قَــرَار

 

أميمة الخش

 

وهذه غرفتي أدخلها للمرة الأخيرة. أخطو إلى داخلها وَجِلَة، متهيِّبة، كمن يخطو ضمن أثَر من آثار ماضٍ سحيق، تملأ أرجاءَه أبخرةٌ ضبابية، وعبقُ روائح ممزوجة بذكريات عوالم نائية، غامضة.

تندفع يدي تتحسَّس أركانها، ركنًا ركنًا، وزاويةً زاوية، والضبابُ الكثيف يرفعني معه على مهل إلى سطح الخزانة، إلى أطراف الستائر العالية، إلى السقف، ثم يهبط بي دفعةً واحدة على الفراش الوحيد في الغرفة. أنتفض واقفةً كمن دَفَعَه من مكانه نابضٌ قوي. ينكسر بصري حتى يلامس الأرض. هنا تَطارَحنا الغرام، وهنا زنينا! يقشعر جسمي لِلَفظةٍ علَّمتنا بعض الكتب على أنها الفسق والفجور! هل كنت أمارسه وهشامًا على سرير الزوجية المقدس؟!

يلوح لي وجهُ والدي المقطب الجبين. أبتسم. والآن تعال، يا والدي، وفسِّر لي هذا اللغز المعقَّد، جِدْ له تخريجة من عندك، وقرِّب بين أضداده وأقطابه المتنافرة: فسق وطهارة، فجور وقداسة – هل يُعقَل؟! لا شك أن تخريجتك النهائية هي نعتي للمرة الألف بالجنون، بالجنون الشيطاني الذي لا دواء له إلا المصحات المخصصة لِمَنْ يرون الأمور على حقيقتها، ويجاهرون بها من غير مواربة ولا تضليل.

ترتفع يدي من غير ما جهد إلى سطح الخزانة الخشبية لتُنزِل حقيبةً فارغة، تضعها فوق السرير، وتتركها مفتوحة. يغرِّد في صدري عصفورٌ يطلق أولى نغماته: "نصف ساعة، لا أكثر، وتنطلقين!" أجل سأنطلق، كما ينطلق عصفورٌ ذهبي من علبة حديدية صغيرة وضعه فيها غلامٌ شقي، لا لشيء إلا لكي يعرف مدى مهارته في القنص والاصطياد، ولكي يحسَّ بمتعة الامتلاك التي لا تجاريها لديه متعة، ناسيًا أن العصفور الصغير سيكبر ذات يوم، وسيغدو حجمُ جسمه أكبر من حجم العلبة، وعند ذاك سيفتح الباب الحديدي، وسيخرج صوتُه صادحًا في الكون الفسيح.

أفتح باب الخزانة. أقف أمامها حيرى! أضحك. ولِِمَ الحيرة؟! جئت لآخذ ثيابي وحوائجي وكل ما يخصني. نعم، كل ما يخصني – فلم الحيرة؟! يزداد ضحكي. يتحول إلى قهقهة، قهقهة عالية، يميل معها جسمي إلى الوراء. يميل، يقع على السرير. أرفع كفيَّ إلى وجهي. أنظر إلى أصابعي. أعد: الثياب... الأحذية... آلة التسجيل الصغيرة... الكتب... أدوات الزينة...

تستوقفني الكلمتان الأخيرتان. أتابع قهقهتي. أدوات الزينة! أتوقف بغتة عن الضحك. تحط أصابعي على وجهي وعنقي، تتلمَّسهما. أحس بجفاف جلدي وسماكته. أقفز إلى المرآة. أقرِّب وجهي من صفحتها. أتلمَّس آثار التعب في خطوط على الجبين وحول الفم والعينين. ترن في أذني كلماتُ أبي، وهو يزورني مصادفةً إثر مشادَّة بيني وبين هشام بعد خروجه من السجن:

-       حاولي أن تتغيري، يا سهى، وإنْ قليلاً! حاولي أن تكوني كما يريد زوجك. عدِّلي من مظهرك... اعتني بزينتك... تقرَّبي من زوجك. الرجل يريد امرأةً رقيقة، مطواعًا، تلبِّيه قبل أن يبدأ بالإشارة. استفيدي من تجربة أمك، يا ابنتي. هل سمعت شجارًا حدث بيننا، ولو مرة واحدة؟ هل رأيتني أشتكي من أمك في يوم ما؟

لا، يا والدي العزيز. أنت لم تشتكِ من أمي أبدًا. ولكن قل لي: كيف يشتكي سيِّد من أمَة انتقاها من بين إماء كثيرات، ثم تعب في تعليمها فن الطاعة والإرضاء، وفهم الإشارة، وفن التزويق والتجمل وإثارة الشهوات؟ الأمَة، يا أبي، تستطيع أن تتقن كل فن – إلا فن المرأة الحق. وأنا خنتُك، يا أبي، فلم أتقن في حياتي إلا هذا الدور. ولهذا لم نجتمع أبدًا، يا أبي، على هوى واحد يضمنا معًا‍!

أرى في صورتي المعكوسة على المرآة سحابةً من الأسى تخيِّم فوق مساحة عينيَّ، فتطفئ معها ألق النظرة. وهشام! أدور بجسمي، ملتفتةً صوب الخزانة. أمد يدي إلى درجها المقفل. أدير مفتاحه. الصندوق الصغير... الرسائل بداخله! ترتد يدي واجفة. تتسارع دقات قلبي. أمِنْ أجل هذا جئت؟! لا. سآخذ رسائلي فقط. ورسائله؟ سآخذ رسائله الأولى، رسائله التي كتبها قبل أن نتزوج. وإذن، فسآخذ معظم رسائله! تقريبًا – ما عدا أربع، كتبها خلال سني سجنه الأربع.

أتراجع مرتبكة. أجلس على حافة السرير. لن أنبش الماضي. كفاني! فلقد ملأ الصدأ قلبي، وفاض منه حتى أغرق أحشائي. كل ذرة في جسمي الضئيل هذا تنوء بأحمال ثقيلة. كل وتر في كياني الذاوي مشحون بألف نغمة حزينة.

-       أحبك، يا سهى! أنت المرأة التي سترافقني على طريقي الصعب. أحب جمالك النادر، من غير أصباغ تضيِّع معالمه. أحب جرأتك، استقلاليتك. أنت خولة، يا سهى، خولة، المرأة الرمز، توأم الرجل، وشقه الثاني.

ما الذي تغيَّر، يا هشام؟! خولة لم تتغيَّر. كافحت، وصبرت، وانتظرت. وزَّعت معك المناشير، وسهرت الليالي تفكر في طرق للتخفِّي والهروب، ونشَّطت مخيلتها كي تضع خطط الاتصال بالرفاق. عوَّدت نفسها على الصمت حين تثور، وجاهدت تكبت لهفة الأنثى إلى احتضان طفل، كي لا توزِّع اهتماماتِها على شريك آخر. كانت ظلَّك وأنت داخل الأسوار، ولم تشكُ يومًا ثقل الحمل، ولا سأم الوحدة ووحشة الليل. أما أنت، يا هشام...

أمد يدي إلى الصندوق مرة أخرى. أفرز الرسائل الأربع التي وصلتني طوال مدة سجنه. أفتح الأولى على عجل. أتركها. إنني أحفظها حرفًا حرفًا – فلِمَ الإعادة؟

هل يمكن لشجرة السنديان أن تتآكل فجأةً لو لم يكن السوسُ قد نخر جذعها منذ وقت طويل؟! هل يمكن للطوفان أن يجرف الأوتاد الراسخة في الأرض؟! أنا أعرف الإجابة بالتأكيد، ولن أهدهد أحزاني وخيبتي بعد الآن.

تدوِّي في أذني كلماتُه بعد خروجه من السجن بأيام، فيرتجف جسمي على وقع اهتزازاتها العنيفة:

-       أنت لا تعرفين ما معنى أن يُسجَن سياسي! هل جرَّبتِ كيف يُسلَخ الجلدُ عن لحمه، وكيف يُنتزَع الشعرُ من منبته، وكيف تُسحَق الكرامةُ كما تُسحَق حشرةٌ وضيعة؟!

يرتفع صوتي يذكِّرك:

-       وأحمد، وغسان، ووائل – رفاق الطريق كلهم – ألم يصبهم ما أصابك؟

تهوي كفك على خدِّي، على ظهري، على ساقي. أحاول تهدئتك، الاعتذار لك، بل واحتضانك حتى. يصمُّ أذنيَّ زعيقك.

-       أنت امرأة، فكيف تفهمين؟!

الآن فقط أصبحتُ امرأةً، يا هشام؟! أو أنثى، كما أردتَ، حقيقةً، أن تقول. الآن فقط، أم أن ما قلتَه متجذر فيك منذ البداية؟ – وكنت تخفيه عنِّي تحت قناع زائف من المبادئ، التي لم يكن عقلك يتمثلها أبدًا، فظلَّت طافيةً على السطح، إلى أن عَكَسَ سلوكُك فشلَها الذريع معك عند أول تجربة قاسية امتُحِنتَ فيها. أم أنك بتَّ تكره ضعفك الذي بان مكشوفًا لذهني المنتبه، ولهذا كرهتَني، وعذبتَني، وعاقبتَني؟ لكني لن أكون، يا هشام، إلا كما شئتُ أن أكون دائمًا. حرةً، ومن غير أقنعة. أما أنت، فاخترْ لكَ أنثى تداوي جراحك التي ستظل تنزف إلى الأبد.

أترك من يدي كلَّ شيء، أقترب من كنوزي التي رتَّبتها على رفوف مكتبتي الصغيرة بكل تأنٍّ، كتبي التي أضاءت ليالي وحدتي، وأعشبتْ صحراءَ أيامي. أرتِّبها بعناية في حقيبتي المفتوحة. أحمل الحقيبة في حرص شديد. أفتح الباب بيد ثابتة، وأنطلق.

أرفع وجهي إلى السماء. تبدو لي قريبةً جدًّا، لا يفصل بيني وبينها إلا نسيم رقيق، يدخل خلاياي ليجدِّدها على إيقاع نغم اسمه الحياة.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود