حقائق عن النفط[1]

 

إعداد: منذر أحمد عمران

 

تتدفق علينا منذ أشهر دون انقطاع، سواء من التلفزيونات أو من الصحف أو من الإنترنت، تقارير وتحليلات عن النفط، ولاسيما حين يتعلق الموضوع بأسباب الحرب على العراق، ويُتَّخد الأمرُ موضوعًا لتقييمات ومزاعم متناقضة أشد التناقض.

من المؤكد أن النفط يمثل الجزء الأهم من حاجة البشرية إلى المعيشة، وأن الكميات المستهلَكة منه، والارتفاع المستمر في وتيرتها، ليس سوى تعبير عن الظروف التي يحياها الفقراء والعمال في العالم.

نقدم فيما يلي تجميعًا لبعض الأرقام والمؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تطمح أن تكون تكملةً لكثير من المقالات والتحليلات عن هذا الموضوع.

الإنتاج النفطي

يتم حاليا استخراج 77 مليون برميل من النفط كلَّ يوم والمتاجرة بها. ومعنى هذا أن سعر البرميل، لو بلغ 30 دولارًا في الحالة العادية، فإن الحجم التجاري اليومي المتأتي عن ذلك يبلغ 2,3 مليارًا من الدولارات. ولو أن المساومة في السوق دارت على رفع سعر البرميل بمقدار دولار واحد فقط، لارتفع الربح اليومي إلى 77 مليون دولار يوميًّا.

تنتج السعودية يوميًّا حوالى 8,5 مليون برميل، وتلحق بها الولايات المتحدة (8 ملايين برميل في اليوم)، ومن بعدهما روسيا (7 ملايين برميل، أو 8,5 مليون برميل، لو أضفنا إليها إنتاج كازاخستان). وهذه الدول تأتي في المقدمة، ثم تتبعها إيران والمكسيك (3,5 مليون برميل يوميًّا لكلٍّ منهما). وفي العام 2002، كانت كمية النفط الواردة من دول الخليج تبلغ حوالى 20 مليون برميل يوميًّا، أي أكثر من ربع الإنتاج العالمي النفطي.

أما النفط في الولايات المتحدة، فيُستخرَج من 750 بئرًا "غنية" تقدِّم حوالى 12000 برميل يوميًّا (قريب من معدل الآبار السعودية)، ومن 533000 بئر "فقيرة" الإنتاج لا تقدم سوى 17 برميلاً في اليوم.[2]

ليست تكاليف إنتاج النفط واحدة أو ثابتة. وهي تتألف من:

1.    أجور اليد العاملة.

2.    مصاريف الاستخراج نفسه، الذي ترتبط كلفتُه بعمق توضُّع النفط في باطن الأرض، وبظروف الضغط الجيولوجي في المكمن النفطي، والمنصات البحرية (إنْ وُجدت) إلخ.

3.    نفقات النقل إلى محطات التجميع، سواء بالصهاريج أو بالناقلات البحرية أو النقل عبر الخطوط (أنابيب نقل النفط). وتدخل هنا تكاليف الكيلومتر الواحد من الخط الناقل، لأن الخطوط تحتاج إلى وضع مضخات على طول الخط بتباعدات قصيرة نسبيًّا من أجل التغلب على معوقات التدفق عبر الأنبوب الناتجة عن ترسب الأوساخ والجزيئات الصلبة، وعن تشكل المياه الملحية، وضغط الغاز المحصور في الأنبوب، وعدم استواء سطح الأرض في المناطق التي يمر الخط عبرها، والضغوط والانخماصات التي قد يعاني منها الأنبوب. وهذه المضخات يجب تزويدها على الدوام بالطاقة الكهربائية.

4.    نفقات الصيانة والإشراف الدائم على الخط، ومعالجة صدأ المضخات وتوقفاتها، ومراقبة التسربات النفطية المحتمَلة في الأجزاء المهمة من الخط.

5.    نفقات التسويق: فبعض المنابع النفطية (في سيبيريا مثلاً) لا يكون تسويقها ذا جدوى إلا إذا كان سعر النفط المسوَّق عاليًا.

إن تكاليف الاستخراج في منطقة الخليج تمثل أخفض التكاليف في العالم. فالنفط العراقي لا تزيد تكاليف إنتاج البرميل الواحد منه على 0,97 دولارًا، بينما تصل تكلفة استخراج البرميل الواحد من بحر الشمال إلى 4 دولارات. أما النفط السيبيري، فإن نقل البرميل الواحد من منبعه إلى الأنبوب أو محطة التجميع يكلِّف وحده 7 دولارات.

وقد قُدمت تقارير عديدة ذات ميول مختلفة عن الاحتياطي النفطي. وهاكم بعض الأرقام: إن أكبر احتياطيات نفطية مضمونة في العالم (تقارب 1000 مليار برميل) توجد في البلدان التالية:

-       السعودية (265,3 مليار برميل)

-       العراق (115 مليار برميل)

-       الكويت (98,8 مليار برميل)

-       إيران (96,4 مليار برميل)

-       الإمارات العربية المتحدة (62,8 مليار برميل)

-       روسيا (54,3 مليار برميل)

-       فنزويلا (47,6 مليار برميل)

-       الصين (30,6 مليار برميل)

-       ليبيا (30 مليار برميل)

-       المكسيك (26 مليار برميل)

-       نيجيريا (24,1 مليار برميل)

-       الولايات المتحدة (22 مليار برميل)

-       الجزائر (12,7 مليار برميل)

-       النرويج (10 مليار برميل)

ومجموع الاحتياطي كله في البلدان السابقة يبلغ 895,7 مليار برميل، وهي قيمة المخزون النفطي المكفول. وتملك دول الخليج العربي إجمالاً 70% من هذه القيمة، بينما تملك السعودية وحدها ربعها.

ويمكن، استنادًا إلى المخطط التالي، الاطلاع على مقارنة أوضح بين القيم المذكورة أعلاه:

الشكل 1: مقارنة الاحتياطي النفطي لمختلف البلدان

إن لنفط الخليج نوعية عالية الجودة، إضافة إلى تكاليف استخراجه المنخفضة. وثمة مناطق في دول الخليج لم يجرِ التنقيبُ فيها حتى الآن؛ ولكن النتائج الواعدة لطُرُق الاستكشاف الحديثة الثلاثية الأبعاد تدل على وجود كميات إضافية أخرى في هذه البلدان تجعل الأرقام المذكورة أعلاه مرشحة للزيادة.

يُعتبَر الاحتياطي الموجود هائلاً قياسًا إلى الاستهلاك النفطي الحالي. ولكن السؤال الملح هو: حتام يمكن أن يستمر هذا التوافق بين الكميات المستخرجة يوميًّا من المادة الخام وبين الطلب المتزايد عليها؟

إن الكميات المستهلَكة من النفط هي تعبير عن حالة التفاوت المفرط في عالمنا: المستهلكون الكبار تتباعد قيمُ استهلاكهم من النفط. فالولايات المتحدة الأمريكية تستهلك 25% من مجمل الإنتاج العالمي، وأوروبا 22% (ألمانيا 3,7%، فرنسا 2,7%، إيطاليا 2,6%، المملكة المتحدة 2,2%)، واليابان 7%، والصين 6,6%، وروسيا 3,5%.

ارتفع الاستهلاك النفطي العالمي في مجمله بين العاميين 1991 و2001 بمقدار 14%: في الولايات المتحدة 17%، وفي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا حوالى 1%، وفي اليابان 0% (تراجع). أما في الصين والبلدان الآسيوية الأخرى، فقد وُجِدَتْ أعلى معدلات نمو: الصين 109%، كوريا الجنوبية 78%، الهند 68%، إندونيسيا 64%. وهكذا يستمر الاستهلاك العالمي في التزايد بمعدل 2% سنويًّا.

ويطلب المستهلكون في الولايات المتحدة أيضًا النفط الرخيص الثمن. فالارتفاع في الأسعار، منذ بداية العام 1999 وحتى صيف العام 2000، سبَّب في الولايات المتحدة نفسها وفي الدول الأوروبية الصناعية الأخرى خلافات حادة، بينما أدى التقنين ورفع السعر في بلدان أخرى (مثل نيجيريا) إلى صدامات عنيفة إبان إضراب عمال النفط.

التجارة النفطية

كان النفط أول سلعة فعلية متداوَلة عالميًّا، حيث يتاجَر بالجزء الأكبر من النفط العالمي في بورصات لندن ونيويورك وسنغافورة. وتوجد نوعيات مختلفة الجودة من النفط يختلف بعضها عن بعض بنسبة الكبريت فيها وبمحتواها من المواد الأخرى (أي بوزنها النوعي). وحاليًا يتم في الأسواق المالية (البورصات) إبرامُ نوع من الاتفاقات يُطلَق عليها اسم Futures، تقضي بتوريد كميات محددة من النفط إلى أماكن معينة، وبسعر محدد بالدولار؛ وهي اتفاقات أو عقود تأخذ بالاعتبار الأسعار اليومية للنفط.

يحقق أصحاب إنتاج النفط المنخفض التكلفة أرباحًا هائلة عند ارتفاع الأسعار، ولاسيما في دول الخليج. فالفسحة المالية الممتدة بين تكلفة إنتاج قيمتها دولار واحد للبرميل وسعر مبيع يصل إلى 30 دولارًا تطيِّر صواب أيِّ رأسمالي وتخلب لبَّه! وتصب هذه الأرباح، بالدرجة الأولى، في جيوب المجتمعات النفطية الحاكمة في هذه البلدان.

تسيطر الاحتكارات النفطية العالمية consortiums في يومنا هذا على 15% من الإنتاج العالمي النفطي، حتى إن ذلك يشمل الآبار البحرية الجديدة ذات الأرباح الكبيرة. وسوف تواصل هذه الاحتكارات النفطية المسؤولة عن الإنتاج والتوزيع المتابعةَ في التسعيرة العالية للنفط، التي سوف تزيد – في إطار مكاسبهم الشخصية – من أرباحهم. وإن نضال الپروليتاريا المحلِّية يؤثر هو الآخر على تكاليف الإنتاج.

سعر النفط

إبان الأزمة النفطية في العامين 1973-1974، رفعت دولُ "منظمة الدول المصدِّرة للنفط" OPEC سعر النفط إلى مستوى القوة الاحتكارية (قوة الكارتل). وبتأثير ذلك تحديدًا، أصبح سعر النفط سعرًا جاريًا يتم تحديده في الأسواق المالية. ويتحدد سعر النفط وفقًا لأقصى كلفة استخراج موجودة في العالم (النفط المستخرَج ضمن الولايات المتحدة الأمريكية). وبما أن هذه السلعة ذات التكلفة العالية يتزايد الطلبُ عليها في السوق – حيث لا تبتعد كثيرًا الكميات المستخرجة عن الكميات المطلوبة – فإن الهدف يبقى دومًا الوصول إلى أعلى سعر في السوق. وهذا ما يجعل النفط ذا التكلفة المتدنِّية يحقق أرباحًا باهظة.

هذه الكتلة الربحية الضخمة التي تحصل عليها الدول الخليجية، تودَع في البنوك الأوروبية بالدولار (ومن هنا أتت تسمية Petrodollar؛ وكان يُطلَق عليها سابقًا اسم Eurodollar، باعتبار إنها كانت تودَع في المصارف الأوروبية، حتى قبل ظهور عملة اليورو).

شكَّلتْ هذه الكتلُ المالية الضخمة تاريخيًّا على الدوام النواةَ المركزية للسيولات المالية العالمية المتنامية بلا حدود. ثم مُنِحَتْ فيما بعد كقروض إلى دول العالم الثالث والدول الاشتراكية التي تعاني من العجز المالي؛ فارتفعت مديونية العالم الثالث من 100 مليار دولار في العام 1971 إلى 1000 مليار دولار في العام 1988، بينما ارتفعت هذه المديونية في الدول الاشتراكية من 8 مليار إلى 80 مليار دولار إبان الفترة نفسها. وهكذا تم إرساء قاعدة أزمة الديون في العالم الثالث.

الشكل 2: تغير أسعار النفط بين أعوام 1947-1998

وإبان أعوام التسعينيات، تحوَّلت دول النفط الكبيرة نفسها في منطقة الخليج إلى بلدان مدينة (مستدينة). وتدخل تكاليفُ الإجراءات القمعية والتسلطية ونفقات إرضاء الشعب إلى حدٍّ كبير ضمن نفقات الإنتاج النفطي في دول الخليج. فالأنظمة هناك (ونخص منها بالذكر النظام السعودي) تكابد تأثير ضغط سكان يتزايد عددهم باطِّراد للمحافظة على المستوى الاجتماعي المعيشي الذي بلغتْه البلاد والاستمرار في تمويله. وهذا ما لن تطيق الأنظمة الاستمرار فيه إلى الأبد.

تُعتبَر تكاليف الإنتاج الأمريكية كبيرة بسبب المشكلات التقنية للمخزونات النفطية المتبقية التي يعود زمنُ استغلالها إلى أيام المصابيح البترولية. أما في دول الخليج النفطية، فإن قسمًا كبيرًا من قوت السكان يجب أن تموِّله أسعار النفط.

ويمثل سعر النفط بالنسبة إلى الولايات المتحدة ورطةً حقيقية، لأن الواردات النفطية السنوية بقيمة 50 مليار دولار تُراكِم الجزء الأكبر من العجز في التجارة الخارجية. فالشعب يطالب بأسعار منخفضة، مع المحافظة، على أقل تقدير، على كميات الاستهلاك نفسها. ولكن السعر المنخفض معناه تهديد الإنتاج الأمريكي الذاتي، ولاسيما بسبب التكلفة العالية لإنتاج النفط الأمريكي.

النفط في العراق

يوجد في منطقة العراق أكثر من عُشْر كميات النفط المعروفة في العالم. ومع بداية التأميم في العام 1973، وضعت "شركة نفط العراق الوطنية" INOC يدَها على كامل الإنتاج النفطي العراقي، بمثابة تعويض من الكارتل النفطي العالمي المسمَّى شركة Iraq Petroleum الذي كانت تشارك فيه الشركات السالفة، من أمثال British Petroleum (BP)، وShell، وExxon، وTotal. وبدأت الشركة الوطنية لنفط العراق في زيادة الإنتاج، حتى وصلت به في العام 1979 إلى قمته (3,5 مليون برميل يوميًّا). وما هي إلا سنوات قليلة حتى استطاعت الدولة العراقية أن تستخدم الأرباح النفطية وتزجَّ بها في الاستثمارات الصناعية والعسكرية.

شجعت الحكومات الغربية صدام حسين إبان حرب الخليج الأولى (1980-1988) على إشعال الحرب ضد الشعب الإيراني الثائر. ولم يكن ممكنًا استخراج النفط إبان الحرب إلا بكميات منخفضة فقط؛ ولم تكن ثمة إمكانية لتصديره عبر الخليج. وبذلك انخفض الإنتاج النفطي في العام 1981 إلى مليون برميل يوميًّا. ولكنه تزايد من جديد بوتيرة بطيئة بدءًا من العام 1984 بعد تفعيل طُرُق نقل جديدة في الشمال الغربي، حتى عاد إلى مستوى إنتاجه اليومي قبل الحرب بعد توقف المعارك.

لم تكد الحرب تضع أوزارها حتى عادت الاحتكارات النفطية consortiums إلى الوقوف أمام الأبواب، في محاولة منها للدخول في صفقات مربحة مع نفط الخليج. واشتد الضغط على الحكومة العراقية لتسديد الديون الهائلة المستحقة عليها إبان سنوات الحرب لقاء تزويدها بالأسلحة. وقد توقفت جميع المداولات بهذا الخصوص في حرب الخليج الثانية 1990-1991.

إلى جانب المجموعات الشعبية المتمرِّدة، والجنود العصاة، وعمال النفط الذين شكلوا في مجموعهم تهديدًا حقيقيًّا للنظام العراقي، كانت البنية التحتية النفطية أيضًا هدفًا مركزيًّا للهجمات الجوية العراقية. وقد أُضرِمَت النارُ في الآبار النفطية وفقًا لاستراتيجية "الأرض المحروقة" التي اتَّبعها الجيش العراقي في مناطق الهجوم (وهو ما حصل ضد التجهيزات النفطية الكويتية). وهكذا دُمِّرَتْ محطاتُ التجميع المتمركزة في نقاط التمفصُل على خطوط أنابيب النفط، وكذلك محطات الضخ والأنابيب نفسها، والمنشآت المرفئية. وبذلك انخفضت الطاقة الإنتاجية إلى مليون برميل من النفط يوميًّا، وانخفضت الكميات المستخرَجة إلى 0,3 مليون برميل يوميًّا.

إبان الحصار الذي فُرِضَ على الحكومة العراقية لاحقًا، حُظِرَ تصديرُ النفط، وأوقِفَتْ الاستثماراتُ الأجنبية، وتوقف توريد التجهيزات التكنولوجية وقطع الغيار الخاصة بالصناعة النفطية. ولم يُسمَح بتصدير النفط إلا في كانون الأول 1996، ولكنْ في نطاق محدود، ضمن إطار برنامج "النفط مقابل الغذاء".

كانت البنية التحتية العراقية قد تهالكت أو دُمِّرَتْ، وكان العراق يعاني جزئيًّا من صعوبات في تصدير كميات النفط التي سمحت بها الأمم المتحدة. واضطرت الحكومة العراقية، بعد 12 عامًا من الحصار، إلى بيع الحقول النفطية من جديد إلى الـconsortiums الأجنبية لكي تتمكن من دفع فواتير استثمارات وشركات Notwen-Digen (وهي شركات تبيع التكنولوجيا النفطية)، لأن العراق لم يستطع مضاعفة إنتاجه النفطي إلا بعد الدخول إلى تكنولوجيا Notwen-Digen.

كان العراق قبل الحرب العراقية الإيرانية أكثر الدول العربية تطورًا من الناحيتين الصناعية والتقنية، وكان مستوى التأهيل والمهارات فيه عاليًا. وقد وُجِدَتْ طبقةٌ عاملة نفطية متطورة تمَّ رفدُها بالكثير من المهاجرين. وكان الإنتاج الزراعي كافيًا في حدِّ ذاته لإطعام البلاد كلِّها.

يعيش اليوم في العراق 23 مليونًا (كانوا 5,2 مليونًا في العام 1950)، يعيش 70% منهم في المدن، وتضم بغداد وحدها 7 ملايين من السكان.

التنافس على النفط العراقي

توجَّه النضال، للمرة الأولى بعد الثورة العراقية، ليس فقط ضد الحكومات الأمريكية السائدة، وإنما أيضًا ضد الهيمنة الأمريكية على نفط المنطقة. وكان العراق آنذاك، بنظر الكثيرين، نموذجًا للتطور المستقل بعد الناصرية. ولم يكن يهدِّد نظامَه القمعي إلا الذين اعتبروا أن الثورة ممكنة في العراق، كما حدثت في إيران، ومن بينهم فئة كبيرة من الشيعة والعمال والجنود والساخطين. ولذلك كانت الحربُ على إيران ضروريةً – للنظام الحاكم في بغداد وللحكومة الأمريكية على حدٍّ سواء.

بعد حرب الخليج الأولى، تراجعت البلاد إلى وضع جَعَلَها من جديد مدخلاً للـconsortiums النفطية: ففي العام 1988، أخذت شركة Total الفرنسية تُفاوِض من أجل الدخول إلى إنتاج النفط العراقي. ولكن هذه المداولات انقطعت إبان حرب الخليج الثانية 1990-1991، ومَنَعَ الحصارُ اللاحق أية شركة أجنبية أن تستثمر في الحقول النفطية العراقية. ولكن، على الرغم من الحصار، استمرت شركة Total في المفاوضات مع "شركة نفط العراق الوطنية" INOC، وأصبح الاتفاق جاهزًا للتوقيع في العام 1995، ولكنه لم يتحقق بسبب الحصار.

أبرمت شركة النفط الروسية Lukoil، على الرغم من الحصار، اتفاقًا مع الحكومة العراقية في العام 1999، يضمن لها حقوق استغلال حقل "القرنة" ذي الـ15 مليار برميل. وقد ألغى العراقُ هذا الاتفاق في العام 2003 لأن Lukoil خالفت الاتفاقات ولم تستثمر شيئًا من الحقل طوال 3 سنوات.

كان يوجد في العراق أكثر من 40 شركة من كافة أنحاء العالم، – باستثناء الولايات المتحدة، – وكذلك شركات روسية أخرى غير Lukoil، بهدف تحديد المطالب وإبرام العقود حول احتمالات فترة ما بعد الحصار. ولم يكن الموضوع مقتصرًا على الحقول النفطية المفتَتَحة أو الموجودة فعلاً، وإنما كان يتعلق أيضًا بحقوق التنقيب على طول الحدود العراقية مع الكويت والسعودية، حيث إن الطرف الآخر من الحدود كذلك تطمح بالعمل فيه شركات، مثل Exxon Mobil وChevron-Taexaco. ويقدِّر الجيولوجيون إمكانية العثور هناك على كميات نفطية قد تبلغ 108 مليار برميل إضافية لم تدخل سابقًا في تقديرات الاحتياطي العالمي.

لم يكن بمقدور الـconsortiums الأمريكية والبريطانية عمومًا أن تتقدَّم (التفاوض تم فقط مع شركة Shell الهولندية–البريطانية)، باعتبار أن الدولتين – أمريكا وبريطانيا – عليهما مواصلة الحرب الجوية على العراق في منطقة الحظر الجوي غير المعترَف بها، وإلزام الشركات الأمريكية بالتقيد بقوانين الدولة. وقد أصدر الكونغرس في العام 1996 قانونًا حظر فيه على الشركات القيام بنشاطات استثمارية في إيران أطلق عليه اسم "قانون داماتو". وقد احتجَّت الـconsortiums الأمريكية عبر الصحف والمجلات، متهمةً القانون بأنه يعيق عملها.

وسقوط صدام حسين، وفقًا لتقديرات بنك Baghdad Bazaar-Big Oil الألماني في بغداد، سوف يجعل الشركات الأمريكية وشركة BP تتقاطر على العراق؛ ولولا ذلك لكانت الشركات الروسية والفرنسية والصينية هي التي تتحكَّم بنفط العراق.

أحد مدراء الشركة الفرنسية TotalFinaElf يقول الآن في قلق:

لقد حاولنا فقط أن نجعل أنفنا مندسًّا إلى الأمام... ليس ثمة سبب لا يجعلنا نشارك في تطوير قطاع النفط العراقي... لقد طبَّقنا الحصار ونفَّذنا قرارات الأمم المتحدة، ولا نريد أن نعاقَب على ذلك.

لكن الولايات المتحدة تعود بالذاكرة إلى العام 1997، حيث حاولت وقتذاك تطبيق "قانون داماتو" على شركة TotalFinaElf وفَرْض القوانين الأمريكية عليها عندما وقَّعت هذه الشركة سوية مع شركاء آخرين (مثل Gasprom) عقودًا نفطية مع الحكومة الإيرانية. وقد حدَّت الأمم المتحدة من هذا التوسيع العالمي للقوانين الأمريكية.

تصر الـconsortiums النفطية الأمريكية على أن هذه الاتفاقات يجب – بعد حرب ما – أن يتم التداول فيها من جديد. وترنو شركات مثل BP (التي كانت تدعى سابقًا "الشركة الأنغلوفارسية") وExxon Mobil إلى حقوقها المزعومة القديمة التي تخلَّت عنها قسرًا بموجب قوانين التأميم، أي إلى اتفاقات بشأن تعويض الأضرار.

هل النفط فقط هو سبب الحرب؟

إن صورة هذه الضباع، التي تعض بعضها بعضًا في نزاعها على فريستها السمينة، توصِل الانطباع بأن حرب العراق تدور فقط حول النفط. ولكن هذا التفاوت بين تكاليف الحرب وبين ما سوف تدره الغنيمة المنتظرة يوضِّح أن الهدف هو أكبر من ذلك.

إن تكاليف الحرب على العراق، بما فيها التكاليف المتوقعة مستقبلاً، وفقًا لدراسة أجرتْها "لجنة بحوث الأمن العالمي"، التابعة لأكاديمية الفنون والعلوم الأمريكية CISS، تتراوح بين 99 مليار دولار (في أحسن الظروف الملائمة) وبين 1924 مليار دولار (في أسوأ الظروف)، بينما تتراوح النفقات العسكرية الصرفة بين 50 مليار وبين 140 مليار دولار. وهذه التكاليف الضخمة تتجاوز في وضوح جميع الأرباح المتوقعة من النفط. وهناك نقطة أخرى تصدم وجوهَنا، هي أن النفط يتاجَر به عالميًّا بالدولار، ويتم كذلك تحويل أرباحه إلى الدولار. وهذا ما يشكِّل اليوم واحدة من الشروط التي تبرِّر الثقة بهذه العملة.

تبلغ ديون الولايات المتحدة اليوم ثلثي الإنتاج الصافي الداخلي. وهي تتعاظم وتزيد، ولا يمكن تسديدها بحال من الأحوال لو طولبت بدفعها. لذلك فإن تسديد أثمان الصفقات النفطية بالدولار يقدِّم دعمًا من أجل قروض أخرى، ومن أجل القبول – عند تسديد الفواتير – بالدولارات الجديدة التي تُطبَع في استمرار، وكذلك من أجل إبعاد الانهيار الاقتصادي. ولو أن الحرب لم تحصل، لكانت الصفقات النفطية العراقية والإيرانية ستسدَّد قيمتها باليورو.

إن "العملة النفطية" أو الدعامة الحاملة التي هي الدولار بدأت تترنَّح، وبدأت تظهر معها إمكانيةُ تمويل السيطرة على العالم عِبْرَ طبع عملات ورقية جديدة banknotes دون تغطية من الذهب.

أما كيف رُبِطَ النفط بأهداف الحرب، فقد وَرَدَ في دراسة بدأها Baker Institute للسياسة الاجتماعية في العام 2000، – قبل سنة على أحداث 11 أيلول، – بتكليف من نائب الرئيس تشيني، وانتهت في بداية 2001 ما ملخَّصه:

سياسة الطاقة الاستراتيجية – تحديات القرن الواحد والعشرين

تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم في ورطة. فالشعب الأمريكي يطالِب بكميات كبيرة من الطاقة الرخيصة الثمن، وهو غير مستعد للتقنين أو لتقليل استهلاكه. وتقف الدول العربية في الجانب الآخر في مقدمة الدول المهتمة بالأسعار العالية، لأنها تتعرَّض، من جهة أخرى، إلى ضغط شعوبها من أجل المحافظة على مستوى المعيشة الحالي وعدم تخفيضه. وتبعًا لذلك، فهي مهتمة أيضًا بتخفيض الإنتاج وجعل السوق على الدوام محتاجا إليه؛ أي أن الولايات المتحدة تريد في حقيقة الأمر من شعوب الدول المنتجة للنفط أن تشدَّ حزامها للإبقاء على مستوى المعيشة الأمريكي وعدم تدنِّيه.

والنقطة الأخرى في هذه المعضلة هي أن الدول العربية في أعوام التسعينيات – مثلها كمثل الولايات المتحدة – لم تستثمر في إنتاج النفط أو الغاز بسبب السعر المتدنِّي آنذاك، مما أدى إلى تخفيض الطاقات الإنتاجية التي لم تتعب أصلاً (الاحتياطي الكبير) إلى النصف؛ وهو ما جعل وضع الولايات المتحدة غير مأمون، وقاد إلى رفع الأسعار وإلى حساسية السوق المفرطة تجاه أية مضايقات، مهما صغرت.

رسمت الدراسةُ نوعًا من السيناريو المرعب، وكرَّرت مرارًا وجوب إقناع الشعب الأمريكي أن التزود بالنفط يتطلب القيام بشيء ما. وأشارت الدراسة إلى أن الضغط الذي يمارَس على شعوب منطقة الخليج قد يكون ثمنه باهظًا، لأنه، في الحالة الأخرى، قد يمكِّن العناصر المعادية للغرب من الاستيلاء على السلطة:

إن عاقبة عدم تولِّي الولايات المتحدة قيادة تطوير السوق وأنظمة الاستثمار ستكون خطرة، وهي ترك المجال للآخرين لإقامة مؤسَّسات تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة.

إن السياسة في العراق لم تؤدِّ، وفق تقديرات مُعِدِّي الدراسة، إلا إلى عدم استقرار تدفق النفط من المنطقة إلى السوق العالمية النفطية. فصدام حسين كان مستعدًا لاستخدام النفط كسلاح والمناورة على السوق العالمية، عبر برنامج التصدير الخاص به. وإن الاستمرار في العقوبات سيخلق دومًا مزيدًا من التقييدات على تدفق النفط إلى السوق. وقالت الدراسة في النهاية:

إن على الولايات المتحدة أن تقوم بمراجعة سياستها نحو العراق، بما فيها جميع التقديرات العسكرية والاقتصادية والسياسية–الدبلوماسية وتلك التي تتعلق بالطاقة.

الوضع الحالي

أمكن إبان حرب 1990-1991 موازنة غياب النفط الكويتي والعراقي عن طريق زيادة الطاقة الإنتاجية الحرة للنفط العالمي التي يمكن تفعيلها لآجال قصيرة. وكان سعر البرميل قد ارتفع قبل الحرب إلى أكثر من 40 دولارًا، وبلغ مستواه الطبيعي بعد الحرب بشهر واحد. ولكن الحالة اليوم مختلفة: فالأسواق المالية حساسة جدًّا تجاه أية إعاقة تطرأ على طُرُق نقل النفط، كما حصل مثلاً بعد تحطم ناقلة نفط في البوسفور وإضراب عمال النفط في نيجيريا. وإن تخفيض الصادرات النفطية الفنزويلية من 2,4 مليون برميل في تشرين الثاني 2002 إلى 0,35 مليون برميل في كانون الثاني 2003، تم تعويضه برفع وتيرة الطاقة الإنتاجية الاحتياطية للبلدان الأخرى. وهذه الطاقات الإنتاجية الاحتياطية لا تتوفر في حالات الحرب عندما يحصل نقص في الكميات المستخرجة.

قبل حرب العراق 1990-1991، كانت الطاقة الإنتاجية الاحتياطية غير المستخدَمة 7,1 مليون برميل يوميًّا؛ وهي اليوم 3 ملايين برميل يوميًّا في أحسن حالاتها. لقد زادت فنزويلا من إنتاجها مرة أخرى، ولكنها قد لا تتمكَّن في المستقبل المنظور من العودة إلى طاقة إنتاجها السابقة.

تحتاج الحقول النفطية ذات الضغط المنخفض – حتى مع عدم تسريح كثير من عمال النفط – إلى شهر أو شهرين لكي تستعيد إنتاجها. ولذلك يتم تحمُّل خسارة دائمة لا يمكن تعويضها بالنسبة إلى بعض الحقول، قد تصل إلى 400000 برميل يوميًّا.

انخفضت مخزونات الصناعة من النفط بسبب الأسعار العالية، وتراجعت الاحتياطيات الاستراتيجية في بلدان "مجلس التعاون والتطوير الاقتصادي" OECD ابتداءً من تشرين الثاني 2002. وتزداد الشكوك أكثر فأكثر في الأسواق المالية بشأن ما تقدِّمه دولُ مجلس التعاون من معلومات حول الطاقات الإنتاجية الحرة المتوفرة لديها.

إن الحرب على العراق تعاني من مأزق جدي. فمن ناحية أولى، يجب أن يمكِّن احتلالُ العراق من التحكم الطويل الأمد بالسوق النفطية. ولكن يمكن للحرب، من ناحية أخرى، أن تجعل من هذا التحكم لاشيء على الإطلاق، ليس فقط نتيجة الانقطاعات المبرمَجة في الإنتاج، بل لأنها أيضًا قد تخلق قلاقل اجتماعية واضطرابات سياسية في البلدان الأخرى المنتجة للنفط – وهو ما تظهر بوادرُه الآن.

*** *** ***

إعداد وترجمة: د. منذر عمران، 17/04/2005


[1] إعداد وترجمة عن الألمانية بتصرف عن مقالة مغفَلة من الاسم، منشورة في موقع "الهيئة الألمانية للإحصاء".

[2] الأرقام الواردة أعلاه عن الإنتاج والاستهلاك والاحتياط مأخوذة من "تقرير السوق النفطية" الذي أعدته "الهيئة الأمريكية للطاقة الدولية".

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود