في نظرية الثقافة وتعريفها

 

معن النُّقَّري

 

من المعتقَد أن أول باحث حاول التأسيس منظوميًّا لنظرية عامة للثقافة هو عالِم الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكي المشهور لِسْلي وايت Lesley White (19001975)، مسمِّيًا نظريتَه هذه "علْم الثقافة"، لتأخذ دلالاتٍ منظومية وعلمية أرصن وأدق بالمقارنة مع معاني هذه الكلمة التي استُعمِلَتْ اصطلاحيًّا منذ بدايات القرن التاسع عشر. وازدادت شعبية وايت في الولايات المتحدة الأمريكية بشدة في خمسينات وستينات القرن العشرين مع انْبعاث وجهة النظر التطوُّرية في الأنثروبولوجيا الأمريكية؛ إذ إنه كان المُدافع الوحيد عن النظرية التطورية في علم الثقافة الأمريكي، وفي الأنثروبولوجيا ذاتِها، التي غلبت عليها سِماتُ المثالية والنِّسْبوية relativism الأمريكية ومواصفاتها، في حين استخدم وايت حينئذٍ لدراسة الثقافة المُقارَبة "الحتمية–التكنولوجية" ذات الآفاق الأرحب، ساعيًا إلى تأسيس طابع موضوعي للمعارف حول الثقافة.

وقد حملت كتُب ل. وايت عناوين مثل: علم الثقافة[1]، نيويورك، 1949؛ ومقالات في علم الثقافة، نيويورك، 1960؛ و"علم الثقافة" بصيغة إنكليزية أخرى Culturology في موسوعة العلوم الاجتماعية، 1968. كما استخدم وايت في عناوين كتبِه أيضًا تعبير مفهوم المنظومات الثقافية[2]، نيويورك، 1975. وهو تعبير سَبَقَ أن استخدمه كروبر وبارْسونْز في سياق الحديث عن "مفهوم الثقافة والمنظومة الاجتماعية" (دوْرِية علم الاجتماع الأمريكية، 1958) بالصيغة القريبة التالية: The Concept of Culture.

وثمة آخرون تحدثوا عن "نظرية الثقافة" على طريقتهم، مثل د. كابْلان ور. مانِّيرْز في كتابهما بهذا العنوان[3]، نيوجرسي، 1972؛ وكذلك لدى إي. فيرْميرْشْ في كتاب حول تحليل نظرية الثقافة: نظرية الثقافة ودينامياتها، 1977؛ هذا إضافة إلى كتاب سابق ألَّفه أ. كروبر وس. كْلوتْشون منذ العام 1952 ونُشِر في كمبردج بعنوان الثقافة: مراجعة انتقادية لمفاهيمها[4] وتعريفاتها. وقبل ذلك بما يقرب من العقد زمنيًّا كان ب.أ. مالينوفسكي B.A. Malinowski قد أصدر كتابًا حول النظرية العلمية للثقافة[5] في العام 1944.

من جهة أخرى، ثمة آخرون تحدثوا عن "علم الثقافة" وضروراتِه و"النضال" من أجله، كما فعل م. هارِّيس M. Harris في كتابه المادية الثقافية: النضال من أجل علْم الثقافة، نيويورك، 1979.[6]

وفي الأدبيات والمرجعيات "السوفييتية" والروسية أيضًا كثيرٌ من الكتب والأعمال المختصة بـ"نظرية الثقافة"، ولاسيما أعمال أي.س. مارْكارْيان، مثل ملامح نظرية الثقافة، يِريفان، 1969؛ وكذلك نظرية الثقافة والعلم المعاصر: تحليل منطقي–منهجي، موسكو، دار "الفكر"، 1983. هذا إضافة إلى أعمال "سوفييتية"–روسية مختلفة حول مفهوم التراث الثقافي، والمقارَبة الثقافوية (أو علم الثقافية) لدراسة المجتمع، وتصنيف الثقافة، ومبكِّرًا علم الثقافة (أو المدخل إلى الثقافة) [غ. ريككرْت منذ بدايات القرن العشرين؛ وله أيضًا: علوم الثقافة]؛ وثمة المشكلات الفلسفية للثقافة، والعلم كأحد مظاهر الثقافة، إلخ في الفترة المعاصرة.

إن مفاهيم الثقافة وتعريفاتها عديدة جدًّا، ولاسيما حين نغرق في التعريفات المولَعة بالتعداد وذكْر عناصر ومكوِّنات الثقافة كمِّيًّا وحسابيًّا. لذا فإننا سنهتم هنا أكثر بالتعريفات والمفاهيم المنهجية والمنظومية، التي تميل إلى التقاط الكيف والنوع في التصنيف، وترسم صورة الوحدة والتركيب والتفاعل والتكامل للثقافة ككل، على الرغم من تعدُّد العناصر والمكوِّنات التي لا يجوز إبقاؤُها مفكَّكةً.

كان وايت من أوائل الذين تناولوا الثقافة منظوميًّا بالتعريف، بمعنى أنها تشكِّل "منظومة" system مقسَّمة إلى مجموعة من "منظومات تحتية" subsystems (أو منظومات دنيا)، قسَّمها كما يلي منذ أواسط القرن العشرين (في كتاب علم الثقافة، نيويورك، 1949):

1.    المنظومة التحتية التكنولوجية؛

2.    المنظومة التحتية الاجتماعية؛

3.    المنظومة التحتية الإيديولوجية؛ و

4.    المنظومة التحتية السلوكية (وهذه الأخيرة أُضيفت إلى منظومة "الثقافة" لاحقًا في أحد أعمال وايت حول تطور الثقافة، نيويورك، 1959).

فماذا عنى وايت بـ"المنظومات التحتية" الثقافية المذكورة آنفًا؟

1.    تتكوَّن المنظومة التحتية التكنولوجية من الأدوات أو التجهيزات المتجسِّمة ماديًّا ومن تقنية استخدامها، التي بفضلها يجري تفاعُل الأفراد والجماعات البشرية مع الوسط الطبيعي (وقد أدخل وايت في هذا الباب: أدوات الإنتاج، وسُبُل المعيشة، ومواد بناء المساكن، ووسائل الهجوم والدفاع).

2.    تتضمن المنظومة التحتية الاجتماعية العلاقات بين الناس، وما يقابلها من أنماط السلوك (وهذا يشمل منظومات القَرابة، والمنظومات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والحربية والمهنية).

3.    المنظومة التحتية الإيديولوجية المكوَّنة من الأفكار والمعتقدات والمعارف، التي يجري التعبير عنها بمساعدة الحديث (الكلام) والأشكال الرمزية الأخرى؛ وهي تضمُّ أيضًا الخرافة والدين والأدب والفلسفة والعلم والحكمة الشعبية.

ولا يعوِّل وايت الأهمية ذاتها على المنظومات التحتية المذكورة، بل يعتبر التكنولوجيا حاسمةً ورئيسةً في تطور الثقافة وقيامها بوظائفها.

في أعمال ماركس المبكِّرة نسبيًّا (المخطوطات الاقتصادية، 1857-1859) تعريف للثقافة بأنها: كل ما ابتدعه (خلَّقه) الإنسان: إنها عالم الإنسان، أو "الطبيعة الثانية". كما قام بعضهم بمحاذاة مفهوم الثقافة مع مقولة النشاط (أو الممارسة). وقد ميَّز م.س. كاغان في خصوص هذه المقولة بين: موضوع، وذات، ونتائج، وأساليب النشاط (أو الممارسة) (كاغان، النشاط البشري، موسكو، 1974). وقد استفادت من ذلك منهجيًّا يي.م. كورجيفا ووظَّفتْه لتعريف الثقافة بحسب هذه المنهجية "النشاطية"، من حيث موضوعاتها وذاتها (ذواتها) الفاعلة ونتائجها، إلخ. وقد أتى هذا التعريف في مقالة لها بعنوان "مهمات دراسة مشكلات الثقافة ومعاييرها"، ص 62-69)، نُشِرَ ضمن مجموعة مقالات من إصدار "معهد الدراسات المنظومية العلمي–البحثي الاتحادي–العام" في موسكو، تحمل الرقم 6 للعام 1979، بعنوان الجوانب السوسيولوجية للنمذجة العولمية (الكوكبية). وهكذا جاء تعريف كورجيفا للثقافة كما يلي: الثقافة هي مجموعة النتائج، بل والأهم من ذلك، مجموعةُ أساليب الممارسة، التي يمكن أن تكون ذواتُها الفاعلة، قبل كلِّ شيء، المجتمع، ثم المجموعات الاجتماعية، ثم الأفراد.

وبهذا تجيب الثقافة عن سؤالين: "ما هي" نتيجة الممارسة؟ و"كيف" تُحصَّل؟ والسؤال الثاني هام، لما فيه من فكرة تُعبِّر عن انتظامية (تنظيمية) الممارسة وبِنائيَّتِها، بحيث تتحول في المحصلة إلى ممارسة منظومية.

ويمكن أن تتميَّز الثقافات – وهي تتميز فعلاً – بمحتواها التكويني. غير أنها تتميز أيضًا، بدرجةٍ أكبر، بأساليب تنظيم عناصرها، وبوسائل تحتيم (أي قَنْوَنَة) السلوك البشري وضبطه. ومن المعروف تقسيم الثقافة تقليديًّا إلى "مادية" و"روحية".

د. نبيل علي، في كتاب بعنوان الثقافة العربية وعصر المعلومات، سلسلة "عالم المعرفة" 265، يناير 2001، الكويت، يُدلي بدلائِه في التعريج على الطرح العام لتعريفات الثقافة، فيلْحظ تعدُّد أوصاف الثقافة في تعريفات زادت على 150 تعريفًا، تؤكِّد في مجملها أن الثقافة تجمع بين كونها منتجًا وإنتاجًا. ولم يتمكَّن الكاتب من استعراض هذا الكمِّ الكبير من التعريفات (وقد تكون تلك عملية غير مجدية تمامًا أيضًا)، لذا اكتفى بتصنيفٍ موجَز لها. وهكذا بدت المقولات الثقافية كما يلي باختصار، نذكر هنا الأهمَّ فيها:

1.    الثقافة كـمقولة اجتماعية: قوامها القيم والمعتقدات والمعارف والفنون والعادات والممارسات الاجتماعية والأنماط المعيشية إلخ.

2.    الثقافة كـإيديولوجيا: تعرَّف الثقافة في إطارها بصفتها المنظار الذي يرى الفرد من خلاله ذاته ومجتمعه، وبصفتها، أيضًا، معيار الحكم على الأمور أيضًا.

3.    الثقافة بوصفها انتماء: تُعبِّر عن التراث والهوية والشعور القومي وطابع الحياة اليومية للجماعة الثقافية إلخ.

4.    الثقافة بوصفها تواصُلاً: من خلال نَقْل أنماط العلاقات والمعاني والخبرات بين الأجيال.

5.    الثقافة بصفتِها دافعًا: على الابتكار والإبداع والنضال ضدَّ القهر والتصدِّي لصنوف الظلم إلخ.

6.    الثقافة بوصفها حصادًا متجددًا: يتم استهلاكه وإعادة إنتاجه والتفاعل معه وإدماجه في مسار الحياة اليومية.

وكما نلاحظ من هذا التصنيف للتصنيفات أو تنظيم وجَدْوَلَة التعريفات ذاتها نسقيًّا، فإن مفهوم الثقافة واسع شاسع كفايةً؛ لكن جهودًا تركيبية كهذه تُهيِّئ وتساعد على التعامل مع الثقافة كمنظومة وعلى فهمها وممارستها منظوميًّا.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] The Science of Culture.

[2] The Concept of Cultural Systems.

[3] Culture Theory.

[4] Concepts.

[5] Scientific Theory of Culture.

[6] وقد استخدم عبارة: Science of Culture.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود