على بساط الثلاثاء 2

 

حبيب عيسى

رسالة جوابية:
إلى الشباب العربي في تونس...
تحية... واعتذار... أما بعد...!

(1)

أيها الأحبة في تونس الحبيبة...!

تحية عربية، ورجاء أن تصلكم رسالتي هذه، وقد أنجزتم مشروع المأسسة، والتوحيد للقوميين العرب التقدميين في تونس!

أما بعد،

أعترف ابتداء أن القلم ليس خير وسيلة للتعبير في مثل الظروف التي نمر بها ذلك أن المرسل يكتب ما يحلو له، ويملي على المرسل له ما يعتقد أنه صحيح، بينما نحن الآن في أشد الحاجة إلى التحديق في عيون بعضنا البعض مع كل عبارة تقال، لكن للضرورات أحكامها، وأجدادنا قالوا: "الضرورات تبيح المحظورات".

أيتها العزيزات، أيها الأعزاء،

تلقيت ببالغ السرور والتقدير دعوتكم الكريمة لي لحضور المؤتمر التوحيدي للقوميين التقدميين في تونس، وأعترف أنني ودون أي تفكير اندفعت على الفور في الإعداد للسفر إليكم. لكن، وكما يحصل عادة بعد كل قرار مفاجئ يعود العقل البشري إلى التحليل والتركيب، السلبيات والإيجابيات للموقف، والقرار المطلوب اتخاذه، وشيئًا فشيئًا بدأت أقنع نفسي بالاعتذار، ذلك أن وجودي بينكم في هذا الظرف بالذات قد يكون له أثر سلبي أنتم في غنى عنه، في هذه اللحظة التاريخية. ذلك أنني راجعت المراسلات بيني وبين بعض الأعزاء حول مواقف الشباب في تونس من المسألة السورية، وخلصت إلى أن هناك انقسام حاد حول ما يجري، وأنا شخصيًا أتفهم ذلك، وأحترم جميع المواقف، وأثق أن الدوافع والمخاوف مشروعة في كلا الطرفين. قد تقولون إن ذلك يجب أن يحفزني أكثر للحضور، وقد خطر لي ذلك، لكنني سرعان ما تراجعت، فالقضية الأساسية بالنسبة إليكم، الآن، هي البحث في المشكلات التي تواجه المجتمع العربي في تونس ووضع الحلول والانخراط مع الجماهير التونسية في وضع الحلول موضع التنفيذ، وذلك حتى يكون تمثيل القوميين العرب التقدميين في تونس في المجالس التمثيلية التشريعية والتنفيذية يتناسب مع أصالة مشروعهم النهضوي القومي، لا بأس أن يكون هناك اختلاف بينكم حول المسألة السورية، أو الفلسطينية، أو البحرينية، أو الليبية، أو اليمنية، الحوار بينكم وليس الشقاق، تبادل المعارف وليس الجهالة، الدعوة للتفاهم وليس التخوين والسباب... هو السبيل. وعلى أية حال، فإن تطور الأحداث موضوعيًا قد يحل تلك المشكلات، المهم الآن بالنسبة إليكم تونس، أن تكونوا طليعة الشعب في البناء، وفي محاربة الفساد والاستغلال، في تحقيق العدالة الاجتماعية، وصيانة الوحدة الوطنية، وتعزيز قيم المواطنة، والحريات العامة، وصيانة الحقوق الساسية للمواطنين، ووضع القرار الوطني بيد الشعب بحيث لا يرتهن لأية قوة خارجية مهما كانت هويتها. لو نجحتم أيها الأعزاء في أن تكونوا طليعة المجتمع العربي في تونس لتحقيق ذلك، فأنتم بذلك تساهمون في تحرير فلسطين حتى ولو لم تذكروا فلسطين بكلمة واحدة، تساهمون في تحقيق خطوة هامة باتجاه الوحدة العربية ولو لم تذكروا الوحدة العربية بكلمة واحدة... هكذا، ولأسباب لا يتسع المجال لها، وحتى لا يتحول الموقف من المسألة السورية من اختلاف مشروع إلى خلاف عصبوي، انشقاقي غير مشروع، قررت الاعتذار عن الحضور رغم الشوق الذي يبرِّحني للقاء بكم.

(2)

أيتها العزيزات، أيها الأعزاء،

ليس هنا ما أود الإقناع به، لكن من حقكم علي أن أوضح موقفي الذي يحتمل الخطأ والصواب، هناك من اعتبر في تونس أن موقفي من المسألة السورية خروج عن الخط القومي التقدمي، وأنا أرى أن موقفي هو في صلب الموقف القومي التقدمي. ليكن، الاختلاف لايفسد للود قضية، وإذا كان المجال هنا لا يتسع لشرح الموقف فإن من حقكم علي أن أحدد الأسس التي حكمت موقفي، وأطرحها هنا، كعناوين فقط:

1.    إن الخارج لم يخرج من الوطن العربي حتى نرفض تدخله ثانية، فالقوميون التقدميون امتداد للثوار الذين قاوموه أولاً، ويقاومونه حاضرًا ومستقبلاً، كل ما في الأمر أن ذلك الخارج قد استبدل احتلاله المباشر بالجيوش، بما كنت قد أسميته "الاحتلال بالدول"، ثم احتلال الدول الإقليمية بالسلطات الاستبدادية، وفي المركز منها مستوطنات الصهاينة في فلسطين.

2.    إن المؤامرات الخارجية لم تبدأ مع "الربيع العربي" وإنما جاء الربيع العربي لمواجهتها، ذلك أن تلك المؤامرات وصلت إلى غايتها بفعل النظم الاستبدادية، أو مانسميه اصطلاحًا النظام الإقليمي الذي دمَّر النسيج الاجتماعي في الوطن العربي وأعاده قسرًا إلى علاقات ماقبل المواطنة العصبوية والطائفية والمذهبية.

3.    إن النظام الإقليمي في الوطن العربي كان على امتداد القرن المنصرم من سايكس بيكو ووعد بلفور ومعاهدات تقسيم المغرب العربي والخليج العربي، كان رأس الحربة في تنفيذ المخططات الخارجية والصهيونية.

4.    لقد كنا أول من نبه إلى المخططات الصهيونية بالسعي إلى تجزئة المجزأ عبر تقسيم دول سايكس بيكو إلى دويلات طائفية، وكان ذلك ثابتًا بالمراسلات بين "بن غوريون وشاريت"، ثم عبر وثيقة "استراتيجية اسرائيل في الثمانينات" والتي رسمت حدودًا تفصيلية لدول الطوائف، ثم عبَّر عنها دبلوماسيًا "شيمون بيريز" بما أسماه "الشرق الأوسط الجديد"، ثم بتشكيل مؤسسات "البحث عن أرض مشتركة في الشرق الأوسط" في نيويورك ومراكز الأبحاث في القاهرة والكويت وسواها، لقد كان تحقيق ذلك ومازال رهنًا بنجاح النظام الإقليمي في تدمير النسيج الاجتماعي العربي، وهذا ماحاوله، ويحاوله، النظام الإقليمي في الوطن العربي، والنتائج واضحة من السودان إلى العراق، ومن المحيط إلى الخليج. وهذا ما هدد، ويهدد به الحكام، بأن البديل للاستبداد هو الفوضى، والحروب الأهلية، والطائفية، والعنصرية، وبالتالي فإن موقفنا كقوميين تقدميين هو رفض الخيارين معًا، فخيارنا التحرر والحرية.

5.    إن المخاوف من المخططات المعادية والحروب الأهلية واستغلال القوى المعادية للفراغ الذي يخلفه سقوط الطغاة، مشروعة، لكن الحل يكون بمواجهة القوى المعادية والتصدي لمخططاتها، وليس بإدانة الثورة على الاستبداد، الحل يكون بالانخراط في الثورة ومواجهة المخططات الالتفافية المعادية على الربيع العربي بتحصين المجتمع والثورة باتجاه الأهداف المشروعة للأمة.

6.    إن الشباب العربي الذي يستدعي الربيع العربي من المحيط إلى الخليج ليس هو من كان يستقبل أمير قطر وغير قطر ويعزف له الأناشيد، وليس هو من ينفذ المؤامرات الخارجية، ولا يعرف ليفي، ولا غير ليفي، وإنما هو جيل ثائر على استبداد ومؤامرات طغت وسادت وخلفت عقودًا من الظلام على الأمة، فشل خلالها جيلنا في مواجهتها إلى أن اندفع هذا الجيل الشاب ليقتحم المستحيل، وأعتقد أنه من الظلم إتهام هذا الجيل العربي الشاب بأنه ينفذ مؤامرة، أو أنه جيل جاهل لا يعرف ما يريد.

7.    إن "الربيع العربي" يتعرض بالفعل لمحاولات حثيثة من قبل قوى خارجية وداخلية معادية لمشروع النهوض العربي لحرفه عن مساره الثوري، وفرض أجندات بديلة تعيد الواقع العربي إلى ما كان عليه في ظل الطغاة: مجتمع مغيب، وأنظمة تابعة، وهذا يحدِّد المهمة الأساسية للقوميين العرب التقدميين بالانخراط في صلب الثورة، لتحصينها، ورسم خطها البياني التحرري، وليس بالتهجم على "الربيع العربي" ووضعه في إطار المؤامرة على الأمة. إن تخلي القوميين العرب التقدميين عن دورهم الثوري في الربيع العربي قد يؤدي فعلاً إلى فشل الربيع العربي وإلى مخاطر كبيرة، وسيكون القوميون العرب التقدميون مسؤولين عن هذا الفشل، وبالتالي فإن الربيع العربي ينبغي أن يكون هو ربيع القوميين العرب التقدميين يندمجون فيه وينطلقون منه باتجاه أهدافهم المشروعة.

8.    إنني أنطلق في مواقفي من مختلف القضايا من قاعدة منهجية ثابتة، وهي أولوية الإنسان، وعندما نتحدث عن الإنسان، فإننا نتحدث عن حريته، ذلك أن الإنسان يتميز عن غيره من الكائنات الحية بأنه يمتلك المقدرة على اتخاذ القرار بحرية تجاه أي موقف، ويتحمل مسؤولية قراره، وقد أثبت النصف قرن الأخير أن الشعب العربي الذي استلبت حريته فقد مقدرته على التقدم، وفقد مقدرته على الدفاع عن الوطن، وبالتالي فإن الحرية أولاً هي الطريق للحرية أخيرًا، فالأحرار وحدهم يشكلون الحامل لمشروع الحرية والوحدة والاشتراكية في الوطن العربي، وهذا يعني أن كل اعتداء على حرية المواطن العربي هو اعتداء على الأمة ومشروع تحررها ونهوضها ووحدتها.

9.    إنني على قناعة تامة بضرورة مراجعة القوميين العرب التقدميين للأساليب التي أدت بهم إلى الدرك الذي انحطوا إليه. نعم، هناك مؤامرة على الأمة، وعلى مشروع النهوض القومي و... لكن هزيمة المشروع القومي العربي التقدمي خلال العقود المنصرمة جاء من داخله أساسًا، ومن تناقض أساليبه الشمولية في الحكم مع غائيته التحررية، لقد تم الانقلاب على ثورة عبد الناصر ونهجه القومي من داخل النظام ذاته، وأُكل حزب البعث من أنظمته، وحركة القوميين العرب لم تكن في حال أفضل، وهذا يحتم على القوميين العرب التقدميين الجدد مراجعة الأساليب التي أدت إلى الهزائم، والتي دفع، ويدفع القوميون العرب التقدميون والأمة كلها أثمانًا باهظة كنتيجة لها.

10.                       إن القوميين العرب التقدميين من المفترض أن يعملوا منهجهم في تقييم الواقع الموضوعي، واتخاذ الموقف الصحيح من المشكلات المطروحة، وأن يكفوا عن الرهان على التشكيلات الإقليمية والطائفية والمذهبية والمناطقية والعنصرية مهما كانت الشعارات التي ترفعها.

(3)

أيتها العزيزات، أيها الأعزاء،

لم أبغ مما تقدم أن أقنع أحد بموقفي، ولا أن أدافع عن مواقف اتخذتها، فأنا، وبالحديث معكم لست في موقف الدفاع، كما أنني لست في موقف الهجوم، ولكنني بالضبط في موقف التوضيح الذي يُلزمني ولا يلزم أحد، لكنني اضطررت إليه أمامكم بالذات، فقد كنت في موقف بالغ الصعوبة، ذلك أنني أتطلع للقاء بكم، لكن وعندما حانت الفرصة وجدت أنه لزامًا علي أن أتخذ قرارًا صعبًا بالتأجيل.

إن توحدكم الآن يكفيني، ولا تدعوا الموقف من المسألة السورية يفسد وحدتكم.

(4)

إنني لن أنسى ما حييت لحظة خروجي من زنزانتي في الشهر الأول من عام 2006 عندما انهالت علي الاتصالات من تونس، ومنها احتفال في صفاقص، لم يحتفل أحد بخروجي من المعتقل إلا التوانسة، لقد غالبتني الدموع يومها... وعندما راودني الحلم بالربيع العربي قبل أن يهل علينا بسنوات حلمت باريج ياسمينه يهبُّ من تونس، فكتبت كما تذكرون عن "زين الحاكمين" وهو زينهم بالفعل، حتى وإن جاء فهمه متاخرًا، لكن هروبه كان مناسبًا... لقد كان حلمًا بالنسبة إلي أن ينطلق الربيع العربي من تونس، ذلك أنني أعرف أن لي مكانة في قلوب بعض التوانسة، لكن تونس كلها في قلبي، لهذا فأنا أرجوكم أن تركزوا جهودكم على أن تحتلوا مكانكم الطليعي في بناء تونس، وأن تديروا اختلافاتكم بلغة حضارية، وأن تحتكموا للمنهج الذي ارتضيتموه ومن ثم لرأي الأغلبية بينكم، وأن تضعوا حدًا نهائيًا للشرزمة والفرقة.

(5)

أقول لكم إن أهلكم في سورية معكم ويتطلعون إلى وحدتكم، وسيعرفون كيف يتجاوزون المحن، أقول ذلك وأنا مازلت أذكر مشهد الصبايا والشباب اللواتي والذين حملن وحملوا الشموع أمام سفارة تونس بدمشق مع بداية ثورتكم، ثم انتقلوا إلى المصرية، فالليبية، فاليمنية وقد نالهم العسف الشديد، لم يكونوا من تيار سياسي معين، كانوا يهتفون لحريتكم وتحرركم... وعندما بدأوا الحراك كانوا ينتظرون من القوميين التقدميين أن يحملوا لهم شمعة في أي مكان من الوطن العربي... هم الآن إما ضحايا، وإما متخفين، وإما هاربين من البلاد، وأنا أبادلهم الوفاء الآن...

أيتها العزيزات، أيها الأعزاء،

هكذا ترون كم أنا حزين لأنني لست بينكم، لكن قلبي معكم. أرجو لكم النجاح في مساعيكم تجاه الوحدة بين فصائلكم.

تمنياتي لكم بالتوفيق، وربما إلى لقاء.

دمشق: 4-2-2012

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود