سَدَنَة هياكل الوهم

بحث في الخطاب الديني للعقل الفقهي المشيخي

(محمد سعيد رمضان البوطي مثالاً)

1

 

عبد الرزاق عيد*

 

المنهج العلمي للبحث عن الحقيقة عند علماء المسلمين وغيرهم

يرى د. البوطي في كتابه التأسيسي لفكره الإسلامي كبرى اليقينيات الكونية[1] أنه إذا كان إدراك الحقيقة، على ما هي عليه في الواقع، عِلْمًا، فإن المنهج المتخَذ إلى ذلك الإدراك ينبغي، "بلا ريب"، أن يكون هو الآخر عِلْمًا. ويشرح بأن العلم لا يتولد إلا عن علم مثله: فلا مجال فيه للظنِّ أو الحدس أو الوهم. ومن ثَمَّ فإنه، في ضوء هذا التحديد، يطرح تساؤل: ما مدى استشعار كلٍّ من الفكر الإسلامي والفكر الغربي لهذه الحقيقة واهتمامه بها؟

وأول ما يسجِّله لصالح الفكر الإسلامي هو خضوعُه لمنهج علميٍّ دقيق في البحث هو الدين، ويسوق عددًا من الآيات الكريمة في الحضِّ على العلم وإبراز الدافع الديني الكامن وراء اندفاع المسلم نحو العلم، بمثابته واجبًا يُثابُ على فعله ويعاقَب على تركه، في حين أن الفكر الغربي يحثُّه على البحث مجردُ "حب التطلع".[2]

هذا الاستقراء العلمي العجيب الذي يضعه كمصادرة للبحث، قبل أن يُثبِتَ هذه الحقيقة الأعجب، لا يعتوره أيُّ قلق عقلي وهو يقرِّر حقائقَه البديهية بمنتهى الاطمئنان العلمي والمعرفي، دون أن يتوقع الشيخُ سؤالاً من أيِّ تلميذ من تلاميذه الذين يحملون حدًّا أدنى من البصيرة والتبصر من نحو: ما الذي قادنا، إذن، إلى هذا الحضيض الذي نتردَّى فيه منذ قرون؟ – مادامت مناهجُ بحثنا العلميةُ أكثر فاعليةً ومردوديةً في بلوغ الحقيقة، بفاعلية الدين الذي يقف وراءها، في حين لا يقف وراء مناهج البحث الغربية سوى "حب التطلع"؛ وهؤلاء، مع ذلك، هم الذين أخرجونا، ليس من فسحة العلم والبحث العلمي، بل من عالم الشهود والأعيان إلى عالم الغيب والنسيان، راضين بهذه القسمة أن يكون لنا عالمُ الغيب، بملائكته وجنِّه وشياطينه وخوارقه ومعجزاته، التي هي رُكن من أركان "اليقينيَّات الكونية الكبرى" في كتاب الشيخ البوطي!

ما هو، إذن، هذا "المنهج العلمي" للبحث عند المسلمين؟ إنه يتلخَّص، وفقًا البوطي، في قاعدة جليلة كبرى، لم يُعرَف مثلُها عند غيرهم، وهي قولهم: "إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدَّعيًا فالدليل."

وهكذا فإن العلم والبحث العلمي والحقيقة والمعرفة كلَّها ليست إلا معرفة صحة الخبر والرواية والسَّنَد؛ والأدواتُ العلمية لذلك يدعوها "فنونًا": فن مصطلح الحديث، وفن الجَرح والتعديل وتراجم الرجال. ولن نُتعِب القارئ المسلم بمحفوظات تتكرَّر على مسامعه آناء الليل وأطراف النهار عن درجات صحة الخبر ورُتَبِه، من جهة سلسلة السند ومن جهة صاحب الخبر ومصدره؛ فعندئذٍ يغدو للصحيح درجات، تبدأ من الظنِّ القويِّ إلى الإدراك اليقيني، وذلك حسب السلسلة. فإن كانت من آحاد الرواة، فإن الخبر لا يعدو أن يكون ظنيًّا في حُكْم العقل؛ وإذا كانت السلسلة مكوَّنة من راويين أو ثلاث رواة فهو لا يزال خبرًا ظنيًّا، ولكنه ظنٌّ قويٌّ يداني اليقين؛ أما إذا غَدَتْ كلُّ حلقة من الحلقات من الكثرة جموعًا يطمئن العقلُ إلى أنها لا تتواطأ على الكذب، فإن الخبر المرويَّ يكتسب عندئذٍ صفة اليقين، وهو ما يسمَّى بالخبر المتواتِر؛ إلخ.[3]

هكذا يكون العلم والبحث العلمي عن الحقيقة إنما هو البحث عن حقيقة منجَزة، اكتشفها قبلنا السلفُ وسلفُ السلف، ولا ندري، نحن الخلف، ماذا تبقى أمامنا للبحث عن الحقيقة، مادامت قد قيلت ووصلتْنا بالخبر المتواتِر اليقيني الذي لا يتواطأ على الكذب؟! إذن لم يتبقَّ لنا من هذا العلم سوى "التذكير" بهذه الحقائق: عندئذٍ تغدو وظيفةُ العلم والبحث العلمي هو تذكير الناس بما عرفوه ويعرفونه، وصدَّقوه ويصدقونه.

إذا كان الأمر كذلك، فما ضرورة هذا "المنهج العلمي"، الذي يتكرَّر ذكرُه في كلِّ صفحة من صفحات كتب د. البوطي، سوى ما تنطوي عليه من دلالة لاواعية، مؤدَّاها أن كلَّ ما يقوله ويدعو له لا صلة له بالبحث، لأنه معروف، وقد قيل ودُعِيَ له عبر قرون. ومن ثَمَّ فإن هذه الحقيقة المكتشَفة ليست إلا العقيدة ذاتها التي تُجمِع عليها الأمَّة الإسلامية، منذ لحظة الوحي حتى يومنا هذا؛ وبالتالي، فإن هذه الحقيقة لا داعي للبرهنة عليها من جديد، بمثابتها عقيدةً صلبةً وراسخة، وبوصفها حقيقةً في عقل الجمهور ووعيه، بغضِّ النظر عن "الحقيقة المجردة" التي هي مناط العقل المحض، والتي غَدَتْ في العصر الحديث نسبيةً، وتسير سيرًا دائمًا على طريق إنكار نفسها، لأن العلوم اليوم تقوم على البرهنة الدائمة على ما ينتقصها، في سيرورة لا تنتهي من اكتناه حقائق الكون والعالم. فتاريخُ العلم لم يعد تاريخ الحقائق التي توصَّل إليها، بل تاريخ أخطائه، أي تاريخ نَقْضِه للحقائق من خلال جَدَل الأطروحة والأطروحة المضادة الذي ينتج تركيبًا نوعيًّا جديدًا.

وعلى هذا، فإن الشيخ الذي يرفض الاعتراف بالتحديات الجبارة لمنجزات عصرنا العلمية، كما في نظرنا جميعًا، نحن الشعوب المتأخرة، بدلاً من مواجهة هذه التحديات العلمية بقبول معركة التحدي الحضاري، ينكص، مكتفيًا بترداد كلمة "العلم" ومفردة "البحث العلمي" كـ"تعويذة"، ربما تفيد في استحضار الغائب سحريًّا، أي التعويض عن هذه الجهالة الجهْلاء التي تنحط إليها الأمَّةُ وعلماؤها الأفاضل، عندما لا يغدو العلمُ في نظرهم إلا تذكيرًا بمقول القول، وتعليمًا لما هو معلوم، وتعريفًا بما هو معروف. عند ذاك يطفق العلم "ذِكْرًا"، لا يحتاج إلا إلى حلقات دَرْوَشَة للذكر والذهول، ثم التلاشي والفناء، ليس في الذات الإلهية، بل في جهالة الجهلاء والضلالة العمياء، أي التلاشي في قعر التاريخ الذي لم يبقَ لنا في قعره سوى الثفالة!

حول صحة الإسناد والخبر المتواتِر

هذه مسألة مركزية في منهج العقل الفقهي المشيخي. ومثالهم في هذا السياق الباحث البوطي ومناهج البحث الإسلامية التقليدية كلُّها، التي لم يُتَحْ لها أيُّ ضرب من ضروب التفاعل مع ثقافات العصر، منذ بداية تشكُّل الفكر الإسلامي في عصر التدوين إلى يومنا هذا. والمقصود بالفكر الإسلامي، هو إعمال النظر والرأي والفكر البشري في موضوع الإسلام كدين، وذلك بدءًا من قيام المدارس الفقهية، معبَّرًا عنها بمدرسة "الرأي"، ممثَّلةً بالإمام أبي حنيفة النعمان في الكوفة (ت. 767 م)؛ وهي مدرسة تعمد إلى البحث عن المعقولية في النصِّ، في المسألة ذاتها، أي أنها تعتمد الرأي، لعدم ثقتها بالأحاديث المروية عن النبي (ص)؛ فلا بدَّ من إعمال العقل وتفعيل الرأي. فبحسب مقدمة ابن خلدون (ص 352)، فإن رواية أبي حنيفة للحديث لم تتجاوز سبعة عشر حديثًا: "فلقد ضعَّفَ روايةَ الحديث اليقيني إذا عارضَها الفعلُ النفسي."

وهناك مدرسة "الحديث" التي تتحرَّج، بل وتتأبَّى، أن تبدي رأيًا، حتى فيما ليس فيه نص. وعلى هذا، فالمعقولية لا تكمن إلا فيما عمل به عقلُ السلف، أي السند والخبر؛ ولهذا كانوا يترخَّصون في شروط قبول الحديث، حتى ولو كان آحادًا ضعيفًا، لأنه بذلك ينقذهم من إعمال العقل والرأي، فيفيئون إلى "النقل"، مستريحين في ظلِّه من وسوسات "العقل"! ويقف على رأس هذه المدرسة الإمام مالك (ت. 795 م) في المدينة، ولاحقًا أحمد بن حنبل (ت. 855 م)، الذي ترخَّص في شروط رواية الحديث، حتى بلغ مُسنَدُه خمسين ألف حديث، بحسب ابن خلدون أيضًا.

هذان الخطان المتناظران بين العقل والنقل في الفقهيات سيكون لهما نظيرُهما في اللاهوتيات، أو "علم الكلام"، حيث يسود المتكلِّم الذي يركن إلى الأصول التي أصَّل لها الفقهاء في المصادر الأربعة للشريعة (القرآن، السنَّة، الإجماع، القياس)، والذي يشكِّل استمرارًا لمدرسة الحديث والرواية والإسناد الصحيح، لإعفاء العقل والرأي من المغامرة في مجاهل الغيوب. وقد تمثلت هذه المدرسة بالأشعرية، التي ورثت الجبرية، وأضفت عليها مسحةً من المُناظرة الكلامية والمنطقية التي اقتبسها أبو الحسن الأشعري (ت. 820 م) من حلقات المعتزلة، بعد أن غادَرَها، ليعفي عقلَه من أسئلة الرأي، وليؤسِّس لنا، عِبْرَ التوسيط النظري للغزالي، كلَّ هذه العلوم التي يعرضها لنا د. البوطي ومدرسة المشيخة الفقهية التقليدية الرسمية، بوصفها بداهات إلهية!

وقد نهض هذا التيار "النقلي" الفقهي المشيخي التقليدي على أنقاض التيار الاعتزالي "العقلي"، الذي وُئِدَ؛ وكان وأدُه إيذانًا بخروج العرب من التاريخ الذي صنعوه، وبداية تاريخ "العلوج" مع الخليفة المتوكل! فالمتوكل هو الذي أزال سلطان المعتزلة؛ ومذ ذاك، عادت إلى المحدِّثين سطوتُهم، وعلى رأسهم الحنابلة، حيث ستبدأ لحظة سلطوية جديدة في التاريخ العربي الإسلامي؛ وهي لحظة تفاهة وغباء السلطان ومباذِله وتقرُّبه من الناس من خلال إشاعة ما يسمَّى في عصرنا بـ"الثقافة الجماهيرية" السطحية العقائدية، الشعارية الكاذبة والجوفاء: تكتيل الناس وحشدهم وتعبئتهم بإيديولوجيا نضالية سطحية وفارغة، تتناقض مع العقل والعقلانية والنهوض والتقدم.

فمن زهر الآداب على هامش العقد، 1/253، يستشهد أحمد أمين:

كان المتوكل أول مَن أظهر مِن خَلَف بني العباس الانهماكَ على شهوته، وكان أصحابه يسخُفون ويستخفون بحضرته، وكان يهاتر الجلساء ويفاخر الرؤساء، وهو مع ذلك قريب من قلوب الناس محبَّب، وإليهم مقرَّب، إذ أمات ما أحياه الواثقُ من إظهار الاعتزال وإقامة سوق الجدال.[4]

وقد كان العقل الفقهي المشيخي لسَدَنَة هياكل الوهم جاهزًا، "دائمًا وتحت الطلب"، في خدمة عقيدة السلطة، وتسطيح عقول الناس، وتكريس جهلهم ومسلَّماتهم البديهية لدينهم ودنياهم، منذ عصر المتوكل حتى اليوم الذي أمسوا فيه سادة الفضائيات التلفزيونية التي تكرِّسها ثقافة العولمة "المُسَعْوَدة"!

نقول: مع المتوكل كانت بداية لحظة التقهقر والانحدار، وصولاً إلى لحظتنا الراهنة، بغضِّ النظر عن اللحظة الإصلاحية الإسلامية التنويرية النهضوية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، التي أرادت أن تعيد لقِيَم العقل اعتبارَها، عبر استعادة الاعتزال وإعادة الانتظام في سلكه. لكن القوى المناهضة للعقل ظلَّت هي الأقوى؛ وإلا ما معنى كلُّ هذا الهوان الذي نتردَّى فيه؟

على ضوء هذه النبذة، يغدو خطاب البوطي هو الخطاب النموذجي للعقل الفقهي النقلي المشيخي الرسمي، الذي يعتقد أن العلم و"البحث العلمي" هو البحث عن حقيقة ضائعة في أحشاء الماضي. فلا بدَّ من استفتاء السلف، جيلاً عن جيل، للوصول إليها؛ وأول شرط لذلك هو أن يكون هؤلاء السلف قد نقلوا لنا الخبر الصحيح الذي يرتقي إلى مستوى اليقين. فهل هناك في سياق علوم النقل العربية هذه، القائمة على المشافَهة والعنعنة والإسناد، خبرٌ يرتقي إلى مستوى اليقين؟

هذا ما سنتوقف عنده، لأنه أسُّ الأساس في منهج الشيخ البوطي والعقل الفقهي السائد والمهيمن على الخطاب الديني الإسلامي عربيًّا – بل وعالميًّا – من خلال النموذج النقلي الأصيل الذي يقدِّمه الأفغان، الذين يتبارزون مع جيرانهم الإيرانيين في حيزات منع اختلاط الجنسين في المدارس والمستشفيات، وأخيرًا، ربما، المقابر!

إن مناقشة صحة الخبر والإسناد كانت الموضوع الشاغل لعلماء الحديث وهم يدقِّقون ويستقصون. ولا شك أنهم بذلوا جهودًا جليلة، تمثلت في موضوعات الحديث الكبرى المعروفة، وبخاصة صحيح البخاري وصحيح مسلم.[5] لكن اليقينيَّة التي هي ثمرة وعي إسلامي نقلي حرفي، متمثِّل بمدرسة الحديث، ومن بعدُ قتالي و"جهادي" في مرحلة لاحقة، تمثَّلت، على المستوى الاجتماعي، بهشاشة المدن (دمشق، بغداد، القاهرة، حلب، القيروان، إلخ) أمام الاكتساح الفلاحي البدوي لها، بدءًا من القرن الخامس الهجري، وما استتبع ذلك، على المستوى السياسي، من هيمنة الترك على القصور التي كانت بلاطًا للمعرفة والعلم، ومن بعدُ، على مستوى التحدي الحضاري، من بداية هزائم الأمَّة، بدءًا من سقوط الأندلس، والحروب الصليبية، ومن بعدها الغزوات التركية فالمغولية. ذلك كلُّه فرض نوعًا من التجمع حول إسلام مستقيم الرأي، عقائدي صلب، يتأسَّس على خطاب إيديولوجي قتالي معبِّئ، على حدِّ تعبير محمد أركون.[6] ذلك هو العمق التاريخي والمعرفي لهذا الخطاب الحاسم، القاطع، القابض على المطلق والمتعالي، النابذ والمستعبِد لكلِّ ما يغايره.

هذه الثقة المطلقة بصحة الخبر اعتمادًا على سلسلة الرواة، دون النظر في معقولية النصِّ ذاته، هي التي قادت إلى اعتبار الصحيحين (البخاري ومسلم) ينطويان على صحة يقينيَّة لا يتطرق إليها شك، على الرغم من أن الأمام البخاري نفسه جمع مئتي ألف حديث لم يصح لديه منها سوى 2762 حديثًا. وإن كثيرًا من الأحاديث التي رُوِيَت في صحيح البخاري لم تَرِدْ في صحيح مسلم، وهما أهم كتب الحديث، كما أسلفنا، "مما يقطع بأن المعيار الذي اتُّبِعَ في جَمْع أحاديث كلِّ صحيح منهما معيارٌ شخصي وليس موضوعيًّا"[7].

إن اعتماد الإسناد (العنعنة) كمقياس لصحة الخبر، وليس متن الحديث ومدى معقوليته، أي استجابته للمنطق العقلي التأملي والتحليلي العلمي البرهاني، هو الذي قاد إلى تثبيت أحاديث عجيبة. لماذا؟ فقط لأنها ذات إسناد صحيح: مثل حديث "الذبابة" وحديث "التداوي بأبوال الإبل" وحديث "إن البذاذة [القذارة] من الإيمان"[8]. بل إن الإمام الغزالي الكبير يحنُّ في إحياء علوم الدين إلى أيام "البذاذة"، التي كانت تعبيرًا عن الإيمان العميق للصحابة الأجلاء، ويأسف عليها!

فها هو الغزالي ينعى على أبناء عصره وَسْوَسَتَهم في الطهارة والنظافة، من "الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة"، فيردُّ على هذا الوسواس بسلوك الصحابة في أنهم

ما كانوا يغسلون اليدَ من الدسومات والأطعمة، بل كانوا يمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم. وقد عدُّوا الأُشنان[9] من البِدَع المُحدَثة. ولقد كانوا يصلُّون على الأرض في المساجد، ويمشون حفاةً في الطرقات... وكانوا يقتصرون على الحجارة في الاستنجاء[10]... وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصُّفَة: "كنا نأكل الشواء، فتُقام الصلاة، فنُدخِل أصابعنا في الحصى، ثم نفركها بالتراب ونكبِّر." وقال عمر رضي الله عنه: "ما كنَّا نعرف الأُشنان في عصر رسول الله (ص)، وإنما كانت مناديلنا بطون أرجلنا."[11]

ويختتم الغزالي رأيه في هذه المسألة بتشديد النكير على أبناء زمانه الموسوسين بالنظافة قائلاً:

فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارةً، والرعونةَ نظافةً. فانظر كيف صار المُنكَر معروفًا والمعروف مُنكَرًا، واندرس من الدين رسمُه كما اندرس حقيقتُه وعلمُه.[12]

لسنا الآن في صدد استكناه مغزى الدلالة السوسيولوجية المتصلة بعلم الاجتماع والعمران، ومدى الحنين الذي يَعتوِر العالم الداخلي الروحي (الپسيكولوجي) للغزالي، إذ يستعيد لحظة البداوة الأولى، لحظة النقاء الأولى، لحظة الوحي الأولى، بعد سقوط المدينة الإسلامية (بل والمدنيَّة الإسلامية) أمام الاجتياح الصليبي، الذي لا نجد له أيَّ صدى في كتابات الإمام؛ أي أن الإمام الغزالي كان يسعى، على مستوى اللاوعي المعرفي، إلى استعادة اللحظة البدوية الأولى، ممثِّلةِ الفطرة والنقاء، إذ كانت المدينة والمدنيَّة الإسلامية تضمحل وتتلاشى، بل وتتوارى، خلف نوع من العصبية الاجتماعية والعقائدية. وبذلك فقد كان الغزالي يستحضر لحظة البداوة والفطرة الأولى، بمثابتها النموذج البدئي archetype الأسطوري، في مواجهة مجتمع المدينة الذي غدا هشًّا وقابلاً للتصدع أمام الغزو الصليبي.

وهكذا سيفعل ابن تيمية لاحقًا، وستفعل الحركةُ الوهابية في نَجْد والحركةُ المهدية في السودان: استعادة "أخلاق التقشف" البدوية في مواجهة المركب الحضاري المعقد لمسيرة البشرية، التي تتقاسم تاريخَها أدوارٌ حضارية وثقافية، يمتنع على سُنَنها الموضوعية أن يسودَ الجزءُ على الكل، ليس في التاريخ والمجتمع فحسب، بل وفي الطبيعة أولاً؛ لذا يستحيل، وفق قانون التحدي الحضاري، أن يهيمن أحدُ الفروع الحضارية، قوميًّا أو دينيًّا، على مسار الحضارة البشرية هيمنةً شمولية.

إن الواقع العربي والإسلامي اليوم ليس أفضل مما كان عليه في زمن الغزو الصليبي، زمن الغزالي؛ وإن التفات الإسلام السياسي اليوم إلى الماضي لاستحضاره لا يختلف في مغزاه الدلالي عن آلية الحنين التي تستحضر البذاذةُ بوصفها من الإيمان! ولعل الإسلام الأفغاني والجزائري اليوم يقدِّم حالةً نموذجية لهذه "البذاذة الإيمانية"!

فهل نلغي معقولية المَتْن، أي معقولية النص، لصالح معقولية النقل وصحة تواتُره، فندعو إلى التداوي بأبوال الإبل، وإغراق الجناح الآخر للذبابة، ونتأسف على تلك الأيام التي كان فيها الصحابةُ الأجلاء يمسحون أصابعهم ببطون أرجلهم؟ – دون أن نأخذ بعين الاعتبار السياقاتِ الاجتماعية والمدنية التي أرغمتْهم على مَسْح أصابعهم من الدسم بالتراب أو بطون الأرجل.

إن الانطلاق من العقل – والعقل وحده – في قراءة النصِّ واستنطاقه وتأويله الدلالي، الكلامي أو الفقهي، هو المنهج الوحيد الذي يسمح باكتشاف الحقيقة التي كانت "هناك"، بل هذه الحقيقة وهي تتعشق بسلسلة التاريخ في جريانه في الزمان والمكان. عند ذاك تتجدد الحقيقة، وتكون قادرة على الصلاح لكلِّ زمان ومكان، وذلك عندما تتمكَّن من إعادة إنتاج نفسها وفق شروط الزمان والمكان المتغيرة أبدًا.

إننا نقول بمرجعية معقولية النص، دون الانحباس في معقولية الإسناد وصحته، هذا دون أن نتساءل عن حقيقة وجود هذا "التواتُر" ذاته، بوصفه المؤدي إلى اليقين الذي لا يحتمل التواطؤ على الكذب. وتلك هي الموضوعة الثانية التي سنتوقف عندها بتأمل تفكيكي، لنسبر الممكنات الفعلية للجذور المعرفية لهذا التواتُر، ومدى موضوعيته التي لا تقبل الشك؛ وهذه مسألة في غاية الأهمية. فإذا ما أتيح لنا أن نفكِّك تماسُكَها البرهاني، إذ ذاك سيتفكَّك "المنهج العلمي" المزعوم للدكتور البوطي ومدرسته النقلية، وستبدو مناقشتُنا اللاحقة لكتاباته من قبيل النوافل، بعد أن يتبيَّن لنا أن هذا التواتُر متعذر في ظروف انتقال المجتمع الإسلامي من المرحلة الشفاهية إلى المرحلة الكتابية مع عصر التدوين.

إذا كان الإمام البخاري قد جمع مئتي ألف حديث، ولم يصح منها سوى 2762 حديثًا، فإنه بذلك لم يسعفه "المنهجُ العلمي"، القائم على الإسناد والعنعنة، سوى في الوصول إلى أقل من واحد ونصف بالمئة من الحقيقة المتوخَّاة؛ وإذا علمنا كذلك أن هذا المنهج لم يمكِّن الإمامَ مسلم من أن يتَّفق صحيحُه وصحيح البخاري إلا في أقل من ذلك، على قلَّته، فنحن، مع مسلم والبخاري، إزاء منهج مؤسَّس على الشك في صحة ما يُنقَل: فهو بذلك منهجٌ مؤسَّس على الممكن والمحتمَل؛ ولهذا فإن أهم ما يمكن استخلاصُه من هذا المنهج ليس النتائج التي توصَّل إليها، بوصفها حقائق يقينية لا تقبل الشك، وذلك لأن المنهج ذاته مؤسَّس على رفض هذه التسليمية الجبرية الحتمية.

إن ما ينبغي أن يصل إلينا بحق من منهجية السلف الصالح، كالبخاري ومسلم، ليس نتائجه وحقائقه، بل الآليات التي اعتمدها في الوصول إلى الحقيقة، أي المبدأ الذي تأسَّس على ما يُسمَّى بـ"شروط البخاري"[13]، فننتظم في سلسلة منهجيَّتها، عبر استخدام أدواتها المفهومية، وتجديدها وفق المكتسَبات التي تراكمت معرفيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا وانصبَّت في عقل الأمَّة. لذا فإن الأدوات أو "الفنون"، كفنِّ الجَرْح والتعديل وتراجم الرجال، هي ما ينبغي أن نستلهمه لمواصلة هذه القيم العقلانية النقدية التي أسَّس لها هؤلاء المبدعون حقًّا. هكذا نحييهم، ونجعلهم معاصرين لنا – عبر أسئلتهم، وليس إجاباتهم – لأن عصرنا هو عصر السؤال الذي لا يستقر على جواب، حتى ينهض السؤالُ من جديد مفكِّكًا صلابةَ الجواب الأول وتماسُكَه.

إن الأخذ بإجاباتهم وبحقائقهم التي بلغوها، بوصفها حقائق يقينية لا تقبل الشك في صدقيَّتها، إنما يقود إلى دفنهم أو إلى توثينهم. وإن استخدام أدواتهم المعرفية والمنهجية يتيح لنا طَرْحَ السؤال حول المتواتِر ذاته، بوصفه حقيقة يقينية أم حقيقة ممكنة ويُلابِسها الاحتمال.

المتواتِر بين الحقيقة اليقينيَّة ويقين الحقيقة

انطلاقًا من أن كلَّ ما هو واقعي فهو حقيقي، نستطيع القول بأن كلَّ ما وَصَلَنا عبر المتواتِر المتفَق عليه والمُجمَع على صحَّته فهو صحيح، مادام وعيُ الجمهور وثقافةُ الأمَّة مطمئنَي القلب والعقل إلى صحته ويقينيَّته. فما علينا، من وجهة نظر وطنية، ثقافية وحضارية، إلا أن نحترم هذا الميراث الثقافي الذي يشكِّل العصب الوطني لمنظور الأمَّة لذاتها وهويتها وأناها الحضارية. وعلى هذا، فلا بدَّ من قبول هذه المعتقدات بوصفها يقينيَّات حقيقية لأنها واقعية؛ وبذلك تدخل حيِّز الاعتقاد والتسليم الإيماني. فهي بذلك "حقيقية" بمقياس الحقيقة النسبية التي تُجمِع عليها ثقافةُ أمَّة ما في مرحلة تاريخية ما، وإنْ لم ترتقِ إلى مستوى "الحقيقة"، التي أول شروطها أن تكون قابلة للبرهان في كلِّ العوامل الممكنة، ثقافةً، جنسًا، لغة، مكانًا، وزمانًا.

أما يقين الحقيقة، فيما هي عليه وفق قواعد العقل ومساءلاته، فإن العقل لا يقين له على الإطلاق، لأن اليقين مضاد للعقل، وذلك لأن العقل لا يقر إلا بنسبية الحقيقة، لا باليقينيَّات التي مجالها الذات، الوجدان، الشعور، وفي المآل، الإيمان. فالعقل كان دائمًا موجودًا لدى البشر، لكن ليس دائمًا وجودًا عقلانيًّا – وإلا ما معنى كل هذا الميراث الأسطوري والإحيائي animist والسحري والوثني في تاريخ البشر، حيث كان العقل على الدوام تتناوبُه، على مرِّ العصور وحتى عصرنا الحاضر، معادلةُ اللوغُس Logos والميثوس Mythos، أي المنطق والأسطورة.

انطلاقًا من منظور يقين الحقيقة، وليس حقيقة اليقين الواقعية فيما هي عليه، نقول إن علينا أن نسائل هذا المتواتِر مثلما ساءَلَه السلف، وكما سيسائلُه الخلف. ونحن في مساءلتنا هنا لن نوغل بعيدًا في استخدام التقنيات المنهجية الحديثة، بل سنعتمد منهجيةَ السلف ذاتَها، القائمةَ على القاعدة الجليلة الكبرى: "إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدَّعيًا فالدليل."[14] وفقًا لهذه القاعدة، نزعم أنْ ليس هناك متواتِر يرتقي إلى مستوى يقين الحقيقة. وسيكون دليلَنا على هذا الزعم النقلُ الصحيح، اعتمادًا على الرواية والخبر والإسناد، وسيكون موضوع الخبر والرواية أهم حَدَثٍ جَلَل في تاريخ الإسلام، وهو الخلاف حول تاريخ وفاة النبي (ص)، المؤسِّس لهذا التاريخ، وملابسات وفاته وظروفها، بل وملابسات تحديد عمر النبي (ص) نفسه، المختلَف فيه بدرجة الاختلاف في تاريخ الوفاة. وسيكون اعتمادُنا أساسًا على المراجع التاريخية المُجمَع على صدقيَّتها وموثوقيَّتها لدى الجمهور.

الاختلاف في مبلغ سنِّ النبي (ص)

ينقل الطبري إلينا اختلافَهم في مبلغ سنِّ النبي يوم وفاته، فيذكر ثلاث روايات:

فبعضهم قال: كان له ثلاث وستون سنة، وبعضهم قال: خمس وستون سنة، وثالث الروايات تقول: كان له (ص) ستون سنة.[15]

قد يقال إن الاختلاف في تحديد الأعمار في زمن المشافَهة ليس أمرًا مستغرَبًا؛ لكن الغرابة أن يدور هذا الاختلاف حول حياة النبي الأعظم (ص)! بل إن الأمر يبدو أكثر غرابة عندما تُسنَد روايتان لراوٍ واحد، هو ابن عباس؛ إذ الرواية الأولى تقرِّر:

حدَّثنا ابن المثنى قال حدثنا حجاج بن المنهال قال حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ابن جمرة عن ابن العباس قال: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وبالمدينة عشرًا ومات وهو ابن ثلاث وستين."

وفي الرواية الثالثة التي تقول بالستين سنة يصلنا الخبرُ في صيغة التواتُر التالية:

حدَّثنا الحسين بن نصر قال أخبرنا عبيد الله قال أخبرنا شيبان بن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال حدثتْني عائشة وابن عباس أن رسول الله لبث بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرًا.[16]

فابن عباس، الراوي الأعظم، يقدِّم روايتين عن حياة الرسول: رواية تقول إنه مكث في مكة ثلاث عشرة سنة ينزل عليه القرآن والثانية تقول عشر سنوات! لا بدَّ للمرء من أن يندهش لتلك الخفة في تناول الوقائع والأحداث، لاسيما عندما تتصل بسيرة استثنائية لفاعل استثنائي في التاريخ كالنبي، حيث كان كلَّ يوم في حياة الدعوة يؤسِّس لصناعة التاريخ. فكيف لنا أن نتساهل في فارق سنتين أو ثلاث سنوات، بل خمس سنوات، إذا أخذنا بالرواية الثالثة؟ لماذا لم يتمكَّن السلف من الإجماع على خبر متواتِر يخص حياة أعظم مَن أنجبتْه هذه الأمَّة؟!

الاختلاف في يوم وفاة النبي ويوم مبايعة أبي بكر

يحدِّثنا الطبري:

لقد أجمع أهلُ العلم بالأخبار على أن اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين، فلا خلاف بينهم، لكنهم اختلفوا في أيِّ الأثانين، هل هو يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول أم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ من شهر ربيع الأولى.

فالفارق هنا عشرة أيام! الرواية الأولى تنقل عن فقهاء أهل الحجاز بالرواية والإسناد:

قالوا: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار ليوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول وبويع أبو بكر في اليوم الذي قُبِضَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الواقدي: توفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ من شهر ربيع الأول ودُفِنَ في الغد نصف النهار حين زاغت الشمس وذلك يوم الثلاثاء.[17]

ويعود الطبري، بعد عشر صفحات، ليذكر لنا اليوم والشهر الذين توفي فيهما، فيزيدنا التباسًا، حيث يبدو لنا، من خلال إحدى الروايات، وكأن هناك خلافًا حول تاريخ وفاته، ليس باليوم والشهر فحسب، بل في أية سنة، هل هي الحادية عشرة للهجرة، كما هو متَّفَق عليه، أم في السنة العاشرة. فلنسمع هذه الرواية:

قال أبو جعفر حدثنا عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني قال حدثنا أحمد بن طيبة قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع فأراهم مناسكهم فلما كان العام المقبل حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجَّة الوداع سنة عشر وصَدَرَ إلى المدينة وقُبِضَ في ربيع الأول.[18]

وقال المفيد في الإرشاد والطبري في أعلام الورى إن الوفاة كانت "سنة عشر من الهجرة"[19]. بل إن هناك مَن يرى أن الوفاة ليست في ربيع الأول، بل "عند الزوال لليلتين بقيتا من صَفَر عند أكثر الإمامية"[20]. وفي هذا السياق لا بدَّ لابن عباس من أن يكون له رأيٌ في الأمر – وآراء ابن عباس، كما سنرى لاحقًا، يعتورها دومًا العجائبيُّ الخارق بتأثير كعب الأحبار، اليهودي المتأسْلم، وفق رأي ابن خلدون في أخذ العرب البُداة عن أساطير اليهود، بل وبتأثير ضغوط إبداعية داخلية أتاحت لهذا الصحابي الجليل أن يكون المؤسِّس للجماليات الميثولوجية في الثقافة الإسلامية، كما سنبيِّن لاحقًا. يقول ابن عباس:

ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستُنبِئ يوم الاثنين ورَفَع الحجر يوم الاثنين وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقَدِمَ المدينة يوم الاثنين وقُبِضَ يوم الاثنين.[21]

بهذه الدقة المتناهية في معلوماتيَّتها الخارقة يحدِّد لنا ابن عباس محطات حياة النبي، منذ ولادته إلى يوم التحاقه بالرفيق الأعلى، بوصفها محطات "الأثانين". وهو الذي يقدِّم لنا روايتين مختلفتين عن الفترة التي قضاها النبي في مكة (عشر سنوات وثلاث عشرة سنة). وابن عباس، من خلال هاتين الروايتين، يُظهِرُ عدم دقته في مبلغ سنِّ الرسول: هل هو ستون سنة أم ثلاث وستون سنة، كما أسلفنا. كيف لنا أن نطابق بين الإحصائية المعلوماتية الحاسوبية عن محطات الأثانين في تاريخ النبي، وبين روايات مختلفة عن حدث جَلَل كتاريخ وفاة النبي وعمره، ومصدرُها رجلٌ واحد، هو "حَبْر الأمَّة" ابن عباس؟!

ويقدِّم لنا الطبري رواية أخرى مُسنَدة؛ وهي تتفق مع الرواية القائلة باثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، لكنها تختلف حول تاريخ ليلة الدفن، فتحدِّدها بليلة "الأربعاء"[22]؛ وتتفق السيدة عائشة مع هذه الرواية في إشارتها إلى تاريخ الدفن.

وها هو ابن الأثير، في كتابه الكامل، يضيف لنا احتمالاً ثالثًا يزيد الأمرَ التباسًا. فإذا كانت الرواياتُ السابقة تنوس في تحديد وفاة النبي بين اليوم الثاني من ربيع الأول واليوم الثاني عشر، فإن ابن الأثير يشير إلى رواية أخرى، وهي أن الوفاة كانت قبل نهاية ربيع الأول بيومين. يقول ابن الأثير:

وكان موتُه يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ من ربيع الأول ودُفِنَ من الغد نصف النهار. وقيل: مات نصف النهار يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول.[23]

لن نطيل في عرض الروايات والأخبار المتعددة في إسنادها وتواتُرها؛ فكُتُب التراث حافلةٌ بهذه الالتباسات، حيث الظن، والاحتمال، والتقدير، ومن ثَمَّ تضارُب الروايات، بل والقراءات، للحدث. وسنسوق مثلاً على تضارُب الرواية في نقل الحدث، وكيف أن المنظور يلعب دورَه في القراءة التأويلية للحدث. وسيكون هذا المثال حَدَثًا انعطافيًّا في تاريخ الدعوة الإسلامية؛ وهو حدث كبير ومشهود، وتمَّ أمام أعين حشود من الناس، ألا وهو حَدَث فتح مكة، حيث يستحيل التواطؤ على الكذب أمام هذه الحشود المحتشدة لحظة فتح مكة. ومع ذلك يجد التأويلُ منفذًا، والقراءةُ منظورًا، فتتعدَّد الرواياتُ والقراءات.

يحدثنا ابن الأثير عن فتح مكة وعفو النبي عن قريش عندما قال لهم:

"اذهبوا فأنتم الطُلَقاء." ثم إنه طاف بالكعبة سبعًا ودخلها وصلَّى فيها... وكان على الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وكان بيده قضيب، فكان يشير به إلى الأصنام وهو يقرأ: "قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا"، فلا يشير إلى صنم منها إلا سقط لوجهه. وقيل: بل أمَرَ بها وخُذِمَتْ وكُسِرَتْ.[24]

فأية مأثرة تلك التي يحدثنا عنها د. البوطي، حين يتحدث عن "المنهج العلمي" القائم على الخبر الصحيح "المتواتِر"! فها قد رأينا أن حَدَثًا يتجاوز الشهود عليه الآحاد والعشرات والمئات، بل والألوف، يقدَّم إلينا من خلال منظورين: منظور "الميثوس"، الذي يضفي على الأحداث هالةً سحرية عجائبية، حيث الأصنام تتهاوى من إشارة القضيب إليها؛ ومنظور "اللوغوس" المعقوليِّ، وهو المنظور القائل بأنها خُذِمَتْ وكُسِرَتْ – وهذا الذي يتقبَّله العقل حُكْمًا.

لن نطيل في سرد الوقائع والروايات والإسنادات وأخبار الآحاد والمتواتِر؛ فهم يختلفون في تاريخ وفاة الصحابة، وحقيقة أعمارهم، وفترة حكمهم. ولا غرابة في الأمر أمام غرابة عجزهم عن نقل خبر متواتِر يطمئن إليه العقل في استحالة التواطؤ مع الكذب، وهو خبر "عمر النبي ويوم وشهر وسنة وفاته". فكيف لنا أن نطمئن إلى "المنهج العلمي" الذي يدعونا الشيخُ البوطي إليه؟! هل من المعقول أن يتحقق التواتُر اليقيني في أقوال الرسول ولا يتحقق في أحواله؟ هل يمكن أن يضطربوا كلَّ هذا الاضطراب في تحقيق الخبر المتواتِر عن حَدَثٍ جليل كموت نبيِّهم، أعظم مَن في هذه الأمَّة، بينما هم قادرون على التواتُر في حفظ أقواله؟!

والأمر الآخر الذي يجعل من مسألة التواتُر هذه وهمًا علميًّا، ومع ذلك يتباهى به الشيخ البوطي بوصفه مأثرةَ البحث عند المسلمين، وهي أن "خُطَب النبي، التي يصل عددُها إلى أربعمائة خطبة جمعة على الأقل، كان من المفروض أن تصلنا بالتواتُر"[25]؛ بل لا بدَّ أن يكون تواتُرها أكثر إحكامًا مادام قد سمعها منه كلُّ المسلمين أو معظمُهم من الذين آمنوا بدعوته والتفوا حوله، ولا بدَّ أنهم، في أقل أحوالهم عددًا في خُطَب الجمعة، هم أكثر من كلِّ الحدود التي يشترطها المحدِّثون في عدد رواة الحديث لكي يكون "متواتِرًا".

فلماذا سكت رواةُ الحديث وجامِعوه عن هذا الخُطَب، التي هي أوْلى بالتواتُر، وراح جامِعو الحديث (البخاري، مسلم) يجوبون الآفاق ليبحثوا عن حديث مُسنَد بآحاد الناس، بعد أكثر من قرن من وفاة النبي؟! – في حين أن خُطَبَه سمعها مئاتُ الناس أو الألوف مجتمعة. لا بدَّ أن في الأمر مظنَّة؟!

لا شكَّ أن العوامل الدنيوية هي التي تفسِّر وتعلِّل لنا الريبة في هذا المسكوت عنه، لأن الحقيقة ليست فيما يقال دائمًا، بل في ما يُضمَر في نظام الخطاب، لاسيما إذا كان متصلاً بالمجاز، ولاسيما أن عملية التدوين تمَّتْ في ظلِّ سلطة أوتوقراطية ثيوقراطية، تطمح إلى تغليف سلطتها القائمة على البطش بالمشروعية الدينية. ومن هنا بدأ دورُ المثقف التابع، مثقف السلطة، بدءًا من القُرَّاء (حَفَظَة القرآن)، النموذج البدئي للمثقف العربي "العضروط"، المتعيِّش على فتات موائد السلطان، وصولاً إلى الفقيه الذي واصل علوم الأوَّلين، مكرِّسًا سلطته المرجعية عبر إلغاء "الرأي"، المتمثِّل بمدرسة أبي حنيفة، وتكريس سلطة "الحديث" (النقل)، المتمثِّلة بمدرسة الإمام مالك، التي سيؤطِّر الإمامُ الشافعي هيكليَّتَها النظرية وترسيمتَها الذهنية والعقلية.

ولكي لا يبدو استقراؤنا هذا رجمًا بالغيب وتأوُّلاً، لا تأويلاً، فإنا نسوق مثالاً يصل فيه التواطؤ حدًّا يتجاوز التلاعب بالأحاديث والسنة النبوية إلى التلاعب بالقرآن ذاته، أي التلاعب التأويلي بالمقدَّس، من أجل توظيفه السياسي. ويتمثل هذا التلاعب بذلك التحامل التأويلي في تفسير آيات "إنَّا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر".

يسوق لنا ابن كثير في تفسير القرآن العظيم إحدى التفسيرات لنزول هذه الآيات. وبغضِّ النظر عن المتبنِّي لها أو مَن يستضعفها أو مَن ينكرها، فإن هذا التفسير يقدَّم كأول تفسير، وهي أن الألف شهر تدل على فترة الحكم التي سيحكمها الأمويون، وأن الله يلطِّف خاطرَ نبيِّه المجروح، معزيًّا إياه، بأن ليلة القدر، التي أُنزِلَ فيها القرآن عليه، خيرٌ من ألف شهر يملكها بنو أمية بعده، وذلك بعد أن استاء الرسول عندما رأى بني أمية على منبره، فطمأنه ربُّه وسلاه، مطفئًا نارَ غيرته تجاه بني أمية بآية "إنَّا أعطيناك الكوثر" وآية "إنَّا أنزلناه في ليلة القدر"!

يحدِّثنا ابن كثير، بعد تسلسُل الإسناد والعنعنة، قائلاً:

قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سوَّدتَ وجهَ المؤمنين، أو يا مسوِّد وجه المؤمنين. فقال: لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت آية "إنَّا أعطيناك الكوثر" يا محمد يعني نهرًا من الجنة ونزلت "إنَّا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر" يملكها بعدك بنو أمية يا محمد. قال القاسم: "فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يومًا ولا تنقص."[26]

نقول: بغضِّ النظر عن استضعاف بعضهم لهذا التفسير، أو رفض بعضهم الآخر له، فإن السلطة الأموية بلغ بها الصَّلف ألا تضع النبيَّ في موضع نِدِّيٍّ لها، بل في موضع مَن ينافث عليهم فضلَ الله، من خلال دَفْعِ بعض فقهائها لتقديم تفسير للقرآن يجعل من النبي في موقع النافث على بني أمية سلطانَهم، لكي يطمئنه الله بأنه قد عوَّضه عن ملكهم القادم بإعطائه نهر الكوثر وليلة القدر "التي هي خير من ألف شهر التي قضى الله بها لهم في الحكم"، انطلاقًا من التفسير الجبري للقرآن، بوصفه كلام الله الأزلي، حيث أُنزِلَ، وفق ابن عباس،

جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزَّة من السماء الدنيا ثم نَزَلَ مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.[27]

بذلك يكون الله قد قضى بحُكْم بني أمية في اللوح المحفوظ، باعتبار القرآن نَزَلَ جملةً واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر. هذا التفسير الوقْفي الذي أسَّس لجبرية ابن عباس هو الذي سيتمرَّد عليه المعتزلةُ لاحقًا، ليكشفوا عن هذا الاستخدام النفعي للمقدَّس، عِبْرَ التلاعب بمعاني الألفاظ وسياقات الوحي، الممثَّلة بأسباب النزول ومبدأ الناسخ والمنسوخ. وسيأتي حديث ذلك.

الشاهد والغائب

إذن، إذا كان المتواتِر مستحيلاً على مستوى الأحداث الكبرى، كوفاة الرسول وفتح مكة، بل وضياع حوالى أربعمئة خطبة للجمعة كان ألقاها النبي على جمهور واسع من الناس، فإنه من باب أولى أن يكون هذا المتواتِر مستحيلاً على مستوى الأقوال. ولقد لاحظ أهميةَ الفرق بين الرواية والشهادة الإمامُ أبو بكر الحازمي (548-584 هـ.)، حين قال بأن غلبة الظنِّ إنما هي معتبَرة في باب الرواية دون الشهادة، ولهذا سوَّى بين شهادة إمامين عالمين وشهادة رجلين لم يكونا في منزلتهما؛ وأما في باب الرواية فترجح روايةُ الأعلم بالدين على غيره، من غير خلاف يُعرَف في ذلك، فلاح الفرق بينهما.[28]

لقد تنبَّه الأقدمون، منذ وقت مبكِّر، إلى أن الظنَّ يدور حول الرواية دون الشهادة، ولذا ساووا بين العالِم والجاهل فيما يخص الشهادة، بينما رفضوا هذا التساوي على مستوى الرواية، لأن الرواية تستدعي ليس حاسة السمع فحسب، بل تستدعي الذاكرةَ وقوةَ الذكاء والفطنة، حيث يُتاح للخيال أن يعيد ترتيب الوقائع والأحداث فيما يخص المصلحة، اجتماعيةً كانت أو عقائديةً أو فنية. ومن هنا فقد كان المعوَّل عليه في فن الشعر عند أرسطو هي الأفعال، التي هي أثْبت في الأذهان. لذا فإن الانطلاقة النظرية من أولوية الفعل، الحَدَث، المشاهدة، هي التي أسَّست للدرامية في المسرح بدايةً، ثم تطوَّر الخيال الإبداعي باتجاه الرواية والقصة القصيرة، ومن بعدهما عالم السينما والتلفزيون، في حين ظلت الذائقة العربية الإسلامية ذائقةً شعرية غنائية، غير درامية، لأن هذه الذائقة مؤسَّسة معرفيًّا على أسبقية الكلمة على الفعل، الرواية السمعية على الشهادة البصرية. ولهذا لم يستطع الإبداع العربي أن ينتج، من داخل سيرورته الذاتية، إبداعًا دراميًّا إلا بعد أن تفاعَل مع الغرب.

لو انطلقنا من مسلَّمة الإمام الحازمي من أن غلبةَ الظنِّ هي في باب الرواية دون الشهادة، لوجدنا العكس: نجد أن الأحداث التاريخية التي سقناها سابقًا تقوم على الظنِّ في الشهادة ذاتها، وهي شهادة وفاة النبي، وهي شهادة جماعية على حدث كبير، واقعة جُلَّى، فعل فاجع وثقيل على وجدان الأمَّة، ما كان ينبغي أن يُختلَف حول تاريخ وقوعه؛ والأمر نفسه ينطبق على حدث كفتح مكة، وهو حَدَثٌ يتجاوز الواقعة إلى مستوى المشهد الملحمي! نقول: إذا كان الظن والاحتمال قد طاف حول هذه الوقائع الكبرى، فمن باب أولى أن يطوف حول الرواية والخبر والإسناد، وأن يتعذر التواتُر قطعًا؛ فهو أدخَلْ في باب الاحتمال من تعدُّد رواية الوقائع التاريخية الكبرى التي شَهِدَها الآلاف. بل يُنسَبُ إلى النبي (ص) القول: "ليس الخبر كالمعاينة." ولهذا قيلت القاعدة الفقهية الشهيرة: "ما طاف حوله الاحتمالُ سقط عنه الاستدلال."

إن العلاقة القائمة بين حدَّي "عالم الأذهان" و"عالم الأعيان"، بالتعبير التراثي، أي حدَّي علاقة "الفكر" و"الواقع"، بالتعبير المعاصر، تأسَّستْ في البنية المعرفية اللاواعية العربية الإسلامية على أولوية الذهني السمعي والخبري على الذهني العيني (الصفاتي). وعلى هذا، فإن المعوَّل عليه هو الأول؛ وهو مناط معرفة العالم، من خلال قياس الذهني العيني على الذهني السمعي، أي قياس عالم الشهادة على عالم الغيب، أو قياس الشاهد على الغائب في اللغة الفقهية: "أنت تستطيع أن تسمع بالله، لكنك لا تستطيع أن تراه، وأنت تسمع بعالَم الملائكة والجنِّ والعالَم الآخر، لكنك لا تستطيع أن تشاهد ذلك كلَّه بشريًّا."

على حين أن منهج الفكر العلمي الغربي، الذي يسفِّهه الشيخ البوطي، بمثابته منهج التجربة والمشاهدة، يتأسَّس، في لاوعيه الثقافي، على الجذر المعرفي الذي استنبطه أرسطو من عالم الأعيان، حيث تقديم الفعل على الكلمة، بما يعني أولوية الذهني العيني على الذهني السمعي. وعلى هذا فالمعوَّل عليه في معرفة العالَم هو قياس عالم الغيب على عالم الشهادة، وبالتعبير الفقهي، قياس الغائب على الشاهد.

ولعل هذا الأُسُّ الإپستيمي (المعرفي) هو الذي يفسِّر لنا هذه الإنجازاتِ والثوراتِ الكبرى في عالَم اليقينيَّات الكونية الكبرى المتصلة بعالم الأعيان، كما يفسِّر لنا تلك الخطواتِ الهائلة على طريق ابتعادنا التدريجي عن عالم الأعيان، والهرولة باتجاه عالم الغيب، على الرغم من كلِّ المحاولات لإيقاف هذا التدهور، بدءًا من المعتزلة، الذين قالوا بأولوية الشاهد على الغائب، مما يؤسِّس منهجيًّا للقول: إن الإلهيات تتأسَّس معرفيًّا على الإنسانيات، وفق استنتاجات نصر حامد أبو زيد في كتابه نقد الخطاب الديني[29]. نقول: بدءًا من المعتزلة، مرورًا بابن رشد، وصولاً إلى تيار الإصلاح الديني النهضوي الحديث (الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، علي عبد الرازق، عبد الحميد الزهراوي، طاهر الجزائري، إلخ).

إن العقل الفقهي (المشيخي) يقف بالمرصاد لكلِّ محاولة إصلاح في أساليب البحث ومناهجه وأدوات الفهم، ليردَّ على كلِّ محاولة بحثٍ عن النور بالإحالة على عالم البرزخ والسديم وعذاب القبر! وإن هذا العقل المطمئن إلى يقينيَّاته الكبرى هو عقل سلطوي بامتياز، لأنه يتأسَّس على سلطة الغائب الذي يجب أن يخضع له الشاهدُ قياسًا. وبما أن هذا العقل عقلٌ سلطوي، تكوينيًّا وبنيويًّا، فمآله أن ينتج واحدًا من اثنين:

-       إما أن ينتج فقيهًا سلطانيًّا، قادرًا على التلاعب بالقرآن الكريم في خدمة السلطة: ولذا لم يعدم بنو أمية فقهاء يفسِّرون لهم القرآن بوصفه نَزَلَ جملةً واحدة من اللوح المحفوظ، وأن "الألف شهر" التي سيحكمون إبانها هي جزء من علم الله الأزلي، أي قضائه وقَدَرَه المدوَّن في اللوح المحفوظ، الذي لا رادَّ لنفاذه أمام جبرية حُكْمهم التي أنفذ الله بها قضاءَه (علمه القديم) لقَدَرِه الذي أسلَمَهم زمامَ الأمور!

-       وإما فقيهًا خارجيًّا، يستبيح المجتمعَ باسم حاكِمية يتأوَّلها في النصِّ القرآني لصالح أطروحات ذات فعاليات سلطوية مقلوبة، فتكون بمثابة فعل مضادٍّ لطغيان الحاكم، وذلك بإنتاج طغيان مضاد، يصل، مع بعض الخوارج، إلى حدِّ المطالبة بسبي نساء جيش معاوية ماداموا كفرة، وفق رأيهم، – حتى اضطر ابن عباس، في مجادلاته معهم، أن يقول لهم: هل تريدون سبي واستباحة أمِّكم عائشة زوج النبي؟! – وذلك كلُّه تحت شعار "ومَن لم يحكم بما أمَرَ الله فأولئك هم الكافرون"، التي هي آية نزلتْ في تحكيم اليهود للنبي بشأن يتصل بهم. تلك هي صورة الخارجي في زمن السلف، وتلك هي صورته في لحظة الحاضر، حاملاً البلطة والسكين والسيف، يرى في الحاكم والمحكوم كافرًا مادام لا يلتحق به، خارجًا على السلطة والمجتمع معًا!

ذلك هو الفعل المعارِض. أما الفاعلية السلطوية الاستبدادية الحاكمة فإنها تستعين بالعقل الفقهي (المشيخي) الذي يؤبِّد السلطة المعرفية للسلف في خدمة استبداد الحاكم الخلف، حيث تتاح له كلُّ الفرص، وتوضَع تحت تصرفه كلُّ المؤسَّسات التعليمية والإعلامية (صحافة، تلفزيون، إذاعة). وهكذا، فإن المجتمع ينوء تحت نوعين من الاستبداد: استبداد الحاكم واستبداد الفقيه، حيث يستحكم التحالفُ التاريخي بين الاستبدادين (الاستبداد السياسي والديني)، على حدِّ تعبير الكواكبي القائل بأنهما "صنوان كاللوح والقلم، يكتبان على البشر الشقاء والألم".

فكما استُخدِمَ العقلُ الفقهي المشيخي من قبلُ في إعطاء حكَّام بني أمية صفةَ قضاء الله وقَدَره المدوَّن في اللوح المحفوظ، فإن الفقيه المعاصر يفتي للحاكم بكامپ ديفيد، قياسًا على صلح الحديبية، كما ويفتي له بالاستنصار بالأجنبي، فينضوي تحت رايته مقاتلاً، بأوامره، "أخاه العربي المسلم"!

***


 

* باحث سوري، حلب.

[1] دار الفكر، دمشق 1969، طب 8، 1982.

[2] راجع: كبرى اليقينيات الكونية، ص 31-33.

[3] المصدر نفسه، ص 35.

[4] أحمد أمين، ضُحى الإسلام، ج 2، ص 137.

[5] لا بدَّ من الانتباه إلى أن التجريح نال حتى من هذين العالِمين (البخاري ومسلم). فقد لاحظ بعض المستشرقين أن مُسند أحمد تتجلَّى فيه الشجاعة وعدم الخوف من العباسيين، بذكره أحاديث في مناقب بني أمية مما كان منتشرًا بين الشاميين. وعلى العكس من ذلك، البخاري ومسلم: فإنهما لم يذكراها مُداراةً للعباسيين، على الرغم من أن الأمويين هم أول مَن أسَّس لبدعة توظيف الدين في خدمة السياسة، حيث تحوَّل الدين إلى أداة لإسباغ المشروعية الإلهية على حُكْمهم، كما سنرى ذلك في توظيفهم لآية "ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر"، عندما اعتبروا أن "الألف شهر" هي الفترة التي سيحكم إبانها بنو أمية، ومن بعدُ، توظيف ابن عباس الذي التحق بمعاوية في إظهاره لمناقب الأمويين، حتى إن أبا سفيان، الذي لم يصحَّ إسلامُه يومًا، يغدو صاحب منزلة خاصة لدى النبي! يقول ابن عباس: "ما سأل أبو سفيان رسول الله (ص) شيئًا إلا قال نعم." وأبو سفيان هو، مع كلِّ هذا الفضل العظيم الذي يُسبِغه عليه ابنُ عباس، صاحب القول الشهير بعد إسلامه:

لعبتْ هاشمُ بالمُلْك فلا رُسُلٌ جاءتْ ولا وَحْـيٌ نَزَلْ

لعبنـا نحـن فـي أيامنـا هكذا الأيـامُ والدنيا دُوَلْ

والأمر نفسه ينطبق على العباسيين: ففي كتاب السيوطي فصلٌ بعنوان "الأحاديث المنذِرة بخلافة بني أمية"، وبعده فصلٌ عنوانه "الأحاديث المبشِّرة بخلافة بني العباس"؛ والعنوان نفسه يدل على الوضع وتاريخه وعلى أنه عُمِلَ في عهد العباسيين. (راجع: ضُحى الإسلام، ج 2، ص 122-126.)

[6] راجع: محمد أركون، نافذة على الإسلام، 1992.

[7] يقول المستشار محمد سعيد العشماوي في مقال بعنوان أفكار من أجل تحديث النظرة إلى الإسلام: "وابن قتيبة، في كتابه تأويل مختلف الحديث، يتحدث عن هذه الظاهرة في عصره من خلال الصراع بين المحدِّثين والمتكلِّمين. وسبب ذلك أن منحى المحدِّثين نقلي، ومنحى المتكلِّمين عقلي؛ فراح الأخيرون يشنِّعون على المحدِّثين اعتمادَهم أحاديثَ سخيفة تتناقض مع العقل، كمن قرأ سورة كذا أُسكِنَ من الجنة سبعين ألف قصر، وكحديث الفأرة أنها يهودية لأنها لا تشرب ألبان الإبل، كما أن اليهود لا تشربها، وحديث السنُّور أنها عطسة الأسد... وحديث أبي هريرة أن رسول الله قال: "الكمأة من المنِّ وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وفيها شفاء من السم." ويقوم ابن قتيبة بالجملة ضد علماء الكلام والقائلين بالرأي، حتى راح أصحاب الحديث يسخرون منهم، فيطلقون عليهم "الأرأتيون"، فيهاجم النظام وأبا الهذيل العلاف، بأن النجار يخالفهما وهشام بن الحكم يخالفهم. وتعرَّض لرئيس مدرسة الرأي أبي حنيفة، وأوغل في الهجوم، فسبَّ الجاحظ ورماه بأنه "كان يستهزئ من الحديث استهزاءً لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود أنه كان أبيض فسوَّده المشركون، وقد كان يجب أن يبيِّضه المسلمون حين أسلموا، إلخ"." (السفير، 8/5/1997). راجع كذلك: أحمد أمين، ضُحى الإسلام، ج 2، ص 123-136.

[8] الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 1، دار الفكر للطباعة والنشر، 1995، ص 118.

[9] الأُشنان: هو مسحوق أبيض مستخلَص من نبات يُغسَل به.

[10] الاستنجاء: هو غسل موضع النَّجو، وهو ما يخرج من البطن من ريح أو غائط.

[11] الإمام الغزالي، سبق ذكره، ص 118.

[12] المصدر السابق، ص 118.

[13] هذه "الشروط" هي التي قادتْه إلى تقليص عدد الأحاديث إلى 2772، حيث إن هذه المنهجية ستنتج حقلاً مفاهيميًّا يتولد عنه الكثيرُ من المفردات الاصطلاحية. ففي البداية، جمع البخاري، على ما ذَكَرَه ابن حجر، 7397 حديثًا؛ وهذا العدد تدخل فيه الأحاديثُ المكررة، ولا تدخل فيه المعلقات والمتابعات والموقوفات، لأنها، إذا أضيفت إليها المعلقاتُ والمتابعاتُ، بلغتْ 9082 حديثًا، غير الموقوف والمقطوع؛ وإذا حُذِفَ المكرَّر واختُصِر إلى الأحاديث الموصولة السند غير المكرَّرة، كانت 2762 حديثًا فقط. ويقوم أحمد أمين بشرح اصطلاحات البخاري قائلاً: "فالمعلقات هي الأحاديث التي لم يُذكَر فيها السندُ من أوله، كأن يقول البخاري: عن ابن عمر عن النبي (ص) إنه قال... إلخ. والموقوفات هي الأحاديث التي ينتهي سندُها إلى الصحابة، فلم يُذكَر فيها قولٌ ولا فعلٌ للنبي (ص)، بل للصحابي. والمقطوعات ما انتهى السندُ فيها إلى ما دون الصحابة، كالتابعي. والمتابعات هي أن يُروى الحديثُ من طُرُق أخرى، فمثلاً أن يروي أحدُ الرواة حديثًا، ثم يدعم هذا الحديث براوٍ آخر، فيُسمَّى هذا متابعة. ويتساهل المحدِّثون في المتابعات، فيجيزون فيها رواية بعض الضعفاء، لأن المتابعة ليست إلا تدعيمًا للحديث وتقوية له. بل إن البخاري، الذي قعَّد قواعد الحديث باعتماده مناهج الاستدلال والشك والجَرْح والتعديل، لم يكن مجرَّد جامع للحديث، بل هو من أصحاب الرأي: فقد اجتهد أن الجُنُب لا بأس بقراءته القرآن، وأنه إذا خاف المريض من الماء البارد تيمَّم، ورأى جواز الصلاة بالنعال، ورأى أن يُحتكَم في البيوع إلى عُرْف الناس، ورأى جواز تعليم أهل الكتاب القرآن... إلخ. فظاهرٌ من هذا كلِّه أنه لم يتقيَّد بمذهب." (راجع: أحمد أمين، ضُحى الإسلام، ج 2، ص 113-114.)

[14] كبرى اليقينيات، سبق ذكره، ص 34.

[15] أبو جعفر بن محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، المجلد الثاني، الجزء الثالث، ص 206.

[16] المصدر نفسه، ص 206.

[17] المصدر نفسه، ص 197.

[18] المصدر نفسه، ص 197.

[19] سيرة الرسول عن طبقات ابن سعد، دار الفكر للجميع، 1968، ص 346.

[20] المصدر نفسه، ص 346.

[21] تاريخ الطبري، سبق ذكره، ص 207.

[22] تاريخ الطبري، ص 207.

[23] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، المجلد الثاني، ص 323. ويستطيع القارئ أن يجد أمثلةً كثيرة على ذلك: ففي المصدر نفسه، المجلد الثالث، ص 52-53، يحدِّثنا عن الاختلاف حول تاريخ وفاة عمر ابن الخطاب، ومدة ولايته، وعمره حين وفاته.

[24] ابن الأثير، المصدر السابق، ص 252.

[25] عن د. محمد شحرور، دراسات إسلامية معاصرة: الدولة والمجتمع، طب 4، دار الأهالي، دمشق، ص 230.

[26] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، الجزء الرابع، دار القلم، بيروت، ص 463.

[27] المصدر السابق، ص 463.

[28] أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، بتحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، سلسة منشورات جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي، پاكستان، غرة محرم 1410 هجري، الموافق 1989 م، ص 61.

[29] نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ص 169.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود