اللدودان

 

عطية مسُّوح

 

مع شروق الشمس كان يخطو خطواته الواسعة، التي تشبه القفزات، عابرًا الساقية الفاصلة بين أرضه وأرض سلطان. كل صباح يمر من هذه النقطة، موفِّرًا أكثر من عشرين خطوة من الطريق إلى أرضه، ومتجنبًا، في الوقت ذاته، الوطء في أرض جاره:

"أرض خبيثة لرجَّال خبيث، الله يلعن ها الجيرة!"

يقولها في نفسه كلما وصل إلى هذا المكان، مفتتحًا بها نهار عمله المضني.

بعد الساقية بخطوات قليلة تقف شجرة الزيتون الأولى شامخة راسخة، شبه منفردة، كأنها حارسٌ أو بوابٌ لهذا البستان، تفصلها عن صفوف أشجار الزيتون مسافةٌ تزيد عن الثلاثين مترًا.

يصل إلى هذه الشجرة–الحارس، وتحت أغصانها يلقي بحمله: الفأس والمجرفة وصرَّة الطعام. وعلى حجر بمساحة مؤخرته، ركَّزه بيديه إلى جانب جذع الزيتونة منذ سنين، يجلس ساندًا ظهره إلى ذلك الجذع، مرتاحًا إلى حنانه.

أصبح وصولُه إلى الأرض قبل سلطان عادةً يحرص عليها. وحين يحدث أن يراه أمامه على الدرب – وهذه مصادفات نادرة! – يتباطأ، ويتوقف أكثر من مرة، كي تطول المسافة بينهما:

"بعِّدْ عن الشَّرْ وغني لو."

فمنذ أن قطع حبل الكلام مع هذا الـ"سلْطُون" – أي قبل خمس سنوات، بعد مشاجرة في ساحة القرية – صار يكره أن تقع عيناه على عيني جاره. وقد أتقَنَ مع الزمن حيلَ التجنُّب والتجاهل.

ولم يكن سلطان أقل منه حرصًا. فتجنُّبُ الشر بين صاحبَي أرضين متجاورتين أشبه بالاتفاق الضِّمني، ولا بدَّ منه لاستمرار حياة كلٍّ منهما على النحو المألوف.

تُنْعشه هذه النسمات الصيفية الصباحية الباردة، وينعشه أيضًا – كما في بداية كلِّ نهار – وصولُه قبل جاره:

"كسلان ابن كسلان... بتطلع الشمس وهو عم يشخر تحت اللحاف."

عندما تأهب للوقوف أحسَّ بوصول سلطان، وأحسَّ أيضًا بالنار تتأجج في داخله، وبالسكين تحزُّ في صدره:

"يا ترى انكتبِتْ عليِّ هايْ الجيرة للأبد؟!"

ما أسعده لو كانت هذه الأرض كلها له! لا يفكِّر هكذا عن طمع، وإنما كرهًا بهذا الجوار المقيت.

"الله يرحم ترابك يا بيي، ما عرفت تبيع الأرض إلا لهادا البُشتْ!"

كانت أرض سلطان ملكًا لهم، امتدادًا لأرضهم، لكن أباه باعها ليُزوِّجه:

"عرس مْطَنْطَنْ... وغرفةْ حجر وشمينتو."

وهزَّ رأسه بأسف:

"هِهْ... يا ريت سكَّنْتني بقنّْ الجاج ولا جاورت سلطون... الله يرحم ترابك يا بيي، هايْ غلطتك الوحيدة."

وابتسم، وكاد أن يقهقه. فهناك غلطة أخرى لأبيه ظلتْ على لسان أهل القرية يتناقلونها عدة سنوات، ولازالت تُذكَر بين الحين والآخر. فلقد رآه بعضهم – بأمِّ العين – يركض وراء "عجبة"، ويمسك بها ويشدُّها، ويقبِّلها. كانت بنت عشرين، تأخر "نصيبُها" لأنها ليست جميلة، غامقة ومعضَّمة. وكاد والده – بفعلته تلك – أن يقضي على كلِّ أمل لها بالزواج – لولا أن أرسل الله أعمى قلب من قرية أخرى.

وضحك...

"الله يرحم ترابك يا بيي، خلِّيت ولاد الحرام يشوفوك ويفضحوك ويشعلوا النار بينك وبين أهل المستورة... لو نزَّلْتها لتحت الحفِّة، بين العريشات والعلِّيق... وبُوْس لتشبع."

وعادت النار تتأجج، والسكين تحزُّ، متذكرًا ما قاله سلطان – في غيابه – منذ أشهر:

-       الكلب ما بخلِّف غير كلب... ورث الرزالة عن أبوه.

سلطان يتجنَّب مواجهته، ولكنه ذو لسان طويل، يتناوله في غيابه، ويتناول أهل بيته – وبخاصة زوجته – بأبشع الكلام:

-       قالْ شرفو... قالْ!

واشتدَّت النيران في داخله، وانغرست السكين أعمق فأعمق:

-       فيها شرف بكفي كل عيلتك يا ابن الكلب!

وقف، والتفت إلى خلف. كان سلطان قد رمى ما يحمله تحت شجرة قريبة، واسترخى ناظرًا إليه.

"اتركه يا ولد... لا توسِّخ إيدك فيه."

وسار نحو صفوف الزيتون.

قبل أن ينتصف النهار اتَّجه صوب الزيتونة المنفردة. فكَّ صرَّة طعامه، ونظر إلى سلطان، الذي كان مثله قد تعب من حفر الأرض حول جذوع الزيتون، فاستلقى تحت شجرة، باسطًا يديه إلى وراء.

"يخربْ بيتك مثل الدودة، الله يلعنك."

وجلس على الحجر. ولم يكد ظهره أن يلامس جذع الزيتونة حتى نهض. النار تكوي أضلاعه والسكين تغوص في رئتيه:

"يمكن نام سلطون أفندي؟"

مشى بسرعة إلى حافة أرضه الشمالية المتاخمة للطريق، ومن بين أعواد العلَّيقة الكثيفة سحب عصًا كانت في العام الماضي غصن زيتون أخضر.

"خبيتِك لمتل ها اليوم."

وسار بحذر إلى حيث يستلقي سلطان.

لم يكن لدى سلطان متَّسع من الوقت كي يتوجَّس أو يندهش. حاول النهوض، لكن العصا لقيتْه قبل أن يتمكن من ذلك، فظل قاعدًا يتلقى.

-       خود يا ابن الكلب...

لم يحاول أيُّ منهما أن يعدَّ كم مرة هوت العصا على كتفَي سلطان وذراعيه وجنبيه... واستلقى سلطان مستسلمًا، بينما انكفأ هو عائدًا إلى زيتونته الغالية، الراسخة، المريحة.

رمى عصاه جانبًا، وألقى مؤخرته على الحجر المُفصَّل على قدِّها، وأسند ظهره:

"صار مثل القملة المفروكة. يمكن تأدَّب."

وأغمض عينيه:

"هيك جار بدُّو هيك معاملة."

لم يعرف كم مضى من الوقت، قبل أن يفتح عينيه على هيكل بشري حَجَبَ عنه القسم الأكبر من مساحة الرؤيا. إنه سلطان، بتكشيرته الوحشية، وعينيه الناريتين، ومنجله المرفوع في يمينه...

-       إجا دورك يا ابن العرص!

وانغرس لسان المنجل المعقوف في الذراعين، شاقًّا الثياب، مفجِّرًا الدم، متجنبًا الأماكن القاتلة.

عاد سلطان إلى مكانه، تاركًا الرجل مذعورًا من دمائه المنسابة.

-       تعا يا ابن الكلب، صفَّى دمِّي ورايح موت.

سمع سلطان الشتيمة، فانتفض، واندفع ثانية إلى الجار المدمَّى، حاملاً شماخه المنقَّط بالأحمر. ركع إلى جانبه، وبأسنانه ويديه شقَّ الشماخ، وأخذ يلفُّ قطعه حول الجروح النازفة، ويربطها بقوة، وهو يقول:

-       ما كانت لازمتْلك هالعلقة، يا ابن العرص؟!

وبصوت منهك ردَّ عليه جارُه:

-       دبحتني يا ابن الكلب... المنجل غير العصا!

كانا منشغلين بآلامهما، فلم ينتبها إلى فلاح في أرض متاخمة للطريق أدهشَه رأسان متقاربان، وذراع مستلقية على كتف، وجسدان متلاصقان، وحجارة الطريق تتدحرج تحت أربعة أقدام، تتجه إلى القرية بتثاقل... بتثاقل.

حمص، نيسان 1991

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود