رموز الأحلام والدين: مقاربة إنثروبولوجية

 

وليد مهدي

 

الدين والأحلام بين الماضي والحاضر

يعني لنا "الدين" الكثير كموحدين من مسلمين ومسيحيين ودروز وصابئة ويهود وبهائيين ويزيديين، وكذلك "الباطن" النفسي الإنساني، ويعتقد الكثيرُ منا أنه مرتبط بالدين، فصورة الملكوت والعالم الآخر، وكذلك الأحلام ورموزها لها دلالات "دينية" باعتقاد الغالبية.

لكن، هل يعتبر الفكر الديني دومًا أن الأحلام هي الحبل أو المدخل المؤدي إلى الأعماق "المقدسة"؟ هل كانت هناك محاولات قديمة في الحضارة الإسلامية السابقة تربط الدين بصور ميثولوجيا الأعماق الجمعية الكلية تلك؟

ربما يشكِّل عصرنا هذا الاستثناء الذي فصل بين ماهو مقدس وماهو "طبيعي"، فعصر الصحوة الإسلامية الحالي جعل الأحاديث المروية عن الرسول أو أئمة المذاهب ثوابت لا جدال فيها إلا في حالات نادرة لسبب تناولناه غير مرة يتعلق بواقع "النفير" الثقافي تجاه خطر ثقافي تتعرض له الأمة من خارجها.

لكن، وكما نجد في الأثر القديم المعروف تعبير الرؤيا لابن سيرين بأنه كان يعتمد على منهج متنوع المصادر في تفسير الأحلام، فالأحلام ستكون دليلنا للانكشاف "الفردي" في الوعي على عالم الباطن. فذهنية بن سيرين تلك تكشف عن ذهنية عامة كانت سائدة إلى حدٍ معين في واقع ثقافي إسلامي مسيحي يهودي شرقي منقرض!

طريقة بن سيرين في التأويل كما يذكرها لنا في كتابه هذا المنسوب إليه لا تعتمد على الحديث النبوي وآيات القرآن فقط وإنما تتضمن الشائع من قول العرب والأمثال المتداولة بل حتى كلام الشعراء.

قد يمر الكثير منا على هذه المعلومة دون انتباه لمدلولها الهام، وهو إن الرؤيا كانت معرفة يتداخل بها المقدس (القرآن والسنة) واللامقدس (الأمثال والشعر)، فحين نتأمل هذه الصورة لبرهة نكتشف بأن الوعي الجمعي الإسلامي في حقب ماضية يختلف بصورة كلية عن راهنه الذي نعيشه اليوم!

فـ"الإطار" المعرفي الشائع في ذلك الزمن الذي كان يعيش فيه بن سيرين حول الباطن العقلي أو ما نسميه اليوم "اللاشعور" كان إطارًا ثقافيًا تشكِّله اللغة المحكية والمروية، وهذا يجعلنا نقترب كثيرًا من المفهوم الحديث الشائع عن "الأنسنة" أو "الأناسة" وما تعرف بالإصطلاح الانثروبولوجيا (علم الإنسان) التي تعتبر "اللغة" ومبانيها المفهومية في أي مجتمع بمثابة حافظة رمزية لتشفير الذاكرة الاجتماعية الكلية برأي المحدثين مثل فردنان دي سوسير وليفي شتراوس ومحمد أركون.

دلالات الرموز الميثولوجية

وحتى لا يجد القارئ صعوبة في فهم ما نقول سنأخذ المثال التالي: رؤية "الذهب" في المنام قد تعني "ذهب" أي رحل وليس الذهب بما هو معدنٌ ثمين، كذلك رؤية "الفلوس" قد تعني "الإفلاس" وليس حيازة الثروة، ومثل هذه التأويلات للأحلام لا تزال متداولة بين جداتنا (الختيارات)، وعلى الرغم من أننا نضحك في الغالب عندما سماع حكاياتهن وتأويلاتهن للأحلام، لكن الباحث الإنثروبولوجي المحترف هو الذي ينصت إلى "المشتركات" التي تتفق عليها الرؤية الشعبية للمعرفة من زاويتها هذه التي ترى في قصص الأولين بمثابة "رموز" أو جذور رمزية في بناء الحافظة التاريخية اللغوية للمجتمع الإسلامي ذي الجذور الثقافية القديمة جدًا: المسيحية السريانية البابلية المصرية السومرية.

لماذا ننصت لهذه المشتركات "الشائعة"؟ لأنها تدلنا على "القاموس الباطني الجمعي" لأمةٍ من الأمم. هذه الحافظة، حسب تسمية عالم النفس كارل جوستاف يونج، هي ذاتها الذاكرة الاجتماعية حسب علم الإنسان (الإنثروبولوجيا)، وبعد أن نتعمق في الموضوع أكثر سنجد أن مفهوم الحافظة سيكون أكثر اتساعًا وأنجع استعمالاً.

قد يظن القارئ أن الموضوع معقد يكتنف بعض الاصطلاحات فيه الغموض، لكننا نعده بالتبسيط خصوصًا وهو يتناول أصلاً المحكي الشائع من "المعرفة الاجتماعية" التي يعتبرها العديد من المثقفين مجرد خرافات، لكنها بمنظور علمي معاصر تشكل "قاموس الدلالة" الاجتماعية الذي يتيح لنا الغوص عميقًا في أعماق اللاشعور والوعي الجمعي الإنساني بوجه عام، والوعي الجمعي الإسلامي بوجه الخصوص لتحليل اللغة الرمزية البسيطة ودلالاتها التي تتمظهر في الأحلام و"الوحي" الذي يُصاغ في هيئة أو تشكلات لغوية ذات قالب نمطي محدد ممثلاً في الكتب السماوية المقدسة ومنها القرآن، وكذلك في الأحاديث المنسوبة إلى الأنبياء والأولياء ومنهم الرسول محمد بن عبد الله.

فالشائع لدى بن سيرين في "قاموس دلالته" القديم المعروف بتعبير الرؤيا أن آيات القرآن وأحاديث الرسول هي التي تلعب الدور الأبرز في تعبير الرؤيا، لكن، آيات القرآن وأحاديث الرسول أصلاً عبارة عن "خميرة" سبق للمجتمع أن طبعها في قاموسه الجمعي بعد قرون من دخول الإسلام، لذا فالمجتمع ممثلاً بأفراده يسترجعون هذه الصور وما توحيه من دلالات اعماقية بشكل دفقات سيالة من رمزية اللغة الاجتماعية الباطنية، الحافظة الكلية، ذاكرة العقل الاجتماعي المشفرة في تمثلات اللغة كما يتضح هذا لنا من الأمثلة التي سنذكرها لاحقًا.

وعليه، فالقرآن حينما ينجح في تفسير الأحلام، وكذلك أحاديث الرسول، فهذا النجاح لا يعود سببه لقدسية ماورائية تتخفى وراء النص، وهذا الحال ينطبق على نصوص المسيحية واليهودية وكل الديانات أيضًا، وإنما بسبب ما تمثله هذه الآيات والمرويات من "بنى" جوهرية في العقل الكلي الاجتماعي، خصوصًا بعد قرون من اختمارها وتسللها إلى البنى المركزية في الحافظة الكلية (حسب تسمية يونك )، إذ يكون من السهولة التعرف على رمز طارئ في الأحلام عبر مقابلته في مرآة آية في القرآن أو في الكتاب المقدس، فسرعان ما تبدأ رمزية الغموض بالإنحلال والتحلحل عبر قراءة الاسترسال القرآني الذي يسبق ويلي هذا الرمز المتأصل جمعيًا والمؤثر في أحلام حتى أكثر الناس إلحادًا ولادينية في هذا الكوكب.

ولنضرب على ذلك مثالاً، لو شاهدت في الرؤيا "نملة"، مالذي يقوله بن سيرين وجداتنا الختيارات عنها؟

يسعفني هاهنا أبرز فلاسفة البنيوية Structuralism وعالم الإنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس في مقاربته التحليلية للأسطورة لدى الهنود الحمر في أميركا، إذ يرى أن الأسطورة تحتمل تفسيرات عديدة ممكنة، ورمزية الأحلام باعتبارها سيلاً من مدلولات متشعبة وربما متناقضة لدوال بنى الحافظة الجمعية، أصل الأسطورة، يمكنها أن ترشدنا إلى تأويلات كوانتية غير محددة uncertainty، وهذا ما نجده فعلاً في قاموس بن سيرين، المسلم ذو الأصل المسيحي!

فالنملة بروايته عن جعفر الصادق كمجموع النمل ترمز للخدم التابعين، وبتأويله حسب اللغة الجمعية الدارجة التي كانت أكثر وضوحًا في زمانه ترمز للأناس المتكبرين!

لو عكسنا رمزية النملة عبر الكشف في قاموس "الدلالة الكلي" هذا في القرآن فما الذي سنجده؟ (إذ قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا في مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكًا من قولها وقال رب اوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين). نملة تطلق تحذيرًا لباقي النمل من دمارٍ وشيك سيحل عليهم، وبتأويل "رمزية" النمل حسب بن سيرين فهذا يعني إما أن خدمًا تابعين تأمرهم خادمة بالجلاء، أو امرأة متكبرة تنذر رهطًا متكبرين مثلها بالابتعاد عن التصادم مع قوة كونية جبارة ممثلة في "سليمان الملك". فما الذي يسترسل القرآن في وصفه في الآيات اللاحقة للآية التي ذكرناها آنفًا؟

لنكمل استرسال القرآن، فبعد أن يذكر (وتفقد الطير) وحديثه مع الهدهد عن بلقيس وكيف أرسل سليمان لها كتابًا يأمرها بالإسلام حتى يقول على لسانها، مخاطبة قومها، في موضوع رسالة سليمان: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون). بلقيس، الملكة التي من الطبيعي أن تكون متكبرة بحكم ما تمثله من موقع في الهرم الاجتماعي، تنذر رهطها من حاشية بلاطها المتكبرين لنفس الأسباب بأن "الذل" هو ما سيضربه على وجوههم سليمان!

لا يحطمنكم سليمان وجنوده، أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، نملة، امرأة تملكهم، هذه كلها توضح الرمزية والتفسير في آن معًا ضمن قاموس الدلالة الكلي المتشكل في الحافظة التاريخية للأمة على مدى سبعة آلاف عام، سواء بلغتها المعجمية الاصطلاحية أو بلغتها الشفهية المرمزة ضمن تراكيب أو أمثال ذات مدلولات.

كيف توالت كصور مترافقة مفصولة بفاصل مع أنها مرايا يعكس بعضها بعضًا في القرآن، ونقصد قصتي النملة وبلقيس، فقاموس الدلالة الكلي يقول إن بلقيس = النملة!؟

نتيجة هامة

إن هذا الترابط يشير إلى أن قصة الحديث بين سليمان والنملة المعروفة قبل القرآن أصلاً هي "حلم" أو "رؤيا" رآها سليمان وتحققت بقصته مع بلقيس، انسلت إلى الموروث الثقافي وكأنها حادثة واقعية فعلية!

وكذلك قصته مع "الهدهد" وباقي الحيوانات المستوحاة من "أدب الحكمة البابلي" حين تروى الأساطير عن الحيوانات وهي تتكلم وتعيش قصصًا كالبشر. هذه جميعًا تشير إلى انثيالات باطنية من الأعماق البيولوجية للتاريخ في الحافظة الجمعية التي درسها يونج وسجل عنها الملاحظات حول ما كان يرويه مرضاه.

كذلك قصة ملحمة كلكامش وبحثه عن الخلود وذهابه إلى "عالم الخالدين" حين يلتقي بنوح (زيوسيدرا) في دلمون، الجزيرة الخضراء. كان الناس في سومر وآكاد وبابل وآشور، وعلى مدى أربعة آلاف عام، يحكون عن القصة وكأنها واقعية.

لكن الإمعان في رمزيتها يؤكد أنها جنين أعماقي ثقافي رواه كلكامش أو سواه كإلهٍ–إنسان كان على قناعة بأنه رحل فعليًا إلى عالم الخالدين، والتقى بجده "نوحًا" هناك، كما يروي محمد النبي عن معراجه والتقاءه بالأنبياء في الملكوت الأعلى. مثل هذه القصص وما تتضمنه رمزيتها تدل على أنها انعكاسات باطنية عميقة بهيئة أحلام يقظة، قوية غالبًا.

الغريب حقًا في الموضوع هو انسحاب دلالة رمزية من ملحمة كلكامش في فكر الشيعة الإثني عشرية المعاصر، وهي دلالة "العمر الطويل". فنوح في الملحمة القديمة (زيوسيدرا – اتونا بشتم) كوفئ من قبل الآلهة بامتداد عمره وحصوله على الخلود لأنه أنقذ النسل الإنساني من أن يزول بسبب الطوفان، على العكس من الصورة التوراتية القرآنية التي وصفت امتداد عمره ألف سنة إلا خمسين في قومه قبل الطوفان (لتواءم النسق القيمي اليهودي البدوي الديني). فأهل العراق القديم، وعلى مدى أربعة آلاف عام أيضًا، احتفظوا بنسقهم الخاص المخالف للنسق العبراني والإسلامي المعاصر، فالنسق الثقافي البابلي كان دومًا يتضمن وجود "خالد" ذي عمرٍ طويل: نوح، اتراحيس، اتونابشتم، خورشيد، الخضر (حي الدار)...

هذه النماذج، ورغم انقراضها جميعًا من الفكر الإسلامي كشخصيات خالدة حية لها حضور خفي أبدي بين الناس، لكن الخضر بقي صامدًا، واستحدث الإثنا عشرية نموذجهم العصري الخالد الممثل بمحمد بن الحسن المهدي، ومن قبله محمد بن علي بن أبي طالب (بن الحنفية) لدى الزيدية، ونماذج كثيرة أخرى مغيبة ومخفية في إلحاح قوي من "الحافظة التاريخية" لنسق القيم البابلية المتجذرة حتى يومنا في عمق سبعة آلاف سنة!

الدلالات النسقية هذه، تشير جميعها على أن العمق الجمعي يتفاوت في تأثيره على المجتمعات. ففي بيئة جنوب العراق، حيث الشيعة الإثني عشرية، أثر النموذج السومري البابلي واضح سواء بنسق الصور الميثولوجية أو نسق القيم والطقوس الممثلة بعاشوراء الموازية للأكيتو كما ذكرناها غير مرة في سنواتٍ مضت. في حين أن النموذج الصحراوي البدوي لهذه الأنساق بقي محافظًا على تجرده النسبي نوعًا ما لكونه وليد بيئة ثقافية أقل عمقًا في تاريخها من وادي الرافدين أو وادي النيل.

النتيجة الهامة التي ترشح لنا من كل هذا هي أن الاختلاف بين الأنساق القيمية والتمثلية بين الديانات والطوائف تعود أسبابه إلى طريقة تفاعل الفرد والمجتمع مع الحافظة الجمعية التي تؤدي إلى هذا التلون الثقافي وهذا الكم من قصص مختلفة ومتناقضة أحيانًا بين الأنبياء والملوك الآلهة أو أشباه الآلهة قد تصل إلى التماهي بين ماهي وقائع حقيقية وأحلام يقظة تصوَّر على أنها واقع حقيقي.

عودة إلى قاموس بن سيرين حول الرؤيا

وبمثال آخر: آذان المؤذن، أذن في الناس بالحج، وأذن مؤذنٌ أن يا أيتها العير إنكم لسارقون: بن سيرين يفسر رؤيا الآذان كدلالة على وقوع الحج إلى مكة لصاحب الرؤيا أو اتهامه بالسرقة اعتمادًا على دلائل الآيات القرآنية هذه. ونحيط القارئ علمًا أن تعبير الرؤيا لابن سيرين لم يكن ليعتمد قرونًا طوال لولا بعض المصداقية في تفسيراته. شخصيًا جربت تأويلاته مع أحلام الكثير من الناس بمختلف الشرائح، كانت تقترب في مصداقيتها من 70%، وبمثال آذان المؤذن السابق فإن صدق التأويل لا يتأتى من قداسة النص القرآني والقوة الخفية المستترة وراءه وإنما من رسوخ المركبات المفاهيمية الثقافية اللغوية المنطوية في هذه الآيات في الوعي الثقافي العام للأمة وحافظتها اللغوية العميقة. إذ أن الأمثال الشعبية والنصوص الدينية بما في ذلك أحاديث الرسول تكون قد تسللت بعد قرون من التداول إلى المخيال الاجتماعي للأمة، كما يسميه السوربوني الراحل محمد أركون، على اعتباره ليس حافظة ذاكرة لأرشيف الدلالة فقط، وإنما فاعل ومحرك شبه ميتافيزيقي (موجود خفي) لمنظومة القيم الجوهرية في اللاشعور المتجلية في الأحلام لدى عموم المسلمين وغير المسلمين في هذه الأمة، العربية لغةً وغير العربية المتشكلة من ثقافات كثيرة حسب تصور دوركايم وهيجل. وهكذا فإن اللاشعور الباطني فينا وحينما يختار التعبير عن نبؤة مستقبلية معتمدًا الإدرك الحسي الفائق ESP فهو يستخدم البنى التكوينية للحافظة الاجتماعية التي تتسلل إليها عبر قرون من الزمن مفاهيم ورموز بنيوية جديدة في نفس الوقت الذي تنسى ولا نقول تحذف منها دلالات قديمة تترسب في أعماق بعيدة من هذه الحافظة الكلية.

قاموس الدلالة الاجتماعي الكلي، هو الذي يخبرنا بالنبؤة وليس قاموس مفرداتنا الشخصية اللغوية التي نستخدمها في حياتنا اليومية أثناء صحونا، وهذا أوضح الأدلة على أن اللاشعور وفي باطن أعماقه هو كيانٌ كلي مشترك بين سكان حضارة ما أو أمةٌ من الأمم، وحسب كارل جوستاف يونج، هناك أعماق من اللاشعور لا يشترك فيها عموم الجنس البشري فحسب وإنما عموم الكائنات الحية على كوكب الأرض كما أثبت ذلك عبر تجارب طويلة مع مرضاه وتحليلاته لرموز أحلامهم، وهو العمق البيولوجي من الحافظة الجمعية الذي ترتبط به مشاعر "الحب Love" و"الجنس Sex" في العادة ما يفسر سبب "قوتها" وتأثيرها في حياتنا.

الأحلام: بين الفردية والموروث الجمعي والعمق الكلي الحيوي

لا يعني هذا إننا نُخطيء المنهج النفسي ونتائج العلوم النفسية حول خصوصية الأحلام ورمزيتها الفردية وليست الاجتماعية كما بيَّن هذا فرويد في منهج التحليل النفسي، لكننا هنا نتحدث عن أعماق مختلفة من اللاشعور، وأنواع متعددة مختلفة من الرؤى في المنام وأثناء اليقظة.

الأعماق الضحلة (لو تصح التسمية) من النفس البشرية تكون خاصة فردية، وهي التي يتناولها علم النفس غالبًا، الأحلام التي تنعكس من هذا المستوى النفسي القريب من واقعنا اليومي غالبًا ما كنتُ أسميها "الأفلام" عندما أحاول تفسيرها للكثيرين. إذ تكون متعددة الأحداث، أي لا يوجد فيها حدث مركزي معين، يمكن أن يرى الفرد نفسه يقود دراجة نارية ثم ينزل عنها ليمشي راجلاً فيلتقي بصديق يرتدي سترة بنية يتركه ثم يجد الرائي نفسه في مكان آخر، هذه يمكن أن نسميها "أفلام المنام"، وبرأيي تأتي انعكاسًا لعمليات اللاشعور السطحية القريبة من الذاكرة العاملة، وغالبًا هي لا تحمل نبؤة عن حدث مستقبلي أو إشارة خاصة للوعي الباطني. أما "الرؤية" التي تحمل إشارة مركزية قصيرة الزمن مفردة الحدث مكثفة الدلالة مثل: ركوب دراجة أترجل عنها (فقط)، فهذا له دلالة نناقشها في موضوع آخر كونها تحمل إشارة Signal مصدرها الكيان الكلي التمثلي لوعي مجموعي يشير إلى حدث مستقبلي للفرد أو حدث تاريخي للأمة بما يعرف "الرؤيا الصادقة". أما التي للدون من هذا المستوى من أعماق اللاشعور، فقد تكون جمعية بإطار محدود، كأن تكون حزبية أو اجتماعية أو ثقافية دينية، هذه تدرسها الإنثروبولوجيا والسوسيولوجيا (علم الاجتماع).

عندما نستمر بالغوص في أعماق أكثر جمعية، كما وضح يونج بإسهاب، نصل إلى الذاكرة الحيوية الكلية، الحافظة البيولوجية الجامعة التي لا يوجد لدينا علمٌ لدراستها حتى الآن، لا تزال رمزيتها ودلالتها تقع ضمن حيز العمى المعرفي وليس أدل على صورها ووجودها سوى أساطير الآلهة القديمة لدى الثقافات والشعوب المختلفة التي تتجلى في الحضارات المصرية والسومرية وجذور الطوطمية في افريقيا وكثرة الحيوانات في تمثلاتها الرمزية.

وفي العموم، الطوطمية هي الأثر المتبقي الواضح جدًا لهذه الأعماق التي تبدأ بها الحضارة والتاريخ في الفكر الإنساني.

لكن، ليس هذا كل شيء، هناك أعماق سحيقة لم يصلنا منها أثر بعد، كل ما نستطيع تأكيده عنها هو أننا كلما غصنا في أعماقها أكثر كلما تلاشت الفردية التي نشعر بها وذابت في كلية الوجود؛ الفردية التي نميز بها أنفسنا كأفراد لديهم أسماء وهوية أحوال مدنية المعرَّف السيكولوجي لها هو "أنا"، هذه الأنا هي المهماز المحرك لسلوكياتنا القريبة من الغريزة والحس، الممثلة لذاتنا كأفراد طموحين في مجتمع كثير المتنافسين، هذا هو المستوى الضحل من اللاشعور، لكن، عندما نستفزُ بمشاعرنا الجمعية، عندما يهاجم مدعي التنوير الإسلام ورسوله محمد فإن هذه الأنا تتلاشى بهبوط "المراقب" الواعي في عمق أكبر من اللاشعور. إذ تذوب هذه الأنا في "نحن" الكلية التي تعطينا هوية جديدة مصدرها من أعماق سحيقة في اللاشعور، العقل الكوني الذي تجلى في سياق آيات القرآن كثيرًا بالضمير "نحن"، (إنا أنزلناه، نحن خلقناكم، إنا نحيي ونميت ونحن الوارثين... إلخ) وما قلنا عنه مسبقًا بأنه دليل على جمعية ذهن محمد وليس أنانيته كما يدعي الأصوليون "العلمانيون"!

فالدين، بما هو وعي ثقافي كلي جامع، لا يمكن فهمه فهمًا علميًا أكاديميًا دون اللجوء إلى المقاربات السوسيولوجية الإنثروبولوجية، لا يمكننا الحديث عن الدين دون منهج علمي جديد يأخذ في الاعتبار التحليل النفسي والإنثروبولوجي على حدٍ سواء، ولا نقصد دراسة الإنسان سيكولوجيًا بما هو فرد، أو إنثروبولوجيًا بما هو إنسان كلي يمثل النوع الإنساني، وإنما دراسته ككيان مفرد ضمن منظومة اجتماعية تاريخية كلية تنتمي إلى الكيان الإحيائي على سطح الكرة الأرضية، له ماضٍ وتاريخ يبلغ ما يقارب المليار سنة، ضمن علمٍ جديدٍ كلي شامل يجعلنا أقرب إلى عقائد الفيدا والبوذية والهندوسية أكثر من أي عقائد دينية أخرى.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود