المرأة والحريَّات المنقوصة

 

عدنان الصباح[*]

 

الموقفُ من المرأة موقفٌ من الحياة. وبالتالي، فلا يجوز لأحد، كائنًا مَن كان، الادِّعاءُ بأنه يملك نظرةً واقعيةً عادلة، أية كانت خلفياتُها النظرية والإيديولوجية، إن لم يكن يتخذ موقفًا عادلاً من المرأة وقضاياها. فادِّعاء الموقف العادل، في السياسة والوطن وحقوق الشعب وحرياته، ادعاءٌ أعرج إنْ هو استثنى النصف الحيَّ من المجتمع. والقول بأن المرأة هي "النصف الحي" ليس اعتباطًا، بل يجب أن يكون الأمر كذلك عند العرب أكثر من أيِّ شعب آخر أو أمَّة أخرى.

فالمرأة، لدى الطبقات الغنية من المجتمع العربي، هي الأم والمربية والزوجة والطباخة، أو المشرفة والحارسة الأمينة على البيت والأولاد. وهي، في الطبقات الفقيرة والمتوسطة منه، عاملة وشريكة في دَخْل الأسرة، وفي الوقت نفسه، خادمة بيتية، بكلِّ ما تحمل الكلمة من معنى: فهي تعمل، إلى جانب زوجها، في الحقل أو المكتب أو المدرسة أو المصنع، وتعود معه إلى البيت؛ وفي حين يجد هو الوقت الكافي للاسترخاء من عناء يوم العمل، تبدأ هي رحلة عذابها مع المطبخ والأولاد والزوج نفسه، الذي لا تنتهي طلباته! ثماني ساعات في العمل خارج البيت لرفع المستوى المعيشي للأسرة، وباقي النهار والليل في الطبخ والكنس والغسيل وتربية الأولاد وتعليمهم والقيام بالواجبات الاجتماعية في الحيِّ ولدى الأقارب. وبعد ذلك كلِّه، يُطلَب منها أن تكون زوجة كاملة الأنوثة في الهزيع الأخير من الليل أمام رجل نام جيدًا وأكل جيدًا، دون أن يعنيه حجمُ معاناتها. وإنْ هي لم تفعل، أو لم تتمكَّن من القيام بدورها في الفراش كما يرغب هو، بصرف النظر عن رغبتها، ينطلق لتبرير حقِّه في الزواج من أخريات. وبعد ذلك، يأتي هذا الرجل نفسه ليتحدث – بكلِّ صفاقة – عن تقدُّمه عليها اجتماعيًّا وعن أفضليته! لذا فإن الموقف العادل من المرأة ينبع من إدراك حقيقيٍّ لدورها وإنسانيتها.

لا يمكن للتغيير أن يأخذ مجراه في المجتمع العربي نحو بناء مجتمع مدنيٍّ متقدم ومتطور وحضاري من دون تحطيم النظام الأبوي، القائم على انعدام حرية أعضاء الأسرة، ونظام التمييز بين أعضاء الأسرة على أساس الجنس، وانسحاب ذلك من الأسرة الصغيرة على الأسرة الكبيرة في المجتمع في شكل عام. إن بناء مجتمع مدنيٍّ يساوي بين أفراده متعذر مادامت المرأة العربية عرضةً لانتهاك حقوقها، ومادامت سائدةً النظرةُ إليها على أنها "ضلع قاصر ضعيف" أو"ناقصة عقل ودين"! فمادام أصحابُ هذه النظرة يجدون في القراءة المجتزأة لتعاليم الدين الإسلامي ضالَّتهم، سيظل "الرجال قوَّامين على النساء" (النساء 34)، و"للذكر مثل حظِّ الأنثيين" (النساء 11)، وشهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد (البقرة 282).

إن أنصار هذه النظرة إلى المرأة ينسون كليًّا الظروفَ المحيطة بنزول هذه الأحكام في مجتمع بدويٍّ متخلف، كان الوأدُ في التراب من نصيب إناثه قبل ظهور الإسلام، الذي حرَّر النساء، وارتقى، رويدًا رويدًا، بظروفهن. ومن المعروف أن أحكام الإسلام تستخدم نصوص القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة والقياس والاجتهاد؛ وما ينطبق على حالات مماثلة ينطبق على حالة المرأة. فالإسلام، مثلاً، لم يسعَ إلى تحريم شُرْب الخمر دفعةً واحدة، بل منع الاقتراب منه عند الصلاة أولاً (النساء 43)، ثم اعتبره "رجسًا من عمل الشيطان" (المائدة 90) ودعا إلى "اجتنابه". وهو، كذلك، لم يحرِّم العبودية، بل حثَّ على تحرير العبيد. فهل يجوز لنا اليوم اعتبار العبودية حلالاً؟![†]

الدين الإسلامي دين واقعي، مدرِك لحقيقة الظروف المحيطة بالإنسان. والله – سبحانه وتعالى – جاء بالإسلام كدين ميسِّر لحياة بني البشر، وليس دينًا لتعجيزهم. لذا فإن معظم الأحكام انطلقت من واقع الحال والظروف المحيطة. فلم يكن ممكنًا إخراجُ الأنثى من حال الوأد والجهل لتتساوى فورًا مع الرجل. فقد كانت منبوذة مكروهة جاهلة، ورمزًا للذلِّ والفقر والعار؛ لذا فإن الاعتراف بصحة شهادتها، وبأن حقَّها نصف حقِّ الرجل، وتحريم وأدها، كان آنذاك ثورةً على نُظُم الجاهليةِ القائمةِ أكبر بكثير من الدعوة العصرية إلى حرية المرأة – وهي اليوم متعلِّمة، مثقَّفة، تساهم في العمل والإنتاج وصياغة الحياة بكلِّ تلاوينها. وبذا لا يجوز أن نعاملها اليوم كامرأة العصر الجاهلي! ومن المفيد التذكير بما أوصى به محمد رسول الله المسلمين من بعده بقوله: "خذوا دينكم عن هذه الحميراء"، ويقصد زوجه عائشة.

لقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في كافة أشكال الخطاب، ومنها:

1. التعليم

لقد جاءت كافة النصوص الداعية إلى العلم والتعلم، وإلى السعي في طلبهما، عامةً، لم تخص الرجل دون المرأة أبدًا. وبذا كانت الرسالة للمسلمين عامة، بل وللناس عامة. وهذا يعني أن للمرأة حقَّ التعلم مثل الآخرين. وللتعلم هدفٌ هو الانتفاع به: ليس العلم للعلم، بل العلم للحياة.

2. مفهوم "القِوامة"

ويورد العديد من العلماء والباحثين أمثلةً كثيرة في هذا الصدد؛ ومن أهمِّها قراءة الآية الكريمة: "الرجال قوَّامون على النساء" (النساء 34). فالإمام محمد حسين الشيرازي في كتابه القانون يورد أمثلة كثيرة لآراء العلماء الأولين بأن هذه الآية تقصد الحياة البينية؛ ولذا استُتبِعتْ بعبارة "وبما أنفقوا من أموالهم". وهذا يعني أن الأمر محدَّد في البيت، ولِعِلَّة كون الرجل ينفق على البيت دون المرأة؛ لذا فإنه لا يجوز سَحْبُ الأمر على الحياة العامة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن من حقِّ المرأة التي تنفق على بيت الزوجية أن تصبح، إذن، قوَّامةً على الرجل. وفي العصر الحاضر، كثيرةٌ هي الأُسَر التي تُعتبَر المرأةُ فيها هي المنتج الأول قبل الرجل؛ ومع ذلك، يبقى هذا الرجل الذي يعتاش من جهد زوجته يدَّعي أفضليَّته عليها!

3. المشاركة في الحياة الاقتصادية

لقد أجاز الإسلام للمرأة العمل والتجارة، واعتبر ذمَّتَها المالية ذمَّةً مستقلة، بل وأعطاها الحقَّ بالحفاظ على مالها وعدم المشاركة في الإنفاق على البيت، واعتبر ذلك من واجب الزوج، على الرغم من كلِّ الظروف. ومثال السيدة خديجة، زوج النبي الأولى، واضح جدًّا للدارسين.

4. مساواة حقيقية وتامة

إن النصوص القرآنية تدحض كلَّ ادعاءات أولئك الذين ينتقون من القرآن ما يخدم رؤيتهم أحادية الجانب. فحين احتجَّت أمُّ سلمة على مخاطبة الوحي للرجال دون النساء أمام محمد رسول الله مباشرة، نزلت الآية الكريمة القائلة: "فاستجاب لهم ربُّهم أني لا أضيع عملَ عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضُكم من بعض" (آل عمران 195). والنص هنا صريح في المساواة.

5. تميُّز عن الحضارات الأخرى

كانت الحضارات الأخرى تنظر إلى المرأة نظرة دونية، وتحط من قدْرها. فالحضارة الرومانية، مثلاً، اعتبرت المرأة أمَةً للرجل، لا حقوق لها على الإطلاق. وذهب غُلاتُهم إلى أنها كائن لا نَفْس له؛ لذا فهي لن ترث الحياة الآخرة. والمرأة، بنظر هؤلاء الغُلاة، رِجْس؛ فيجب ألا تأكل اللحم وألا تضحك، بل عليها أن تقضي وقتها كلَّه في الصلاة والعبادة. بل ذهب بعضهم إلى الوصاية بمنعها من الكلام وبوضع قفل على فمها! وكانت المرأة في أثينا تُباع وتُشترى. وفي مجتمع الهند القديمة، كان حقُّ المرأة في الحياة ينتهي بموت الزوج، فيُستحسَن أن تحرق نفسها مع جثمانه. أما العهد القديم فيقول عن المرأة: "فجُلْتُ بقلبي لأعلم وأبحث وألتمس الحكمةَ وحقيقةَ الأمور، لأعلم أن الشرَّ جهلٌ والجنونَ غباوة. فوجدتُ أن ما هو أمرُّ من الموت هي المرأة، لأنها فخٌّ ولأن قلبَها شبكةٌ ويداها قيود" (سِفْر الجامعة 7: 25-26).

وفي المادة 217 من قانون الأحوال الشخصية الفرنسي يَرِدُ النص التالي: "المرأة المتزوجة، حتى لو كان زواجها قائمًا على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها، لا يجوز لها أن تَهَبَ، ولا أن تنقل ملكيتها، ولا أن ترهن، ولا أن تملك، بِعَوَضٍ أو بغير عَوَض، دون اشتراك زوجها في العقد أو موافقته عليه موافقة كتابية." وعلى الرغم من كلِّ التعديلات والتشريعات التي دخلت على هذه المادة، فتأثيرها على وضع المرأة الفرنسية لا زال قائمًا حتى الآن.

وفي إنكلترا، حرَّم هنري الثامن على المرأة الإنكليزية قراءة الكتاب المقدس، وبقيت المرأة حتى سنة 1850 لا تُعتبَر مواطنةً مثل الذكر، ولا تملك حقوق المواطن؛ وحتى سنة 1882 ظلت المرأة بلا حقوق شخصية: فلم يكن من حقِّها التملك باسمها، وكانت تُعتبَر جزءًا من أبيها أو زوجها، وبغير ذلك لم تكُ شيئًا على الإطلاق.

6. نماذج قرآنية تشير إلى المساواة

-       "للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن" (النساء 32).

-       للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون" (النساء 7).

-       "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" (التوبة 71).

-       "هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن" (البقرة 187).

7. من أحاديث محمد رسول الله

-       روى البخاري عن مسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتَهم عليَّ بن أبي طالب؛ فلا آذَن، ثم لا آذَن، ثم لا آذَن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلِّق ابنتي وينكح ابنتهم. فإنما فاطمة بُضعة مني، يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها."

-       "لعن الله كل مِزْواج مِطْلاق."

-       "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيَّته."

-       "ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهنَّ إلا لئيم."

-       "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي."

-       أكمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وخِيارُكم خِياركم لنسائهم."

-       "استوصوا بالنساء خيرًا."

-       "أما يستحي أحدُكم أن يضرب امرأته كما يضرب البعير؟"

الاستعمار صانع دونية المرأة

يمكن القول إن خضوع العالم العربي، لفترات طويلة، للاستعمار المتخلِّف هو الذي كرَّس دونية المرأة في العالم العربي. فنظام الحريم لم يعرفه عامةُ العرب قبل الاستعمار؛ وكذا الخِمار أو غطاء الوجه. وبسبب من الظروف الاقتصادية القاهرة والنظرة الدونية إلى المرأة لدى المستعمر، الذي سيطر عمليًّا على مقدَّرات البلاد، فقد وُجِدَتْ الفرصُ سانحةً لتعليم للذكور أكثر من الإناث. ولا شك أن للعادات والتقاليد والتعاليم الإسلامية أثرَها في ذلك، ومنها تحريم سَفَر المرأة منفردة؛ لذا وجد الذكرُ فرصتَه في قدرته، دون الإناث، على السفر إلى الخارج لتلقِّي العلم، وبقيت الأنثى حبيسة جدران منزلها.

التراث الايجابي المُغفَل

"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا." هذه الكلمات الواضحة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب جاءت واضحة، ولا تحتاج إلى كثير عناء لتفسيرها. فلقد قال: "متى استعبدتم الناس"؛ وكلمة "الناس" هنا شاملة، ولا تعني الرجل وحده أبدًا، ولا تعني المسلم وحده، بل جاءت شامله عامة. فالإنسان – مطلق الإنسان – ولد حرًّا، ولا يملك أحدٌ، أيًّا كان، حقَّ استعباده أو الحطِّ من آدميَّته.

لذا جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان محدَّدًا وواضحًا بقوله إن "التمتع بالحريات الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حقٌّ مطلق لكلِّ بني البشر، دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين." وفي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، الذي يتألف من 53 مادة، تشير المادة الثالثة إلى تعهُّد الدول الأطراف في هذا العهد بـ"كفالة تَساوي الرجال والنساء في حقِّ التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في هذا العهد"؛ كذلك الأمر في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، الذي يتألف من 31 مادة، حيث تشير المادة الثالثة من هذا العهد إلى تعهُّد الدول الأطراف في هذا العهد بـ"كفالة تَساوي الرجال والنساء في حقِّ التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في هذا العهد". وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 كانون الأول 1966على العهدين، اللذين يُعتبَران بمثابة اتفاقية دولية مُلزِمة للدول التي وقَّعت عليهما؛ ناهيكم عن "اتفاقية مناهضة التعذيب" (1984) و"اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة" (1979) و"اتفاقية حقوق الطفل" (1989).

لا "حقوق إنسان" دون "حقوق المرأة"

ينطلق الإعلان العامي لحقوق الإنسان من منطلقات عامة وشاملة لكلِّ بني البشر، بمن في ذلك النساء، بحيث لا يمكن فصل مفهوم حقوق النساء عن المفهوم العام والشامل لحقوق الإنسان. فالمساواة هي القاعدة التي تنطلق منها الفكرة العامة لحقوق الإنسان، حيث تقول المادة الأولى من الإعلان العالمي: "ولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق." لذا فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وشرعة حقوق الإنسان يقرَّان، بكلِّ وضوح، بالحقوق الكاملة للذكور والإناث، بغضِّ النظر عن العمر أو اللون، وبعيدًا عن موقعهم من نمط الإنتاج أو الحياة السياسية والاجتماعية، وذلك بتقرير التساوي في الآدمية بين الجميع.

من جانب آخر، فإن النظرة إلى موضوعة حقوق الإنسان يجب أن تنطلق من قاعدة أن حقوق البشر واحدة، وأن أيَّ انتهاك لجزء منها يُعتبَر انتهاكًا للكل. فهذه الحقوق مُلكٌ للجميع بالتساوي والتزامن، والنظرة إليها يجب ألا تنطلق من نظرة تراتبية؛ فلا أولويات في حقوق البشر: فإما أن تُعطى كاملة، وإما أن تُمنَع كاملة؛ وأي انتقاص منها يعني منعها.

الحرية لا تتجزَّأ

ليس من حقِّ أحد، فردًا أو مجموعة، أمَّة أو قبيلة، أن يدَّعي الحرية مادام يعيش في كلٍّ ينتقص من حرية الآخرين. فكما أننا نُكثِر على القوى الاستعمارية الإعلان عن أنها حرة وهي تصادر حرية الآخرين، كذلك ينسحب الأمر على الرجال. فلا يجوز الادِّعاء بأنهم أحرار حين يقومون بمصادرة حريات نصف مجتمعهم – وأي نصف؟ إنه الأم والابنة والزوجة! فهل يجوز القبول بقول الرجل الذي يضطهد أمَّه أو ابنته أو زوجته إنه حرٌّ وإن في إمكانه أن يصنع الحرية لمجتمعه؟! فالحرية كلٌّ لا يتجزأ؛ ومَن يمارس انتهاك حرية أقرب الناس إليه وحقوقهم لا يمكن له أن يكون قادرًا على مَنْحِها للآخرين أو المشاركة في صُنْعِها. وبالتالي، فإن استمرار انتهاك حقوق النساء، في أيِّ مجتمع، هو إيغال في التخلف، وسدٌّ منيع في وجه هذا المجتمع دون الوصول إلى تحقيق حريته على الصعيد الوطني، بكلِّ أشكال هذه الحرية.

فالحقوق والحريات وحدةٌ واحدة، لا يمكن التفريق بين أجزائها أبدًا: فلا يمكن أن نعطي المرأة الحقَّ في التعليم، ثم نطلب منها ألا تعطي رأيها في الشؤون العامة وألا تناقش القرارات التي تُتَّخذ في شأنها؛ ومن غير المعقول أن نسمح للمرأة بالمشاركة في الحياة السياسية دون أن تملك حقَّها في حرية التعبير والعلم والتقرير فيما يخص حياتها الشخصية. فأي نائب برلماني، مثلاً، ستكون تلك المرأة، إنْ كان الزوج يملك حقَّ استصدار بطاقة شخصية دونها؟ وكذا الحق في السفر.

الحريات حقٌّ للبشر أجمعين

عادة ما يلجأ أعداء حقوق الإنسان والحريات العامة إلى صبغها بالصبغة الاستعمارية وبالأفكار المعادية والمستوردة، في محاولة للتورية عن جرائمهم، وإطلاق يدهم في القبض على مقاليد الأمر، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. والكثيرون يصخبون عند الحديث عن حقوق النساء، ولا يرون في الأمر إلا حق ممارسة الجنس خارج الحياة الزوجية السليمة! وهؤلاء عادةً من الرجال الذين يتناسون – عن عَمَد – أنه لا توجد عاهرة واحدة على وجه الأرض إلا وخلفها مائة عاهر من الرجال – وإلا لماذا يبيع بعضُ النساء الجنسَ في الأسواق إنْ لم يكن هنالك طلب من الرجال؟! ونحن قلما نسمع في التاريخ عن سوق للجنس يبيع فيه الرجالُ المتعةَ للنساء؛ فالعكس هو الأصح والسائد عمومًا. وهذا يُثبِتُ أن النساء أكثر "قِوامة" من الرجال في هذا الأمر!

وعلى أية حال، فإن الحريات والحقوق التي نتحدث عنها هي الحريات والحقوق العامة التي تقدِّس الأسرة والحياة الزوجية، وترفض بيع جسد المرأة واعتبارها سلعة، بل وترفض الاتجار بذلك (وعادة ما يكون الرجال هم التجار الذين يتاجرون بأجساد النساء). ونحن، حين نتحدث عن حقوق الإنسان–الرجل والإنسان–المرأة، لا نقصد أبدًا الحريات الجسدية لكليهما، بل حرياتهم كبشر. فما يحدِّد آدميَّتهم هو انتماؤهم إلى المجتمع البشري – بمعنى أن الآدمية والإنسانية صفة جماعية، وليست صفة فردية؛ إذ إنه لا مبرِّر للحديث عن حقوق الإنسان للفرد الإنساني – أيًّا كان، ذكرًا أم أنثى – إن كان يعيش منعزلاً.

صانعة حريتها

ليست الحرية ملكًا لأحد. وبالتالي، ما من أحد يستطيع مَنْحَها للآخرين. وهذا يعني أن من العبث الانتظار حتى تتكوَّن لدى الرجل رغبةٌ في التنازل عن سلطته المطلقة للمرأة؛ بل إن على النساء أن ينهضن من سباتهنَّ في كفاح سِلْمي متواصل وعنيد، دون كلل أو ملل، حتى يتمكنَّ من انتزاع حرياتهن وحقوقهن العامة من بين أنياب السلطات التي يمثِّلها الرجال. فليس في إمكان أحد – حتى لو ملك الرغبة في ذلك – أن يصنع حرية لا يسعى أصحابُها إلى نيلها، ولا يقتنعون بأهميتها وبضرورتها.

وعلى هذا، فإن منظمات النساء، في شكل خاص، والمنظمات غير الحكومية، في شكل عام، تمثِّل الوعاء الذي يجب أن تصبَّ فيه، وتؤطَّر من خلاله، كلُّ الجهود لإنجاز حرية المرأة العربية، كتأسيس ضروري للوصول إلى مجتمع عربي حرٍّ ومدني وتنموي. وإن ذلك يستتبع، بالضرورة، العمل على إعادة تثقيف المجتمع الذكوري بأن الانتقاص من حريات النساء وحقوقهن، ما ظلَّ سائدًا، هو الشرخ الذي يقوِّض حريات المجتمع بأسره في بناء مستقبله.

*** *** ***


 

[*] كاتب فلسطيني.

[†] هذا التساؤل أوْرَدَه سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود