الابتعاد عن العالم اقتراب منه
نصوص جديدة للشاعرين الجزائري خالد بن صالح والمصري طارق الطيب

 

جهاد الترك

 

يبدو الشعر في العقد الثاني من الألفية الثالثة أكثر ابتعادًا عن العالم، أكثر اقترابًا منه. كلما نأى بنفسه عنه، دنا منه. جدلية مستغربة بمقاييس المنطق المألوف، مستساغة بشروط الشعر. الافتراق عن العالم، في هذا السياق، لا يعدو كونه نفورًا منه أو انسحابًا قسريًا من مقاربة مواده الصلبة ذات الرتابة والبلادة المذهلتين. على النقيض من ذلك، ينطوي هذا الابتعاد، في حقيقة الأمر، على ما يحيل الشعر ضربًا مستعصيًا على التخلي عن ذاكرة الكون وذاكرة اللغة. يستعيد الشعر، في هذا الاطار، ما اعتاد العالم نسيانه: إعادة اكتشاف روحه الداخلية، نبضه المتدفق الكامن في ما وراء المظاهر العابرة، والانقلاب على الأفكار والمفاهيم الشائعة التي تحولت وهمًا مبتذلاً يقفل أفق اللغة والذاكرة بالشمع الأحمر. ليس الابتعاد عن العالم، وفقًا لهذا التصور، دفن الرأس في الرمال كالنعامة. إنه، على الأرجح، الاقتراب منه بأقصر الطرق وأكثرها انسجامًا مع احتمالاته النابضة في ذاكرة اللغة. ولعله استعادة، في الوقت عينه، لصورته المتألقة التي غيَّبتها اللغة المتداولة في ما يسمى الحداثة المعاصرة. اللغة تعيد اختراع العالم من داخله فتوقظ ظلاله، وهي حقائقه المتحولة، لينكشف على عرائه وامتلائه. ليصبح حافزًا يستثير المخيلة المترهلة على إيقاع الصمت الذاهب إلى الموت. اللغة تعيد تشكيل الكون من جديد. الكون يعيد تشكيل اللغة من جديد. الاثنان يعيدان اكتشاف ما غيب فيهما. وبين هذا وتلك يتعرض الشعر لرياح التحول التي تهب عليه من داخله. يغدو أكثر قدرة على إعادة صوغ العالم. يغدو الكون أكثر قدرة على إعادة صوغ الشعر.

نموذجان في هذا السياق المتحول بين اللغة والعالم. أحدهما للشاعر الجزائري خالد بن صالح، بعنوان سعال ملائكة متعبين عن "الدار العربية للعلوم ناشرون". والثاني بعنوان بعنا الأرض وفرحنا بالغبار، للشاعر المصري طارق الطيب عن "منشورات الغاوون". المجموعتان صدرتا حديثًا في بيروت.

خالد بن صالح

لا يبدو أن خالد بن صالح يقتفي في مجموعته بعنوان سعال ملائكة متعبين، أثرًا لرؤيته الشعرية. لا يضع خطة لذلك. ولا يتهيب موقفًا كهذا. ولا يستشعر على الأرجح أن المضي في هذه المهمة أمر من شأنه أن يلقي على لغته هواجس وضغوطًا وقلقًا. ولا يبدو كذلك أن هذه الرؤية تحيله طرفًا في معادلة تفترض اثنين: هو والعالم. لعلنا لا نعثر على شيء من هذا القبيل باعتبار أنه يوحي في سائر نصوصه أن اللعبة الشعرية في متناول يده. وهو لذلك لا يحتاج إلى أي استعداد يذكر لتلقف الصور المتكونة على صعيد التوصل إلى المعاني المغايرة لإعادة تركيب العالم من جديد. ولربما جاء الأمر على هذا الغرار طالما أن بمقدوره أن يقفز إلى الحالة الشعرية مباشرة من دون مقدمات ذهنية. والأهم من ذلك أن يضطر إلى استنفار ذاكرته لتصبح من نسيج الانتقال من الرؤية المألوفة إلى مثيلتها المتحولة في الرؤية الشعرية.

ولعل الالتحاق المبكر بالدلالات المتكونة تباعًا للمعنى الشعري، توحي، في هذا السياق، بأنَّ الرؤية لديه تسبق أوعيتها اللغوية ولو بشكل ضبابي إذا جاز التعبير. والمقصود بذلك: المشاهد الأولى للمعاني كما تتراءى في الذاكرة قبل أن تنسكب في جسد اللغة. على هذا الأساس المفترض من مقاربة الحالة الشعرية، تشير نصوص خالد بن صالح إلى انهماك حقيقي في ترتيب مكونات الرؤية على نحو يفوق أهمية اختيار المفردات الأكثر تعبيرًا عن الصورة المبتكرة. ثمة في هذه النصوص ما يبعث على الاعتقاد بأن الشاعر أقل اعتناء واحتفاء بالدلالات المباشرة للمفردات حتى لا يجد نفسه مضطرًا إلى استدراج رؤية جديدة، أو مغايرة، أو مختلفة إلى النص. والأغلب أنه يعول في ذلك على أن للرؤية الشعرية قدرة فائقة وسحرًا مميزًا ينبعث من داخلها بإمكانهما أن يعوضا قصورًا محددًا قد يصيب بعض المفردات أو التعابير. إن إيحاء كهذا قد يبدو ضربًا مستسهلاً للكتابة الشعرية. لكن الأمر ليس على هذا النحو من التبسيط في النصوص، وإن خيل أن شيئًا كثيرًا من هذا القبيل قد يحدو بالشاعر إلى سلوك هذه الطريق الأقصر إلى المتاهة الشعرية. ومع ذلك، فإنه يبدي مرونة ملحوظة في الكيفية التي يجمع من خلالها بين رؤيته الأولية التي غالبًا ما تكون مبعثرة في أشكال ضبابية، من جهة، وبين لملمة هذه البعثرة في سياق منظم من الامساك بالوتيرة اللغوية.

ولكن ثمة تداعيات، على الأغلب، تكتنف هذه الرؤية الضبابية التي يبدو أنها لا تداهم النص أو تأتي إليه متعجلة، بقدر ما تبدو ماثلة، مستيقظة، متأهبة في ذاكرة الشاعر. من بين الإشارات التي ينطوي عليها بعض هذه التداعيات، ميل غريزي لدى الشاعر إلى التقاط الحيز الأوسع من التفاصيل التي يصادفها وهو يقطع أشواطًا صعبة أو متيسرة لبلوغ المعنى الذي يسعى إليه. صوره الشعرية وفقًا لهذه التقنية الغريزية، إذا جاز التعبير، قد تبدو مكدسة أو مزدحمة بهذه الكثرة المتكاثرة من التفاصيل التي قد ينال بعضها من بعضها الآخر. وذلك نتيجة لشهيته المتزايدة على تكوين صور من أشياء ومواد ومحتويات ومشاهد وسواها قد لا يقوى النص على احتمالها جميعًا، خصوصًا إذا بقي بعضها أو قليل منه يعوم على سطح الرؤية من دون أن يتوغل عميقًا فيها بشكل أو بآخر. ومع ذلك، قد يؤخذ هذا التصور للشاعر وليس عليه نظرًا إلى مزاجه الخاص به، وأيضًا مراعاة للكيفية التي يطمئن إليها وهو يشبع غريزته الشعرية. لا يعني هذا التصور أن ثمة حمولة زائدة تثقل على الرؤية وترهق النص بما لا طاقه له به. قد يعزى ذلك، على الأغلب، إلى إيلائه أرجحية لفضاء النص لا ينتقص من ايحاء المفردة بقدر ما يوجد لها في النص موقعًا ملائمًا لا يحد من تدفق الرؤية ولو بهيئتها الضبابية. وقد يبدو أيضًا أكثر ميلاً إلى البحث عن أدواته في الذاكرة على نحو يتجاوز التنقيب الصعب في ذاكرة اللغة، ولكن هل يغني فضاء الذاكرة عن ذاكرة اللغة. الأرجح لا.

نصوص مختارة من نصوص المجموعة:

كوكتيل

المرأة..
اليوم الأخير في غرفة مظلمة
ثياب يبعثرها المساء.
جسدان يطويان صفحة المسافة.
ضوء يطفو
قليلاً قبل أن ينأى أو يبتعد.
حواشٍ عُلقت بها أفكار نيئة.
أغنية لا نهاية لها..
ثرثرة على حافة الحرب.
أشياء ناصعة تحت شمس صغيرة.
أشياء أخرى تخرج من النافذة.
حكمة أن يكون قلبكَ علبة أحذية فارغة
تبللها المتاهات.
أحلام زمنٍ ما.
المطر الغافي على كتف امرأة ما.

ملاك يضع قبعة

نلتحف بما تناثر من كلام خلفنا
نستدرك مناديلنا الورقية الجافة بشيء من الدمع
لا نبكي إلا قليلاً نكاية في سحب شهية لا تمطر.
منذ فنجان القهوة وأعقاب السجائر/ لن نزل...
نمشي وشمس تقتفي عرى خطانا.
عصفور يحفظ ما تلفظنا به من رغبات هذا الصباح
وفي كل صباح يجرح سكونه صوتانا/ كطفلين يتعاركان.
صباح لا يشبه المساءات التي نقضيها عادة في قراءة الكتب أو مشاهدة التلفزيون..
أو الحديث إلى جار لا يعرف أن الحب ملاك يضع قبعة
يدخن على مهل هذا الذي ألقى عليه التحية
كم عابرًا سيغدو مثلك سحابة دخان أو غيمة
أم أنك فقط أوغلت في وصف عبورك الأنيق نحو الفراغ.
بدون خيارات اخرى تحاول اجتناب التفلسف في حضن دمارك
بعيدًا عن نوم لا يأتيك.

طارق الطيب

الدهشة الشعرية في نصوص طارق الطيب هي صنو للصورة وظلالها. ولعل الصورة، في فضاء هذه المجموعة تذهب طواعية إلى حيث تلقى ظلها. ليس مهمًا أن يعثر أحدهما على الآخر. قد لا يحصل ذلك. وقد يحصل. ما يلفت الانتباه في الكتاب أن نزوع المعنى إلى معناه، إلى حقيقته المتحولة، إلى ظله الذي يتراءى من بعيد في الذاكرة، قد يبدو الحافز الاستثنائي الذي يخيم على أجواء النصوص جميعًا. كل منها يبحث، على الأرجح، عن دهشته في الرؤية الشعرية. المقصود بذلك أن لا نص في هذه المجموعة من دون دهشة مفتوحة على ذاتها، وعلى احتمالاتها في آن. ولا نص كذلك من دون التطلع إلى ظل للصورة. لا يكتفي الشاعر بايصال المعنى إلى صورة محددة يطمئن إليها حتى ولو بدت هذه الأخيرة كفيلة بإعادة تشيكل المشهد بمكونات مغايرة ليست من نسيجه في الأساس. الصورة لديه، في هذا السياق، هي نموذج أولي، إذا جاز التعبير: معنى تجريبي ناقص لأنه يفتقر إلى صورته الأخرى، إلى ظل الصورة. تكاد هذه التقنية أن تشكل خارطة لهذه النصوص على رقعة الذاكرة. والبوصلة المستخدمة، على الدوام، هي تلك التي تشير إلى احتمالات الظل حتى ولو لم يظهر في الأفق القريب أو البعيد.

الصورة الشعرية في ذاكرة طارق الطيب هي المتاهة التي يلقي نفسه فيها من دون تردد. لعلها المفضلة لديه في الكيفية التي يعول عليها من أجل أن ينتقل بالمعنى من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل.

الوجود الأول يتمثل في اختيار الصورة بأشكالها الافتراضية الأولى. الوجود الثاني يتمثل في الارتحال إلى إحدى الحقائق المحتملة للصورة. من بينها: ظل الصورة الذي يبقيه الشاعر في دائرة الاحتمال. وهذا الأخير مرادف للدهشة، تعبير عن الظل، انكشاف واسع على المعنى المتحول في عرائه. على هذا الأساس، تصبح الدهشة تعبيرًا متحولاً عن العراء. ولعل المقصود بذلك أن الدهشة هي من نسيج هذا العراء الذي كلما ازداد غموضًا ازداد احتمالاً وانفتاحًا، في الوقت عينه، على منظومة من المعاني والدلالات التي لم يكن لها أثر في الصورة، ثم أصبحت هذه الأخيرة تستقطب، بطبيعتها الاحتمالية ايحاءات مختلفة لا تتوقف عند حد معين.

نصوص طارق الطيب في مجموعته بعنا الأرض وفرحنا بالغبار، تنطوي على شيء كثير من هذا القبيل. وضعها صاحبها استجابة لمعادلة الظل والدهشة وتشظي المعنى من الداخل وانكشافه على العراء الذي يتمخض في البنية التحتية للصورة وتجلياتها. أي اختلال في أحد هذه العناصر الثلاثة المكونة للصورة الشعرية، من شأنه أن يعرِّض هذه الأخيرة لخلل على مستوى أقانيمها الثلاثة. وبالتالي قد تصاب بتلف عميق في هيئتها ودلالاتها. ولكن لا يقدم الشاعر على اقتراف هفوة كهذه، وإن بدا أن هذه المعادلة متفاوتة في تأثيراتها بين نص وآخر. الملاحظ، في هذا الإطار، أن كلاً من نصوص المجموعة، وهي كثيرة، تشتمل على هذه العناصر الثلاثة، بشكل أو بآخر. كلها تفضي إلى الدهشة، أو الظل، أو العراء المذكور. وفي الوقت عينه، كل من هذه الثلاثة يفضي إلى الآخر على نحو مماثل. قد يبدأ النص في هذا السياق من حيث ينتهي. والأرجح أنه لا ينتهي، كما أنه لا يبدأ من مكان محدد ليصل إلى مكان محدد. ثمة ايحاءات في نصوص هذه المجموعة تشير إلى أن البداية الحقيقية لأي منها إنما تكمن في الحالة التي تصل إليها. وإذا كان الأمر كذلك، على نحو افتراضي، فإن الشاعر يبدأ نصوصه بدهشة افتراضية لا تظهر بوضوح إلا في النهاية المحتملة للنص. بدليل أن خاتمة النص مشرعة على ظلال الدهشة، أي على دهشات افتراضية تلوح بطيئًا في أفق الظل، أي في تجليات الصورة بعد أن تخرج من مكوناتها الأولى إلى مكوناتها الافتراضية. من بداية النص إلى خاتمته يتقصى طارق الطيب ظلالاً لصورته الشعرية في المعاني العارية. في الدهشة العارية إلى حد كبير.

من المجموعة نقتبس:

عبث

يصطاد السمكات بعرق غزير
ثم يرميها في مائها
بعد أن تموت
يعيدها إلى تابوتها المفتوح
اسأله: "لم تفعل ما تفعل؟"
يرد: "أنا لا آكل الأسماك!"

يطفو صيده الميت
يسير
مع التيار
مع العرق الذي يفوح
مع السؤال الذي رميته.

***

نصف مليون حرف في جريدة
وعشرات الصور الأنيقة
فرشها عامل وقت ظهيرة
جلس بمؤخرته على نصفها
على نصفها الآخر كان يأكل.

نجوم

طفلاً وديعًا كان
يناغي النجوم
بعذوبة
طال
اخشن منه الصوت
سقطت نجومه
على كتفيه
ثقلت خطاه
قلبه
صوته.

ولادة

على حافة الموت
هي
هو
على حافة الحياة
بصرخاتهما
داخل الغرفة الضيقة
يتقاسمان الحياة
من الموت.

*** *** ***

المستقبل، الثلاثاء 1 آذار 2011، العدد 3926، ثقافة وفنون، صفحة 20

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود