المتوازيات والتناقضات

حوار التلاقي والاختلاف بصوتين ثقافيين

 

سليمان بختي

 

لكتاب المتوازيات والتناقضات لدانيال بارنبويم وإدوارد سعيد[1] – وعنوانُه الفرعي "اختراقات في الموسيقى والمجتمع" (بتحرير آرا غوسيلميان) – فرادتُه في تقصِّي العلاقة بين الموسيقى وتطور المجتمع، عبر حوارات بين مفكر وكاتب، من ناحية، وفنان وقائد أركسترا موسيقية، من ناحية ثانية. والكتاب هو سلسلة حوارات ومناقشات بين الإسرائيلي بارنبويم، قائد أركسترا شيكاغو السمفونية وأوپرا برلين، والفلسطيني إدوارد سعيد، المثقف والناقد والخبير في شؤون الشرق الأوسط – وكانا صديقين لأمد طويل. ولا تتوقف الحوارات بينهما عند الموسيقى والمجتمع، بل تتعداهما إلى السياسة والأدب والتاريخ والفوارق بين كتابة الشعر وكتابة الموسيقى. "السياسي القادر على المساومة في مواجهة الفنان الذي لا يساوِم"، كما كتب ألَن روزبردجر في صحيفة New Statesman. معلِّمان كبيران يُظهِران قدرة الثقافة على تجاوُز الخلافات الوطنية.

في الصفحات العشرين الأولى من الكتاب، يغطِّي كلاهما في حديثه القدس اليوم، والقاهرة في الخمسينات، وغوته، والرأسمالية، والعولمة، إلى رأيهما في عدد من الموسيقيين الكبار وقادة الأركسترا. ويتناقشان كذلك في مواقف وأعمال كتَّاب كبار، مثل بلزاك وديكنز وأدورنو، ويمرَّان على احتفال موسيقيٍّ نظَّماه في فايمار في العام 1999 وشارك فيه موسيقيون عرب وإسرائيليون احتفاءً بمئوية غوته الثانية وآثاره الإيجابية.

يقع الكتاب في ستة فصول، مع مقدمة للمحرِّر غوسيلميان. وفي الفصول الأولى، يتطرق بارنبويم وسعيد إلى الشؤون الموسيقية البحتة. وفي الفصل الثالث، يطول الحديث ليتناول الفنَّ والسياسة. وتُجمِع باقي الفصول على أنه لا يمكن إبعاد التحليل الموسيقي عن التحليل الفكري والاجتماعي والسياسي.

ولا يسع القارئ إلا أن يستشعر الصداقة بين المتحاوِرين ومحبتهما القوية للموسيقى والفكر وحدود خلافاتهما السياسية: فبارنبويم يهودي من أصل روسي، عاش في الأرجنتين، ثم انتقل إلى إسرائيل؛ وسعيد فلسطيني، عاش في مصر ولبنان والولايات المتحدة، وحُرِمَ من العيش في فلسطين. وقد استمرت هذه المحاورات بين سعيد وبارنبويم على مدى خمسة أعوام، وتمَّت أمام الجمهور في قاعات نيويورك وجامعاتها، وفي شيكاغو، وكذلك في مكتبَي المتحاورين ومنزليهما.

يقول سعيد عن علاقته بالموسيقى وتذوقه لها وعزفه للپيانو:

الموسيقى سر حياتي، والعلاقة بين الأدب وبعض الأنماط الموسيقية أمر لافت وساحر. إنها الأشياء التي أهتم بها، إنما ليس إلى الحدِّ الذي يجعل المرءَ يفصل الأدب عن كلِّ شيء آخر. المسألة متعلقة بالتشديد على شيء معيَّن وبالاهتمام به.

وفي مستهل الفصل الأول، يقول بارنبويم:

منزلي هو حيث أستطيع إنتاج الموسيقى، وحيث أستطيع عزف الپيانو أو السفر مع الأركسترا إلى أيِّ بلد، فأشعر بأنني في منزلي.

ويتابع عن القدس:

تمثل القدس لي حلمًا شعريًّا. تعلَّمتُ ذلك من خلال تربيتي. وقد أشعر بأنني في منزلي حين أفكر في القدس، أو عندما أكون مع أصدقاء مقرَّبين، أو مع إدوارد سعيد. لكن تبقى الموسيقى هي الأهم.

ماذا يقول سعيد عن قضية المكان–المنزل؟

إن مسألة ضرورة وجود منزل واحد للإنسان مبالَغ فيها. ثمة عاطفية مصطنعة حيال الأوطان والمَواطن والمنازل الخاصة.

ويعزو سبب محبته لمدينة نيويورك إلى أنها

مثل الحرباء، متلوِّنة، ويسع الإنسان أن يكون فيها في أيِّ مكان من غير أن يكون جزءًا لا يتجزأ منها.

ويتابع حول الشرق الأوسط:

عندما أزور الشرق الأوسط، حيث ولدت ونشأت، أشعر بمقاومة داخلية غريبة تتملَّكني. وحين زرت القدس في العام 1992 مع عائلتي، وجدتُها مختلفة عن المدينة التي عرفتُها قبل 45 عامًا. في كتابي خارج المكان كتبت هذه العبارة: "إن هوية الإنسان هي مجموعة تيارات متدفقة، وليست مكانًا محددًا [...]."

الحديث عن الشرق الأوسط يظهر بين المتحاورين كخلاف أساسي. ويوضح سعيد الأمر من وجهة نظره:

أفكارنا حول المنطقة وتاريخها تختلف. فدانيال بارنبويم يرى تاريخها على نحو مختلف عن رؤية شخص فلسطيني لها – وهذا أمر صحي. إن انتقاداتي الأساسية لعملية السلام أنها تتناقض مع التاريخ، ولا تأخذ في الاعتبار القصةَ من المنظور الفلسطيني. ومن هنا أهمية الذاكرة والمعاناة وفهم التاريخ وتعقيداته وتفاصيله، لكي يستطيع الناس أن يتكيفوا مع هذا التاريخ ويتعايشوا معه. أما البدء بالحقائق الميدانية، فيشكل پراغماتية سياسية لا أوافق عليها كمفكر إنساني وكإنسان يرى أن تواريخ الشعوب أمور معقدة تتصل بقضايا العدالة والظلم والاضطهاد. وليس ضروريًّا الاتفاق مع بارنبويم على كلِّ شيء، بل الاعتراف بالاختلاف وقبول الرأي الآخر والنظرة المختلفة إلى التاريخ.

كتاب المتوازيات والتناقضات تجربة ناجحة وغنية في الحوار على خلفية وحدة الثقافة والمعرفة والفنون، قابلة للتعدد ورفْد الأفكار الإنسانية من أجل التفاعل والتطوير والغنى الثقافي الإنساني. ومع هذا الكتاب، يسعنا أن نتلمس حقيقة أن أفضل الطرق لتحقيق التفاعل الحضاري بين الفئات المتنازعة في الشرق الأوسط وسواه هو اعتماد الوسائل الثقافية، كالأدب والموسيقى والفنون.

كتاب قيِّم بصوتين عاليَي النبرة حول هموم إنسانية مشتركة. فلا عجب أن كتبتْ نادين غورديمر، الحائزة على جائزة نوبل للآداب، عن إعجابها بهذا الكتاب:

إنه بلا جدال من الكتب الأكثر أصالة لهذه السنة. إنه استراق للسمع إلى خطاب التواصل بين مثقفين كبيرين.

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 21 أيار 2003


[1] صدر لدى "دار بلوفربري"، لندن، 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود