اخضرار العلوم٭

 

معين رومية

 

إن مستوى الواقع الذي تدرسه الإيكولوجيا، أي المنظومات الإيكولوجية، أكثر تعقيدًا من مستوى الواقع الذي تدرسه العلوم الطبيعية الأخرى، كالفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا...، فهو ينطوي على هذه المستويات طالما أنه يشمل الكائنات الحية والأوساط المادية المحيطة بها. ولكي تصف الإيكولوجيا هذا الواقع ينبغي أن تستعين بالفروع/المناهج disciplines العلمية الأخرى أو تتقاطع أو تتداخل معها. وهذا يعني أن تعددية المناهج Multidisciplinarity والبينمناهجية interdisciplinarity ضروريتان للبحث الإيكولوجي إذا ما أراد الوصول إلى وصف علمي دقيق.

نشأت تعددية المناهج والبينمناهجية في حوالي أواسط القرن العشرين كرد فعل على الإغراق في التخصص، وكتعبير عن الحاجة العملية الماسة إلى روابط بين المناهج والفروع المعرفية المختلفة[1]. تعني تعددية المناهج دراسة موضوع واحد مشترك من قبل مناهج متعددة لا يستطيع أي منها بمفرده أن يرصد كل مظاهره، بما يؤدي إلى أن نخرج بمعرفة أغنى حول الموضوع [2].

وتتعلق البينمناهجية بنقل الطرائق من منهج إلى آخر لغايات بحثية محددة (كالمصادقة على نظرية، مثلاً)، لكن المهم في المسعى البينمناهجي هو ما أدى إليه من توليد مناهج/فروع علمية جديدة تتناول ميادين بحثية تقع على التخوم بين الفروع العلمية، كتوليد الفيزيائية الرياضية، مثلاً، من نقل طرائق الرياضيات إلى مجال الفيزياء. وثمة مستويان آخران للبينمناهجية: المستوى التطبيقي والمستوى الإبستمولوجي. فعلى المستوى التطبيقي تقود طرائق الفيزياء النووية منقولة إلى الطب، مثلاً، إلى ظهور علاجات جديدة للسرطان. وعلى المستوى الإبستمولوجي يولد نقل طرائق من المنطق الصوري إلى مجال الحقوق، مثلاً، إلى تحليلات مهمة في إبستمولوجيا الحقوق[3].

كان لتعددية المناهج والبينمناهجية تأثير كبير في التداخل بين البحوث الإيكولوجية والعلوم الطبيعية والتطبيقية، فاخضرَّت العلوم وكان ذلك علامة على ازدياد الوعي بأهمية الاعتبارات البيئية. ويمكن أن نعطي أمثلة عن هذا الاخضرار.

إن دراسة التلوث البيئي بالرصاص تتطلب الاستعانة بالفيزياء والكيمياء لمعرفة خواص عنصر الرصاص والمواد الكيميائية التي يدخل في تركيبها، وكذلك الاستعانة بالعلوم الزراعية والطبيعية لمعرفة آثاره على التربة الزراعية والصحة البشرية[4]. أيضًا، إن دراسة ابيضاض المرجان وتخرب العلاقة بينه وبين الطحالب المتعايشة معه يستلزم الاستعانة بعلوم المناخ لدراسة التيارات البحرية وحركتها ورصد ارتفاع درجة حرارة المياه عبر الزمن، وكذلك الاستعانة بالبيولوجيا الجزيئية لرصد تأثير العوامل السابقة على تغيرات التعبير الوراثي لدى المرجان[5].

وتعرف الكيمياء البيئية environmental Chemistry بأنها "البحث في مصادر وتفاعلات وتحولات وتأثيرات ومصائر المواد الكيميائية في البيئات الهوائية والمائية واليابسة وتأثيرات التكنولوجيا في كل ذلك"[6]. وهي بالتالي من الفروع البينمناهجية الوليدة التي تعمل على تطبيق مبادئ علم الكيمياء على مسائل الحفاظ على البيئة وتعزيز نوعيتها.

ومن موضوعات الكيمياء البيئية دراسة دورات العناصر الكيميائية في الطبيعة وتأثير الكائنات الحية، خصوصًا النباتات والأحياء الدقيقة، في هذه الدورات (دورة الكربون أو النتروجين أو الأوكسجين....) كما تركز بشكل مخصوص على تدوير العناصر والمركبات الكيميائية عبر المنظومات الإيكولوجية[7].

ومن موضوعاتها أيضًا تأثير الكيميائيات الملوثة والمؤذية على الكائنات الحية وذلك من خلال بحوث كيمياء الملوثات Toxicological chemistry التي تربط بين الكيمياء البيئية وفرع وليد آخر هو الكيمياء الحيوية البيئية environmental biochemistry التي تتولد عن تلاقي ثلاثة فروع هي الكيمياء والبيولوجيا وعلم البيئة وتتخصص في التعامل مع تأثير المواد الكيميائية المنتشرة في البيئة على الحياة، وذلك باعتبار أن الهدف النهائي للاهتمام البيئي هو الحياة[8].

وأدى دخول الاعتبارات البيئية في تصميم الأبنية، وهو المجال التقليدي للهندسة المعمارية، إلى ظهور مفهوم الأبنية الخضراء green buildings التي تمثل حلاً يراعي تخفيض استهلاك الطاقة باستخدام العزل الحراري المناسب لعدم تسرب حرارة التدفئة، وكذلك تأمين الإضاءة الطبيعية ما أمكن من خلال دراسة أبعاد النوافذ واتجاهاتها بحيث يستغنى عن الإضاءة الكهربائية في الفترة النهارية، كما تقدم الأبنية الخضراء، من خلال كيفية توزيع وتخطيط الشوارع الرئيسية والفرعية، حلولاً تؤدي إلى تخفيض التلوث الضجيجي[9].

لكن، بالرغم من الاخضرار الذي شهدته العلوم فإن الوصف والتفسير العلميين ليسا كافيين برأينا من أجل فهم حقيقة الأزمة البيئية.

تستطيع الإيكولوجيا وتداخلاتها مع العلوم تفسير مشكلة بيئية معينة باستخدام أحدث الطرائق والتقنيات العلمية وتقصي التغيرات وقياسها، ومن ثم تتبع سلسلة أسبابها وصولاً إلى معرفة العوامل التي أدت إلى حصول المشكلة. ونحصل بالتالي على جواب "اللماذا" التفسيرية التي طرحناها بخصوص المشكلة ومتغيراتها. إن تفحُّص نسيج "اللماذات" وأجوبتها الذي حاكه الباحثون والعلماء يقودنا في المآل إلى أن الإنسان يشكل لحمته وسداه. فثمة اتفاق يكاد لا ينتهك حول كون الإنسان مشكلة البيئة[10]. وهو كذلك بالفعل لأنه

لم يترك نظامًا بيئيًا دون أن يقتحمه، بل لم يترك مكونًا من مكونات البيئة دون تعديل وتغيير... يضيف يوميًا آلاف الأطفال إلى مستوطنة محدودة المساحة والموارد، وفي هذه المستوطنة يطرح سمومًا تلوث الماء والهواء والغذاء والتربة مما يجعل العيش فيها غير مريح. لقد تدخل الإنسان بكل ما أوتي من قدرات بيولوجية فذة بالنواميس والقوانين التي تحكم العلاقات والتفاعلات والدورات في الأنظمة البيئية مؤذيًا قدرتها على التجدد والاستمرار والتوازن[11].

وينجلي الأمر أمامنا إذا ما قارنا، على الصعيد الإيكولوجي، بين الإنسان والكائنات الحية الأخرى. فهذه تعيش في سياق السيرورات الطبيعية ويبدو سلوكها دائريًا متشابهًا ضمن المنظومات الإيكولوجية ولا تتعدى تأثيراتها مسألة التأقلم بما يؤمن بقاءها واستمرار نوعها. فالقوى البيولوجية التي تمتلكها تجعلها تعيش مندمجة في دورات الطبيعة ومتوافقة مع القوانين الإيكولوجية ولا يتجاوز ما تجريه من تعديل على بيئاتها حدودًا معينة تكفل مرونة المنظومات الإيكولوجية امتصاصه. أما في المقابل، فيبدو الإنسان وقد خرج عن سياق الدورات الطبيعية وامتلك من القوى والقدرات ما جعل علاقته بالبيئة تنتقل من الاندماج (إنسان الغابة) إلى السيطرة والتحكم (الإنسان الحديث والمعاصر).

يذهب الباحث إ. ج. سيمونز I. G. Simmons إلى أنه ثمة أربع مراحل لتاريخ العلاقة بين الإنسان والبيئة سبقت نشوء الاهتمام الحالي بالخصائص البيئية وهي: مرحلة القنص وأوائل الزراعة وكانت فيها التعديلات البشرية للبيئة أقل ما يمكن، وقد تكيف خلالها البشر للسمات البيئية المحيطة بهم. ومرحلة الحضارات النهرية التي قامت على الري وأعماله واستطاع البشر من خلال بعض التكنولوجيات التحرر من بعض القيود التي يفرضها فصل بلا أمطار. ومرحلة الإمبراطوريات التي امتدت من 500 ق. م حتى عشية الثورة الصناعية واتسمت بازدياد استخدام التكنولوجيا لتذليل العقبات البيئية التي تحول دون المزيد من الإنتاج كتخزين المياه وزراعة المدرجات والتربية الانتقائية للمواشي. ومرحلة العصر الصناعي الذي يمتد من حوالي 1800 م حتى الوقت الحالي وبلغ فيه تأثير النوع البشري على بيئته أقصاه، وتميز بنشوء المدن الكبرى التي أصبحت مجتمعات عزلت نفسها عن بيئتها الطبيعية، بتكييف الهواء مثلاً، أو بالنظام الغذائي المصنع الذي يعتمد على سلاسل غذائية طويلة. وتميز هذا العصر بازدياد النشاطات الاستخراجية للطاقة وما رافق ذلك من تزايد الاستهلاك وعدد السكان وإنتاج النفايات. وثمة عمليتان اتسمت بهما الحضارة الصناعية كان لهما أثر بالغ على البيئة وهما: جمع ومراكمة المواد الطبيعية في تركيزات لم تعرف من قبل في الطبيعة أو في أية مرحلة سابقة، والعملية الثانية تمثلت في إيجاد جزيئات لم تعرفها الطبيعة، كالمواد الكيميائية المختلفة في الصناعات التي ليس لها في الطبيعة مسارات انحلال أو أن زوالها وتفككها شديد البطء[12].

نلاحظ من هذه المراحل أن تأثير الإنسان في البيئة قد ازداد كميًا ونوعيًا متخذًا مسارًا تصاعديًا متوازيًا مع التطور الحضاري الذي شهده التاريخ البشري. فكيف نقرأ هذا الأمر إبستمولوجيًا؟

بالاستناد إلى الواقع الإيكولوجي ومستوياته نقول: إنه منذ حلول عصر الإنسان[13] age of man بدأ يتكون وينبثق عن مستوى الحياة مستوى جديد، لنقل إنه مستوى الإنسان، يتسم بخصائص غير موجودة في المستويات الأخرى تجلت في امتلاك البشر ثقافة/حضارة ميَّزتهم عن حال الطبيعة الذي توجد عليه الكائنات الحية الأخرى. فثمة إذن ثلاثة مستويات رئيسية متفاعلة ومتداخلة ضمن الواقع الإيكولوجي هي: مستوى المادة ومستوى الحياة ومستوى الإنسان. وهذا يعزز رأينا القائل بأن اخضرار العلوم لا يكفي من أجل فهم الأزمة البيئية لأن العلوم الطبيعية وتقاطعاتها الإيكولوجية تبقى في مستويي المادة والحياة، وعندما تبحث علاقة الإنسان بالبيئة تنظر إليه ككائن حي (أي تبقى في مستوى الحياة)، ولا يدخل في منظورها الأفكار والقيم التي يتميز بها الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى مما يحتاج جميعًا إلى الإنكباب عليه إذا أردنا إحاطة أشمل بالأزمة البيئية.

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ فصل من كتاب: من البيئة إلى الفلسفة، تأليف معين رومية، معابر للنشر، دمشق، قيد الطباعة.

[1] بسراب نيكولسكو، العبرمناهجية، ترجمة ديمتري أفييرينوس، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 2000، ص 54.

[2] بسراب نيكولسكو، مرجع سابق، ص 54.

[3] المرجع نفسه، ص 55.

[4] محمد عبد القادر الفقي، التلوث البيئي بالرصاص، عالم الفكر، المجلد 32 - العدد 3، الكويت، 2004، ص 181- 214.

[5] جون أوكدن وباربارا براون، ابيضاض المرجان، مجلة العلوم، المجلد 15، العددان 1 - 2، الكويت، 1994، ص 58- 65.

[6] - Manhan, Stanly E., Environmental Chemistry, Lewis Publishers, Florida, 2000, p.3.

[7] - Ibid., pp. 36, 42.

[8] - Ibid., p. 5.

[9] - حول الأبنية الخضراء انظر:

Macmullan, Randal, Environmental Science In Buildings, Macmillan Press Ltd, London, 1992.

[10] انظر الفصل المعنون "الإنسان مشكلة البيئة" لدى: رشيد الحمد، البيئة ومشكلاتها، سلسلة عالم المعرفة، العدد 22، الكويت، 1984.

[11] المرجع نفسه، ص 197.

[12] إيان سيمونز، البيئة والإنسان عبر العصور، ترجمة السيد محمد عثمان، سلسلة عالم المعرفة، العدد 222، الكويت، 1997، ص 15- 16، 50- 70.

[13] عصر الإنسان: الفترة الزمنية في تاريخ الأرض التي ساد فيها الإنسان وتمثل الدور الجيولوجي الحالي منذ حوالي 2 مليون سنة وحتى الآن. انظر: قاموس البيئة العامة، مرجع سابق، مادة: عصر الإنسان.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود