القَـانُـونُ الـرُّوحـيُّ

 

قيصر عفيف[1]

 

نحن في حاجة إلى قاموس ديني يشرح لنا معاني الكلمات الروحية. فكثيرًا ما نعمد إلى استعمال كلمات لا نعرف حقيقة معناها. ومن أهم هذه الكلمات وأكثرها شيوعًا واستعمالاً: الرحمة.

في الإسلام، "الرحمن" و"الرحيم" من أسماء الله الحسنى، وعليهما تقوم البسملة. بالبسملة يبدأ الكتاب وتبدأ الصلاة، وبها تبدأ الأعمال (أو هكذا يجب أن يكون). وصفة الرحمن مبالغة من الرحيم، إلا أن كليهما مشتق من الرحمة.[2] وكان النبي محمد (ص) رَبَطَها بـ"الرَّحِم"، فجاء في حديث قدسي نقله الترمذي: "قال الله تعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرَّحِم وشققت لها من اسمي؛ فمَن وصلها وصلتُه، ومن قطعها قطعتُه." وتتكرر اشتقاقات الرحمة في القرآن الكريم مئات المرات في مئات الآيات، لعل من أجملها ما جاء في سورة الأنعام (الآية 12): "قل لِمَن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة." وما أشار إليه الرازي في مختار الصحاح من أن "الرحمن اسم مختص بالله تعالى. ألا ترى أنه سبحانه قال: "قُلِ ادعُوا الله أوِ ادعُوا الرحمن" [الإسراء 110]."

وفي المسيحية، تكثر الصلوات التي تطلب الرحمة. ذلك أنه عندما يدرك الإنسان أنه خاطئ، فيحزن لحاله، يتوجَّه إلى ربه طالبًا الرحمة. ففي القداس الإلهي يتردد دائمًا: "قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا." ومن الصلوات التي حفظتْها الكنيسة المارونية باللغة الآرامية صلاةٌ كان القديس شربل يردِّدها عند مفارقته هذه الدنيا، جاء فيها: "خذ هذا القربان من يدي وارضَ عني، ولا تذكر لي خطاياي التي اقترفتها أمام عظمتك. إن خطاياي توازي مراحمك إذا وُزِنَتْ، أما حنانك فيرجح كثيرًا على الجبال التي تزيِّنها." وفي الكنيسة الأرثوذكسية صلاة قوية، تدعى "صلاة القلب"، لا يزال الرهبان النساك على جبل آثوس المقدس يرددونها لتبدِّل القلوب وتقرِّب الطالب الساعي إلى الله، وهي: "يا يسوع المسيح ابن الله، ارحمني، أنا الخاطئ."

المؤمنون كافة، من مسيحيين ومسلمين وسواهم، يطلبون الرحمة في صلواتهم، ولكنْ قليل منهم يعرف حقيقة ما يطلب. فما جوهر "الرحمة"؟

الذي يطلب الرحمة يعرف مسبقًا أنه خاطئ وأنه في حاجة إليها. في طلب الرحمة اعتراف بالخطيئة. والرحمة، كما الخطيئة، زمان. الخطيئة زمان ضائعٌ في طلب كلِّ شيء ماعدا وجهه الحق. تضيع سنوات العمر، وأنت منشغل بأمور كثيرة، والله غائب عنك، وأنت لاهٍ عنه. هذا الابتعاد عنه شر وخطيئة، وكل محاولة للاقتراب منه خير وفضيلة. والقانون الروحي واضح: "مَن يعمل مثقال ذرة خيرًا يَرَهُ ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يَرَه." (الزلزلة 7-8)

بابتعادك عن الله، تكثر المعاصي والشرور. ولا هرب لك من نتائج أفعالك، حتى لو تأخر في الزمان ظهور القصاص. إنه لا محالة آتٍ. من هنا فإن الرحمة هي الوقت بين حدوث المعصية وقصاصها. فلولا رحمته – تعالى – لجاءك القصاصُ مباشرة بعد فعل الشر. الرحمة تفسح أمامك مجال التوبة، تمنحك الوقت لتبدِّل نفسك الأمَّارة بالسوء وبالمعاصي، وعلى رأسها الأنانية وحب الذات وإلحاق الضرر بأخيك الإنسان، كائنًا مَن كان. فعندما تطلب الرحمة تطلب إليه – تعالى – أن يهبَك نعمة أن تحبَّ الآخر وتعطيه من ذاتك ومالك. فكل ما تعطيه تعطاه من الرحمة مضاعفًا.

لا هرب من القانون الروحي. قبل أن يأتي القصاص نتيجة معاصيك عليك بطلب الرحمة. ولا تملَّنَ من الطلب. فالرحمن يستجيب لِمَن يطلبها في إخلاص ومعرفة. عليك أن تستعين بالرحمن، أيها الإنسان، لتجدد بناء نفسك وتطهِّرها بنار التوبة. وعليك أن تطلب الرحمة لك ولغيرك، كي يمنحه الرحمن أيضًا القدرة أن يتجدد في هذه الفسحة من الوقت المعطاة له.

نستطيع الآن، في وعي كامل ومعرفة لما نقول، أن نطلب إلى الله الرحمة: لأنفسنا أولاً، وللآخرين المفسدين في الأرض ثانيًا، فنصرخ من الأعماق: "يا ربُّ ارحم!"

*** *** ***


[2] بحسب بعض الصوفية، يشير اسم الرحمن إلى الرحمة بوصفها طبيعة الله، بينما يشير اسم الرحيم إلى الرحمة بوصفها متوجهة إلى الخلق. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود