفي عام، يتصور ما ستتمخض عنه دعوتُه الطوباوية؟! ونتخيل حالمين تلك القوى الظلامية التي جابهتْه وأتباعَه الخُلَّص آنذاك، فجعلتْ الكثيرين منهم يدفع حياته ثمنًا لتلك المعرفة ولذلك الحلم الكوني الذي دعا إليه."

*** *** ***


§ راجع افتتاحية إصدار تموز 2004 بعنوان "معابر في مرآة الذات 2" بقلم بريهان قمق.

ª راجع افتتاحية إصدار نيسان 2004 بعنوان "معابر في مرآة الذات".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود