مدخل إلى نظرية التعقيد والشواش

 معين رومية

ازدهرتْ في الأعوام الأخيرة طرقُ تفكير جديدة في حقل الرياضيات العائد لنظرية التعقيد/ الشواش – هذا الحقل الذي استمر في النمو والتطور بسرعة في اتجاهات عديدة، بكلِّ ما تحمله من إمكانات للتطبيق على مدى واسع ومتنوع من الظواهر. وتمثل التبصُّرات والأدوات والمفاهيم التي تزوِّدنا بها هذه النظرية قطيعةً جذريةً مع الأساليب الرياضية السائدة التي أسَّستْ للعلم الحديث منذ غاليليو وديكارت ونيوتن، وتمكِّننا من رؤية العالم رؤية مختلفة جذريًّا عن السابق ومن فهم أفضل لقواه المحرِّكة وتنظيمه الذاتي وتطوره.

المبادئ الأساسية

ربما ظهرت الكلمة "شواش" Chaos لأول مرة في العام 700 ق م لدى الشاعر الإغريقي هسيود في قوله: "في البدء كان الشواش، لا شيء سوى الخلاء والهيولى والفراغ غير المحدود." ثم وَرَدَتْ فيما بعد في الفردوس المفقود لمِلتون: "في البدء برزت السماوات والأرض من الشواش." وقد أشار إلى الشواش كلٌّ من شكسبير في عطيل وهنري ميللر في ربيع أسود. يستنتج المرء من هذه الأمثلة أن الشواش كان خاصية للفوضى غير المرغوبة. وقد دمجت اللغة العامية عبر التاريخ فكرة الفوضى في فكرة الشواش. وعرَّفت القواميس "الشواش" بأنه الاضطراب أو الاهتياج أو اللجة البدئية. من الناحية العلمية، يتضمن الشواشُ "العشواء" randomness غير المرغوبة. لكن مفهوم "التنظيم الذاتي" self-organization عند حافة الشواش يشير إلى انبثاق النظام من الشواش. وقد عبَّر المؤرخ والكاتب الأمريكي هنري أدامز (1918-1858) عن المعنى العلمي للشواش بشكل بليغ في قوله: "الشواش غالبًا ما يولِّد الحياة، بينما النظام order يولِّد العادة."

وضع العالمان لي Li ويورك Yorke في العام 1975 مصطلح "الشواش" في سياق علمي للإشارة إلى مشكلة رياضية فحواها وصف التطور الزمني الذي يعتمد اعتمادًا حساسًا على الشروط الابتدائية. وقد استخدم البيولوجي والرياضي روبرت ماني Robert Many المصطلح ونشره في الأوساط العلمية حتى اشتهر. هكذا دخلت نظرية الشواش إلى عالم البحوث "من الباب الخلفي"، كما يقال. لم تكن النظرية قانونًا، كما هي الحال في الترموديناميكا أو الفيزياء الكوانتية، لكنها مكَّنتْ الباحثين من تحليل الحوادث والميادين ذات التشابك الإشكالي. وفي العام 1977 حاز إيليا بريغوجين Ilya Prigogin على جائزة نوبل في الكيمياء؛ وهو رائد العمل على إنتروبيا entropy المنظومات المفتوحة، أي تبادل المادة والطاقة والمعلومات بين المنظومة وبيئتها. وقد استخدم بريغوجين مفهوم "البُنى المبدِّدة" dissipative structures لكي يبيِّن أن البنيات الأكثر تعقيدًا يمكن أن تنشأ عن البنيات الأبسط وأن النظام ينبثق عن الشواش.

فما هي نظرية التعقيد/الشواش complexity/chaos إذن؟ في تقديمه للمجلد الأول من المحاضرات التي ألقيت في المؤتمر الأول حول المنظومات المعقدة في جامعة نيومكسيكو 1988، يشبِّه دانييل شتاين Daniel Stein التعقيد/الشواش بـ"مفهوم غيبي" لأن الكثير من الناس يتحدثون عنه، لكن لا أحد يعلم ما هو في الحقيقة. ثمة تفسيرات متعددة لنظرية الشواش تتطلب استخدام كلمات مثل: تركيب، تقاطع مناهج، حافة الشواش، ديناميكا، شبكات عصبية، إلخ؛ لكن هذه التفسيرات جميعًا تحمل معها مفهوم المنظومات المعقدة. مضامين نظرية الشواش عويصة لأنه ليس ثمة من يستطيع معرفة الشروط المطلقة لأية منظومة من أجل التنبؤ التام بسلوكها.

بدايات التفكير حول التعقيد والشواش

لاحظ البشر طوال آلاف السنين أن أسبابًا صغيرة يمكنها أن تُحدِث نتائج كبيرة غير متوقعة. وما أثار العلماء أنه في بعض المنظومات يمكن أن تقود تغيراتٌ طفيفة في الشروط الابتدائية إلى توقعات متباينة جدًّا، بحيث إن التوقُّع (أو التنبؤ) بحدِّ ذاته يصبح بلا فائدة. فقد برهن الرياضي الفرنسي جاك أدامار Jacques Hadamard، في أواخر القرن الـ19، على النظرية التالية: إن حركة نقطة مادية بلا احتكاك على سطح تعتمد اعتمادًا حساسًا على الشروط الابتدائية. والمثال الشهير عن هذه النظرية هو كرات البلياردو وكيف أننا لا نستطيع التنبؤ الدقيق باتجاهاتها عندما تصطدم ثلاث منها على الطاولة. وقد فهم العالم بيير دوهم Pierre Duhem مغزى نظرية أدامار ونشر في العام 1906 ورقة بحثية وضَّح فيها بسهولة أن التنبؤ في هذه الحالات "غير مفيد أبدًا" بسبب الحاجة إلى معرفة ضرورية بالشروط الابتدائية غير المؤكدة. هذا ولم ينتبه هنري بوانكاريه Henri Poincaré إلى هذه الأبحاث، أو ربما لم يلحظها – وهو من يُدعى "أبا" نظرية الشواش. وقد نشر في العام 1908 كتابه العلم والمنهج Science et méthode الذي احتوى فقرة تعتبر أن فكرة "المصادفة" هي العامل الحاسم في المنظومات الدينامية لأننا نجهل بعض العوامل الابتدائية. وقد أُهمِلَتْ أعمالُ الثلاثة الذين ذكرناهم بسبب مجيء النظرية الكوانتية التي عطَّلت أفكار عالم الفيزياء كلَّه، وكذلك بسبب عدم توفر أدوات بحثية مثل نظريات الشغل ergonomics في رياضيات القياس، وأيضًا بسبب عدم وجود حواسيب تحاكي تجريبيًّا ما هو مبرهَن عليه نظريًّا.

في العام 1908 اكتُشِفَ الكوكب نبتون، وأحدث اكتشافُه فرحًا كبيرًا في أوساط مؤيِّدي الميكانيكا النيوتنية الكلاسيكية، لأن هذا الكشف كان متوقَّعًا من رصد الانحرافات الطفيفة في مدار الكوكب أورانوس. وكان قد حدث أمرٌ غير متوقع في العام 1889 عندما أنشأ ملك النروِج جائزة لمن يجد حلاً للمشكلة التالية: هل المنظومة الشمسية مستقرة أم لا؟ قدَّم بوانكاريه حلاً للمشكلة وفاز بالجائزة. لكن زميلاً له اكتشف لاحقًا أن ثمة خطأً في الحسابات؛ فأُعطِيَ بوانكاريه مهلة ستة أشهر كي يعالج المسألة إذا أراد الاحتفاظ بالجائزة. وقد وجد بوانكاريه، مذهولاً، أنه لا يوجد حلٌّ للمشكلة، وتوصل إلى نتائج قلبت النظرة المقبولة عن الكون الحتمي الخالص التي سُلِّمَ بها منذ أن وضع إسحاق نيوتن الرياضيات الخطِّيةlinear mathematics. وبيَّن بوانكاريه في بحث في العام 1890 أن قوانين نيوتن لا تقدِّم أيَّ حلٍّ لـ"مشكلة الأجسام الثلاثة"، أي كيفية التنبؤ بحركات الشمس والأرض والقمر، ووجد أن تباينات طفيفة في الشروط الابتدائية تُحدِثُ تباينات هائلة في الظواهر النهائية وتتحدى الحالةُ التنبؤات. وهكذا صرفتْ اكتشافاتُ بوانكاريه النظر عن النموذج الخطِّي النيوتوني الذي كان يهمل التغيرات الطفيفة التي تبرز بروزًا غير متوقع.

أحدث الجواب السلبي الذي توصَّل إليه بوانكاريه عواقب إيجابية على إبداع نظرية الشواش. إذ بعد ثمانين عامًا، في أوائل العام 1963، استخدم إدوارد لورنتس Edward Lorenz رياضيات بوانكاريه واصِفًا نموذجًا رياضيًّا مبسطًا لمنظومة الطقس، مؤلفًا من ثلاث معادلات تفاضلية غير خطِّية مترابطة، واستطاع من خلاله إظهار نِسَب التغير في درجة الحرارة وسرعة الرياح. بيَّنتْ بعضُ النتائج المدهشة سلوكًا معقدًا ناجمًا عن المعادلات البسيطة المفترضة؛ وكذلك أظهرتْ أن سلوك منظومة المعادلات كان يعتمد اعتمادًا حساسًا على الشروط الابتدائية للنموذج الرياضي. أوضح لورنتس بلا لبس مضامين اكتشافه قائلاً إنه إذا كانت ثمة أخطاء في رصد الحالة الابتدائية لمنظومة – وهذا الأمر يتعذر اجتنابه في المنظومات الواقعية – فإن التنبؤ الدقيق بالحالة المستقبلية للمنظومة يكون مستحيلاً. وقد وصف لورنتس هذه المنظومات التي تُظهِر اعتمادًا حساسًا على الشروط الابتدائية بأنها تحمل "أثر الفراشة" butterfly effect؛ وهذا المصطلح الفريد يعود إلى العبارة الشائعة: عندما ترفرف فراشة بجناحيها في هونغ كونغ يمكنها أن تُحدِث سلسلة من الزوابع في تكساس!

تكون المنظومة الشواشية chaotic system حساسة للشروط الابتدائية؛ ويتسبب الشواش في نقل المنظومة إلى حالة غير مستقرة. يعرِّف كامبل Campbell الشواش بأنه يلازم تعقيد الطبيعة وتعقيد المعرفة. ويستلزم الجانب الطبيعي من الشواش تَضافُر العلوم الطبيعية كافة، بينما تعالج العلوم الإنسانية الجانب المعرفي من الشواش. ويجد الشواش تعبيرًا عنه إما في شكل صيغة أو دالة أو كليهما. وهو يدرس الاعتماد المتبادل بين الأشياء في حالة البعد عن التوازن. فعندما تكون منظومة مبدِّدة غير خطِّية مفتوحة مرتبطة ببعض العلاقات مع منظومة مفتوحة أخرى فإن كلا المنظومتين تتقاطعان وتتشابكان وتتقاربان. وعندما ينشأ اضطراب من مصدر داخلي أو خارجي في المنظومات الشواشية فإنها تُظهِر سلوكًا شواشيًّا يتضخم على المستوى الميكروي أو الماكروي (يتضاءل أو يتعاظم).

أجرى إيليا بريغوجين بحوثًا إضافية على المنظومات الدينامية غير الخطِّية التي تُظهِر اعتمادًا حساسًا على الشروط الابتدائية، فبدأ عمله على المنظومات البعيدة عن التوازن في حقل الترموديناميكا. وقد قادته بحوثُه حول البنيات المبدِّدة غير الخطِّية إلى طرح مفهومي "التوازن" equilibrium والـ"بُعد عن التوازن" far-from-equilibrium كي يصف حالة المنظومة. وقد كشفتْ بحوثُه عن شروط البعد عن التوازن التي تقود إلى سلوك منظوماتي مباين للسلوك الذي يتوقعه التفسير المألوف للقانون الثاني في الترموديناميكا. تنبثق ظواهر التشعب والتنظيم الذاتي عن المنظومات المتوازنة عندما تخضع للاضطراب أو التقلقل. وقد كانت دراسات الاضطراب الخطوة التي قادت إلى نظرية التعقيد/الشواش التي تحدث عنها بريغوجين كما لو أنه أرسطو: يمكن للمنظومة البعيدة عن التوازن أن تمضي "من الوجود إلى الصيرورة"؛ وتبيِّن هذه الصيرورة كيف يولد النظام من الشواش في المنظومات الحرارية والكيميائية، وكذلك في المنظومات الحية.

من دراسته لبحوث المحاكاة عند لورنتس، اقترح الرياضي رونيه توم René Thom ما يُعرَف حاليًّا باسم "نظرية الكوارث" catastrophe theory، أو الوصف الرياضي لكيفية تشعُّب أو تفرُّع المنظومة الشواشية. ومن دراسة منظومات التكيف المعقدة التي استخدمها بوانكاريه ولورنتس وبريغوجين، طوَّر نورمان باكارد وكريس لانغتون نظريات "حافة الشواش" edge of chaos: إذ تسبب الطاقة المتدفقة وتقلباتها عبر المنظومة تغيرات لانهائية، إما أن تضخِّم الآثار الناتجة أو تُضائِلَها. يحدث هذا عند "التحول الطَّوري" phase transition لتيار الشواش (يصف التحول الطَّوري المنظومة عندما تتغير من حالة إلى أخرى)، وقد يؤدي إلى إعادة تنظيم كاملة للمنظومة كلِّها بأسلوب غير متوقَّع أبدًا.

بعد هذه الدراسات، عصفت نظرية الشواش (أو العلم اللاخطِّي non-linear science) بعالم العلم كالريح، وتدفقت البحوث من مختلف الميادين العلمية والإنسانية، وظهرت مفاهيم نظرية التعقيد والشواش في البيولوجيا، والإحصاء، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، والحواسيب، وفي كافة الحقول تقريبًا.

خصائص التعقيد

يُنتِج التعقيد (أو حافة الشواش) تنظيمًا ذاتيًّا يحدث تلقائيًّا في المنظومة البعيدة عن التوازن. ليس ثمة تعريف متفَق عليه للتعقيد، لكنه يظهر في حياتنا اليومية، وتستخدم الدراسات من ميادين متعددة طرقًا بينمناهجية interdisciplinary كي توضح كيف أن التعقيد في مجال معين قد يرتبط مع مجال آخر. وقد عبَّر إرْوِن لاشلو من أكاديمية فيينا العالمية عن الوصف الأفضل للتعقيد كما يلي:

في الواقع، بين جميع المصطلحات التي تحتويها نظرية الشواش ونظرية المنظومات العامة، يبدو أن مصطلح "التشعُّب" bifurcation هو الأهم: أولاً لأنه يصف وصفًا مناسبًا النوعَ الأهم من الخبرات التي يتشارك فيها أغلب الناس في عالم اليوم؛ وثانيًا لأنه يصف بدقة الحدث الفاصل الذي يشكِّل مستقبل مجتمعاتنا المعاصرة.

يعني التشعب لغويًّا الانفصال إلى فرعين أو أكثر. أما في نظرية الشواش فهو يعني: عندما تصبح منظومة دينامية شواشية معقدة غير مستقرة في بيئتها بسبب الاضطراب أو التشوش أو "الضغط" فإن حالة جاذبة ("جاذب" attractor) تقود مسارات هذا الضغط. وفي نقطة التحول الطَّوري، تتشعب المنظومة وتُدفَع إما إلى حالة من نظام جديد new order عبر التنظيم الذاتي أو إلى الانحلال (الفوضى).

بدأ فون نويمَن von Neumann الدراسات على التحول الطَّوري للمنظومة عند حافة الشواش في بحوثه على الآلات الذاتية التحكم. وقد كشف بحثُه أن حافة الشواش هي الموضع الذي تتعاظم فيه العملياتُ المترافقة ضمن المنظومة، ويكون أداء المنظومة إبَّانه أعظميًّا، وتجري فيها أشد الحسابات تعقيدًا. تدخل المنظومة في مرحلة التشعُّب إلى منطقة افتراضية (مجال افتراضي)، حيث تُصنَع الخيارات أو الممكنات. قد تختار المنظومة هنا الجاذب الأكثر تأثيرًا، أو يمكن أن تقفز من جاذب إلى آخر. في هذه المرحلة تُصنَع الخيارات المستقبلية للمنظومة؛ وتسمى المرحلة بالشواش العميق deep chaos: فإما أن تعيد المنظومة تنظيم ذاتها في مستوى أعلى من التعقيد أو تنحل وتتلاشى. تدعى مرحلة التحول الطَّوري بـtransient، وهي الموضع حيث تحصل الأحداث التحولية. وهو مصطلح يعني، نظريًّا، أن هناك مؤثرًا على المنظومة بكاملها ينتج عن داخلها وله آثار تحولية؛ أمَّا عمليًّا فإنه يعني إشارة إلى تذبذب أو اندفاع مفاجئ.

قد تستقر المنظومة بعد التشعُّب في نسق دينامي جديد يحوي مجموعة من الجواذب الأكثر تعقدًا وشواشًا؛ لذلك فهي تصبح أكثر تعقيدًا من حالتها الابتدائية.

هناك ثلاثة ضروب من التشعب:

1.    هادئ: يكون التحول فيه سلسًا؛

2.    كارثي: يكون التحول حادًّا، والنتيجة مزيد من الاضطراب؛

3.    انفجاري: يكون التحول مفاجئًا، وتتحكم فيه عوامل متقطعة تقلب المنظومة وتدفعها من نظام إلى آخر.

وقد أدخل بيير باك مفهوم ثبات الطبيعة عند حافة الشواش، أو ما يسمى بـ"الحَرَجية المنتظمة ذاتيًّا" self-organized criticality.

نواجه التعقيد/الشواش في حياتنا اليومية في حركة السير، تبدلات الطقس، الحِراك السكاني، السلوك العضوي، تغيرات الرأي العام، نمو وانحلال المدن، عدم الاتساق في رسوم تخطيط القلب، انتشار الأوبئة؛ ونجده أيضًا في تكنولوجيا الاتصالات والحواسيب التي نعتمد عليها، وفي عمليات الاحتراق الداخلي ضمن مركَبات السير، التخليق الخلوي، بحوث المناعة، صناعة القرار، إلخ.

وقد وصف كامبل الشواش وسريانه في الموجودات كما يلي:

-       يحدث التعقيد في المنظومات الطبيعية وفي المنظومات البشرية الصنع، وكذلك في البنيات الاجتماعية والشؤون البشرية.

-       قد تكون المنظومات الدينامية المعقدة كبيرة أو صغيرة؛ وتتعايش سوية في بعض المنظومات المعقدة عناصر صغرية وكبرية.

-       لا تكون المنظومة محددة حتميًّا بشكل كامل ولا عشوائية بشكل كامل، بل تُبدي كلا الخاصيتين.

-       الأسباب والنتائج في الحوادث التي تختبرها المنظومة تكون غير متناسبة.

-       ترتبط الأجزاء المختلفة ضمن المنظومات المعقدة بشكل متآثر وتفاعلي.

-       هناك تلقيم راجع feedback سالب وموجب؛ ويعتمد مستوى التعقيد على خصائص المنظومة وبيئتها وطبيعة التفاعل بين عناصرها.

النظام واللااستقرار في الشواش

النظام order: اكتشاف النظام في شيء ما أمر ضروري بالنسبة للعلماء والمؤرخين والفنانين والموسيقيين واللاهوتيين، بل حتى بالنسبة للنادلات في المطاعم أو الطباخين أو الجدات اللواتي يرتِّبن دمى عيد الميلاد. يمكن التعبير عن النظام رياضيًّا أو باستعمال المخططات البيانية. والمثال البسيط عن النظام هو الخط المستقيم؛ إذ نستطيع فهم النظام في الخطِّ المستقيم بسهولة لأننا نستطيع إنشاء هذا الخط عبر سلسلة من القطع المستقيمة المتساوية. ويمكن أن نجد النظام في العشواء أيضًا. يقول بوهم ما مفاده إن أيَّ حدث يقع يمتلك شيئًا من النظام؛ لذلك فإن فكرة الافتقار الكلِّي إلى النظام ليس لها معنى واقعي. وبالفعل، فإن ما ندعوها أحداثًا عشوائية تقع في تعاقب موصوف ومعرَّف، ويمكن تمييزها عن أحداث عشوائية أخرى. وبهذا المعنى الأولي من الواضح أن لهذه الأحداث نظامًا. يكون النظام حاذقًا دقيقًا في اللغة والفن والموسيقى والألعاب والعمارة والبنيات الاجتماعية والشعائر والأعراف لأنه يعتمد على المحيط؛ وعلى المشارك في هذه الميادين أن يفهم كلَّ تعقيداته لكي يصل إلى إدراك مقنع وذي معنى لها. يتسم النظام في الطبيعة والأشياء غير الحية والمنظومات الفيزيائية بأنه غير محدود، لكنه نظام دقيق وحاذق أيضًا. يمكن للماء أن يتدفق تدفقًا سلسًا عندما لا يعترضه عائق، لكن الدوامات تنشأ عندما تكون هناك عوائق تتسبب في حدوث نظام شواشي يثور ويجيش جيشانًا متطرفًا. ويمكن أن تنشأ العشواء أيضًا، ويجب أن نفهمها هنا، كنتيجة لفعل العناصر الأصغر جدًّا في السياق الإجمالي الذي تقرِّره حدود الثوران الأوَّلي للماء. وهنا تنطبق نظرية الشواش على فكرة النظام؛ إذ إن جريان الماء يُعتبَر منظومة دينامية تعطي مثالاً عن نظرية المنظومات اللاخطِّية.

إن "المسرح" الذي تجري فيه أحداث وتحولات المنظومة يسمى "فضاء الحالة" أو "فضاء الطور" space phase. يُنظَر رياضيًّا إلى فضاء الطور على أنه الفضاء حيث كلُّ بُعد يقابل متغيرًا في المنظومة. لذلك فإنَّ كلَّ نقطة من فضاء الحالة يمكن أن تقدِّم وصفًا كاملاً للمنظومة عن أحد حالاتها الممكنة (المحتملة)؛ وإن تطور المنظومة يظهر نفسه كارتسام في أحد طرق أو مسارات فضاء الحالة. لذلك عندما نتقصى ونبحث فضاء الحالة (منطقة السلوك المنظوماتي) في منظومة دينامية سيبدو لنا أن تشوشات أو اضطرابات بالغة الصغر وخارجية يمكنها أن تسبب تغيرًا في المنظومة بأكملها. يمكن تعريف هذه الخاصية اللاخطِّية كما يلي: عندما يكون دَخْل المنظومة input غير متناسب مع خَرْجها output ندعوها "منظومة لاخطِّية".

تبيِّن لنا نظرية الشواش أن المنظومات اللاخطِّية تُظهِر سلوكًا شاذًّا وغير منطقي؛ إذ يمكنها أن تخضع لتلقيمات راجعة سالبة أو موجبة، وقد تنتج الاستقرار أو اللااستقرار. ويمكنها أن تنتج التلاحم والتماسك من خلال التقارب والاقتران، أو تنتج الاختلالات والتشعبات، بل وحتى التغيرات الانفجارية. إذن، لكي يحدث الشواش ينبغي أن تكون لدينا منظومة حساسة للشروط الابتدائية، وعلى ترابط (تداخل) وثيق مع بيئتها المحيطة. عندما نفهم المنظومات اللاخطِّية ستبدو لنا متطابقة مع ما يجري في عالم الحياة اليومية الذي نعيشه.

اللااستقرار instability: يتضمن التعقيد/الشواش الدينامية dynamics، أو ما دعاه لورنتس "حالات البعد عن التوازن". تذكِّرنا كلمة "توازن" بمشهد البحيرة الهادئة. إن حالة السكون أو الاسترخاء هي إحدى تعريفات التوازن، لكنه يتطلب أيضًا فكرة "الاتزان" balance. يُعَدُّ التوازن نادرًا في المنظومات الدينامية المعقدة أو نوعًا من "مرحلة رجحان مؤقتة". وكي تبدأ السيرورات الدينامية لا بدَّ أن تنحرف المنظومة عن حالة التوازن. يرى بريغوجين وستنغرس أنه كلما كانت المنظومة أعقد كانت التشوشات والاضطرابات والتقلبات التي تهدد استقرار المنظومة أوفر عددًا. وعندما تصبح المنظومة عرضة للتأثر بهذه الاضطرابات فإن متطلباتها من الطاقة تتعاظم كي تحافظ على تماسكها. يحدث الاستقرار في جميع أنواع البنيات، الجوامد والغازات، المنظومات الحية وغير الحية، العضوية وغير العضوية، وكذلك في المؤسَّسات والأعراف. تسبب التقلبات الخارجية أو الداخلية تحولاً في المنظومة من الاستقرار إلى اللااستقرار؛ لكن هذا لا يحدث بالضرورة بسبب أيِّ تقلب عاديٍّ يقع، بل إنه يعتمد على نمط وقَدْر التقلب أو الاضطراب، بالإضافة إلى درجة حساسية المنظومة للتأثر. هذا الأمر يجب أن يؤخذ بالحسبان قبل أن تُعتبَر المنظومة غير مستقرة. وفي بعض الأحيان، قد تحتاج المنظومة إلى أكثر من نوع من الاضطراب كي تتحول إلى حالة غير مستقرة. ويتحدث بريغوجين وستنغرس عن "التنافس بين الاستقرار من خلال الاستمرارية، واللااستقرار من خلال التقلُّب"؛ وحصيلة هذا التنافس تحدِّد "عتبة الاستقرار" threshold of stability. بكلمات أخرى، يجب أن تنضج الشروط الملائمة كي يحدث "الجَيَشان". يمكن أن نعطي أمثلة عن اللااستقرارية من ميادين عدة، كالأمراض والقلاقل السياسية والاختلالات الاجتماعية والأسرية. ويستخدم كامبل القول المأثور عن أنه ربما تكون القشة التي قصمت ظهر البعير هي ما يجعل المنظومة تذروها الرياح!

تتحرى نظرية الشواش عن المنظومة بالتساؤل حول الخاصية العامة لسلوكها على المدى الطويل. وتبحث الحلول الشواشية عن التفسير الكيفي quality لسلوك منظومة في المستقبل. إن الحلول الكمية quantity القريبة ربما تخبرنا متى تتراصف ثلاثة كواكب في مدارات إهليلجية؛ بينما تخبرنا الحلول الكيفية كيف تتشكل هذه المدارات في إهليلج، وليس في دوائر أو قطوع مكافئة، وتبحث خصائص جميع الحلول لهذه المنظومة وكيف ستغير المنظومة سلوكها. إن منظومة من قبيل كرة صغيرة (كلَّة) في أسفل وعاء، قد تستثار؛ وعندئذٍ سوف تُبدي بعض السلوكيات المضطربة، ولكنها في النهاية تستقر في أسفل الوعاء. والساعة أيضًا، عندما تتعرض لارتجاج أو صدمة خفيفة مفاجئة، قد تتوقف للحظة، لكنها تستأنف دورانها بعد ذلك. ونقول إن هذه المنظومات مستقرة، بينما المنظومات اللامستقرة (وغير الدورية) لا تستطيع أن تقاوم هذه الاضطرابات الطفيفة، وسوف تبدي بسببها سلوكًا معقدًا يجعل التنبؤ مستحيلاً، فتكون القياسات عنها في هذه الحالة عشوائية.

والتاريخ الإنساني هو المثال الممتاز عن المنظومات غير الدورية. تبزغ الحضارات وتتلاشى، لكن الأشياء لا تحدث أبدًا بالطريقة ذاتها. فأحداث صغيرة أو أشخاص أفراد قد يغيِّرون العالم من حولهم. وتحتوي الأمثلة المعروفة عن السلوك غير الدوري واللامستقر تجمعًا ضخمًا من الواحدات المتفاعلة. قد تتركب المنظومة من عوامل بشرية متنافسة أو جزئيات غاز متصادمة. وقد تحدث التغيرات بشكل متعاقب في المنظومات المعقدة البعيدة عن التوازن، وتؤدي إلى تفكيك الرباط بين القوى الداخلية التي تعطي المنظومة تماسكها والقوى الخارجية التي تمثل بيئة المنظومة. ويتيح الرباط للمنظومة، في أغلب الأحيان، أن تعمل بسلاسة؛ ولكن عندما تتصاعد حدَّة الاضطرابات، وتخضع المنظومة لـ"ضغوط" تتجاوز عتبات محددة، تبرز دلائل حادة على القلقلة، وقد يحدث شواش لاخطِّي مفاجئ، فتبدأ الأشكال الحادة للشواش بسلوك زائغ. ويسبب الانتقال أو الانزياح من جاذب إلى آخر تضاربًا في سلوك المنظومة. فما الذي يستطيع فعله أحد البشر، مثلاً، عندما يجد نفسه، على حين غرة، أمام مشكلات كثيرة ينبغي في ظلِّها اتخاذ قرار ما؟ يرى أحد العلماء أن المنظومة البشرية ينبغي أن تعير يقظة وانتباهًا وعناية أكبر كي تحفظ روابطها الداخلية وشبكات التواصل فيها.

وتتَّسم سيرورة اتخاذ القرار عند الإنسان ببصمات الشواش الواضحة؛ إذ يكون هناك الكثير من الدوافع والمسلَّمات والمضامين التي ينبغي اعتبارها عند اتخاذ قرار. فهنا يساعد "الجاذب الغريب" strange attractor في هذه السيرورة ويدفع في اتجاه أحد الممكنات. وقد يكون الجاذب الغريب عقدة نفسية، أو يتخذ شكل المنظومة الاعتقادية للإنسان.

الجاذب الطارئ (الغريب): ليس سهلاً أن نعرِّف بالجاذب. لقد أعطى أحد العلماء التعريف التالي: الجواذب هي مجموعة محدودة تحتوي المسارات. الجاذب الطارئ هو، ببساطة، نموذج للمسار الذي يرسمه سلوك المنظومة عندما نعبِّر عنه تخطيطيًّا. ويميل سلوك المنظومات اللاخطِّية إلى التقلص أو الانقباض ضمن مناطق محددة من فضاء الحالة. نسمي هذا الانقباض بـ"الجاذب"؛ وهو يعبِّر، من الناحية الفعلية، عن "مجموعة من النقاط التي تتقارب جميع المسارات متجهةً نحوها". يُعَدُّ مفهوم الجاذب الطارئ مركزيًّا في نظرية الشواش. فعندما نفتح صنبور الماء كي نحصل على تيار مائي أسرع وأسرع، يمكننا أن نلحظ تطور فعل التيار المائي من الانطلاق السَّلِس وصولاً إلى الجيشان. تمثل هذه الأنواع المختلفة من الجريان نماذج متنوعة ينجذب إليها جريان الماء. وثمة ثلاثة نماذج من الجواذب التي نشاهدها في المنظومات:

أ‌.       الجاذب النقطي: ويتعلق بالمنظومات التي تصل إلى توازن مستقر؛ وتمثل له حالة نواس يتأرجح، ثم لا يلبث أن يتوقف في نقطة.

ب‌.  الجاذب الدوري: يتعلق بالمنظومات التي تكرِّر ذاتها في تأرجُحات دورية. فمثلاً، إذا أضفنا إلى النواس السابق نابضًا لكي يتغلب على قوى الاحتكاك، تصبح للنواس دورة محدودة في فضاء الطور الخاص به. ونقول عندئذٍ إن الجاذب الدوري يرسم سيرورات تكرِّر ذاتها.

ت‌.  الجاذب الطارئ (الغريب): ويتعلق بالمنظومات الشواشية. ويدل اسمُه على أنه يطرأ على المنظومة (بعد أن تدخل في مرحلة التحول الطَّوري) بشكل غير متوقع وغير قابل للتنبؤ به، مما يوحي بأنه غريب عن فضاء الطور الخاص بالمنظومة.

التحول الطَّوري

يحدث التحول الطَّوري للمنظومة عند حافة الشواش. إنه الموضع حيث تتشكل خيارات المنظومة. ثمة اضطراب في الكون على الدوام؛ وقد اعترف العلماء بذلك منذ أبحاث بوانكاريه ولورنتس حول تغيرات المناخ وعلاقة ذلك بالتنبؤ الجوي. وقبلئذٍ كان التعامل مع الاضطراب في التجارب العلمية يتم إما بإهماله، أو بتبسيطه، أو بالتصريح بفشل التجربة. لكن العلماء أثبتوا فيما بعد أن الاضطراب يمكن مواجهته وصياغته رياضيًّا بواسطة المعادلات اللاخطِّية. وبذلك فهو يتصل مباشرة بمسألة الحساسية للشروط الابتدائية، ويمكن وصفه بواسطة الجاذب الطارئ.

قبل التحول الطَّوري تدخل المنظومة في مرحلة الشواش العميق deep chaos. ويحدث هذا التعقيد في المنظومات الطبيعية، والمنظومات البشرية الصنع، وكذلك في البنيات الاجتماعية. وهنا، في الشواش العميق، تدخل المنظومة أعقد حالاتها؛ ويمكن وصف هذه المرحلة بأنها مصنع الممكنات.

عندما تكون الشروط المفروضة على المنظومة قوية إلى درجة كافية (أي أن هناك الكثير من التقلقلات المتعارضة الاتجاهات بحدة) يمكن للمنظومة أن تتكيف مع بيئتها بطرق متعددة ومتباينة. قد تكون هناك حلول متعددة ممكنة؛ ولا يمكن للمصادفة وحدها أن تقرِّر ما هو الحل الذي سيتحقَّق (أي ما هو المسار الفعلي الذي سوف تسلكه المنظومة). ويلعب الجاذب الطارئ دورًا كبيرًا في تحقُّق أحد هذه الحلول. إذن، ليس ثمة اتجاه أو مسار مسبق وحتمي كي تسير عليه المنظومة، بل إن الأمر أشبه بقرار من نمط إما ... أو. ههنا يحدث التحول الطَّوري للمنظومة ويصاغ مستقبلُها اللاحق.

يمكن أن نقارن التحول الطَّوري مع معنى الآن NOW الذي أقلق الفلاسفة والعلماء واللاهوتيين عبر التاريخ. اعتبر كارل بوبر أن الآن يشبه لقطة مفردة من شريط مصوَّر متسلسل – الماضي والمستقبل معروف في السياق الإجمالي للسلسلة. وقد أقلق مفهوم الآن أينشتاين؛ إذ إن الفيزياء كانت تعتبر أن سؤال الآن يخص الإنسان وحده، ولا معنى له في الفيزياء. أما في نظرية التعقيد/الشواش فإن الآن هو حالة التحول الطَّوري، حيث تكون الخيارات جميعًا مفتوحة. يتحدث الفيلسوف بول تِلِخ Paul Tillich ببلاغة عن الإنسان الذي يعيش في الآن الدائم the Eternal Now. وربما كان هذا بالضبط ما نفعله كبشر؛ إذ إن كلَّ لحظة من لحظات حياتنا هي حالة تحول طوري ينقلنا إلى اللحظة التالية. إن خياراتنا تحدِّد، لحظة بلحظة، الحياة التي نعيشها.

التعقيد البيئي

يعيش البشر وسط أزمة. فقد استثمر الناس البيئة كما لو أنها مورد لا ينضب. لكن الضغوط التي يؤثر بها النشاط البشري على البيئة صارت بادية للعيان في كلِّ مكان. إن حماية الغطاء النباتي والحياة الحيوانية واحدٌ من تحديات زماننا الكبرى. إن التلوث وخسران التنوع الحيوي وتدهور المنظومات الإيكولوجية بضعة فحسب من المشكلات البيئية على كوكب الأرض. ويجعل تزايد عدد السكان وتفاقم نزعة التصنيع من الضروري إلقاءَ نظرة فاحصة ومعمَّقة على هذه المشكلات على مدى العقود الزمنية القادمة.

يغيِّر تطبيق تقنية المعلومات على المسائل البيئية كلاً من النظرية والممارسة. وتزوِّدنا فكرة "حَوْسَبَة عالم الطبيعة" بطرق جديدة لفهم التعقيد البيئي في مستوياته كافة، من المستوى الفردي إلى الجغرافيا الحيوية. إن فهم الطرق التي تؤثر بها التفاعلات المحلية على التركيب العالمي وعلى دينامية التجمعات ككل يُعَدُّ أمرًا حاسمًا من أجل نجاح تطبيق استراتيجيات إدارة المنظومات الإيكولوجية، وخصوصًا المواقع الطبيعية التي تخضع للتبدل بفعل النشاط البشري. وتعتمد الإدارة والتخطيط البيئي اعتمادًا متزايدًا على أحدث المعلومات الدقيقة التي تضع القرارات المحلية في سياق عالمي، وتجعل الإنترنت من الممكن تركيب البيانات البيئية التي تَرِد من مصادر مختلفة، وتُبرِز إمكانية إنشاء مستوعِب معلوماتي عالمي يتوزع ويبوِّب على عدد كبير من مواقع الشبكة العالمية.

لم تعد المقاربات والأفكار التقليدية كافية لمواجهة هذا الوضع المتسم بالتغيُّر السريع. فلنقل إن إدارة "حديقة" تتطلب معرفة ما هو ببساطة أكثر مما يحدث ضمن الحديقة. ينبغي، إذن، وضع المسائل المحلية في سياق المنطقة المحيطة، وكذلك في سياق التطورات القومية والعالمية، والتغيرات الكوكبية، والتأثيرات الاقتصادية الاجتماعية، إضافة إلى جملة من المسائل الأخرى.

يمكن للمخطِّطين الذين يتعاملون مع المشكلات البيئية أن يلحظوا انبثاق أنموذج إرشادي paradigm جديد يُكامِل بين الميدان التقليدي لعلم البيئة وبين التكنولوجيا الحديثة، ويقوم بالربط بين البحث العلمي وإدارة المشكلات البيئية والتخطيط لها؛ كما يربط المصادر الهائلة المتنوعة للمعلومات، سواء أتت من بحوث علم البيئة أو من صور الأقمار الصناعية. ويمكن التوسل بمثل هذه المقاربات الجديدة لمواجهة جملة من المشكلات العملية التي تبدأ بالتخطيط لاستعمال الأراضي الزراعية وتصل إلى مسألة الدفيئة العالمية greenhouse effect. وسوف نشرح باختصار طبيعة التعقيد في البيئة التي أدَّت إلى نموِّ الحاجة إلى التعامل مع هذا التعقيد، وبالتالي ظهور ما يسمى "المعلوماتية البيئية" كنموذج جديد في البحوث.

1. مصادر التعقيد البيئي

تُعَدُّ المنظومات الإيكولوجية، اعتبارًا من أبسطها، على درجة عالية من التعقيد. وهذا يعود إلى الكثير من الأسباب، التي يمكن تجميعها وتبويبها كما يلي:

أ. المقياس المكاني: تأتي تأثيرات عديدة على البيئة العالمية من مصادر تقع خارج المحيط الحيوي للأرض. إذ يؤثر القمر والشمس والنيازك والشهب والمجال المغناطيسي في الحياة على الأرض. وحتى لو اقتصرنا على محيطنا الحيوي، سيبدو المقياس المتضمن في البيئة العالمية ضخمًا جدًّا. إن المساحة الكلية لسطح الأرض تفوق 509 مليون كم2؛ وإن مراقبة عامل واحد (درجة حرارة الأرض على سبيل المثال) عبر هذه الأصقاع الفسيحة يُعَدُّ مهمة هائلة. إن المراقبة الكاملة للعوامل البيئية كافة، بل حتى دراسة استهلالية للسطح الكلِّي للأرض، يُعَدُّ مهمة مستحيلة حاليًّا. صحيح أن التكنولوجيا الحديثة يمكنها المساعدة على ذلك، لكنها تولِّد حجومًا هائلة من البيانات التي ينبغي، بطريقة أو بأخرى، تخزينها وتفحصها بدقة، ومن بعدُ تفسيرها.

ب. المقياس الزمني: يحدث الكثير من السيرورات البيئية على مقياس زمني جيولوجي أو تطوري. وتستغرق السيرورات المتوالية أو السيرورات التطورية الميكروية فترات زمنية أطول بكثير من حياة الإنسان (أو من المدة الزمنية المخصَّصة لمشروع بحث إيكولوجي نموذجي التي تتراوح بين 3-10 سنوات). لقد قاد هذا الأمر إلى كثير من الافتراضات غير الدقيقة في علم البيئة، من قبيل استقرار بنيات التجمعات الإيكولوجية.

ج. عدد الكائنات الحية: وصف علماء التصنيف حتى الآن ما يقرب من 1.5 مليون نوع حي. لكن العدد الكلِّي للأنواع الحية غير معروف بدقة، ويقدَّر بأنه يتراوح بين 10 مليون و100 مليون. وإذا بقينا على السرعة البطيئة الحالية فإن الأمر سوف يستغرق على الأقل 300 سنة أخرى من البحث التصنيفي كي يتم توثيق هذه الأنواع كلِّها. لكنْ ليس العدد الصرف للأنواع الحية هو ما يجعل العالم الحي معقدًا، بل التنوع الهائل في طرق ائتلاف هذه الأنواع وتفاعلها وتعايشها.

د. الحَرَجية: أحد مظاهر التعقيد، خصوصًا في المواقع الطبيعية، يتمثل في التحول الطَّوري من التوزعات المترابطة إلى التوزعات المتشظِّية. فمثلاً، عندما نقتطع أجزاء صغيرة من غابة في أحد المواقع الطبيعية فإن الغابة تحافظ على تكاملها؛ ولكنْ إذا استمر قطع الأشجار عشوائيًّا، بدلاً من التوقف عند أجزاء صغيرة فحسب، فإن المنظومة الكلِّية تبقى مترابطة، إلى أن تصل إلى نقطة حرجة تتفكَّك بعدها أو تتحول إلى قطع أو شظايا منعزل بعضها عن بعض. وقد جرى توثيق مثل هذه التحولات الطَّورية المفاجئة في الكثير من المنظومات الطبيعية، من انتشار الأوبئة الممرضة إلى سلوك الحرائق في الغابات.

هـ. التآثرات اللاخطِّية وحلقات التلقيم الراجع: إن إحدى النتائج البالغة الأهمية التي تنجم عن الدراسات الإيكولوجية القطاعية تتمثل في أن العوامل البيئية لا تفسِّر وحدها تفسيرًا تامَّا التوزعات المكانية للكائنات الحية. على سبيل المثال، غالبًا ما يؤدي التنافس بين الأنواع إلى بتر التوزعات على السلَّم البيئي المتدرِّج. وتعني هذه النتائج أن المنظومات الإيكولوجية ليست محكومة بشكل خطِّي مبسَّط بالعوامل الخارجية (غير الحية)، بل بالتآثر بين العوامل الحية وغير الحية ضمن المنظومة.

إن شبكات التآثر بين الأنواع الحية مصدرٌ رئيسيٌّ للتعقيد في المنظومات الإيكولوجية. ويمكن أن تأخذ هذه التآثرات أشكالاً كثيرة، مثل الافتراس أو التنافس. وتكون حلقات التلقيم الراجع شائعة بالضرورة في المنظومات عديدة الأنواع. وفي التجمعات ذات التكاثر الموسمي تميل التأخيرات الناجمة عن التلقيم الراجع إلى إنتاج سلوك دوري؛ ويمكنها أيضًا أن تقود إلى ديناميات شواشية ولاخطِّية.

التعقيد في منظومة إيكولوجية (التعقيد المقيس بمعيار غنى المنظومة بالأنواع الحية مثلاً) لا يقتضي الاستقرار بالضرورة؛ وأحد أسباب ذلك أن أيَّ تجمع عشوائي من الأنواع الحية المتآثرة من المرجح أن يحتوي على حلقة تلقيم راجع موجبة واحدة على الأقل تُفقِد المنظومة استقرارها وتقود إلى انقراض واحد أو أكثر من الأنواع الحية ضمنها.

و. التأثير البشري على المنظومات الطبيعية: تميل التأثيرات البشرية على المنظومات الإيكولوجية إلى إحداث اضطرابات (تشوشات) تمزِّق أيَّ أثر ضئيل للتوازن. ويُعَدُّ قطع أشجار الغابات وإقحام أنواع حية دخيلة على منظومة ما مثالين على الآثار البعيدة لمثل هذه الاضطرابات. وفي كثير من الأحيان، تكون التأثيرات تأثيرات جانبية غير مقصودة. وتتضمن الأمثلة عن هذا النوع الحرائق الهائلة، وانتشار الأوبئة، والتلوث، والتصحُّر، وتملُّح الأراضي الزراعية. وفي كلِّ حالة من هذه الحالات تُجبِر الاضطراباتُ المنظوماتِ الإيكولوجية على الابتعاد عن حالة التوازن، ويمكن أن تقود إلى انقراض محلِّي للأنواع أو إلى تغيرات مفاجئة غير متوقعة من نمط آخر.

وبالإضافة إلى جعل المنظومات الإيكولوجية أكثر تعقيدًا (أو أكثر صعوبة في إدارتها)، يؤثر البشر على إدارة المنظومات الإيكولوجية بتوجُّههم نحو أهداف وبرامج تتطلب قرارات بيئية مؤسَّسة على ما هو أكثر من مجرد المعرفة الإيكولوجية النظرية. وقد قاد هذا الأمر إلى التزايد السريع الحالي في الاستفادة من نماذج دعم القرار.

2. بعض دروس التعقيد

على الرغم من أن نظرية التعقيد ما تزال في أوائل عهدها، إلا أنها تحمل دروسًا هامة ينبغي على الباحثين في حقل إدارة البيئة معرفتها. وهي، في نهاية المطاف، تلقي الضوء على الحاجة إلى طرق جديدة في إجراء البحوث في ميدان البيئة. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالنقاط التالية:

أ. يمكن للتآثرات المحلية أن تنتج آثارًا عالمية: لقد خدم المذهب الاختزالي reductionism العلمَ جيدًا. لكن ينبغي، على الرغم من ذلك، أن نعترف بأنه فشل فشلاً ذريعًا في محاولته إدراك السيرورات البيئية. وقد سقنا فيما سبق بضعة أمثلة حول الطرق التي يمكن فيها للتآثرات بين مجموعات مختلفة أن تعطي نتائج غير متوقَّعة. إن إحدى الممارسات الاختزالية الشائعة في علم البيئة تتمثل في دراسة المجموعات دراسة معزولة، دون الرجوع إلى الطرق التي تتآثر فيها مع مجموعات أخرى. وثمة ممارسات اختزالية أخرى تتضمن تفكيك دينامية المستوى الجمعي إلى دراسات فسيولوجية واستجابات أخرى محصورة في مستوى الأفراد.

ثمة مثال واضح عن ذلك في الطريقة التي يؤثر فيها التشتت على دينامية المنظومات الإيكولوجية الكلِّية. إذ تميل الأنواع الحية النادرة إلى تشكيل تجمُّعات تساعدها في الاستمرار في مواجهة منافسين أقوى منها. وتقترح بحوث المحاكاة أن هذه السيرورة تقدم آلية (ميكانيزم) تحفظ التنوع الكبير في الغابات الاستوائية المطيرة. وتؤكد الدراسات الحقلية أن الغابات المطيرة تضم عددًا محدودًا من الأنواع الشائعة وواسعة الانتشار، بينما يكون عدد الأنواع النادرة فيها أكثر؛ وجميع هذه الأنواع النادرة تكون موجودة في تجمُّعات. إن عدم الفهم الكامل لهذه الدينامية سوف يجعل الحفاظ والإدارة والبحث غير فعالة أو غير حصيفة.

ب. قد تكون المنظومات غير قابلة للتنبؤ بها: تُعَدُّ الحساسية للشروط الابتدائية ظاهرة معروفة جيدًا في المنظومات اللاخطِّية؛ وهي إحدى العلامات البارزة للشواش. وهي شائعة جدًّا في الإيكولوجيا، حيث يتصف الكثير من التآثرات باللاخطِّية. لنأخذ، مثلاً، ما يحدث عندما تصل خاصية الترابط في موقع طبيعي إلى الحدِّ الحَرِج. في هذه الشروط يتعرض حجم المساحات الجزئية في الموقع وتركيبها إلى تغيُّر مفرط، بحيث إن حصيلة هذه السيرورة الناجمة عن حدث يقع في إحدى المساحات (حريق أو وباء أو تعدِّيات) تصير غير قابلة للتنبؤ بها. وبشكل مشابه، فإن إقحام نوع حيٍّ دخيل على منظومة إيكولوجية يبدِّل شبكة التآثرات بين الأنواع الحية فيها، وربما يؤدي إلى نشوء حلقة تلقيم راجع موجبة تخرِّب التوازن ضمن المنظومة.

توضح خاصية عدم القدرة على التنبؤ، والحاجة للتغلب عليها، الأهميةَ البالغة لأدوات بحثية من قبيل نماذج المحاكاة التي تسمح لنا بإجراء تجارب افتراضية. ذلك أن التجارب الفعلية في ميدان إدارة البيئة غالبًا ما تكون مستحيلة، إما لأنها تتطلب زمنًا طويلاً جدًّا (متابعة تغيرات غابة استوائية مثلاً)، أو لأنها ستسبب الأذى والضرر (قد يؤدي، مثلاً، إحداثُ حريق جزئي لمعرفة كيفية انتشاره إلى حرق غابة بأكملها). فعلى الرغم من أن التنبؤ الدقيق قد يكون مستحيلاً، إلا أن المحاكاة تجعل من الممكن تفحص طرق التعامل مع عدة بدائل ممكنة.

ج. عدم توازن الطبيعة: انبعثت فكرة توازن الطبيعة (وهي حجر زاوية لدى العديد من المفكرين في الحركة البيئية) من مصادر مختلفة؛ وربما كان من أهمها المدى الزمني الطويل الذي يستغرقه الكثير من السيرورات البيئية، مثل منظومة الغابات. تعيش الأشجار المفردة مئات من السنين؛ ويمكن لسيرورة استبدال تجمع إيكولوجي بتجمع آخر أن يستغرق زمنًا يُقدَّر بآلاف السنين. وإن كون التغير في الغابات يتم ببطء شديد أعطى الانطباع الخاطئ بأنها في حالة توازن دائم.

تستبطن مسلَّمة التوازن العديدَ من الأفكار في الإيكولوجيا النظرية. فعلى سبيل المثال، هناك نظرية في الجغرافيا الحيوية للجُزُر تقترح أن أية جزيرة تحتوي على عدد متوازن من الأنواع التي تعيش بشكل مستدام sustainable. لكن نموَّ الفهم لدينامية المدى الزمني الطويل في المنظومات الإيكولوجية يجعل مسلَّمات التوازن في وضع لا يمكن الدفاع عنه. فقد تراكمت الأدلة حول ديناميات المنظومات الإيكولوجية، مثل دراسة تاريخ المنظومات الإيكولوجية التي تعرضت للدمار، واللااستقرارية على المدى الطويل في تاريخ الحياة النباتية.

د. أثر المصادفات: في أغلب الأحوال، يقود تركيب مجموعات البيانات المختلفة إلى اكتشافات غير متوقَّعة؛ ويحدث ذلك بالمصادفة. وتزداد احتمالات المصادفة تزايدًا كبيرًا مع تزايد عدد مجموعات البيانات المختلفة المتوفرة للبحث. لذلك تُعتبَر الكميات الضخمة من البيانات مصدرًا غنيًّا لتبصُّرات جديدة حول السيرورات البيئية.

التعقيد الاجتماعي والمتلازمة الاضطرابية

ثمة في نظرية التعقيد/الشواش ما يسمى بـ"المتلازمة الاضطرابية" diversity syndrome. وتعني المتلازمة (خصوصًا في علم الطب) أن مجموعة من الأعراض المرضية يتزامن بعضها مع بعض في حالة مرضية معينة. وفي دراسة المنظومات الاجتماعية، تدلُّ متلازمة الاضطراب على أن مجموعة من الشروط أو الظواهر تتضافر وتترافق، وما تلبث أن تظهر للعيان، مؤدية إلى حَرْف المنظومة عن حالة الاستقرار السائدة ودفعها نحو سلوك غير قابل للتوقع أو التنبؤ الدقيق. ويبدو سلوك المنظومة، للوهلة الأولى، شاذًّا أو مواربًا؛ لكن نظرة مدققة وإعادة تمحيص سوف تُظهِره مفسًّرًا تمامًا، بشرط أن نستخدم طرائق جديدة في التفكير.

تخضع المفاهيم والآراء والأحكام والتوقعات البشرية لتغيرات وتطورات عميقة في سياق السيرورة الدينامية للتعقيد الاجتماعي. ويبدو هذا التعقيد ملغَّزًا وشواشيًّا بامتياز. إنه ملغَّز لأن مجموعة من القوى والاتجاهات المتناقضة والمتعارضة، غير المنظورة في كثير من الأحيان، تعمل سوية، وفي الوقت نفسه، بحيث إن أية محاولة لحلِّ خيوط هذه التشابكات قد تخلق سيرورات دائرية من شأنها أن تشلَّ الأفعال الفردية والجماعية. إن تدبُّر التعقيد الاجتماعي يعني تدبرًا للطابع الملغَّز الملازم له ولما ينجم عنه من تأثيرات، وبالتالي لتفادي خطر العجز عن مواجهته.

يبدو التعقيد الاجتماعي شواشيًّا أيضًا، بمعنى أن تجمُّع التقلقلات وحالات عدم الاستقرار في السيرورات الاجتماعية هو ظاهرة تنمو داخليًّا وتتواصل بعناد، حتى في غياب الصدمات المفاجئة. ويعتمد ظهور السلوك الشواشي على كلٍّ من الشروط الابتدائية التي تنشأ وتتطور فيها ديناميةُ السيرورة الاجتماعية، وكذلك على القيم الحرجة للمتغيرات الفاعلة في تطور هذه السيرورة.

يتضافر الطابع الملغَّز والشواشي للسلوك الاجتماعي ويتجلَّى في المتلازمة الاضطرابية التي تحكم حالة المنظومة الاجتماعية في أثناء التغيرات التي تخضع لها. (والمنظومة قد تكون مجتمعًا ما أو عدة مجتمعات ذات سمات مشتركة أو منظومات صغرى، كالأسرة أو القرية إلخ.) وتشير المتلازمة الاضطرابية إلى الخلخلة في النسيج الاجتماعي للمنظومة، وتعمل كسبب أيضًا لها. وينتهي الأمر إما إلى تلاشي المنظومة أو إلى إعادة تنظيم لها تقود إلى مستوى جديد من التعقيد.

تصف المتلازمة الاضطرابية الحالة الحرجة التي تصل إليها المنظومة الاجتماعية. وترى نظرية الحَرَجية المنتظمة ذاتيًّا أن المنظومات الدينامية النشيطة (ومنها المنظومات الاجتماعية) تندفع مع الزمن إلى حالة حرجة تترافق بانهيارات من كافة المقاييس والأحجام. هذا وتُعَدُّ الحَرَجية حالة جاذبة للدينامية، إذ تسحب المنظومة، وتدفعها دفعًا يتعذر اجتنابه، نحو حالة حرجة تحت طيف واسع من الشروط الابتدائية القادرة على فعل ذلك. كانت دراسات التوازن (الدراسات الخطِّية) ترى أن الحَرَجية حالة استثنائية، بينما ترى نظريات اللاتوازن (النظريات اللاخطِّية) أن الحَرَجية هي الحالة النموذجية للوجود المادي والاجتماعي وللتغيرات التي تطرأ عليهما.

للوهلة الأولى، يبدو تيار الأحداث الاجتماعية اليومية تيارًا خطيًّا، حيث المنظومات الاجتماعية الكثيرة، بكلِّ ما يتجسَّد فيها من أفكار وسياسات وفعاليات، تمضي قدمًا، متَّبِعة، في أغلب الأحيان، مسارات متوازية. ويمكننا، مجازًا، أن نشبِّه تيار الحياة الاجتماعية بالنهر، حيث توجد طبقات متنوعة من المياه، المختلفة في لزوجتها ودرجة حرارتها ولونها وطعمها إلخ، تتدفق سوية، وهي تبدو ككتلة واحدة متماسكة، مع أنها في الحقيقة تجري جريانًا منفصلاً نسبيًّا. تتعرض المسارات الاجتماعية المتوازية للفوضى والاضطراب بشكل دوري، سواء عبر التدخل البشري المقصود أو عبر انبثاق غير متوقَّع لقوى وعوامل شواشية. يمكن أن ننظر إلى هذا الأمر كتجلٍّ اجتماعي للمتلازمة الاضطرابية. وعندما يحدث الاضطراب تصير الحالة المستقرة لتيار الأحداث الخطِّي واقعة تحت تأثير "دوَّامات" الخلخلة الاجتماعية، ويمكن وصفها مجازًا بأنها "جريان بعكس التيار" أو دوامات في مجرى النهر. إنها القوى التي تجذب وتمزج خيوط الأفكار والأحداث والتوازنات في المنظومة الاجتماعية في لحظة التحول من طور إلى طور آخر. وتمثل هذه "الدوامات" المواضع التي تنبع منها التغيرات الاجتماعية الرئيسية المدفوعة نحو اتجاهات جديدة غير قابلة للتنبؤ بها من حيث قوتها أو عواقبها. إنها، بعبارة أخرى، منابع كلِّ ما هو جديد.

يمكن أن نرى أثر متلازمة الاضطراب في أحداث بارزة، من قبيل تفكُّك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية الملحقة به. إذ على الرغم من وجود توازن واستقرار اجتماعي، إلا أن تشعبات واتجاهات متعارضة لم تلبث أن ظهرت؛ وقد بدت طفيفة في بداية الأمر، ثم تضخمت وتسارعت بتأثير الشروط الداخلية والخارجية، ودخلت المنظومة الشيوعية في مرحلة أزمة عميقة (تحول طوري أو شواش عميق)، دون أن تستطيع إعادة تنظيم ذاتها، مما أدى إلى تلاشيها وبروز تنظيم جديد ذي مستوى أكثر تعقيدًا. لقد ترافق تفكُّك المنظومة مع انهيارات من مقاييس وأحجام مختلفة، فحدث على الصعيد الداخلي نموٌّ حَرِج في البنيات الاقتصادية–الاجتماعية الشبيهة بالمافيا، كما انقلبت رأسًا على عقب حياة الأفراد والأسر ومصائرها. وعلى الصعيد الخارجي، حدثت عدة حروب ملحقة، مثل الحرب في الشيشان والبوسنة، وكذلك حرب الخليج الثانية.

قد لا تكون المجتمعات الغربية بمنأى عن تجلِّي المتلازمة الاضطرابية؛ إذ تبدي هذه المجتمعات إشارات متزايدة إلى أزمة وشيكة على المدى المتوسط، بدأت تظهر في المستويات السياسية والاقتصادية والبيئية. ويمكننا أن نرصد من هذه العلامات: الإهمال المتزايد للدعم البنيوي في مجالات التربية والصحة والبنيات التحتية، ونمو الاختلالات الوظيفية في البنية التنافسية الشديدة لنمط الاقتصاد وأسلوب الحياة في هذه المجتمعات، وصعود اليمين المتطرف إلى الحياة السياسية، وكذلك العامل المتمثل في الأضرار البيئية غير العكوسة التي ينتجها نمط الحياة والتنظيم في الحضارة الحديثة، مما أدى إلى استقطاب جماعات متزايدة إلى صفِّ المعارضة واليأس من الحلول المطروحة. ويعتقد العديد من المفكرين حاليًّا أن أزمةً تشقُّ طريقها في هذه المجتمعات لأن مستوى التداخل والتعقيدات والتباينات وتسارع التغيرات يتطلب طريقة أخرى، مختلفة جذريًّا، في إنجاز الأشياء والأهداف وبنيات تنظيمية وأنماطًا جديدة من العلاقات.

يبدو أثر المتلازمة الاضطرابية حاسمًا في تحديد مصائر بعض الأفراد الذين يطلقون التغيرات الاجتماعية القوية أو يثيرونها. فعندما يقدِّم هؤلاء أفكارًا أو أفعالاً "مخلخِلة" فهُم قد لا يتوقعون، أو لا يفهمون، أو لا يستطيعون ضبط الاضطراب الكسراني fractal (غير السَّلِس) الناجم عن ذلك. لذا فقد يصبح هؤلاء ضحايا القوى غير الحصيفة التي يخلقونها. قد يفقد بعضهم رؤوسهم على المقصلة، كما حصل مع روبسبيير؛ أو يحصلون على 5% من الأصوات ويُعزَلون من الحياة الاجتماعية، كما حصل مع ميخائيل غورباتشوف. ويمكن أن نقول مجازًا إن مياه الدوامات التي يتسببون في إحداثها تُغرِقُهم، أو إنهم يختنقون تحت انهيارات الحالة الحرجة التي يطلقونها. وهذا ما يسمى "ظاهرة غورباتشوف" لأن غورباتشوف، أكثر من أي شخص في التاريخ المعاصر، تتجسَّد في حالته الأوصاف التي سبق ذكرُها.

*** *** ***

المراجع

-         Campbell, A.B., Applied Chaos Theory: A Paradigm for Complexity, Academic Press Inc., San Diego, CA, 1993.

-         David, G., Complexity International, Vol. 6, 1998.

-         Dimitrov, Vladimir, Robert Woog & Lesley Kuhn-White, Complexity International, Vol. 3, 1995.

-         Kauffman, Stuart A., The Origins of Order: Self-organization and Selection in Evolution, Oxford University Press, New York, 1993.

-         Laszlo, Erwin, The Age of Bifurcation: Understanding the Changing World, Philadelphia, Pa., Gordon and Breach Science Publishers, 1991.

-         Li, T.Y. and Yorke, J.A, “Period Three Implies Chaos,” in American Mathematical Monthly, Vol. 8, 1975.

-         Stein, Daniel L. (ed.), Lectures in the Sciences of Complexity, Vol. 1, Redwood City, CA, Addison-Wesley Publishing Co., 1989.

-         Wilson, E.O., The Diversity of Life, Penguin, New York, 1992.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود