الانكسار الدلالي في موشور اللاوعي الجمعي
آيةُ "فانْكِحُوا ما طابَ لكُمْ مِنَ النِّساءِ" نموذجًا

 

محمد علي عبد الجليل

 

إنَّ ظاهرة الانكسار réfraction هي ظاهرة فيزيائية تتمثَّل في انحراف موجة (وخاصةً في البصريات والصوتيات) عندما تتغيَّر سرعتُها بين وسطين مختلفين. فنرى مثلاً قلمَ الرصاص مكسورًا نتيجةَ انحراف الضوء عندما يجتاز من وسط الهواء إلى وسط الماء.

قياسًا على ذلك، يحصل الانكسارُ على مستوى الفكرة، إذْ تنكسرُ الرسالةُ اللغويةُ عندما تنتقل من شخص إلى آخر ضمن الوسط الواحد أو من وسط ثقافي إلى وسط ثقافي آخر أو من بيئة إلى أخرى. تشبه الرسالةُ اللغويةُ موجةً "دلالية" قائمةً على أمواج سمعية وبصرية تمرُّ عبْرَ موشور prisme (réflecteur) قناعات السامع ووعيِه فتنعكس عن هذا السامع مختلفةً قليلاً أو كثيرًا أو مقلوبةً.

وهنا يمكننا الكلام عن انكسار دلالي réfraction sémantique. وهو غيرُ الانحرافِ الدلالي أو الانزياحِ (الزلقِ أو الانزلاقِ) الدلالي glissement sémantique والعدولِ والتجاوزِ والتحويلِ. فالانحرافِ الدلالي هو الميل المقصود عن المعنى الذي وُضِعَت له الكلمةُ في التصنيف اللُّغوي الذي وضعَه النحويون إلى معنىً ثانٍ له دلالة تشير إلى معنى آخر يتَّضح فيه السِياق. الزلقُ الدلالي هو تقنية تقوم على استبدال كلمة أو عبارة بكلمة أو عبارة أخرى بهدف التخفيف أو التلطيف من حدَّتها euphémisme أو زيادتها، كأنْ نقولَ: "لفظ أنفاسَه الأخيرةَ" بدلاً من "مات" و"بيت الأدب" بدلاً من "المرحاض" أو نستخدمَ النفيَ litote كأنْ نقولَ: "عمله ليس هينًا" بدلاً من "عمله عظيم".

أما الانكسار الدلالي فهو انحراف غير مقصود لشعاع من المعنى من رسالة أو نص تحت وطأة ثقافة سائدة وفهمٍ سائد، مثلما أنَّ ظاهرة الانكسار الضوئي هي انحراف غير مقصود لشعاع، لحزمة من الفوتونات. فالانكسار الدلالي يقع على الرسالة ككل لا على كلمة أو عبارة منها أو يقع على مفهوم محدَّد ويقع بفعل عوامل سوسيولوجية وسيكولوجية وثقافية. ولعلَّ أوضحَ مثالٍ على ذلك هو انكسار مفهوم الأميين الوارد في القرآن. "هوَ الَّذي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْـلُو علَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"[1]. ويُقصَد بالأميين العرب كلّهم كأُمَّة. يقول الطبريُّ في تفسير معنى الأُمِّيِّ: "قال أبو جعفر: وأرى أنه قيل للأمي "أمي" نسبةً له بأنه لا يكتب إلى"أمه"، لأنَّ الكِتَاب كان في الرجال دون النساء، فنُسِبَ من لا يكتب ولا يخطُّ من الرجال إلى أمه في جهله بالكتابة دون أبيه. [...] [و]عن قتادة: "هو الَّذي بَعَثَ في الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ" قال: كانت هذه الأُمَّةُ أمِّيَّةً لا يقرءون كتابًا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابنُ وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: "هُوَ الَّذي بَعَثَ في الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ" قال: إنما سُمِّيَت أُمَّةُ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم الأميين لأنه لم ينزلْ عليهم كتابًا. وورد في تفسير القرطبي عن معنى الأُمِّيِّين: قال ابن عباس: الأمِّيُّون العرب كلهم، من كتبَ منهم ومن لم يكتب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. فمفهوم الأميين يعني القومُ الذين لا كتابَ [دينيًا] لهم. يقابلُ إذًا مفهومُ الأميين القرآنيُّ مفهومَ الأمم (أو الوثنيين) gentils الذي كان يُطلقه اليهودُ وأوائلُ المسيحيين على الغرباء عن دينهم. فالأمي هو كلُّ من كان غيرَ يهودي أو غيرَ مسيحي. الأميون هم الأمم أو القبائل التي ليس لها كتاب ديني ترجع إليه. وعليه، فقد كان العربُ قبل الإسلام أميين (وثنيين) ليس لأنهم لا يقرؤون الأبجديةَ، لأنَّ منهم من يقرأ، بل لأنه ليس لديهم كتاب مقدَّس كأمٍّ (نموذج بدْئي Archétype جمعي) يرجعون إليه؛ فأُمِّيتهم ليست لغوية بل دينية. لكنَّ معنى الأمي والأميين انكسر فتحوَّل من معنى الوثني أو الغريب عن الدين إلى معنى الجاهل بالأبجدية.

إنَّ الرسالة الواحدة يمكن أنْ يكونَ لها معانٍ مختلفةٌ أو مستوياتٌ متعدِّدة تختلف بحسب مستوى المتلقِّي. ولفهم ارتباط تعدُّد التأويلات هذا باختلاف مستويات فهم المتلقِّي، لا بدَّ من ضرْب هذين المثلَين paraboles: مثَلِ العَشَّاب ومثَلِ قطة الغورو gourou [المُعَلِّم الروحي].

1.    مثَلُ العَشَّاب:

جاء في المقدمة الثانية من كتاب المنح القدسية في بيان فهم القوم من اللفظ الواحد معان مختلفة للشيخ أحمد العلاوي:

وقد سمعنا مِنْ أهلِ الطريقة أنَّ ثلاثةً سمعوا مناديًا عشَّابًا يبيع السعتر البرِّي فيقول: "يا سَعْتر بَرِّي"، ففهم كل واحد منهم مخاطبةً عن الله مختلفةً عن الآخر. فسمع أحدهم: "اسعَ ترى بِرِّي"، وسمع الآخر: "الساعةَ ترى بِرِّي"، وسمع الثالثُ: "ما أوسع بِرِّي". فالمسموع واحد واختلفَت الأسماع. قال تعالى: "قَدْ عَلِمَ كُلُّ أنَاسٍ مَشْرَبَهُم". وفي مثل هذا المعنى قال الإمام الجيلي في عينيته المشهورة:

إذا غرَّدَت ورقاْ[ء] على غصنِ بانةٍ                وجاوبَ قُمْريٌّ على الأيكِ ساجعُ
فأُذْنيَ لم تسمعْ سوى نغمـةِ الهوى               ومنكمْ فإنِّي لا مِنَ الطيرِ سامـعُ

فربَّما تكون الكلمةُ ظاهرُها قبيحٌ فيستفيد منها العارف أمرًا مليحًا. إنَّ القوم وإنِ اشتركوا مع غيرهم في ظاهر اللفظ فإنهم مختلفون في القصد. فكما أنهم اشتركوا في المشهود واختلفوا في الشهود فكذلك اشتركوا في المسموع واختلفوا في الأسماع. قال تعالى: "وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ منْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِماء واحِدٍ ونُفَضِّـلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأُكُلِ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون"[2]. فمع أنَّ النباتاتِ تشربُ من ماء واحد فهي مختلفة. قد يسمع الصوفي ما لا يسمع غيرُه فلا يأخذُ من القول إلاَّ أحسنَه. وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: "الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه. أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب"[3].

2.    مثَلُ قطة الغورو:

كان الغورو وتلامذتُه كلما قاموا للصلاة في المساء تأتي قطةٌ وسط المصلِّين وتلهيهم عن صلاتهم. لذلك أمرَ الغورو بربط القطة خلال صلاة العِشاء. وبعد وفاة الغورو ظلَّ القومُ على ربط القطة خلال صلاة العِشاء. وعندما ماتت القطةُ جيءَ بقطة أخرى وربطوها طوال صلاة العشاء. وبعد ذلك بقرون، كتَبَ الفقهاءُ من تلاميذ الغورو رسائلَ فقهية في المغزى الشعائري لربط قطة أثناء إقامة الصلاة.[4]

توضحُ لنا هذه القصةُ كيف تتلقَّى الجماعةُ الرسالةَ اللغوية. إذْ إنها تتعلَّق بحرفية الرسالة تعلُّقًا يُنسيها السياقَ الذي قيلَت فيه هذه الرسالةُ والمغزى الكامنَ وراءها. كانت رسالةُ الغورو الموجَّهةُ إلى تلاميذه هي: "اربطوا القطةَ". هذه الجملة بصيغة الأمر هي البنية السطحية structure de surface للرسالة (بحسب النحو التوليدي والتحويلي grammaire générative et transformationnelle عند تشومسكي). أمَّا البنيةُ العميقةُ structure profonde (deep structure) لتلك الرسالة فهي: "عندما يكونُ هناك قطةٌ تُزعِجُكم أثناءَ إقامتِكم الصلاةَ فاربطوا هذه القطةَ حتى تنتهوا من الصلاة". أيْ أنَّ مُرادَ القول vouloir dire أو المقصودَ منه هو: الانتباهُ والحضورُ وعدمُ تشتيت الفكر في أثناءِ الصلاة. وليسَ المقصودُ فِعْلَ ربط القطة في حد ذاته ولا القطةَ أيضًا. لكنَّ المجموعةَ التقفَت أو تلقَّتِ الأمرَ بحرفيته ناسيةً عن جهلٍ منها أو كسلٍ عقلي سياقَ الأمر والمغزى منه. لم يكنْ مؤدَّى أمرِ الغورو إحضارَ القطة وربطَها، أيْ ليس جلبَ المشكلة، بل إبعادها إذا كانت موجودة. ولكنَّ الذهن البشري مبرمَجٌ على إشغال نفسِه بخلق مشكلة وبالبحث عن حل لها.

الانكسار الدلالي في آيةُ: "فانْكِحُوا ما طابَ لكُمْ مِنَ النِّساء":

قياسًا على القصة السابقة يمكننا فهمُ الآيةَ التالية:

وإنْ خِفْـتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليتامى فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْـنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ. فإنْ خِفْـتُمْ ألاَّ تَعْدِلُوا فواحِدَةً أو ما مَلَكَتْ أيْمانُكُم. ذلك أدنى ألاَّ تَعُولُوا[5].

أسبابُ النزول (السياق الاجتماعي الثقافي):

لفهم هذه الآية، ولفهم أية رسالة لغوية بصورة عامة، لا بد من فهم سياقها الاجتماعي والثقافي وزمنها، ولا بد أيضًا من معرفة قطبَي الرسالة: المتكلِّم والمخاطَب. ذكرَ الطبريُّ في تفسير هذه الآية: حدَّثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة في قوله: "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ فإنْ خفتم ألاَّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكَت أيمانُكم"، قال: كان الرجل يتزوَّج الأربعَ والخمسَ والستَّ والعشرَ، فيقول الرجلُ: "ما يمنعني أنْ أتزوَّجَ كما تزوَّجَ فلانٌ؟" فيأخذ مالَ يتيمِه فيتزوَّج به، فنُهوا أنْ يتزوَّجوا فوق الأربع. فالسياق الاجتماعي للآية هو تعدُّد غير محدود للزوجات وعدم تطبيق العدالة الاجتماعية.

إذَنْ، لم يكنْ مغزى رسالةِ فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْـنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ تحقيقَ التعدد في الزواج (لأنه كان موجودًا بكثرة)، بل تحقيق العدالة فيه (لأنها كانت شبه غائبة)، مثلما أنَّ مغزى رسالة الغورو اربطوا القطةَ لم يكنِ تحقيقَ الربط، بل تحقيقَ الصلاة.

هذا المعنى يؤكده الحديثُ التالي:

حدَّثَنا مُسَدَّدٌ [...] قالَ وَهْبٌ الأسدِيِّ قَالَ: أسلَمْتُ وعِنْدِي ثَمانُ نِسْوَةٍ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: "اخْتَرْ مِنْهُنَّ أرْبَعًا"[6].

وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: أسلمَ غيلانُ بن سلمة وتحتَه عشرُ نسوةٍ فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُمْسِكَ أربعًا ويفارقَ سائرهنَّ[7].

معنى صيغ مَـثْـنَى وثُلاثَ وَرُباعَ لغويًا:

إنَّ صيغ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ هي صيغ معدولة عن صيغ اثنين وثَلاث وأربع. ولهذا فهي لا تنصرف. كما أنها لا تنصرف لسبب ثان وهو أنَّ عدلها وقع في حال النكرة[8]. والعدلُ في الصرف هو إخراج الاسم عن صيغته الأصلية بغير القلب لا للتخفيف ولا الإلحاق. والعدلُ الصرفيُّ يوجب التكثيرَ[9]. أيْ لا يجوزُ استخدامُ صيغ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ إلاَّ إذا سبقَها جمعٌ.

قال الزمخشري:

[...] الخطابُ للجميع، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراده من العدد الذي أطلق له، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المالَ درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولو أفردْتَ لم يكن له معنى. فإنْ قلْتَ: لِمَ جاء العطفُ بالواو دون أو؟ قلْتُ: كما جاء بها في المثال المذكور، ولو جئت فيه بأو لأعلمْت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسمة على تثنية وبعضها على تثليث وبعضها على تربيع، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلّتْ عليه الواو وتحريره أن الواو دلّتْ على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد وإن شاؤوا متفقين فيها، محظورًا عليهم ما وراء ذلك[10].

ليس مؤدَّى تلك الآية إذًا الطلبَ من الرجل أنْ يتزوَّج أكثرَ من امرأة ولا إباحةَ ذلك له، بل مؤدَّاها هو اقتصارُ المتزوِّج من عدد كبير من النساء على أقلِّ عدد ممكن مما يطيب له. فالمقصودُ ليس التكثيرَ بل التقليلُ. كان المقصودُ معالجةَ أمرٍ قائم. عندما انتقلَت الرسالةُ فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْـنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ من فم النبي إلى بعض السامعين مرَّت في موشور أفهامهم وأهوائهم فانكسرَت وانحرفَ مسارُها وتحرَّف معناها. كما يجب التنويهُ إلى أنَّ معنى واو العطف تعني أو للتخير وليس للجمع.

كانت هذه الرسالةُ-الآيةُ موجَّهةً فقط إلى المعدِّد للزوجات polygame في عصر النبوة تطلبُ منه أنْ يقلِّصَ عددَ زوجاته بقدر الإمكان بحيث لا يتجاوز العددُ أربعَ، أيْ أنْ يكونَ:

1-             إما ثنائيَّ الزواج bi-gamie (مَثْنى)،

2-             وإما ثُلاثيَّ الزواج tri-gamie (ثُلاث)،

3-             وإما رُباعيَّ الزواج quadri-gamie (رُباع)،

وذلك كخطوة أولى لأُحادية الزواج monogamie: "فإنْ خِفْـتُمْ ألاَّ تَعْدِلُوا فواحِدَةً". أيْ أنَّ الهدفَ كان الانتقالَ التدريجي من حالة تعدد الزوجات polygamie غير المحدَّد إلى حالة أحادية الزواج monogamie من أجل تحقيق العدل.

وبذلك يكون معنى رسالة فانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْـنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ هو بلغة عصرنا: إذا كنتم من معدِّدي الزوجات فعليكم أنْ تقلِّلوا العدد إلى أربعِ زوجات كحد أقصى. ولكم الخيار في العدد: اثنان أو ثلاث أو أربع فقط. بحيث تختارون ما طاب لكم منهنَّ وما أحببْتم منهنَّ، فإما أنْ تُبقوا على اثنتين (مَثْنى) وتُطَلِّقوا الباقي وإما أنْ تُبقوا على ثَلاثٍ (ثُلاث) وتُطَلِّقوا الباقي وإما أنْ تُبقوا على أربعٍ (رُباع) وتُطَلِّقوا الباقي. والأحوَط لكم والأفضلُ أنْ تُبقوا على واحدة.

لكنَّ عوامَّ المسلمين، إلاَّ مَنْ رَحِمَ ربِّيْ، فهِموا هذه الرسالةَ فهمًا مقلوبًا. فبدلاً من أنْ يعدِلوا في الزواج عدلوا [مالوا] عن الفهم الصحيح وادَّعوا أنهم "يتَّبعون" الرسولَ (مع التحفُّظ على مبدأ الاتِّباع نفسِه) فانطبقَ عليهم قولُ الشاعر:

قالوا: "اتَّـبَعْنا رسولَ اللهِ" واطَّرَحوا               قولَ الرسولِ وعالُوا [جاروا] في الموازينِ

إذًا، حصلَ انكسارٌ دلالي تام لرسالةِ "انْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْـنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ" من معنى "يا أيها المعدِّدون اقتصروا على أربع نساء كحد أدنى" (وهو المعنى الموضوع أصلاً للرسالة) إلى المعنى المعاكس تمامًا وهو "يا أيها المسلمون أبيحَ لكم أنْ تتزوجوا أربعَ نساء كحد أقصى". الشعاعُ الدلاليُّ "وحِّدوا الزواجَ واعدلوا" انكسرَ بعدَ أنْ دخلَ موشورَ اللاوعي الجمعي للمسلمين فأصبحَ "عدِّدوا الزواجَ واعدِلوا عن توحيده".

فإذا وجَّهَ طبيبٌ إلى مدخِّن مدمن يدخِّن في اليوم علبتَي سجائر (أيْ أربعين سيجارة يوميًا) النصيحةَ التالية: "عندما ترغبُ، دخِّنْ في اليوم ما شئتَ من أنواع السجائر سيجارتين يوميًا أو ثلاث أو أربع سجائر كحد أقصى. وإذا خفْتَ على صحتك فواحدةٌ يوميًا تكفي". رسالةُ الطبيب هي إذًا: "بما أنكَ مدمن ولا تستطيع الإقلاعَ حاليًا عن التدخين فإنني أطلب منك على الأقل أنْ تخفِّفَ التدخينَ فتدَخِّن في اليوم من سيجارتين إلى أربع كحد أقصى بدلاً من أربعين سيجارة. وإذا استطعتَ فواحدة". فرسالةُ الطبيب دعوةٌ إلى تخفيف التدخين عند عدم إمكانية الإقلاع عنه وليست دعوةً إلى التدخين. فالرسالة اللغوية مرتبطة بسياق معين وبمخاطَب معين (بمستوى فهمِه وإشراطاته) وبزمن معين. وبذلك تختلف الاستجابةُ للرسالة باختلاف المتلقِّي والسياق. فرسالة الشيخ لتلاميذه "اذبحوا طيورَكم في مكان لا يراكم فيه أحد" أدَّت إلى استجابات مختلفة من التلاميذ. أحدهم ذبحَ طيرَه في حجرة مغلقة والآخرُ في غابة والثالثُ لم يذبحْه لأنه أدركَ أنه ما من مكان لا يراه فيه أحد فاللهُ حاضرٌ في كل مكان.

تحضرني قصةٌ توضحُ الانكسارَ الدلاليَّ في الرسالة اللغوية. أراد الشيخ أحمد كفتارو أنْ يُقنِعَ أحدَ الشباب الذين لا يُصَلُّون أبدًا بإقامة الصلوات الخمس. لكنَّ الشابَّ استثقلَها. فقال كفتارو: "صلِّ مرةً واحدةً من أصل خمس". فأعجبَت الفكرةُ الشابَّ وأخذَ يطبِّقُها. لكنَّ بعضَ الناس تناقلوا رسالةَ كفتارو إلى الشباب على أنَّ الشيخ يأمر بتخفيف الصلاة.

هذا هو مبدأ لعبة الهاتف العربي téléphone arabe [الهاتف من دون خط téléphone sans fil] أو الهاتف المكسور Broken Telephone أو الهمسات [الوشوشات] الصينية Chinese whispers، حيث يزداد الانحراف écart في الرسالة اللغوية كلَّما انتقلَت من شخص إلى آخر.

لماذا هذا الانكسار الدلالي:

عندما تدخل فكرةٌ جديدةٌ في ثقافةٍ فلا بدَّ من أنْ تتفاعلَ معها فتَخرُجَ مختلفةً عما كانت عليه. عندما انتشرَت المسيحيةُ اصطدَمَت بمعتقداتٍ روما الوثنية فما كان أمام الرومان كي يقبلوا الفكرَ الجديدَ من أنْ يُدخِلوه في موشور لاوعيهم الجمعي فيُخرِجوه نسخةً مختلفةً قليلاً أو كثيرًا أو لنقلْ نسخةً معدَّلةً بتصرُّف. وهذا ما حصلَ في الإسلام وما يحصل في جميع الأفكار الوافدة. هذا المعنى قريب من معنى الانثقاف inculturation (انثقاف اللاهوت) الذي ابتكرَتْه الكنيسةُ الكاثوليكية في مجال التبشير، ويعني أقلمةَ بشارة الإنجيل مع الثقافة التي تدخل إليها، أي نقلها بتصرُّف من ثقافة إلى أخرى وليس ترجمتها. وهو غيرُ مفهومِ المثاقفة أو التثاقف acculturation في علْم الاجتماع والذي استُخدِمَ في أدبيات الانثروبولوجيين للدلالة على التداخل الحاصل بين مختلف الحضارات على مستوى التأثير والتأثر والاستيعاب والتمثل والتعديل أو للدلالة على التبادل الثقافي أو العبور الثقافي Transculturation.

إنَّ الانثقاف (وكذلك التثاقف) هو عملٌ إرادي مقصود تقتضيه ضرورةُ نشر الثقافة أو العقيدة. أمَّا الانكسار الدلالي فهو انحراف غير مقصود لمعنى رسالة أو نص. هذا الانحرافُ ناتج عن عواملَ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ تُحدِّد مستوى فهم العوام للرسالة.

فرسالة "انْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْـنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ" انكسرَت في موشور اللاوعي الجمعي العربي [الخافية الجمعية] من معنى أحادية الزواج إلى تعدديته لأنَّ ثقافة ذلك المجتمع ذكورية وأبوية بطريركية وقبلية بامتياز ولا تقبل التوحيد. فإذا كانت تعددية على مستوى آلهتها فبالحري أنْ تكون تعدديةً على المستوى الاجتماعي. وما كانت رسالة محمد بكليتها إلاَّ رسالة توحيد على جميع المستويات. فبعد أنْ وحَّد الآلهة في إله واحد هو الله، أراد أنْ يوحَّدَ الزوجات في واحدة. غير أنَّ اللاوعي الجمعي العربي ذكوري تسلُّطي فتلقَّى رسالةَ أحادية الزواج على مستوى وعيه الذكوري. اللاوعي الجمعي العربي قبَلي عصيٌّ على التوحيد إلاَّ في الشعارات. فهو لا يعرف النظامَ المدني ولا العملَ الجماعي فيريد كل فرد أنْ يكونَ زعيمًا. ولا غرْوَ أنْ يتعجَّبَ أحدُ المفكِّرين العرب، وأظنُّه أحمد أمين، من أمر العرب الذين تكمن القوةُ في مفردهم والضعفُ في مجموعهم. يتلقَّى المجتمعُ الرسالةَ بدون تفكير فهو مبرمَج على اتِّباع تقاليده اتِّباعًا أعمى. فيستجيب لها استجابًا انعكاسيًا. مازالت تحكمنا الغرائزُ وردودُ الأفعال. وما الرسالةُ المحمديةُ في جوهرها إلاَّ دعوةٌ للإنسان للتفكُّر ولإعادة النظر في كل شيء حتى فيما ورِثَه عن أهله وأجدادِه من تقاليد. "وإذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنزَلَ اللهُ، قالُوا: بلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنَا علَيْهِ آباءنا. أوَلَوْ كانَ آباؤهُمْ لا يَعقِلُون شَيئاً ولا يهْتَدُون"[11]. لذلك قال ابنُ عربي: "تأخذون دِينَكم ميتًا عن ميت ونأخذ دِينَنا عن الحي الذي لا يموت".

إنَّ الثقافة العربية هي واحدة من الثقافات التي تجعل الأرضَ (غايا Gaïa، الإلهة الأم الكبرى Magna Mater) تابعةً للسماء (أورانوس Ouranos) الذي وُلِدَ أساسًا من غايا ولادةً عذرية (أي بدون أنْ يغشاها [يخصبَها] ذَكَر sans intervention mâle). وبالتالي، فهي ثقافة تجعلُ الأنثى تابعةً للذَّكَر. ضمنَ هذا الوسط الذي تسيطرُ فيه السماءُ على الأرض، لا بدَّ لكلِّ رسالة مناصرةٍ للأنثى أنْ تنكسرَ إلى المعنى المعاكس. وبذلك يمكننا أنْ نفهمَ لماذا انكسرَت رسالةُ توحيد الزواج إلى تربيعه.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] الجمعة، 2.

[2] سورة الرعد، 4.

[3] الزمر، 18.

[4] أغنية الطائر The Song of the Bird (Comme un chant d'oiseau)، أنتوني دو مِلُّو Anthony De Mello، ترجمة أديب خوري، دار مكتبة إيزيس، عام 2000.

[5] النساء، 3.

[6] سنن أبي داوود ومسند أحمد وابن ماجة والبيهقي.

[7] السنن الكبرى للبيهقي.

[8] للتذكير: أسبابُ مَنْع الصرْفِ تِسعة هي: العَلَمِيَّة، التأنِيث، وَزْنُ الفِعْل، الوصْف، العدْل، الجمع، التركِيب، العُجْمة في الأعلام خاصَّةً، الألفُ والنُّونُ المُضارعتان لألِفَيْ التأنيث.

[9] المقتضب للمبرّد والمخصَّص لابن سيده.

[10] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام.

[11] البقرة 170.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود