الحقُّ لذاته... الحقيقةُ لذاتها

ردًّا على كثيرين تناولوا المختلف والمؤتلف

 

جميل قاسم

 

في خاتمة كتابنا المختلف والمؤتلف[*] عرَّفنا بالفلسفة وحددناها بحدِّ "الحكمة" sagesse، لا بمعنى "الحصافة" عند العرب ولا بمعنى "الرأي" doxa عند اليونان، وإنما بمعنى "الإحكام" بالعربية والعلم أو المعرفة الدقيقة (المُحكَمة) باليونانية. وبهذا التعريف لا تعود الفلسفة تعني "حب الحكمة" philo-sophia المجردة، وإنما المعرفة المُحكَمة (الإپستمية)؛ وهو ما أسَّسنا عليه مفهومَنا للفكر المحض، أو الحق (الحقيقة) لذاته ولذاتها.

وإذا كان "العقل المحض" raison pure، بالمفهوم الكنطي، هو العقل المتعالي على التجربة، القبلي a priori، الذي لا تعدو حدوسُ الزمان فيه كونَها حدوسًا جوهرية، فقد وجدنا في مفهوم "العقل" العربي إشارة بيانية ودلالية إلى مفهوم تجريبي يحيل إلى "الرابطة" أو "العلاقة" بين الأذهان والأعيان (فالعقل يعني بالعربية "عقل الشيء" أي "رَبْطه"). وهذه الرابطة العلائقية المعرفية المنطقية هي مناط الفكر والمعرفة؛ وهي عندنا أساس العقل المحض بالمفهوم التجريبي، لا التجريدي.

هل ثمة وجود لـ"معرفة مُحكَمة" و"فكر محض"؟

لا تؤشر الفلسفات الوضعية الجديدة – ناهيك عن فلسفة الاختلاف التفاضلي – إلى وجود معرفة "مُحكَمة". فالمعرفة والإدراك العقلي – كلُّ معرفة – هي معرفة احتمالية، تفاضلية؛ حتى إن بعضهم (كارل پوپر) ذهب إلى اقتراح معيار "الدحض" أو "التفنيد" réfutation، لا التوكيد affirmation، معيارًا للمعرفة النسبية والاحتمالية. فكيف يتأتى لنا – والحال هذه – الكلامُ على معرفة "مُحكَمة"؟

جوابًا عن هذا السؤال، نقصد بـ"الفكر المحض" (والفكر يتعين بمقاصده) الفكرَ الكليَّ الكوني الذي يتعين بذاتية الفكر، لا بأعراضه وأغراضه الخارجة على النظر في الوجود كموجود على ضوء العقل الكلِّي؛ وهو الحق لذاته، أو الخاصية الكلِّية المميِّزة للشيء بما هو هو، أي بذاتيته الكلِّية، في اتفاق المعنى واختلافه، حضوره وغيابه، موضوعه ومحموله – وهذا كله في نطاق الكلِّي والكوني، أو الواحد الأحد المتعيِّن بكلِّيته الاستحضارية eidétique المحايِثة، أو الكامنة في ظواهرية الأشياء والموضوعات، في جدلية المعيَّة والمفارقة، الفكر واللامفكَّر فيه، في ذاتية الفكر وذاتية العقل (والعقل عندنا هو فعل)، وفعالية العقل، التفكيكي–التركيبي، الذي يقوم على رابطة العيني والذهني، الفكر والظاهرة، في علائقية المعرفة والوجود.

وقد حاولنا المساهمة في الفلسفة الحديثة من خلال البرهنة على إمكان القول الفلسفي الكلِّي والكوني عند العرب بواسطة مفاهيم "العقل" و"الحق لذاته" و"الفكر المحض"، ومن خلال بلورة هذه المفاهيم بمنأى عن أية سلطة (ماعدا سلطة الفكر وسلطة النقد) وفي معزل عن المعايير الإيديولوجية السابقة على "الفكر لذاته" و"الحقيقة لذاتها".

وقد وضعنا هذه الفرضيات موضع التطبيق في مراجعتنا النقدية لفلسفة السياسة والتاريخ والأخلاق والتربية والجمال وعلم النفس والعلم والدين، بغية تأسيس موقف نقدي جديد للكلِّي، بما يعود إليه وحده، ككلِّي، والحق لذاته كمعيار للحقيقة. ووجدنا أن فلسفة السياسة، بمفهومها المحض، تقوم على إرادة الاقتدار الثيموسية thymus (رغبة توكيد الذات والكينونة الفردية والجماعية). وبهذا تتعين السياسة بإرادة القوة المحدِّدة للسياسة.

فالديموقراطية هي ديموقراطية الأقوى والأرقى، والحرية هي القدرة على صياغة الحرية، لا بمعنى الفصل ما بين السياسة والأخلاق فحسب، وإنما بمعنى بناء السياسة على الأخلاق والفضيلة والعدالة. والسياسة التي تقوم على "الحق لذاته" هي السياسة التي تقوم على العدالة، وعلى ربط السياسة بحقوق الإنسان. وهذا المفهوم للسياسة الحقوقية يقتضي قيام نظام عالمي جديد، وعقد عالمي جديد ديموقراطي، لا نظام عالمي "وحيد"، مشوب بإيديولوجيات "نهاية التاريخ" و"صِدام الحضارات"!

وردًّا على العقلية المانوية (الثَنَوية) التي اعتادت على المفاضلة بين القديم والجديد، التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، والخصوصية والعالمية، وجدنا، من جهتنا، أن التاريخانية historicisme هي الموقف الفكري التاريخي المحض، الذي يجمع آناتِ الزمان، الماضية والحاضرة والمستقبَلة، في لحظة الآنية المضارِعة، باعتبار النفس الإنسانية ذات طبيعة استحضارية تزامنية، تقرن الحاضر بالماضي، والزماني باللازماني، والكم بالكيف، والخصوصية بالكونية.

ورأينا أن الفلسفة الأخلاقية والقيمية الجديدة تقوم على أساس وجودي شخصاني personnalisé، لا شخصوي personnifié، حيث يكون "الإنسان الكامل" (المتكامل روحًا وعقلاً وجسدًا) جميعةً synthèse للعقل والروح والجسد. والأخلاقية الجديدة هذه تقرن "الواجب لذاته" بالحق والخير والجمال والفضيلة، وتقوم على سلوكية التواصل والتكامل والتكافل، والحفاظ على البيئة والرفق بالحيوان، ناهيك عن الإنسان. ولكن، هل تبقى من قيمة للإنسان في العصر الأمريكي–الإسرائيلي هذا؟ ألم يتعفر الفكر المحض بالدم المحض في فلسطين الحبيبة؟!

والنظرة الأخلاقية هذه تتطلب فلسفة تربوية جديدة، وجودية شخصانية ديموقراطية حرة، لا تربية رعوية أبوية استبدادية. وهي تربية تقوم على منظور إنساني من حيث الأفق، يغلب عليه الاختيار، لا التواكل والاتكالية، والحرية، لا التبعية والاتباعية، وتغلب فيه القدسية الطبيعية على القدسية الدينية النصوصية والحروفية، والعَلمانية القائمة على منطق الاعتراف بالآخر، لا العلموية scientism المعادية للقيمة الدينية كقيمة دينية بذاتها ولذاتها. وهو منظور يغلِّب الانتماء إلى الأمة والإنسانية على الانتماء إلى الملَّة والطائفة والقبيلة – وهذا كله دون فواصل ما بين الدهري والقدسي، الكون والكينونة، والوجود والموجود.

أما الجمال المحض، في مفهومنا، فليس الجمال المثالي، المتعالي transcendant، وإنما هو الفن الذي يقوم على الحرية، وينطوي فيه معيارُ الجمالية في كلِّ مغامرة إسثيطيقية، بحيث لا يتأسس الحُسْن الجمالي على أية نظرة أو عقيدة أو منظومة أو فلسفة أخلاقية، وإنما على مبدأ "الفن للفن"، أي الفن الذي يتعين بذاتية الفعل الفني والخلق الجمالي، في براءة الخلق والإبداع.

أثار كتابنا العديد من النقاشات والآراء. فرأى بعضهم (الصديق د. جورج زيناتي) أن نظرتنا النقدية لابن رشد والرشدية نظرة إيديولوجية، لا تأخذ بعين الاعتبار "تاريخية" المرحلة التي عاش فيها ابن رشد. وردُّنا على ذلك أننا بالضبط لا نرى في ابن رشد والرشدية إلا هذه الأهمية التاريخية والاعتراف بالحكمة أو الفلسفة كشرعة مرادفة للدين عند الفلاسفة العرب. أما نظرتنا المعاصرة والحديثة، فترى أن الاختلاف عن ابن رشد مناطه عقليةُ التوفيق الرشدية التي جعلت ابن رشد كالغزالي، على الرغم من الفوارق بينهما: فقيهًا مع الفقهاء، وفيلسوفًا مع الفلاسفة، ومتكلمًا مع المتكلِّمين! كما أن أغلب نظرياته كانت كلامية أكثر منها فلسفية. وفي عصر النهضة دعا المفكر النهضوي پتراركا لا إلى تجاوز الرشدية وحسب، بل والأرسطية أيضًا، وذلك باعتبار أن الحقيقة موجودة في الطبيعة، لا في "كتب الأقدمين". كما أن المنطق التجريبي في الأورغانون الجديد عند بيكون جعل من المنطق الأرسطي منطقًا صوريًّا مجردًا، لا يقوم على الموجودات، وإنما على الذهنيات.

أما ما جاء في مداخلة الصديق د. علي زيعور حول الإجحاف في نقد الفرويدية وتعداد مثالبها دون حسناتها، فهو أيضًا غير دقيق، وذلك لأننا ميَّزنا بين الأهمية المعرفية والتاريخية لنظرية اللاوعي وبين نقد الموقف البيولوجي في نظرية فرويد الجنسانية الليبيدية، وذلك لأننا نعتبر أن النفسية psychisme هي جميعة العقل والروح والجسد في الشخص الإنساني الواحد الأحد.

أما ما جاء في مقالة الصحافي أ. نظام مارديني (السفير، الاثنين 15 نيسان 2002)، وهو ليس من أهل الاختصاص بالفلسفة، لا من قريب ولا من بعيد، حول استخدام مفهوم "المدرحية" الذي استخدمه قبلنا المفكر شهير الفكر أنطون سعادة، فإننا حينما استخدمنا هذا المفهوم لم ندَّعِ "ملكيته"؛ وهو عندنا بمعنى الطاقة الحيوية، وقد ورد قبلنا، ليس عند المفكر أنطون سعادة وحسب، بل عند برغسون وتلار دُه شاردان والفيزياء الكوانتية. وقد استخدمناه، نحن، بالمعنى الكوانتي الأخير.

ولعل أغرب ما وُجِّه إلى كتابنا من نقد انطواء موقفنا (ولاسيما مفهومنا للحق بذاته) على "موقفٍ دوني كامن" (د. سامي أدهم)، هذا مع أننا قمنا أصلاً بهذه المحاولة لتحرير الفكر المحض من أيِّ موقف ديني أو سلطوي أو إيديولوجي، سابق أو لاحق، من حرية الفكر وحرية العقل.

*** *** ***

عن السفير، 13/5/2002


 

[*] جميل قاسم، المختلف والمؤتلف، منشورات الآن، 2001.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود