الدولة في الإسلام المبكر... التاريخ والإشكاليات

ريتا فرج

 

حين نفى الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الشهير الإسلام وأصول الحكم مفهوم الدولة في الإسلام، ورفض الملكية وما يتصل بها من خلافة، شوروية لمرحلة، ووراثية في كل المراحل، أحدثت نتائج دراسته صدمة معرفية ما زالت حاضرة حتى الوقت الراهن، تحديدًا عند أولئك الذين يعتبرون أن القيادة السياسية لأمر الجماعة لم تكن عاملاً تاريخيًا طارئًا، إنما أوجبتها طبيعة الدين الإسلامي، القائم على المواءمة الحادة بين الديني والدنيوي. وفي مقابل هذا الاتجاه، برز كتَّاب آخرون، عملوا على توطيد فكرة نشأة الدولة في الإسلام التاريخي منذ عصوره الأولى.

في أطروحته بحث في نشأة الدولة الإسلامية، يحدد فالح حسين إشكالياته الأساسية: هل الدولة في الإسلام المبكر كانت حاضرة في موازاة نشر الدعوة؟ وهل جمع الرسول بين القيادة بمعناها السياسي والنبوة بمعناها الديني؟ يستهل الكاتب همه المعرفي بتأطير أبرز المؤشرات التاريخية للظروف الدَّالة على نشأة الدولة مع النبي وبعده، ويبدأ بـ "بيعة العقبة الثانية" التي عُرفت ببيعة الحرب، والتي أعقبت هجرة الجماعة الأولى إلى يثرب، أي المدينة. المحطة النوعية، التي إستهل فيها حسين مقارعته للذين ينفون فكرة الدولة في الإسلام، لا يمكن إهمالها لجهة دلالتها التاريخية من جهة، والتطورات التي تلتها من جهة أخرى، ورغم أن بعض القائلين بأنها لم تكن أولوية في بدايات ظهور الرسالة المحمدية، لكن علاقة النبي مع الجماعات القبلية والدينية، قامت على ثنائية المزاوجة بين القيادة ونشر الإسلام، بدءًا من بيعة العقبة الثانية، مرورًا بصلح الحديبية، وصولاً إلى التأسيس لأهم المقومات المؤسساتية للدولة الفتية، والتي إتخذت مسارًا تراكميًا إثر خروج المسلمين من الجزيرة العربية، فأسسوا مدنًا أو أمصارًا جديدة في البلدان المفتوحة، ونظموا الضرائب، ووضعوا النقد، وأقاموا نظام الديوان.

في المدينة، بدأت تتبلور ملامح الدولة بشكل أوضح، وما إن حلَّ الرسول في دار الهجرة، حتى بدأ يعد العدَّة لتنظيم أمور جماعته، فوضع الصحيفة؛ وهي وثيقة تاريخية سياسية وقانونية، اعتبرها الكثيرون كما يؤكد الكاتب بأنها "أقدم أنموذج موثوق للنثر العربي بعد القرآن الكريم". ويشير حسين إلى الظروف التي أوجبت وضعها، وبعد أن أورد أهم الروايات حول المسببات الآيلة إلى ظهورها، معتمدًا على مصدرين، السيرة النبوية لإبن هشام، وكتاب الأموال لأبي عبيد القاسم الهروي، يعمد إلى تحليل مضمونها السياسي، ويرى أن موادها أقرت الدولة في الإسلام المبكر، مقسمًا إياها إلى أربعة دعائم: الأولى، الدستور الذي ينظم حياة أهل الصحيفة، الثانية، الشعب الذي كان قاعدتها على أساس تنظيم العلاقات بين أفرادها؛ الثالثة، الأرض التي يقوم عليها أصحابها؛ الرابعة، اعتبار الرسول قائدًا لهذه الجماعة؛ وعلى رباعية، القانون، الأمة، الأرض، وصاحب السلطة أو الأمر، برزت الدلالات الأولى لنشأة الدولة في الإسلام. ومع صلح الحديبية الذي وُقع بين الرسول وقريش، أواخر السنة السادسة للهجرة، إثر غزوة الخندق أو الأحزاب، برزت مقومات السلطة بشكل أوضح، وفي هذا السياق يورد حسين نص الاتفاقية التي إتفق فيها الطرفان على بناء علاقة سلمية لغاية عشر سنوات؛ ولم يكتف بذلك، بل قام بتحليل مضمونها السياسي، وأهم النتائج التي ترتبت عليها، ومن بينها "تمكن الرسول" من إيجاد قاعدة أو أحلاف جدد له في قلب مكة وبين أهلها، والذين سيكونون السبب غير المباشر لفتحها بعد أقل من عامين، ما أدى إلى مضاعفة أعداد المسلمين، خصوصًا مع توافد القبائل اليه إما عن طريق إنتمائها للإسلام أو الاعتراف بسلطته. ولعل ما أُصطلح على تسميته بـ "عام الوفود" كان من أهم مقومات بروز الدولة، وهنا يقدم الكاتب قراءة لغوية لمفهوم الوفد ويقول:

هو مصطلح ذو دلالة سياسية، إذ إن الوفادة لا تكون إلا للملوك والأمراء – وفد فلان يَفِدُ وفادةً إذا خرج إلى ملك أو أمير – وكان اللفظ لا يستعمل إلا لمن يفِد على الملوك، ومن هنا جاءت الأهمية الخاصة التي خصصنا بها عام الوفود.

لا ريب أن المعطيات التاريخية التي انطلق منها حسين لدعم إشكالياته وفرضياته، حول نشأة الدولة في الإسلام منذ بداية الدعوة، لها أهمية سياسية ومنهجية في آن، فهو من جهة اعتمد على النصوص والمصادر الإسلامية للتأكيد على جدلية الدين والدولة مرتكزًا على أبرز المعاهدات والاتفاقات، قارئًا مضمونها، ومن جهة أخرى درس وقائعها بأسلوب منهجي، محاولاً الرد على من ينفون الصفة القيادية للرسول. ومنهجيته التاريخية والاستقرائية للنصوص، أسبغت على الكتاب بُعدًا أكاديميًا، يهدف بالدرجة الأولى إلى التحقق من صحة المساءلة التي صاغها والقائلة بأن ظهور الدولة بدأ مع هجرة النبي إلى المدينة. ولكن التساؤلات التي يمكن طرحها على الكاتب، هل مفهوم الدولة الذي كان يعني الانقلاب والدوران والتحول من عهد إلى عهد ينسجم مع بروزها التاريخي؟ وألا يقتضي هذا التساؤل طرح مفاهيم جديدة تتناسب مع الحالة التاريخية التي قام بدراستها، تحديدًا لأن اللسان العربي يفتقد للأدبيات السياسية المحددة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم؟

لم يكن صلح الحديبية المؤشر الوحيد الذي كرس سلطة الرسول السياسية، فقد وضع عددًا من الاتفاقات والمعاهدات مع أهل الجزيرة، مثل صلح أهل نجران، وصلح تبوك، وصلح الجرباء، وعليه يرى الكاتب أن محمدًا مارس زعامته القيادية بعقد العهود، وقيادة الجيوش، وإقرار الحقوق. والحال فإن نشر الإسلام ترافق مع تدشين الدولة، ولولا العلاقة الوظيفية والتبادلية بين العاملين، لما استطاع المسلمون الاستفادة منها لبناء امبراطوريتهم المترامية الأطراف، وطبعًا الحقبة الأولى تختلف عن الفترات اللاحقة، وبدءًا من اجتماع السقيفة وما نتج عنه من بزور انشقاق أفضى إلى الفتنة الكبرى، وإلى نقل السلطة بالعنف إلى معاوية، الداهية، ورجل الدولة بإمتياز، تحولت الدولة الوليدة إلى مُلك عضوض مع الأمويين والعباسيين، عمادها، احتكار السلطة، والتوريث الملكي، وقمع المعارضة، وتوظيف الديني لصالح إضفاء القدسية على السلطة التي اعتبرها بعضهم سلطة مغتصبة أخرجت ورثة الإمام علي من مجالها ولم تعدهم إليها إلا في أزمنة متأخرة جدًا.

في فصل الموسوم تحت عنوان مؤشرات السلطة - الدولة بعد الرسول: الاستمرارية يتابع فالح حسين تثبيت نظريته، حول وجود الدولة في الإسلام بعد وفاة النبي، مشيرًا إلى عوامل ستة لتبلورها: أولها، اختيار أبو بكر وقمع الردَّة، ثانيها، بناء الأمصار الجديدة في البلاد المفتوحة، ثالثها، الديوان والعطاء، رابعها، تنظيم التصرف في الأرض، خامسها، تنظيم الضرائب، سادسها، ضرب العرب للنقد.

يبقى إن العصور الكلاسيكية التي اعتمد عليها الكاتب في بحثه حول نشأة الدولة في الإسلام، تحتاج إلى قراءات جديدة، بعيدة عن الأسلوب الانشائي الذي تفادى حسين الدخول به، خصوصًا أنها أسست لحراك سياسي عميق الجذور، أدى إلى إنقسام الجماعة على أسس التنافس على السلطة وليس على أسس الدين، ما زالت تداعياتها حاضرة حتى اليوم، وإلاَّ ما معنى أن يتحول المسلمون إلى فرق ومذاهب متصارعة، دون أن يعني ذلك نفي ما أحدثته الحقبات التي أعقبت وفاة الرسول من إرثٍ فقهي وجدلي قلَّ نظيره مقارنة بالديانات الابراهيمية الأخرى.

الكتاب: بحث في نشأة الدولة الإسلامية
الكاتب: فالح حسين
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010

*** *** ***

المستقبل، الاربعاء 19 أيار 2010، العدد 3656، رأي وفكر، صفحة 19

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود