البشير وغَرَنْغ[1]

قراءة في بؤس "الحرب العادلة"

 

محمد حبش[2]

 

لا أعتقد أن أحدًا ممَّن تابع أخبارَ اتفاق السودانيين والمصالحة التامة بين الجنوب والشمال، التي تكرَّست رسميًّا بدخول غرنغ إلى الدولة السودانية كنائب للرئيس، – أقول: لا أعتقد أن أحدًا حضر ذلك المشهد الاحتفالي المهيب إلا وغَمَرَه الفرحُ والبهجةُ لانفراج أزمة أرَّقتِ السودانيين لأكثر من نصف قرن، ودفعوا ثمنَها من أعصابهم ولحمهم ودمهم، وقدَّموا من أجلها آلاف الشهداء. ولكنني كنت، في الواقع، أعاني من مشاعر أخرى!

قبل سنوات، كتبت مقالاً في صحيفة تشرين عن "الحرب الظالمة" وحقِّ الإنسان في التمرد عليها. وكنت في مقالي أؤصِّل لثقافة مهمة تشرح حقَّ الإنسان في التمرد على "الحرب الظالمة" إذا دُعِيَ إليها؛ وهو حق لا تزال دولُ العالم اليوم تتنكَّر له وترفضه، حيث يُرغَم الإنسانُ على خَوْضِ الحروب وفق إرادات حكوماته المتعاقبة، من دون أن يكون له حقُّ تقرير الحرب والسلام الذي تحتكره عادة المؤسَّسات العسكرية، ويدفع الإنسانُ ثمن خياراتها من دمه. وكضابط موضوعي لاختياري، كنت أتحدث عن رفض "الحرب الظالمة"، مقرِّرًا أن الجندي وحده هو مَن يقرِّر ما إذا كانت الحرب "عادلة" أو "ظالمة"، لا الإدارة السياسية أو العسكرية.

يومذاك، كَتَبَ عدد من الباحثين مقالاتٍ في الردِّ على مقالي هذا. وقد أعجبني منها ردٌّ للكاتب د. يوسف سلامة من السعودية، يشيد فيه بمقالي، ولكنه يتساءل: أين هي "الحرب العادلة"؟! كان ذلك التساؤل يعكس في خاطري مشهدًا مؤلمًا من الذكريات. فالحرب شرٌّ كلُّها، ولا يمكن، من خلال بنادق الحرب، إنتاج أية ثقافة متحضِّرة أو متوازنة.

ثمة حروب كثيرة خاضها الناس بأعلى درجة من الحماس، وقدَّموا أرواحهم بسخاء فيها، كما لو كانت معراجًا لهم إلى نعيم الجنة! ثم بدا للحكماء بعد ذلك أن الحرب لم تكن مبرَّرة، وأن الغايات التي ابتغيناها من الحرب لم تكن على وفق إرادة المحاربين الكاسرة، وكان بالإمكان أن نعالج همومنا وقضايانا بثمن أهون من هذا، لا تضيع فيه الأرواحُ ولا تُزهَق فيه المُهَج.

لقد زرت السودان يوم كان ساحة حرب تغلي. وكان خيرة شباب السودان يندفعون إلى شاحنات هائجة تغلي بصيحات الجهاد ورغائب الجنة، ويتواثب فيها الأبناءُ البَرَرة إلى مقاعد القتال، وهم يردِّدون: "في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء"، إلى آخر أناشيد الجهاد الحماسية التي لا تنتهي. وكان الجنوب، بدوره، يحشد الآلاف من أبنائه تحت لواء القتال من أجل الحرية، وربما بشعارات دينية لا تقل هياجًا عن شعارات الشمال وراياته!

يومذاك، كان الجنوب السوداني يشكِّل بوابة الجنة للراغبين في أسرع طريق إلى الفردوس! وكان اسم غرنغ، في ذهن كلِّ سوداني وعربي، يعني رمز الشر والكيد والكفر والغدر والمكر، بحيث كنتَ تختصر اسم إبليس وهامان وقارون وأبي جهل ونيرون وشمر بن ذي الجوشن وتيمورلنك وجنكيز خان وهولاكو وهتلر وشارون ونتنياهو بكلمة واحدة: غرنغ!

هكذا، على الأقل، ظلَّ المشهد لأكثر من اثنين وعشرين عامًا، لم تتوقف فيها رحى الحرب الطاحنة بين الشمال والجنوب.

فجأة ينصت السودانُ إلى صوت العقل، فيصغي الشمالُ إلى مَطالب الجنوب، ويصغي الجنوبُ إلى مَطالب الشمال، ويستفيق الكلُّ على حقيقة صادمة: إننا لم نكن نتَّجه إلى أيِّ مكان!

أي بؤس قاتل تصحو له بعدما يفنى على السير الزمانْ

حينمـا تعلم يومًـا أنه لم نكن نمشـي إلى أيِّ مكـانْ

كثيرون من شباب الكفاح الهائج، الذين قدَّموا أرواحهم وقودًا للحرب المجنونة، صاروا يصرخون بلا أسرار:

فإذن روحي التي أحرقتُها وشبابي وعذابي ودمي

وكفاحي وجراحي إثرها كان طيفًا من خيال واهِم؟

فجأة، يقف غرنغ إلى جوار عمر حسن أحمد البشير، يُقسِمان اليمين الدستورية على أن يكون الأول رئيسًا للسودان والآخر نائبًا له في أكبر موقعين في الوطن، لا يرقى إليهما في العادة إلا مَن كان أنظف الناس سِجِلاًّ وطنيًّا، وأكثرهم حرصًا على وحدة الأوطان، وأكثرهم غيرة على أهل السودان!

كنت أشعر حينذاك بشعور آلاف الأمهات اللاتي خسرن أبناءهن وفلذات أكبادهن وهنَّ يقاومن مدَّ غرنغ هذا، الذي كنَّ ينظرن إليه، من دون شك، على أنه مشروع "عولمي" شيطاني متوحش، مهمته ابتلاع الإسلام والعروبة والقضاء على الحقِّ والبرِّ والنور والخير. تذكرت الأبناء الذين ودَّعوا آباءهم وهم يركبون الشاحنات، يخرجون على أقدامهم مهلِّلين، ويعودون في النعوش يهلَّل لهم، أو لا يعودون، ليجعلوا من جسومهم جسرًا يحول دون مشروع غرنغ المتوحش الهادف إلى القضاء على الإسلام والعروبة والسودان!

لم تكن لدى الأبناء والأمَّهات أية شكوك في كون جهادهم هذا ضرورة وطنية وحقيقة دينية ونضالاً إنسانيًّا، وأن سائر معاني النبل والطهارة والإخلاص تتجسد في التضحية لوقف قوة غرنغ وتمدده. وبالتأكيد، كان الشعور نفسه يخامر الجنوبيين. وحين دفعوا أيضًا آلاف الضحايا، كانوا يحسون أنهم يدافعون عن السودان وعن الفضيلة والقيم العليا في وجه المدِّ الأصولي المتطرِّف القادم من الشمال. وهناك آلاف مؤلَّفة من مسلمي الجنوب كانت تخوض الحرب للهدف ذاته الذي خاضه عربُ الشمال، وكانوا يرون جهادهم هذا في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا، وليتم القضاء على عمر حسن أحمد البشير والترابي وغيرهم من الذين شوَّهوا الإسلام وقسَّموا السودان!

فأين تكمن الحقيقة في ذلك كلِّه؟! وأين هي "الحرب العادلة" التي يتطلع إليها الفريقان؟!

هل سيمتلك "النظام الجديد" الجرأة ويقول: لقد كنَّا في ضلال مبين؟ على الأغلب لا، بل سيقولون إن التضحيات العظيمة والدماء الزكيَّة الطاهرة هي التي أوصلتْنا إلى هذا النصر العظيم! وربما كانت هذه المجاملة الكاذبة أفضل الطُّرُق للتهرب من وجوه أمَّهات الشهداء وأبنائهم وإخوانهم، الذين صدَّقوا ذات يوم أن الدم وحده هو ما يصنع الأمن، وأن الحرب هي التي تصنع السلام!

منذ قرأت كلمات يوسف سلامة وأنا أبحث في هذا العالم المعاصر عن "الحرب العادلة"! وحتى هذه الساعة، فإن "الحرب العادلة" لا تعدو كونها مُكْرًا من الأقوياء. وبالإمكان القول بأن شرور الحرب كلَّها كان يمكن اجتنابُها لو بحث الطرفان عن مصالحهما بحيدة عن نزعات الاستعلاء والظلم والقهر. وهو ما تمكَّن العالم المتحضِّر اليوم من إنجازه: فهو عالم يتحكم بمصائر الأرض وثرواتها، ولكنه يحلُّ مشكلاته بالحوار والتفاوض. ولا تبدو الحروب اليوم بين الدول المتقدمة خيارًا واردًا لحلِّ مشكلاتها على الإطلاق. وقد تمكَّن دهاقنةُ الشرِّ من نقل غريزة الحرب إلى الدول المتخلِّفة، فيما هم يرتعون في نعيم الديموقراطيات!

لقد تمكَّنت أوروبا من تجاوز تاريخ معمَّد بالدم، فيه مئات الحروب الطاحنة، وثقافة من الكراهية تمتد إلى قرون متطاولة. وعلى أنقاض الأوهام، أقام الغرب آمالَ وحدته، وجمع أحلام هذه الشعوب جميعًا على هيئة نجوم صغيرة تلتف حول دائرة أنيقة في علم أزرق يؤمن بالكلِّ، ويسعى إلى حلِّ المشكلات بالطُّرُق السلمية.

إن اللغز، كما عبَّر عنه جودت سعيد، يُختصَر بعبارة واحدة: حين قال هتلر: "ألمانيا فوق الجميع"، أشعل الحرب العالمية التي أكلتِ الأخضر واليابس؛ وحين غيَّر الألمان ظرف المكان وقالوا: "ألمانيا مثل الجميع"، تمكَّنوا من بناء الوحدة الأوروبية الشامخة التي يباهي بها العالم اليوم.

هل هناك حقًّا "حربٌ عادلة"؟ – خاصة في عصر السلاح الأعمى الذي لا يفرِّق بين الظالم والمظلوم، ولا بين الجلاد والضحية. ولا زلت، يومًا بعد يوم، أشك بأن هناك "حربًا عادلة"، وأقترب أكثر فأكثر من جودت سعيد، "الصوت الصارخ في البرية"، بأن لا وجود لـ"حرب عادلة"، خاصة في عصر الأسلحة العمياء التي لا تُبقي ولا تَذِر، وأن تطبيق قاعدة "العين بالعين" سيجعل الجميع عميانًا!

*** *** ***

عن نشرة كلنا شركاء في الوطن، 9/8/2005


[1] ملاحظة: كُتِبَ هذا المقال قبل رحيل جون غرنغ؛ وبعد رحيله فهو أشد إلحاحًا ودلالة.

[2] الدكتور محمد حبش مدير "مركز الدراسات الإسلامية" ونائب في البرلمان السوري.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود