أنيـن المقـاهي

 

عايدة نصر الله

 

لا أعرف كم مقهى وَلَجْنا ذلك اليوم شديد البرودة في رام الله!

-       "لنهرب من زمهرير المكان!"

هربنا. روحه المهزومة من الأصدقاء والأمكنة عبأتني. تلفَّعت بظلِّ جاكيته المهرول إلى أقرب مقهى يحتوينا.

مشرَّدان. غربتنا كانت مغرقةً في القهر والوجع، في مدينتنا. شوارع ووجوه لا أعرفها اصطفقتْ في وجهي الذي غلَّفه الصقيع. سكبنا أعيننا في شراب الوحدة. لهاثنا أطلَّ علينا من فناجين القهوة، عصير التفاح، الماء... ماذا لم نشرب في ذلك اليوم؟! الشوارع أنَّت من وجعنا.

-       "كم مقهى عَبَرنا؟"

-       "لا أذكر."

-       "كانت خمسة؟"

-       "لو كان لنا بيت!"

-       "لو كان لنا بيت!"

-       "كنت أكتفي بحصيرة."

-       "كنت أكتفي بك."

كان السرير كبيرًا، في قصر ليس لنا. الشبابيك كبيرة. منظرٌ لسماء تسكنها نجومٌ وأضواءٌ مرتبة بعيدة، هناك، هنااااااااااك، في وطن مستلب، على مرمى رفَّة جفن من صقيعنا. وطنٍ شعرنا به خرمَ إبرة.

هناك التحفنا البرد. أقدامنا تنفستْ وجعًا. الأرض العفنة نفضت غبارها على جسدينا. لكن روحينا نامتا على لهاث يجهد في إذابة الجليد الذي قامر بغزو اللهب فينا، وخاسرًا خرج.

لولا يداه الضخمتان اللتان شدتا عنق الأمان، رغمًا عنه، لنزفتُ أحشائي قهرًا. ولولا يداي الصغيرتان وعيناي اللتان نفحتاه الحبَّ لنزف أحشاءه قهرًا.

-       "لا حبة زيتون، لا بصلة، ولا خبز يزين هذا القصر!"

في قصر لا يشبهنا، قُذِفنا إلى غرفة تؤوي عاشقين هاربين من وجوه التطفل.

تحت الغطاء، شعرت بأنفاس أخرى تشاركنا، بجلود لا تشبهنا. أحسست بعيون تحملق بي من قلب الغطاء، أشياء تلسعني. ترى، كم شرب هذا الغطاء قبلنا من الماء؟!

فجأة أحسست بشيء نجس، نجس... تقيأتْ روحي بطريقة غريبة. نزيف آخر لا يعرفه الناس العاديون!

-       "حبيبتي، عليك بإجراء الفحص غدًا."

-       "لا تقلق... أنا أكثر مَن يعرف ما حلَّ بي. المكان، المكان... آخ، من هذا المكان! أنا أتطهَّر بطريقتي. روحي تذيب نفسها عن طريق إزالة الماء العفن من داخلها."

تكوَّرتُ في داخله كطفلة، نظرت داخل عينيه، فشعرت بحبلِ وجعٍ امتدَّ من ابتداء ساعة الولادة إلى تلك الغرفة. ابتلعت فؤادي. ابتلعنا أفئدتنا. لم نحتمل اتساع المكان، لم نحتمل غربته عن روحينا. عند ذاك قذفنا أفئدتنا مع أول خيط للضوء خارج المكان. وكهاربين من العدالة، تسلَّلنا صباحًا وغادرنا القصر.

-       "لو كان لنا بيت؟!"

-       "لكننا دون بيت."

وهنااااااااااك... بدأت الشوارع تتنفسنا، تئن تحتنا، وتزفُّنا.

المدينة تزف نفسها أيضًا بالصور وبالمحلات التجارية. تحاول تجميل نفسها رغم اغتصابها، علَّها ترضي عشَّاقها. رأيت فستان زفاف أبيض. خجلت منه. كم أود أن ألبسه وأطير به إلى أعالي السماء! سذاجتي كانت أشد لسعًا من البرد.

البرد يُغرِق في تحدِّيه لنا، ينخر عظامنا، يتعمد سلَّ الهناءة منا.

-       "لنذهب إلى مقهى آخر."

مقهى "الخيمة" اسمه. لم أعِ إن كان اسمه نابعًا من التخييم، حبًّا بزائريه، أم من التلذذ بذكرى مآسي خيام شعب يجسِّد المأساة بتجميلها؟!

-       "كم سنبقى في الخيمة؟"

-       "لن نبقى طويلاً."

كان أجمل من المدينة جبينُه. وكان أجمل منها حديثُه. وأجمل منها كانت عيناه. كيف يكون جميلاً خارجي؟! كيف يحلِّق بي إلى سماء غريبة عني؟! وكيف نسيجه خارج ضلوعي؟! إلى أية مدينة سيهرب؟ لكن المدينة تبقى هي المكان. وأنا متطفِّلة على المكان. بإمكان تلك المدينة أن تلغيني من نفسها، من منافضها، من شوارعها، من مقاهيها – إذا أرادت. إذا أراد... إذا أراد... إذا أراد...

نتجول معًا، وهو يحملق في العيون المستطلعة.

-       "هيا بنا!"

-       "لماذا؟"

-       "ذو العينين الكبيرتين يحدِّق فيك... فينا."

أهي غيرة يا ترى؟! أم هو شك قاتل؟ ومن هو ذاك الذي هرب منه؟ ولم خاف نظراته؟ وهل كنت أنا كمشة لحم يفترسها ذو العينين الكبيرتين؟!

صمتُّ على مضض. "حتمًا سيتغير، حتمًا"، أقنعت نفسي.

وعبرنا بأنيننا، ليسكن مقهى آخر.

-       "في هذا المقهى جلستْ. نعم، هي... هي كانت تجلس هنا، وأنا هناك... هنا كنت أعلق لها وردة"، قال، وأشار إلى وردة سكنت حروفه.

-       "نعم"، أجبت.

-       "هي كانت تحب الورد."

-       "نعم."

-       "كان كلامها ناعمًا."

-       "نعم."

-       "كانت سوسنة الروح."

-       "نعم."

هي... هي... هي... إياكِ أن تقتربي! أنت لست سوى امرأة اختارت أن تركع لنَزَقِه الأهوج. هي مَن تربض على مخيلته ولا تنفك. أنتِ لا حقَّ لك. لا حق بقطع حدِّ الهواء بينكِ وبينه. لا حق لكِ باختراق الصوت. لا حق لكِ برَتْقِ أيِّ خرق في هدوئه... لا حقَّ لك. أحبِّيه في صمت! أحبيه في قهر! أحبيه... أنت المرأة الظل، الهامش... لن تأخذي اسمه، لا رسمه، ولا كلماته... لا حقَّ لك. هي من ستأخذ أوراقه... تلك... تلك الشبح القاتم، تلك مَن لها الحق في اسمه، رسمه، وأوراقه. أحبِّيه بعيدة، من وراء الخط الأخضر الذي يشعل النار تحت قدميك. أحبيه من وراء اشتعال الصبح في عينيك، من وراء نيازك الحلم في مبتغاك. أنت، يا مَن عجزت المدن عن تطريز الغيب فيك – ذلك الغيب المسحور، المستور في جبينك. ليكن! أحبيه جمرةً تحرق اللغة، أو نسمة ترتقها، لكن لا تخرقي حدود المسافة! فالشبح الأزرق قائم بينكما، كحدِّ الفاصلة بين جملة وأخرى.

عيناي تكادان أن تقفزا من محجريهما، لكني أُغرِقهما في فناجين القهوة والماء.

في عزِّ البرد، وجعُه استحال خنجرًا حزَّ الحديد البارد للمكان. حرارة أنفاسي لم تضف شيئًا. أطلَّ عليَّ وجهُه يحمل جناحَي طائر ملون. عيناه متعبتان، وكأنهما حملتا المسافات، وقصصَ تفتُّت وحشرجاتِ روح لطالما تساقطت حبًّا على أهداب المخيلة. حزنُه أكل ما تبقى من قوتي، استنزف دمي. أحسست ببكاء قلبي الذي لم يكن سوى علبة صفيح من برودة القهر. معه رأيت انحناء قامتي لأول مرة.

-       "أهذه أنا؟" لم أصدق.

أتكئ على حلم أعطيه جلدي. ما تبقى من ريق الحياة. أأنفث فحيح عمري فيه؟ – وما يلبث أن يغادرني. هو فقط من استطاع فكَّ حبال الوهج وإخماد الكبرياء – ذاك الكبرياء الذي سدَّ السبل أمام غزاة الأرض. خانني كبريائي. وها هو ذا يحني قامته بخيانة في داخلي. أهي أنا؟ – هذه المرأة التي تحني قامتَها فجأة. ومن هي؟ – تلك المرأة الأخرى صاحبة الوردة.

علَّقت أهدابي فيه حتى عميت.

أيكون أسير ماضيه، كشعوب مهزومة آلت على نفسها أن تموت سجينةَ ماضٍ مزخرف بالمجد الغابر؟ وهل يكون حلمي فجأة كأولئك الذين اجتروا مآسي الماضي حتى اختفوا؟

وجعُ ذلٍّ انتابني، وكأني أدمنته. هل أكون أنا أيضًا كأمم تحنَّطت بين طيات السواد حتى انحناء القامة؟ وتلك المرأة، مَن تكون؟

-       "هل شعرت بالدفء؟" فاجأه تحليقي.

-       "نعم."

-       "هنا كنت أتوحد مع نفسي، كنت أبحث عنها بعد شتات السنين... إلى أن التقيتها. وهذا المكان كان يضمنا. كنت على حافتي الصراط. لكن لا جنة على الحافتين! أما أن تسقط في الجحيم..."

"... أو في الجحيم"، قال.

مقهى "الأصيل" يئن هو الآخر من صقيع أمنياتي. أسكب وجهي في عصير الليمون.

-       "كم أحبك! ترابي الأرعن، المغمَّس بلهاث القوافي، ووجع بحثِ ذلك الطفل عن أصوله المتعبة. غِبْ، اغزُ كلَّ المدن، وعُدْ لرَتْقِ جراحك على صدري. فأنا الأرض التي ستزرع وردك وصبرتك، الأرض التي انتظرتَني حتى أهلَّ عليك من جديد."

خبأت وجهي في الكأس لئلا يرى تمزق روحي وهو مغرق في ذكرياته مع تلك المرأة التي أعرفها أكثر من نفسي – تلك التي لم تعِ حروفه.

على الحاجز، قال لي:

-       "هي لم تعِ حروفي."

-       "ترى، هل ستعي حروفي؟!" هجستُ وأنا في طريقي للانسلاخ من معطفه.

في الدخول إليه، يكون الوقت قد استبدَّ بي واستنزف طاقاتي وأنا أستعجل اللقاء. في الخروج منه، على حافة اللهاث ما بين هنا وهناك، يبتسم ويلوِّح بيديه.

أقطع الحاجز. يذوب الخط الأخضر وراء الجند، ووراء عيني المتوسلتين. لكن لهاثي المتقطع يكون قد استكان، هنااااااااااك... حيث خيمته التي طوَّقتني ليستوطنني فجرٌ انسرب من عينيه.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود