ألم يقل أراغون عن "جميلته" إنها "أجمل قصة حب في العالم"؟

 

عواد علي

 

في العاشر من حزيران 2008 غاب جنكيز ايتماتوف، ولما يزل بلده قرغيزيا يواصل الاحتفال به، تزامنًا مع مرور 50 عامًا على صدور روايته الأولى جميلة، التي وصفها الشاعر الفرنسي أراغون بأنها "أجمل قصة حب في العالم".

ترك موت صاحب وداعًا يا غولساري، والسفينة البيضاء، والكلب الأبلق الراكض على حافة البحر، والمعلم الأول، والنطع، والغرانيق المبكرة، وويطول اليوم أكثر من قرن، والعروس الخالدة، ونمر الثلج... غصةً في نفوس محبِّيه الذين كانوا قد شرعوا في ترويج ترشيحه لجائزة نوبل لعام 2008، بوصفه واحدًا من كبار أدباء القرن العشرين، والممثل الأصيل للأدب الأوراسي، والمجسد لتلاحم فلسفة الشرق العميقة مع خيرة تقاليد الأدب الأوروبي والعالمي.

في أواخر السبعينات سحرت جميلة، التي جلبت لايتماتوف شهرة عالمية، عددًا غير قليل من أبناء جيلي المنكبِّين على قراءة الأدب العالمي، إلى جانب روايات مترجمة أخرى، مثل سوار العقيق لألكسندر كوبرين، والدون الهادئ لشولوخوف، والساعة الخامسة والعشرون لكوستانتان جورجيو، والشوارع العارية لفاسكو برادوليني، والجحيم لهنري باربوس. لقد قرأناها في ذلك العمر الغض بمنظور يختلف عن المنظور الإيديولوجي الذي منحها "جائزة لينين" عام 1963. رأينا بين سطورها ملامح قرغيزيا مخفيةً تحت جلباب الفتاة القروية الفطرية جميلة، التي خطفها شاب قادم من قرية كبيرة مجاورة، وجرى بها إلى بيت أمه ليتزوجها إكراهًا. وحينما صدر قرار الدولة السوفياتية بأن تحلَّ النساء محل الجنود والعمال في أداء عملهم داخل المدن والقرى، جرى تكليف جميلة نقل القمح، فتعرفت في أثناء ذلك إلى عامل أعرج مريض، لكنه يستطيع الإنشاد. كان جنديًا في الجبهة فجُرح وأعيد إلى الحياة المدنية. أحبَّته وأحبَّها، وخرجت به من القرية إلى فضاء أرحب ليتزوجا. وإذ أستذكر الآن قراءتنا لهذه الرواية آنذاك، بوعي نقدي بسيط، لكنه مغاير لرؤية النقاد السوفيات، ومقولات الواقعية الاشتراكية، فإنني أميل إلى بعض القراءات النقدية الجديدة التي تذهب إلى أن الشخصيات الرئيسية فيها، وعناصر أخرى، كالبيت وحب جميلة للغناء، ترمز إلى العلاقة الملتبسة بين قرغيزيا من جهة، والثورة البلشفية، والاتحاد السوفياتي، والحزب الشيوعي المتحكم في البلاد من جهة أخرى، وتطلع الأولى إلى الحرية. يبرز التمثيل السردي لتلك العلاقة الملتبسة بين الإنسان القرغيزي وسلطة الحزب الحاكم في رواية ايتماتوف الثانية وداعًا يا غولساري على نحو رمزي أيضًا، فغولساري هنا هو حصان يمتلكه رجل يدعى تاناباي، يعمل في تربية الخيول. لكنه كان مرغمًا على تسليمها إلى آخرين كي يستغلوها في العمل وفي الركوب. لقد أحب تاناباي غولساري، وأحبه الحصان أيضًا، حبًا يفوق التصور، فلا يستطيع أحدهما الافتراق عن الآخر. إلا أن الحزبيين البيروقراطيين في القرية التعاونية قاموا بإخصاء الحصان، وأجبروه على تركه بعد إحالته على التقاعد قسريًا، فعزَّ عليه ذلك، ودفعه حبه إلى هجر أسرته والهيام في الشوارع والشعاب من أجل ذكرى صديقه، مجسدًا صورة رائعة للوفاء بين الإنسان والحيوان.

لم يفت ايتماتوف، طبعًا، وهو يقيم عالمه السردي على تخوم الاستبداد الإيديولوجي، وهيمنة الحزب الواحد على حياة الناس في هذه الرواية، أن يلمِّح إلى نماذج من القهر الاجتماعي والذل المعيشي الذي يتعرض له الفلاحون القرغيزيون: "إنهم أنفسهم الذين يزرعون القمح، ومع ذلك يظلون بدون رغيف من الخبز".

في رواية السفينة البيضاء، يوظف ايتماتوف الأسطورة توظيفًا سرديًا ذكيًا ليقول لنا إن "العالم يختزن كمية هائلة من الشر لا ينجو من التلوث بها حتى أقرب الأشياء إلى قلوبنا". يروي الجد مأمون لحفيده الصبي اليتيم، أو الغلام (بطل الرواية) أسطورة الغزالة الطوطم (المارال) أمُّ القرون، على أنها حقيقة، غارسًا في قلب الصغير محبتها وقدسيتها وحرمة التعرض لها أو صيدها، لأنها تبنَّت في زمن غابر الطفلين البشريين التوأم التائهين، اللذين أسسا القبيلة القيرغيزية الأولى. وتعرض نسلها بسبب ذلك إلى المصائب والبلاء العظيم، إذ راح الناس يصطادونه فى الغابات. ذات يوم اكتشف الصبي أن جده مأمون اصطاد المارال، رغمًا عنه وخوفًا من انتقام صهره حارس غابة الصنوبر المتسلط أرزوكول. صدمته هذه الحقيقة واختلطت الأمور في ذهنه: كيف أقدم الجد على مثل هذه الفعلة الشنيعة الكافرة؟ كيف لطخ يديه بدم المارال المقدسة، أم القبيلة القيرغيزية الأولى؟ وكيف تتناقض أفعال الكبار مع أقوالهم بهذه الصورة؟! على رغم السخط والقرف اللذين اعتملا في صدر الصبي، فإن ذلك لم يدفعه إلى كره الجد بقدر ما دفعه إلى الانزواء والتألم بصمت جنائزي مهيب. في النهاية تحول سمكة تنساب بهدوء إلى أعماق النهر، الذي طالما رأى على سطحه، حقيقةً أو وهمًا، سفينةً بيضاء، طويلةً وقويةً وجميلةً، تسير بانتظام واستقامة كأنها مشدودة بوتر، لترمز إلى أفق النجاة والقيم النبيلة السامية مقابل واقع الشر وانتهاك القيم المقدسة في عالم الغابة.

تقوم رواية العروس الخالدة، أو سقوط الجبال على ثيمة التضحية، كما هي الحال مع رواية الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر، لكن في سياق سردي مختلف، إذ تبدو، بحسب قول الناقد الروسي غيورغى غاتشيف، تراجيديا رفيعة، وعملاً أدبيًا فى غاية الكمال والإتقان، على غرار كاتبها، جامعًا بدايات التكوين ونهاياته فى رحلة الروح والجسد، وموضوعها كيف يجب على المرء أن يعيش وكيف يجب أن يموت.

انفتاح ايتماتوف على الثقافة الغربية في السنوات الأخيرة، التي عمل فيها سفيرًا لبلده في الاتحاد الأوروبي حتى يوم وفاته، أثار حنق بعض النقاد الروس المغالين في تمسكهم بالأصالة القومية، ومنهم الناقد والشاعر نقولاي بيرياسلف، الذي هاجمه هجومًا شديدًا، متهمًا إياه بأنه يركض وراء النماذج الغربية، والثقافة المبتذلة، الأمر الذي جعله يفقد أسلوبه الخلاَّق نكوصًا نحو الكتابة بلغة تافهة، عديمة الملامح، و"هذا ما تجلى في روايته الأخيرة تافروا كاساندرا التي اتصفت بالكساح الاستعاري، والفقر الفني"، على قول بيرياسلف.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود