العشق الإلهي عند متصوِّفي جبل لبنان[*]

 

الأب يوحنا الحبيب صادر

 

أقام في جبل لبنان وعلى ساحل بحره، بين القرنين الثامن والرابع عشر تقريبًا، قومٌ من المتصوفين المسلمين. وجبل لبنان، على حدِّ قول [المرحوم] ميشيل حايك،

هو الموعد الروحي لجميع الأولياء، مسيحيين ومسلمين. وجبل لبنان أكبر من اسمه الحالي: إنه جزء من بلاد الشام، ولكنه هو هو جبالها كلها، حتى يجيز للشاعر أن يجعله بدلاً من جميعها، فيقول:

وجاوِرْ جبالَ الشـام لبنانَ إنها       معادنُ أبدال إلى مستوى العرج.

إن عدد الذين دُوِّنَتْ أخبارُهم من هؤلاء المتصوفين يقارب العشرين، وقد يزيد عن ذلك. لكن الغالبية منهم لم تُذكَر أسماؤهم في سياق أخبارهم؛ ومنهم من ذُكِروا بأسمائهم، وهم ذائعو الصيت بين الأصفياء، أمثال علي الجرجرائي، وشيبان المُصاب، والعباس المجنون، وزرقان أخي ذي النون، وحماد الأقطع – وهم من العقلاء المجانين؛ ثم إبراهيم بن أدهم، وتلميذه إبراهيم بن بشار، وأبو سليمان الداراني – وهم من الفقراء الأسخياء. وإبراهيم بن أدهم من المشاهير في أخبار المتصوفين، توفي في العام 778 م ودُفِنَ بصور. ومنهم فئة الأولياء "الأبدال" الذين يذكرهم القزويني والذين

لا يزيدون على السبعين ولا ينقصون عنها، يأوون إلى جبل لبنان ولا يخلو منهم أبدًا لما فيه من القوت الحلال.

ويذكرهم أيضًا ياقوت الحموي وابن بطوطة. كذلك، شاهَد ابن جبير في جبل لبنان

عددًا كبيرًا من المنقطعين إلى الله من المسلمين، يجلب لهم النصارى المجاورون لجبل لبنان القوتَ ويحسنون إليهم.

وهناك جماعة الفقراء الذين يُدرِجهم ابن عربي في عداد أولياء الله؛ وكانوا، على ما يبدو، يتحلَّقون حول إبراهيم بن أدهم، كما يذكر ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة. ونذكر أخيرًا فئة المراقبين الذين

يراقبون التعظيم والإجلال، فيصير قلبُهم مستغرقًا في ملاحظة ذلك الجلال ومنكسرًا تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متَّسع للالتفات إلى الغير أصلاً.

وقد ذكرَهم الغزالي في إحياء علوم الدين.

يُعتبَر هؤلاء من عشاق الله في جبل لبنان. في تعبيرهم العشقي تتغلب عليهم آثارُ المحبة؛ وهذه الآثار مختلفة، تختلف على المحبِّ بحسب نظره وما يغلب عليه في وقته. ومن مناحي التعبير عن عشقهم: الشوق والهوى، النحول والذبول، الجود والسخاء، الحزن والأنس، الزهد، التصوف، الفقر والصبر، المراقبة. وهذه الظاهرات يُدرِجها القشيري بين المقامات أو مدارج أهل السلوك؛ وهي تنعكس في أشعارهم وكلماتهم ومظهرهم ولباسهم وقوْتهم.

ففي الشوق والهوى بيتُ شعر لشيبان المولَّه (المُصاب):

إن ذكرَ الحبيب هيَّجَ شوقي * ثم حبُّ الحبيب أذهلَ عقلي

ولزرقان أخي ذي النون:

قد بقيـنا مدلَّهين حيـارى * حسـبنا ربنا ونعم الوكيلُ

حيث ما الغور كان ذلك منَّا * واليد في كلِّ أمـرٍ تميـلُ

وللعباس المجنون:

يا حبيبَ القلوب مَن لي سواكَ * ارحمِ اليومَ مذنبًا قد أتـاكـا

أنتَ سُؤلي ومُنيَتي وسروري * قد أبى القلبُ أن يحبَّ سواكـا

ليس سؤلي من الجـنان نعيمٌ * غير أنِّـي أريدهـا لأراكــا

وفي النحول والذبول يقول ذو النون:

سمعت بعض المتعبدين بساحل بحر الشام يقول: "إن لله تعالى عبادًا... بذلوا مُهَجَ أنفسهم في رضا سيدهم... فلو رأيتَهم لرأيت قومًا ذُبُلاً شفاههم، خمصًا بطونهم، حزينة قلوبهم، ناحلة أجسادهم، باكية أعينهم، قد ذبحهم الليلُ بسكاكين السهر، وفَصَلَ الأعضاءَ منهم بخناجر التعب، خمصًا لطول السُّرى، شعثًا لفقد الكرى، وقد وصلوا الكلال بالكلال وتأهَّبوا للنقلة والارتحال.

ومن أشعار حماد الأقطع في هذا المنحى العشقي:

أنْحَلَ الحبُّ قلبَه والحنينُ * ومَحَاهُ الهوى فلا يستبينُ

وعلي بن سياخف سمع في جبال لبنان شابًّا يقول:

شدَّة الشوق والهوى * تركـاني كمـا ترى

وفي الجود والسخاء اشتهر إبراهيم بن أدهم؛ وله قصص كثيرة في هذا المنحى، منها قصته في طرابلس مع تلميذه إبراهيم بن بشار، عندما وهب سائلاً رغيفين لا يملك سواهما قوتًا. ومن كلامه:

رأيت ربَّ العزَّة في المنام، فأوقفني بين يديه وقال لي: "يا إبراهيم، أما استحيتَ مني تسألني أن أعطيكَ ما يسكن به قلبُك قبل لقائي؟! وهل يسكن قلبُ المشتاق إلى غير حبيبه، أم يستريح المحب إلى غير مَن اشتاق إليه؟!" فقلت: "يا ربُّ، تهتُ في حبِّك، فلا أدري ما أقول!"

وعن أحمد بن أبي الحواري، قال:

سمعت مضاء بن عيسى يقول: "ما فاق إبراهيم بن أدهم أصحابَه بصوم أو صلاة، ولكن بالصدق والسخاء."

وفي الحزن والأنس يقول إبراهيم بن الجنيد:

حدثني أبو فروة السائح قال: بينما أنا أسِحُ في جبل لبنان، إذ جَنَّ الليل عليَّ وأنا في بعض أوديته، فإذا بصوت محزون وهو يقول: "يا مَن آنستَني بقربه، وأوحشتَني من خَلْقه، وكان عند مسرتي، ارحمِ اليوم عَبْرتي."

وهذا العابد الآخر الذي سمعه ذو النون يصلي فيقول:

بالتجائي إليك في حزني، انظر إليَّ نظرةَ مَن ناديته فأجاب.

وفي الزهد قولٌ لعجوز صوفية أعماها البكاء في بعض جبال الشام:

الزهد في الدنيا تَرْك طلب المفقود حتى يُفقَدَ الموجود.

أما في التصوف فقولٌ لعليٍّ الجرجرائي المتصوف:

عانِقِ الفقرَ، وعاشِرِ الصبرَ، وعادِ الهوى، وعافِّ الشهواتِ، واجعلْ بيتَك أحلى من لحدك يوم تُنقَل إليه – على هذا طاب المسير إلى الله عزَّ وجل.

وفي الفقر والصبر يذكر ابن الجوزي جماعةً من الفقراء كانت تعيش في جبل لبنان. ويحددهم ابن عربي في الفتوحات المكية بين الذين يفتقرون إلى الله:

فإن الحقيقة تأبى أن تفتقر إلى غير الله. بهم يصون الله الخلقَ، وببركاتهم يبسط عليهم الرزقَ.

أما عن المراقبة فيذكر الغزالي في إحياء علوم الدين عن أحمد بن خفيف أنه دخل على شاب وكهل قاعدَين في أحد مساجد صور. يقول ابن خفيف:

فسلَّمتُ عليهما، فما أجاباني. فسلَّمتُ ثانية وثالثة، فلم أسمع جوابًا... ثم رفع الشاب مرقَّعته ونظر إليَّ وقال: "يا ابن خفيف، الدنيا قليل، وما بقي من القليل إلا القليل. فخذ من القليل الكثير."

لقد ذكرت من تعبيراتهم العشقية القليل، ويبقى الكثير. ومن المدهش أن هؤلاء القوم من شدة الوله بربِّهم كانوا غير مبالين بذواتهم. فكانوا يلبسون من اللباس أطمارًا رثة، كالذي التقى به محمد بن حسان وَوَصَفَه، أو سلامة، كالذي يذكره أبو الحارس الأولاسي، أو جبة صوف تُسمَّى "زرمانقة"، كالتي رآها ابن المبارك على العباس المجنون والتي كان يلبس نظيرها زرقان أخو ذي النون. ومنهم مَن كان يلبس مرقَّعة ويسيح على ساحل بحر الشام، أو خرقة يصفها أبو الجعد السائح، أو مئزرًا شبه لون الوَرْس، على غرار فقراء الهنود. أما طعامهم فكان ثمار الشجر والبلوط ونبات الأرض وما كان يحمله إليهم النصارى المجاورون لجبل لبنان، على حدِّ قول ابن جبير.

أين سكن هؤلاء المتصوفون في جبل لبنان؟ لا توجد أية معلومات موثقة عن ذلك. لكن لا شك أنهم سكنوا المغائر وكانوا من رفقاء المتصوفين والنساك المسيحيين. لكننا وقعنا في مغارة دير الصليب في سفح جبل حدشيت، ونحن نعبُر الباب إلى قسم المغارة المتحول إلى معبد، على الجدارين الأيمن والأيسر، على كتابات عربية لا تُمحى، وهي لا تمت بصلة إلى الكتابات الحديثة التي يتركها الزوار: فهي مكتوبة ضمن مربعات مترابطة ذات أطُر حمراء، بعضها متقن كأنه من صنع يد ماهرة، غير أنها تشوهت مع الزمن. نلتقط منها بعض كلمات، مثل: "الله أكبر" أو "مولانا وسيدنا تاج الإسلام عبد الله سلام الله عليه... ابن الوحيد... أدهم... محمد وعلى سليمان... إمام البصرة" و"بسم الله الرحمن الرحيم". ومن المحتمل أن يكون أصحاب هذه الكتابات إما من المتعبدين وإما من السائحين الذين كانوا يأتون جبل لبنان للبحث عن هؤلاء وتدوين أخبارهم، أمثال ذي النون وإبراهيم بن أدهم وبكر الوراق وأبي سعيد الخراز – سلام الله عليهم أجمعين.

خاتمة

هذا ما تمكنَّا حتى الآن من العثور عليه من أخبار المتصوفين المسلمين الذين عاشوا في جبل لبنان وعلى ساحل البحر في طرابلس وصيدا وصور، فتحرَّينا مناحيهم في العشق الإلهي من خلال أشعارهم وأقوالهم وأساليب تعبُّدهم وحبِّهم لله. إن حالات العشق هذه التي كانوا مأخوذين بها انعكست على مظهرهم وملبسهم ومأكلهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم بالناس. فبينهم أفراد عاشوا وحدهم في عزلة تامة لسنين طويلة، منقطعين إلى العبادة والتأمل في جمال الله، وبينهم مَن كانوا يعيشون جماعات، أمثال جماعة الفقراء حول متعبِّد شيخ حكيم. ونستنتج من أقوال المؤرخين أن هؤلاء المتصوفين العشاق عاشوا في لبنان في الفترة بين القرنين الثامن والرابع عشر.

ونحن، في هذه الدراسة، لم نتطرق إلى موضوع مئات المتصوفين المسيحيين الذين يؤكد التاريخُ وجودهم في تلك الفترة في الوادي المقدس لأنهم يستحقون دراسة خاصة. إنما الرائع واللافت هو هذا القاسم المشترك بين جميع المتصوفين في جبل لبنان: التبتُّل والزهد الكلِّي بخيرات الأرض كلِّها. وفي اعتقادي أن هذا النوع من البشر كائنات على حدة، مسكونون بشيء يتخطاهم وينتظم حياتهم. إن الدافع إلى دعوتهم هو اللقاء ليس مع العالم الواقعي، بل مع العالم الحقيقي الذي هو الله. وهذا اللقاء يولِّد صدمة، يولِّد ارتدادًا: اكتشاف الله هو قطع علاقة بين الإنسان والعالم. أما لماذا كانوا يعيشون سوية في الجبل المقدس، فلأن المتصوف العاشق في حاجة إلى آخرين يشاركونه شَغَفَه وعشقَه، فيفتش عنهم ولا يتمكن أن يعيش إلا حيث يعيشون.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 17 تشرين الثاني 2002


 

[*] بحث قدِّم في "مؤتمر التراث السرياني" الثامن، 3-6 نيسان 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود