الفرد والتاريخ:

تجسيد للحرية والحق*

الفكر السياسي مدعو لإعادة التفكير في الفرد

 

عبد العزيز بومسهولي**

 

إن سؤال الفرد يظل جوهريًّا بنظر الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر. ولعل استعادة التفكير في الفرد محاولة لفهم الإنسان، باعتباره كائنًا يتشكَّل على أساس الوحدة والفرادة أو التميُّز – تلك التي تجعله يمتلك وجودًا مستقلاً على نحوه الخاص، وجودًا يتميز بخصوصية تمنحه هويته المستقلة التي تقف على الحدِّ المتناهي للإنسان.

إن الإنسان، عندما اكتشف أنه كائن محدود متناهٍ، بدأ يدرك أنه ذات لها رغبة، وتمتلك إرادة يتأسَّس عليها الفعل الإنساني. إن هذه الرغبة وتلك الإرادة هما أساس تشكيل القوة تلك التي ينبني عليها ظهور التاريخ.

معنى ذلك أن الإنسان، عندما لم يكن فردًا تتعين من خلاله الرغبة، أي عندما كان مفعولاً objet للشهوة، فإنه لم يكن غير امتداد للطبيعة: فهو تعبير عن حالة الطبيعة مادام لم يمتلك وعيًا بـ"أناه"، أي بفرديته واستقلاله الذاتي عن الطبيعة، ومادامت أفعالُه غير قصدية، تخضع خضوعًا آليًّا للضرورة nécessité التي تفرضها الطبيعةُ على الكائن باعتباره امتدادًا لها، وليس باعتباره كائنًا مستقلاً مسؤولاً عن أفعاله.

ولد الإنسانُ تاريخيًّا في الوقت الذي انفصل فيه عن الطبيعة، واستعاد في لحظة انفصاله فرديته الخاصة. ومن ثم فإن الفرد المنتشَل من عالم الضرورة هو التاريخ. وبهذا المعنى فإن الإنسان، وهو يستعيد فرادته على نحوه الخاص، هو علَّة تأسيسية[1] cause fondatrice. فما معنى "علَّة تأسيسية"؟

إنها تعني أن الإنسان ذاته هو أساس وجوده العيني الذي يتحقق في التاريخ. كما تعني أن جوهر هذه العلَّة التأسيسية هو الحرية. فوجود الإنسان يبدأ في اللحظة التي ينفلت فيها عن عالم الضرورة، مؤسسًا لاستقلال "أناه" عن كلِّ ما هو متخارج عنه. فهو يدرك أنه ذات وأنه غير، أي أنه كيان مستقل لكنه مُغاير، وأن استقلال الكينونة لا يتحصل إلا من خلال الحرية: فهي التي تحقق الانفصال عن الطبيعة، وهي التي تكشف للفرد هويته كذات مستقلة.

إن التاريخ، من خلال هذا المنظور، هو تجلٍّ للفرد وانكشاف لصيرورته التي تتجلَّى في الزمان. وليس الزمان شيئًا آخر سوى الفرد وقد انكشف كخاصية زمانية تعي وجودَها كانفصال وحدٍّ وتناهٍ في الزمان. فالزمان هنا هو بُعد من أبعاد الفرد، وتعيين له مؤسَّس على السلب. والمقصود هنا بـ"التعيين المؤسَّس على السلب" هو أن الفرد لا يتعين إلا كسلب للضرورة، أي كنفي لحتمية الطبيعة التي تُبقي الفرد في دائرة الكمون، وكسلب للامتداد. فتعيُّن الفرد يتحدَّد كانفصال، كذات من أجل الذات. فالفرد، وقد تعيَّن على أساس السلب، أضحى متخارجًا عن الشيء: إنه الآن هو مَن يقف على حدِّه، مدركًا وجودَه كنوع مؤسَّس على فرادته الخاصة وعلى نمط وجوده الخاص الذي لا يرتهن سوى لحريته.

وهذا الارتهان للحرية، باعتباره تعبيرًا عن إرادة، يكشف للفرد بُعده المنفصل المتمثل في الأنا. وفي اللحظة التي يعي فيها الفرد أنه أنا مستقلة ego، فإنه يتحدد ككلام؛ إنه يعيِّن أناه الفردية بواسطة الكلام المنطوق، كما يعبِّر عن كيفية وجوده الخاص ونمط تفكيره. انطلاقًا من ذلك، يعيِّن الإنسان وجوده في الأنا المتكلِّم: فعندما استطاع أن ينطق، فقال "أنا" – وهو بذلك جعل من نفسه مزدوجًا، فأصبح كونيًّا ومن أجل الكوني – فهذه الأنا، على ما يقول هيغل، هي أنا نفسي: أعني شخصًا معينًا مفردًا. ومع ذلك، فـ"أنا" لا أنطق بشيء خاص بي أنا وحدي؛ وإنما كلُّ إنسان آخر هو "أنا" أو هو "ذات" soi. وحين أطلق على نفسي لفظة "أنا" فإنني أعبِّر بذلك عن كلِّي تام وكامل، على الرغم من أنني أقصد يقينًا شخصيًّا جزئيًّا هو ذاتي. ومن ثم كانت الأنا هي الوجود للذات.[2] فهل معنى ذلك أن الفرد، بما أنه مؤسَّس على الكلام، يغدو كونيًّا؟

إن استقلال الفرد ووعيه، بواسطة الكلام، أنه "أنا" وأن وجوده هو من أجل الذات، جعل منه بوابة نحو الكوني. فإنه يضع فرديته كتأسيس للكونية؛ بمعنى أن إرادته وحريته تغدوان مشروطتين بحرية الغير وبالتشريع الذي يتحدَّد وفق مبدأ الوجود بالمعية، أي الوجود المؤسَّس على الاعتراف المتبادل بين الأفراد الذين يؤسِّسون المجتمع المدني.

إن تأسيس الكونية هو نتاج لاستقلالية الفرد الذي يرتهن للحرية، من حيث هي شرط وجوديٌّ للأنا والآخر معًا. وإذا كانت الكونية قاعدة شرطية للمساواة فإنها لا تعني غياب الخاصية الفردية، التي تجعل الفرد يعيش وفق كيفيته الخاصة، في ذات الوقت الذي تجعل منه اختلافًا، وأساسًا للمفاضلة والتفاوت. إن الكونية، بهذا المعنى، تجعل الحقَّ كليًّا، يتساوى على قاعدته جميع الأفراد؛ لكنها، من ناحية أخرى، فساحة الوجود الذي يمنح الأفراد حق التميُّز بعضهم عن بعض وفق قدراتهم الخاصة وميولهم ورغباتهم، أي وفق قدراتهم الخلاقة التي تضفي على الوجود بالمعية، القائم على المساواة والاعتراف، قيمة المفاضلة والتفاوت الخلاق أو التمايز المبدع.

وهذا يعني أن الفرد، باعتباره كينونة مستقلة، قائم على مبدأ التمايز – ذلك الذي سبق للايبنتس أن عبَّر عنه في المونادولوجيا، حيث ذهب إلى أنه لا يوجد مطلقًا في الطبيعة كائنان متشابهان تمام التشابه، حيث يستحيل عدم وجود فرق داخلي أو فرق قائم على الصفات الداخلية.[3] وقد سبق لنقولا الكوزاني أن عبَّر عن ذلك بقوله: "يستحيل وجود عدة كائنات متشابهة تمامًا. فلو كان الأمر كذلك لما كانت هذه الكائنات عديدة، بل كائن واحد مساوٍ لذاته."[4]

إن الجواهر البسيطة ذاتها أو "المونادات" Monades تحوز بعض الصفات التي تحدِّدها ككائنات؛ وإن لم تتميز الجواهر البسيطة بصفاتها فلن نستطيع إدراك أيِّ تمايُز أو اختلاف بين الأشياء.[5] ومعنى ذلك أن الكائن يتحدَّد انطلاقًا من صفاته وخاصياته. وكذلك الشأن بالنسبة للفرد: فهو ليس كائنًا سوى في الوقت الذي غدت فيه صفاتُه مؤسِّسة لتاريخه الخاص. وفق هذا المنظور، نخلص إلى أن الفرد هو أساس الإنسان؛ وليس الإنسان سوى علَّة تأسيسية يرتكز عليها وجودُه الفردي الذي يرتهن لحريته المخصوصة كانفساح للقدرة والقوة، كما يرتهن للحرية المقدَّرة، أي الحرية الكونية التي هي قدرة المصير الإنساني وغايته التاريخية. فالحرية المخصوصة تسمح بأن يكون الفرد هو ذاته وفق المبدأ الأخلاقي المحايث immanent؛ أما الحرية الكونية فهي شرط إمكان أونطولوجي للوجود بالمعية، أي للوجود المشارك وفق مبدأ التعالي transcendance.

ومن ثم تقترن هذه الحرية الكونية بأفق غائي يحتم على الإنسانية الارتباط به، باعتباره قَدَرًا وحتمية تقتضيها الحرية ذاتها، باعتبارها لحظة انفلات من الطبيعة. وليست الطبيعة، في نظر هيغل، سوى نقطة البداية التي على الإنسان أن يغيِّر شكلها. فهذه اللحظة التي تخلَّى فيها الإنسان عن طريق الوجود الطبيعي المحض هي التي وضعت التفرقة بينه كفاعل sujet واعٍ لذاته وبين عالم الطبيعة.[6]

بهذا المعنى فالإنسان علَّة تأسيسية لفرديته ولتاريخه الكوني. هذا التاريخ الذي يُعَدُّ، من وجهة نظر هيغل، مسارًا تكافح فيه الروح لكي تصل إلى وعيها بذاتها – أعني أن تكون حرة. ومن هنا فهو ليس إلا تقدم الوعي في الحرية والمراحل التي يتخذها هذا الوعي في تفتُّحه وتطويره لنفسه.[7]

إن الفرد الذي يتحمل مسؤولية وجوده الإنساني هو كائن تاريخي. وليست تاريخيَّته سوى ذلك التعيين الأونطولوجي للحياة الإنسانية، باعتبارها حياة دينامية تستجمع في قوتها الفعالة نمطَي الخاصيتين الفردية والكونية. بمعنى أن التاريخ هنا هو من أجل الفرد، باعتباره البدء والاستئناف أيضًا. وهو كذلك تاريخ كوني؛ فهو، إذ يُعلي من بروز الحرية كبُعد للفرد يرتكز عليه وجودُه، فإنه، في الآن ذاته، يسمح بانكشاف هذه الحرية كبُعد شمولي ينسحب على الوجود الإنساني في العالم. فالتاريخ، من هذا المنظور، تجسيد للحقِّ في العالم؛ إنه تجلٍّ لمجموعة من المبادئ التي انتقلت من مجال الفرد، أي من مجال الإرادة الفردية، إلى مجال الإرادة الكونية.

والتداخل ما بين الفردي والكوني يقوم على أساس المسؤولية. فالأفراد، باعتبارهم أحرارًا، مسؤولون عن الحقِّ الكوني؛ وهم مسؤولون عن إبرازه وصيانته وتطويره وتحقيقه فيما يتعلق بشؤون حياتهم الخاصة والعامة. والشخصية المعنوية، المتمثلة في الدول وهيئة الأمم المتحدة، مسؤولة بدورها عن احترام الحقِّ الكوني، باعتباره ضامنًا لحرية الفرد ولحقِّه في أن يمارس فعاليته الخصوصية وفق مبادئ الحقِّ الكوني؛ كما أنها مسؤولة عن ضمان احترام المجموعة الكونية لهذا الحق.

إن هذا الأفق التاريخي للفرد الإنساني يجعل الدولة القطرية منخرطة بقوة وفعالية في المجموعة الكونية؛ بل إن قوتها التاريخية لا تظهر إلا بقدر ما تتيحه للأفراد من حرية يعبِّرون من خلالها عن قدراتهم في الإبداع الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي. بمعنى أن الدولة هنا قوة دافعة للأفراد باعتبارهم مواطنين وليسوا "رعايا". فليست الغاية العليا للدولة هي حماية الحقوق الخاصة للأفراد، ولكنها السماح بفضاء يحفِّز الحريات الخاصة على العطاء في حقل النشاط الفعال، بدون إلحاق الضرر بالواجب الأسمى للأمن الداخلي والخارجي: هذا الفضاء هو ما يتعلق بالحياة الاقتصادية وبالتسيير الذاتي والإداري للتجمعات المنضوية تحت الدولة (الطبقات، المدن، المجالس). وعبر هذا المناخ من الثقة فإن الدولة تستغل لبراليتها، ويغدو ما هو أساسي في نظرها متعلقًا بالنشاط الحرِّ للمواطنين الواعين لذواتهم.[8] بهذا المعنى ليست الدولة هي القوة فقط، ولكنها مجال لتفتح الفرد. إنها التحقيق الفعلي للحرية الحق، التي ليست مجرد حرية صورية منفصلة، ولكنها حرية عينية، تتوحد بالكائن بهذا الارتباط الحيِّ بين الدولة والفرد.

تفقد الدولة تخارُجها وموضوعيتها الخالصة (الإكراه)؛ بينما الفرد يفقد تداخليَّته وذاتيَّته الخالصة، اللاواقعية. وبالتأكيد فإن الدولة قوة؛ لكن الدولة المثالية هي تلك التي تغدو فيها هذه القوة الضرورية بعيدة عن أن تكون إكراهًا مسلَّطًا على الفرد. هذه الدولة يحس فيها المواطن أنه في "موطنه" الخاص.[9] إن هذه الدولة تجعل من الحقِّ والقانون وسيلة لخدمة الفرد وإدماجه في الحياة العامة الغنية بعطاءاتها.

وبعد، فإن الفكر السياسي بالمغرب مدعوٌّ لإعادة التفكير في الفرد، باعتباره أساس المواطَنة الحق، من جهة أولى، وباعتباره نواة للمجتمع المدني، من جهة ثانية، وباعتباره منفتحًا على الكونية.

إنه، بكلِّ دقة، علَّة تأسيسية.

*** *** ***


* نص المداخلة التي افتتح بها مركزُ الأبحاث الفلسفية نشاطَه الفكري من مدينة آسفي، بالتنسيق مع اتحاد كتاب المغرب، فرع آسفي.

** ناقد من تونس.

[1] مفهوم خاص بالكاتب وعبد الصمد الكباص.

[2] هيغل، موسوعة العلوم الفلسفية، ص 100.

[3] لايبنتس، المونادولوجيا، ص 31.

[4] المصدر نفسه، ص 31.

[5] المصدر نفسه، ص 30.

[6] هيغل، الموسوعة، ص 115.

[7] هيغل، العقل في التاريخ، ص 130.

[8] برنار بوجوا، الفكر السياسي عند هيغل، ص 76.

[9] المصدر نفسه، ص 77.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود