المَـهَـابْـهَـارَتَـا

تاريخ الإنسانية من منظور إلهي

 

ديمتري أفييرينوس

 

مقدمة

ملحمة الـمهابهارتا – "البهارتا العظيم" أو "كبرى مآثر أبناء بهرتا"[1] – واحدة من الملحمتين السنسكريتيتين[2] اللتين شكَّلتا معًا التربةَ الخصبة والمعينَ الثرَّ للأدب الهندوسي، الحكمي والدنيوي، اللاحق برمته. ومتى جيء على ذكر الـملحمة، بالتعريف، فالمقصود هو الـمهابهارتا الذي يشكل بامتداده الطويل – مئة ألف دوبيت[3] (بيتان من الشعر برويٍّ واحد) موزعة على ثمانية عشر سِفْرًا (پرفَن parvan) وملحق بعنوان هَرِفَمْشا Harivamsha ("نَسَب الإله هَري" أي كرشنا–فشنو) – الوثيقة الكبرى التي يمكن الركون إليها (مع الـرامايَنا) لمعرفة بدايات الهندوسية وتطورها اللاحق في نهاية عصر الفيدا. وهو، إلى ذلك، يحوي الـبهغفدغيتا ("أنشودة الرب")، أشهر النصوص الكتابية الهندوسية قاطبة. إنه أدنى إلى أن يكون "موسوعة" للحياة في الهند القديمة، في وجهيها الحكمي والدنيوي؛ وهو فعلاً، في بيت من أبياته، يدعي الإحاطةَ بكلِّ شيء[4].

وفي المنظور الميثولوجي، يُقصَد بالـبهارتا مجموعة من القبائل المنتظِمة في ممالك وينتسب أمراؤها إلى أصل مشترك واحد هو بهرتا، سليل بورو، أحد ملوك "السلالة القمرية" والجد الأكبر للمعسكرين اللذين يشكل صراعهما الموضوعَ المحوري للقصيد.

مع أن بداية تأليف هذا العمل الملحمي العملاق تعود، بحسب الدراسات، إلى الفترة ما بين عامَي 500 و400 ق م، فإن وضعه يمتد على قرون (منذ نهاية العصر الفيدي حتى القرن السادس الميلادي)؛ ويبدو أن مؤلِّفيه استمدوا من مأثورات شعرية أسبق، متجذرة في موروث آري قديم. ولقد تحدَّر إلينا في روايتين أساسيتين: الرواية الشمالية والرواية الجنوبية (تشيران إلى أسلوبَي الكتابة الأساسيين). غير أن تأثيره استمر زمنًا أطول بكثير؛ ذلك أن النصوص الملحمية المتأخرة لم تغرف من معينه مقتبسةً عددًا من ثيماته وحسب، بل لم يخلُ أي من ثمار المنقول الأدبي الهندي اللاحق من رجوع أو إشارة إليه. فقد اقتبس المسرحُ عنه موضوعاتٍ عديدة – كما اقتبس من الـرامايَنا - يسَّر ذلك غناه بالحِواريات التي تسهل العبور من الأناشيد المتناوبة إلى تقطيع مشهدي[5].

مشهد من مسرحية الـمهابهارتا من إخراج پيتر بروك.

كذلك تبسط إلى ما لا نهاية نقيشاتٌ وأفاريزُ بديعة على جدران المعابد مآثرَ آل پاندو وجيوشهم. والتصوير الشعبي، إذ تسلَّم الموضوع بدوره، أبرز، مغاليًا فيها، ملامحَ الأشقاء الخمسة وزوجهم درَوْپَدي وحليفهم الإلهي كرشنا. زبدة القول إن مادة الـمهابهارتا وَسَمَتْ بسِمَتِها المنقول الروحي والثقافي الهندي بأسره[6].

الملابسات التاريخية والأدبية

في أواخر الألف الثاني ق م، فيما يُظن عمومًا، كان زعيم إحدى القبائل الآرية التي استوطنت شمال غرب الهند يُدعى بهرتا[7]. وبحسب طريقة اشتقاقية مأنوسة في اللغة السنسكريتية، دُعِيَ أعقابُه وأفرادُ عشيرته بالـ"بهارَتا" Bhārata ("سليلي بهرتا" أو "ذرية بهرتا"[8]). ومن ثم فإن المهابهارتا برمته يكشف عن وجود صراعات عشائرية أغلب الظن أنها جرت حوالى القرن العاشر قبل الميلاد في منطقة انصباب نهر الجَمُنا في الغانج، أشاد بها وعظَّم من شأنها المنشدون الملحميون على نحو ما عظَّم الإغريق في الإلياذة من منزلة المقتتلين بين أقوام الحوض الشرقي للبحر المتوسط واحتفلوا بهم.

يحكي المنقول الميثولوجي الهندوسي عن سلالتين أو ذريتين ميثيتين: السلالة "الشمسية" التي تمثل لها ملحمةُ الرامايَنا، والسلالة "القمرية" التي ينتسب إليها أبطالُ المهابهارتا، بما هم أحفاد بهرتا، وهي سلالة اتخذت عاصمةً لها مدينةَ هَسْتِناپُرا Hastināpura الواقعة على ضفاف أحد مجاري الغنغا (الغانج) شمال شرق مدينة دلهي الحالية. وقد حافظ التراث المحلِّي، حتى أيامنا هذه، على الاسم المشتق من اسم مؤسِّسها هَسْتِن Hastin الذي تقدمه الأسطورة بوصفه من أبناء بهرتا. ويُروى أن المدينة دُمِّرت من جراء فيضان النهر.

بنيان القصيد

ينسب المنقول الهندي هذا المؤلَّف الملحمي الهائل إلى مؤلِّف واحد هو الحكيم فِياسا Vyāsa الذي تُعزى إليه كذلك مؤلفاتٌ أخرى. وفِياسا هذا يلعب دور الراوية وإحدى الشخوص المركزية للقصيد. والواقع أن "فِياسا" اسم يمكن أن يُترجَم بـ"مصنِّف"، وإن كان الاصطلاح يشير حرفيًّا إلى مَن "يذيع" أكثر مما يشير إلى مَن يجمع أو "يصنِّف"[9].

مشهد من مهابهارتا پيتر بروك (الفيلم): فِياسا يُملي الملحمة على غَنَپَتي (الإله الفيل غنيش).

والرواية ليست من الخطِّية في شيء؛ فهي، على العكس، تبدي تشعبًا من المسارات المتوازية والمتداخلة يصعب تصور مبلغ تعقيده. وتلجأ غالبية الفصول – وهي منظومة في معظمها شعرًا – إلى استعمال ما يُعرَف بالـشلوكا shloka، وهو بيت من "البحر" الملحمي الطويل؛ ومع ذلك، تندرج فيها، هنا وهناك، بحورٌ شديدة التنوع، كما نجد فيها أيضًا مقاطع نثرية قليلة العدد، لكنها أحيانًا طويلة إلى حدٍّ ما. وهذا الأسلوب التأليفي الفضفاض يفسَّر عادة بأن وضعها يمتد طوال ستة أو سبعة قرون فيما يقدَّر (ثلاثمائة إلى أربعمائة عام قبل الميلاد ومثلها بعده)، من غير أن يتيسر تحديدُ الفترة المعينة التي يعود إليها وضعُ هذا المقطع أو ذاك. وفي الإجمال، يُدرِج الباحثون الموضوع المركزي (الصراع بين المعسكرين المختصمين، علة القتال والاستعداد له) – باستثناء استطرادات متكررة إلى حدٍّ كبير – بين الأجزاء الأقدم وضعًا؛ أما المقاطع النثرية فيُظَن، في المقابل، أنها أحدث.

وتصب في المجرى الأصلي للرواية أساطير لا تتصل بالأحداث الرئيسية إلا من بعيد: فكلما جيء على ذكر شخص عَرَضي تبرز متوالية من الأبيات تتناوله وأسرتَه ومآثرَه. وفي مثل هذا التشابك، يشعر المرءُ بحرص الرواة على إشباع فضول قرائهم ومستمعيهم وعلى أن يقصوا عليهم حكايات يعرفونها، لكنهم لا يملون من سماعها الكرَّة بعد الكرة.

لقد بينت الدراسات التي أُجرِيَتْ في النصف الثاني من القرن العشرين أن النصَّ نصٌّ مثيولوجي أساسًا، على كونه يشتمل على مادة "تعليمية" لا يُستهان بها. وهو استمرار للموروث الفيدي بربطه القصة الملحمية وشخوصها القائدة بشخوص ميثولوجية وثيمات سردية (نشورية بصفة خاصة) فيدية، وفي بعض الحالات موازية للفيدا، وهندأوروبية. كما ركزت أبحاثٌ أحدث على معالجة الملحمة للحرب بوصفها "معركة أضحوية" تربط السرد الملحمي بالتراث الأضحوي الهندي، وبخاصة البراهمنا. فلعل الملحمة تعكس فترة انتقالية بين الديانة الأضحوية الفيدية وبين المرحلة التي تلتْها. بذا قد تكون الملحمة، وفقًا لهذا المذهب، أول وأعظم صرح تعبُّدي (بهكتي bhakti) يتمحور حول شخصية كرشنا بوصفه أفتارا avatāra، أي "تنزُّلاً" إلهيًّا من تنزُّلات فشنو، على اعتبار أن الـبهكتي يوغا هو الطريق الروحي الأكثر ملائمة لطائفة الـكشتريا أو "المحاربين"[10]. يؤيِّد ذلك المذهبَ إقحامُ بعض الأجزاء، مثل الـناراينيا Nārāyanīya (جزء من السفر الثامن) والـبهغفدغيتا (السفر السادس) والـأنوغيتا (السفر الرابع عشر) والملحق (الـهَرِفَمْشا)، التي يعتبرها أساتذة الـبهكتي مصادر أساسية للعقيدة الفشناوية في نقائها الأصلي: ففيها يظهر كرشنا بصفته فشنو وغيره من أفاتارات فشنو. وأخيرًا، فإن العمل يشتمل على مباحث نظرية وأخلاقية ودينية؛ وهذه الأجزاء التأملية كثيرًا ما تَرِدُ كاستطرادات خارج سياق السرد الجاري.

زبدة القول إن المهابهارتا موسوعة جامعة هائلة، إذا جاز التعبير، حُشِرَتْ فيها، في تناغم فريد من نوعه، عيناتٌ من مجموع طُرُق المعرفة الإنسانية في ذلك العصر، في جملتها معطيات وعقائد عرفانية وفلسفية متنوعة، نلحظ فيها غالبًا أثرَ طريقة الـسامكهيا يوغا sāmkhya-yoga التي تستهدف، ككلِّ طُرُق الحكمة العرفانية الهندية، بلوغَ الانعتاق من الولادة والموت (موكشا دهرما moksha-dharma)[11].

وسيلة النقل

تُفهَم نشأةُ القصيد فهمًا أفضل متى أُخِذَتْ بعين الاعتبار الشروطُ التي حُفِظ بها: فقد كان النقل آنذاك يتم مشافهةً، وكان حفَّاظ الملحمة ورواتها يحفظون عن ظهر قلب آلاف الأبيات، وكانت تقام احتفالات سماع مفتوحة بمناسبة أعياد معينة، دينية أو دنيوية. كان الرواة، بحسب الزمن والمكان والجمهور وأذواقهم الشخصية، يقدِمون على إدراج استطرادات ذات صلة بالأساطير والمنقولات المحلِّية – ومن هنا التباين بين المخطوطات التي دوِّنت فيما بعد في مختلف أرجاء الهند. ومن المحتمل أن التلاوات كانت غالبًا ما تتم بعدة أصوات، مهيِّأة بذلك الرحم الذي نما فيه جنين ما صار فيما بعد الدراما الهندية: لقد ارتبط مصطلح بهارتا بالعدوى بمنشدي الملحمة ورواتها؛ وفي فترة متأخرة بات يشار به إلى أيِّ نوع من أنواع الممثلين، الأمر الذي يؤيد استعمال التلاوات المتناوبة. ولما كانت اللغة السنسكريتية لا تتضمن صيغة الغائب، فإن الأجزاء الخاصة بالمنشدين (الذين تظهر أسماؤهم على هامش متن النص) تتخلَّلها تعليقاتُ محاوريهم أو شخوص يروون مآثرها وما عُرِفَ عنها من أحاديث وسُنَن؛ وفي معظم الأحيان، يَرِدُ كذلك ذكرُ أسماء هؤلاء، إنْ على هامش النص أو في متنه، لكن مداخلاتهم مصوغة على كلِّ حال بصيغة المتكلم.

من جهة أخرى، فإن الأحداث المذكورة في القصيد تجري في عهود عدة. والمهابهارتا يُروى على لسان الحكيم سَوتي Sauti الذي ينشده في غابة نَيْمِشا Naimisha الميثية بحضور رهط من "العارفين" rishi المجتمعين بمناسبة قربان عظيم يقدمه الملك سَوْنَكا Saunaka. لكن ما يرويه سَوتي هو وقائع رواها من قبله معلِّمه فَيْشَمپايَنا Vaishampāyana في أثناء القربان الذي أحياه جَنَمِجَيا Janamejaya، سليل المعسكر المنتصر. وإن نشأة الصراع على مُلك هستناپُرا وملابساته مروية أيضًا على شكل حوارات لتدفع إلى مشهد بعينه بعدة منشدين يمثلون جميع شخوص الموضوع المركزي والعديد من مخاطَبيهم. ومثل هذا الدمج بين الروايات يضفي على النص مزيدًا من التعقيد.

قصة سليلي بهرتا الكبرى

لا يأخذ موضوع الملحمة الرئيسي، المتمثل في تلك المزاحمة بين أبناء العمومة المولودين من أخوين غير شقيقين، معناه إلا بالرجوع إلى أصول النزاع المروية في الفصول الأولى. ومن المعلوم أن هذه الأحداث المغرقة في القِدَم كشفَها فِياسا – جدُّ طرفي النزاع – لمريده فَيْشَمپايَنا، بحيث إن هذا "الكشف" هو الذي يوثِّق الرواية.

تبدأ القصة الأساسية عندما يتنزَّل فشنو وغيره من الآلهة متخذين صورًا بشرية للتخفيف من وزر الإلهة الأرض التي يضيمها الأبالسة. ففي أعقاب أزمة الخلافة في السلالة القمرية (أي البهارتا) التي تحكم "المنطقة الوسطى" للهند، يتسرب الأبالسة (أسورا asura) إلى الذريات الملكية للممالك الأخرى. وتتنازع عشيرتان ذواتا حقوق متكافئة على مُلك هَستِناپُرا. وإن إيثار پاندو، والد الپاندفا Pāndava (أو الپاندوفيين)، ولجوء بعض أبناء عمومتهم – الكَوْرَفا Kaurava (الكوروفيين) – إلى الخديعة، يضع الـدهرما (الناموس، الحق) إلى جانبهم: من منظور كهذا يبدو من الطبيعي والضروري، لإعادة النظام الكوني والنظام الاجتماعي – وهما أمر واحد في الجوهر، إذ إن كلاً منهما ضمانة لاستتباب الآخر – المختلَّين إلى نصابهما، أن ينعقد النصرُ لأبناء پاندو؛ فهم بحق أبناء الآلهة، كما سنرى، وولادتهم جزء من الخطة الإلهية لإنقاذ الأرض. لكن صلات كلٍّ من الطرفين بالآخر تشتبك وتتداخل إلى حدٍّ يصعب معه ابتياعُ النصر بثمن زهيد – والثمن سيكون باهظًا إلى حدٍّ مخيف، كما سنرى.

أصل الحرب

بالوسع توزيع أسفار الملحمة الثمانية عشر إلى ثلاث مجموعات رئيسية. تعرض الأسفار الأربعة الأولى للأسباب البعيدة والقريبة للنزاع وكيف أمسى حتميًّا: ينبغي، إذن، اقتفاء أثر أسباب النزاع بالعودة القهقرى عدة أجيال. وعندئذٍ تبرز شخصية كورو Kuru. ومع أن تسمية "كَوْرَفا" يختص بها أحد الحزبين المتخاصمين، وهو حزب دهْرِتَراشْترا Dhritarāshtra، فإنهما جميعًا يتحدران من صُلب كورو. فقد وُلد للملك شانتَنو Shāntanu – وهو من ذريته – من الحورية غنغا Gangā (نهر الغانج مشخَّصًا) ابنٌ حكيم وفاضل هو بهيشما Bhīshma؛ ومن بعدُ سعى الملك إلى العقد على الأميرة سَتْـيَـفَـتي Satyavatī التي كانت أنجبت، من حيث لم يدرِ أحد، ابنًا هو كرشنا، تركتْه في جزيرة[12] (دفيپا dvīpa). وعندما بلغ الطفل سنَّ الرشد، انسحب إلى الغابة ليحيا فيها حياة الزهد والتوحد. ولما كان والد سَتيَفَتي راغبًا في رؤية أحد أنجالها ملكًا على هَسْتِناپُرا فقد فرض على شانتَنو لا أن يرغم بهيشما على النزول عن العرش، بل أن يتعهد بعدم إنجاب ذرية قد تنافس ذريةَ ابنته الزوج الشابة. ويَعِد بهيشما العَدْل والمستقيم بالامتثال احترامًا لأبيه، ويتم الزواج ويثمر عن ابنين اثنين. لكن سوء الطالع يتدخل، إذا يُقتَل أحدهما في نزال، فيما يشقى الثاني بجسم معتل ويموت بلا عقب عن زوجين شابتين[13].

فِياسا.

وبحسب عرف قديم يفرض على الأخ أن يتزوج امرأة أخيه المتوفى بلا ذرية، يتم اللجوء إلى بهيشما؛ لكن هذا الأخير الذي تعهد علنًا بألا ينجب لا يستطيع أن يخلَّ بميثاقه. وعندئذٍ تتذكر سَتيَفَتي ابنَها الثاني الزاهد المتوحِّد الذي اتخذ اسم فِياسا؛ فيُرسَل في طلبه، ويقبل، بعد لأْيٍ، أن يستولد ابنًا لكلٍّ من زوجَي أخيه المتوفى. لكن منظره كان من القبح بحيث إن الأميرتين ارتعدتا فرقًا وتقززًا لدى دنوِّه منهما: إحداهما أغمضت عينيها، فوضعت من جراء ذلك طفلاً ضريرًا؛ والثانية غشي عليها، وبسبب من امتقاع لونها المخيف أُطلِق على طفلها اسمُ پاندو، "الشاحب". ومع أن دهرِتَراشترا هو بكر الأخوين، فإن كفَّ بصره أعفاه من ارتقاء العرش؛ وبذلك تُوِّج پاندو ملكًا. ويعقد پاندو على زوجين اثنتين، لكن تقلبات الدهر تنوء على الكَوْرفا: وإذ يقع پاندو ضحيةَ لعنة، فإنه يحذَّر من مغبة مواقعة امرأة لأنه بذلك يحكم على نفسه بالموت. وبذلك تنسحب المشكلةُ عينها على الجيل التالي.

إن ما يميِّز البعد الميثي عمومًا هو وجود الدواء إلى جانب الداء. فقد تلقت كُنتي Kuntī، زوج پاندو الأولى، من أحد الحكماء منترا mantra (عبارة سحرية مقدسة) ذا خاصية عجيبة: ففي مستطاعها، إذ تتلوه مرفوعًا إلى أحد الآلهة، أن تنجب من هذا الإله ولدًا. وقد كانت ما تزال عذراء حين خاضت هذه التجربة سرًّا مع سوريا Sūrya، إله الشمس. أما كَرْنا Karna المولود من هذه الصلة، فقد تخلت عنه دفعًا للأقاويل. وفي العسر الذي يقع فيه پاندو من جراء اللعنة تصارحه كُنتي بموهبتها؛ وبالاتفاق مع زوجها الذي يتبنى الصبي كَرْنا، تنجب ثلاثة أبناء، هم على التوالي: يودهِشْتهِرا Yudhishthira، المولود من دهرما Dharma (تجسيد العدل الإلهي) والمتصف بالحكمة والحصافة؛ بهيما Bhīma، الجبار الطائش، ابن فايو Vāyu (إله الريح)، المتصف بالعنف والنهم والملقب بـ"بطن الذئب"؛ وأرجونا Arjuna، النبَّال النبيل، أجمل الثلاثة، ابن إندرا Indra (كبير الآلهة). والأعجب من ذلك أن كُنتي تقبل أن تستفيد ضرَّتها، المغتمَّة من عقمها الإجباري، من كرامتها الاستثنائية، فتمنحها إياها مرة واحدة فقط؛ لكن الضرة الفَطِنة مادري Mādrī تستحضر بهذه المناسبة التوأمين الإلهيين أشفِن Ashvin، فتنجب توأمين: نَكولا Nakula وسَهادِفا Sahādeva، ذوَيْ الخصال الجسمانية والمعنوية الأقل شأنًا من إخوتهما الكبار، وإن كانا يتصفان بالبسالة والشهامة[14].

في غضون ذلك، تنجب زوج دهرِتَراشترا أولاً دُريودهَنا Duryodhana، المولود قبل يودهِشْتهِرا، ومن بعدُ تسعة وتسعين ابنًا. ومن هذه الذرية الغفيرة، التي يكاد أفرادُها ألا يتميز بعضُهم عن بعض، لا يبرز إلا دُريودهَنا، العنيف، الجائر، الغيور، الناقم؛ ولسوف تكون طبيعته الشريرة هذه علة التنافس بين الأمراء[15].

وإذ يُتوفى پاندو شابًّا عن أطفال صغار[16]، تلجأ كونتي، أم الپاندفا الخمسة، إلى دهرِتَراشترا الطيب لكن الضعيف. وبذلك يترعرع أبناء العمومة معًا؛ ويتولى عمهم بهيشما أمر تدريبهم على فنون القتال وإرشادهم الروحي. وكثيرًا ما يصطدم بهيما، ابن الريح وصاحب الطبع المتهوِّر، بدُريودهَنا؛ لكن هذا الأخير لا يتغاضى عنه، مثلما لا يتغاضى عن فضيلة يودهِشتهِرا، ولا عن جمال أرجونا ومهارته. إن فضيلة يودهِشْتهِرا التي لا لبس فيها تدفع بدهرِتَراشترا، الذي آلَ إليه المُلكُ بعد وفاة أخيه، إلى إعلان ابن أخيه وليًّا للعهد من بعده، مفضلاً إياه على ولده دُريودهَنا. وإذ يستشيط هذا الأخير غضبًا عندما يعلم بالأمر، يقنع الملك بالخديعة بأن ينفي الپاندفا وأمَّهم إلى الغابة.

وإبان هذا النفي، يسمع الأمراء الخمسة بأن حفلاً خاصًّا لاختيار بعل (شفايَمْفَرا shvayamvara) يجري عند درَوْپدا Draupada، عاهل عشيرة الپَنْتشَلا Panchala، على شرف ابنته درَوْپَدي Draupadī (تجسد شري Shrī، إلهة السعد)، فيمضون إلى هناك متنكرين. وإذ ينتصر أرجونا في مباراة الرمي بالقوس ويوتِر قوس درَوپدا العظيم، يفوز بالأميرة التي يعود بها الإخوةُ الخمسة منتصرين إلى أمِّهم قائلين: "لقد فزنا بكنز!" وهاهنا أيضًا يلعب سوء الطالع لعبتَه؛ فمن دون أن تكون كونتي على علم بما جرى – وهي الأم "المنصفة" – تجيب: "فاقتسموه، يا أبنائي، فيما بينكم." وفي السياق الهندي، للِّسان سلطانُه والنظام لا يُنتهَك: بذا تصبح درَوپَدي زوجًا للپاندفا الخمسة[17].

أرجونا يوتِر قوسَ درَوپَدا.

وإذ ينتهي زمان نفيهم، يعود الپاندفا إلى المملكة. وحينئذٍ يقسم دهرِتَراشْترا المملكة، محتفظًا لنفسه بعرش الأجداد في هستِناپُرا ومنصِّبًا يودهِشتهِرا حاكمًا على إندرَپرستها Indraprastha (دلهي اليوم). يتولى يودهِشتهِرا أمورَ أملاكه باعتدال وإنصاف؛ الأمر الذي يؤلِّب عليه دُريودهَنا الحسود وعداوته. وعندما يؤدي يودهِشتهِرا قربان راجَسويا rājasūya للمطالبة بحقِّه في السلطان المطلق، يوعز دُريودهَنا إلى خاله شَكوني Shakuni، المخاتل الخبير بالميسِر، إلى استفزاز يودهِشتهِرا وتحديه في مباراة في النرد. وفي هذه المباراة – وزهر النرد فيها مغشوش – مع يودهِشتهِرا، الذي يشكِّل ولعُه المفرط بالميسِر نقطة ضعفه الوحيدة، لا يجرده شَكوني من المُلك وحسب، بل ومن إخوته وزوجهم. عندئذٍ يأمر دُريودهَنا أخسَّ أشقائه دُهْشاسَنا Duhshāsana بجرِّ درَوپَدي باعتبارها جارية إلى قاعة المجلس؛ وعندما تستنكر ذلك، يأمر كَرْنا Karna (ابن كونتي من سوريا، الحاقد على أمِّه لتخلِّيها عنه وحليف دُريودهَنا) دُهشاسَنا بتعريتها. غير أن هذا الأخير لا يفلح في ذلك، إذ ينهال عليها ساري إثر ساري – بفضل صلاة ترفعها إلى كرشنا، بحسب معظم الروايات – ليبقى جسمُها مستورًا.

بفضل من صلاة درَوپَدي إلى كرشنا تبوء محاولة دُهشاسَنا لتجريدها من ثيابها بالفشل.

إذ ذاك، أمام المعجزة التي تنجي دروپدي من الإذلال، يسخط دهرِتَراشترا ويتدخل، فيَهَب أزواجَها حريتهم ويرد إليهم أسلحتهم (التي سوف يستعملها الپاندفا في الحرب للوفاء بنذرهم بتدمير مهيني زوجهم) ويهب أملاكَه وأوقافَه كلَّها ليودهِشتهِرا. لكن هذا الأخير، في ولعه الجنوني بالميسِر، يخسر كلَّ شيء من جديد؛ الأمر الذي يضطر الملك هذه المرة إلى الإذعان وإلى نفي الإخوة الخمسة اثني عشر عامًا يحيون فيها في الغاب حياة المتوحدين، يليها عامٌ ثالث عشر يجوز لهم فيه أن يعيشوا حيثما يشاؤون، على أن يبقوا متخفِّين، تحت طائلة الموت. وتحفل هذه السنون الطوال، بالطبع، بالمآثر والمغامرات التي تشكل موضوع السِّفر الثالث للـمهابهارتا، أطول الأسفار وأشهرها بما يشتمل عليه من حكايات[18].

لقد قضى الپاندو فترة منفاهم حاجِّين مكفِّرين: فأرجونا، مثلاً، قام بمجاهدات (تَـپَس tapas) للحصول على أسلحة من شيفا. ويقضي الپاندفا الخمسة عام منفاهم الثالث عشر في بلاط الملك فيراتا Vīrāta، الذي زُفَّتْ ابنتُه سُبهَدرا Subhadrā إلى أبهيمَنيو Abhimanyu ابن أرجونا. وهناك نذروا نذر الـديكشا dīksha (التكريس المؤهِّب للقربان)، وبذلك استعدوا لأداء "قربان" المعركة المزمعة أن تقع. وحال انقضاء فترة المنفى، يطالب الپاندفا، وفقًا لبنود الميثاق، باسترجاع مُلكهم، فيرفض دُريودهَنا إجابتَهم إلى طلبهم، وتصير الحرب وشيكة الاندلاع.

بذلك تيسِّر الأسفار الأربعة الأولى من المهابهارتا، بروايتها سوابق النزاع ومقدماته التي تستحق التوقف عندها وتدبُّر رموزها طويلاً، فهمَ الحرب الضروس التي سوف تدور رحاها. ومن جهة أخرى، فإن هذا الجزء من القصيد هو الأغنى بعوائد وأعراف وتقاليد الزمان الذي أُلِّفت فيه الملحمة.

الحرب

يغطي الجزء الثاني الذي يتناول الصراع نفسه الأسفارَ من الخامس إلى الحادي عشر. ويسهب السِّفر الخامس في وصف الاستعدادات المباشرة ولعبة التحالفات بأسرها. لقد سبق للپاندفا أن تحالفوا مع دهرِشتَديومْنا Dhrishtadyumna، شقيق درَوپَدي وتجسد أغني Agni (النار)، الذي يولُّونه قيادةَ جيشهم. لكن من بين الحلفاء المحتمَلين للحزبين يبرز كرشنا، عاهل دفارَكا Dvārakā وابن أخ كُنتي الذي تعرَّف إليه الپاندفا للمرة الأولى لدى زواجهم من درَوپَدي، فيعزِّزون صلتهم به. وهو في مجمل القصيد أمير كبقية الأمراء، لكن حدثًا متميزًا يقدمه لنا في ضوء جديد: يحاول كرشنا لعب دور "سفير سلام" بالنيابة عن الپاندفا؛ لكنه إذ يفشل، يعرض على الحزبين المحتربين إما مساعدة جيشه وإما مساعدته وحده. يسارع دُريودهَنا إلى اختيار الجيش، وبذلك ينضم كرشنا إلى الحزب الخصم، ويصير قائد سوتا sūta (مركبة) أرجونا.

مشهد من مهابهاراتا پيتر بروك: كرشنا (إلى اليسار) يلقِّن أرجونا (إلى اليمين) تعاليم الـغيتا.

في السِّفر السادس، الـبهغفدغيتا[19] – تلك الدرة في تاج الهند الروحي –، يقنع كرشنا أرجونا المتردد، عشية وقوع الحرب، في قتال أبناء عمومته بضرورة القتال بدافع واجب العمل وحده، بصرف النظر عن ثماره، ثم يرفع كرشنا الحجاب عن هويته الحق (بهغفدغيتا 11: 9-30) بوصفه "تنزُّلاً" (أفتارا avatāra) للإله فشنو[20]: أجل، إنه كرشنا، الأفَتارا المجيد، المطلق المشخَّص، اللاهوت في الناسوت، الذي يكفل حضورُه في معسكر الپاندفا انتصارَهم على أبناء عمومتهم. إن تلك الحِوارية بين كرشنا وأرجونا ذروة من ذرى تجلِّي الروح في تاريخ الإنسانية.

كرشنا يكشف لأرجونا عن صورته الكونية: "لو أن ضياء ألف شمس تفجرتْ معًا سَطَعَ في السماء لما دنا من بهاء الربِّ القوي."

وتدور رحى المعركة ثمانين يومًا على سهل كُرُكْشِتْرا Kurukshetra (ميدان قديم لتقديم الأضاحي شمال دلهي الحالية في ولاية هَرِيَنا Haryana) من السِّفر السادس إلى السِّفر التاسع، مع تناوبات من الكرِّ والفر.

كرشنا يقود مركبة أرجونا وسط أوار الحرب المستعر.

وفي المعركة، تتقاطر القوى الإلهية والشيطانية كلها في مجزرة هائلة تؤوَّل بكونها قربانًا أو برمزها إلى نهاية العالم (پرليا pralaya). وفي السِّفر التاسع، يصاب دُريودهَنا، روح الصراع، بطعنة نجلاء، ولا يبقى إلى جانبه إلا ثلاثة من أنصاره. وفي السِّفر العاشر، يتسلَّل هؤلاء إلى معسكر الپاندفا النائمين المطمئنين ويذبحون الأبناء الخمسة التي أنجبتْهم درَوپَدي من أزواجها الخمسة. ويعكس السِّفر العاشر أصداء عويل النسوة ونحيبهن ومراثيهن حيال تلك المصيبة.

كرشنا يحمل على بهيشما بالـ"عجلة": نقطة ذروة في المعركة.

أعقاب الحرب

يختص السِّفر الثاني عشر بوصف عقابيل الحرب. فبقيادته الپاندفا إلى النصر، قام كرشنا، بصفته أفتارا، بدوره في رفع الوزر عن الأرض وتجديد الـدهرما عند الوصلة بين الـدفاپَرا َيوغا dvāpara-yuga والـكالي يوغا kali-yuga الذي هو عصرنا الحالي[21]. ويبدو "سِفْر السلام" Shanti Parvan هذا بوصفه أكثر الأسفار تشوشًا في الظاهر (وهو في الأصل طويل جدًّا)؛ وهو نظريًّا رواية لخطبة بهيشما الجريح على فراش الموت إلى يودهِشتهِرا اليائس أمام هذا العدد من القتلى الذين يكاد معظمهم أن يكون من أنسبائه. ومع أن بهيشما اختار أن يحارب في صفوف الكَوْرفا آملاً أن يلطِّف من عنف دُريودهَنا، فقد ظل مقتنعًا بحقِّ الپاندفا في المُلك. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، يسخو الجبارُ على ابن أخيه بالسلوان والرأي في خطبة طويلة (19494 بيتًا) تستمر حتى السِّفر الثالث عشر[22]. ويموت بهيشما أخيرًا بعد ثمانية وخمسين يومًا من إصابته.

موت بهيشما على "سرير السهام" محاطًا بكرشنا والپاندفا الخمسة.

ويقيم يودهِشتهِرا، المنتصر بلا منازع، شعيرةَ الـأشفَمِدها ashvamedha (قربان الحصان) – وهو الطقس الاحتفائي الذي لا يحق إلا لملك منتصر أن يحييه: ذلك هو موضوع السِّفر الرابع عشر. وبعدئذٍ ينزل يودهِشتهِرا عن العرش لپَرِكْشِت Parikshit، أحد أحفاد أرجونا من زوجه الثانية.

وتسرد الأسفار الأربعة الأخيرة موت جميع الأبطال الناجين من القتال: دهرِتَراشْترا، زوجه، سلفته كُنتي (في حريق اندلع في غابة)، كرشنا[23] وأخيه بالَراما Bālarāma، وأخيرًا الپاندفا. ولقد كان يودهِشْتهِرا وإخوته ودرَوپَدي قد نهضوا لرحلة طويلة إلى الهملايا، مع كلب (دهرما متخفيًا) انضم إليهم، قاصدين فردوس إندرا، فماتوا جميعًا في الطريق – إلا يودهِشتهِرا والكلب. وقد انتهوا جميعًا إلى بلوغ سماء إندرا بأرواحهم، ماعدا يودهِشتهِرا الذي قُيِّض له، بعد المزيد من امتحانات الإخلاص والثبات والرحمة (من ذلك رفضه الدخول من دون الكلب)، أن يلجها بروحه وجسمه، حيث عاد واجتمع أخيرًا بإخوته وزوجهم للنعيم بالغبطة الأبدية.

كرشنا ينزل من مركبته ليبارك يودهِشتهِرا على اجتيازه المِحَن ويجيز له دخول فردوس إندرا.

النصوص الروائية والمقاطع التأملية

تشتمل جملة المؤلَّف على استطرادات عديدة، كلها ذو أهمية[24]. فمن بين الأساطير التي تنزرع على السرد الرئيسي – وهو أصلاً عظيم الامتلاء والغنى – بالوسع إثبات حلقة من الصلات مع قوى ما تحت الأرض – الأفاعي –، وهي غالبًا في حالة نزاع مع القوى السماوية – الطيور. وقد فُصِلتْ عن حكاية الپاندفا وتُرجِمتْ على حدة قصةُ نَلا Nala ودَمَيَنْتي Damayantī – وهما العاشقان النموذجيان في التراث الهندي[25] – وقصة سَفِتري Savitrī، نموذج الزوج الفادية التي من فرط ما تبذل من إصرار وفطنة تتمكن من انتزاع زوجها الشاب سَتْيَفَنْت Satyavant من قبضة ياما، إله الموت والجحيم. وتصادَف في السِّفر الثالث أيضًا روايةٌ مختصرة لمغامرات راما، بطل الرامايَنا. وهذه الأساطير، وغيرها كثير مما ينتشر في المتن الأصلي، تعود إلى عهد أسبق؛ وبعضها يُعَد من أقدم ما في نصوص الملحمة، فيما يكرر بعضُها الآخر رواياتٍ سبق للـبرهمَنا Brahmana أن جاءت على ذكرها.

وبعد، فإن مقاطع أحدث عهدًا تبسط نظرات فلسفية: فالسِّفر السادس، الـبهغفدغيتا، قديم التصنيف، على الأقل في بعض أجزائه؛ لكن خطبة بهيشما في السِّفر الثاني عشر تجسِّد أفكارًا أحدث: الـنارايَنِيا پَـرْفَن Nārāyanīya Parvan، الذي يضم ثمانية عشر فصلاً مكرسة لفشنو نارَيَنا ولملَّة پانتشَراترا Pāncharātra، ليس سابقًا على القرن الثالث الميلادي؛ أما الـأنوغيتا Anugītā، وهي نص ديني فلسفي وارد في السِّفر الرابع عشر، فهي بالتأكيد حديثة التأليف نسبيًّا. وفي هذه المقاطع التأملية جميعًا، يسود منهاجُ الـسامكهيا يوغا الذي تواصَل حتى العصر الحاضر.

وفي القرن الرابع الميلادي، أُلحِق بـالمهابهارتا قصيدٌ ملحمي طويل مشابه هو الـهَرِفَمْشا Harivamsha ("ذرية هَري")، يتجاوز العشرة آلاف بيت (شلوكا shloka) ويعتبره المنقول ملحقًا بالملحمة وينسبه إلى فِياسا أيضًا. وهو في أسلوبه يقترب كذلك من النصوص الملحمية اللاحقة، الـپورانا Purāna، التي يذكِّر بها بعضُ نصوص المهابهارتا المتأخرة. وهذا المؤلَّف الواسع الشعبية مكرس، كما يدل عنوانُه، لهَري (فشنو) ويتألف من حكايات وأساطير وأناشيد ومدائح مرفوعة إلى فشنو–كرشنا؛ وهو بمنزلة الكتاب المقدس لدى ملَّة الـبهاغَفَتا أو أتباع بهَغَفَنْت Bhagavant.

إن الصعوبة الكبرى التي يلاقيها المرء في الفكر الهندي، كما في كلِّ فكر نقليٍّ آخر، في فصل الفلسفة عن الميثولوجيا "الدينية"، تفسِّر هذه الأهمية العظيمة المعقودة على المهابهارتا المتمثلة في وجود مقاطع تأملية عرفانية مذهلة العمق متداخلة مع الأساطير الوثيقة الصلة بمعتقدات العامة الذين يُستأمَنون، من حيث لا يدرون، على المنقول الفلسفي أو السرَّاني. وفي هذا المنظور الميثي، تتوضع ثيمة "اللعنة" التي لا يستهان بها في المنقول الهندي وتتكرر الكرة بعد الكرة في الملحمة: عداوة أبناء العمومة، حتمية الحرب، إلخ؛ والكل يظهر بوصفه تسلسل متوالية لعنة نزلت يومًا ما، وتظهر نتائجُها على المدى البعيد أحيانًا، لكن من دون أن يكون عنها محيد[26]. و"اللعنة"، بما هي اسم آخر لناموس كرما karma الكوني الشامل[27]، تصير "قانون مصونية الطاقة الأخلاقية"، بحسب عبارة الفيلسوف الهندي س. رادهاكرشنان، الذي يلعب في الملحمة الهندية الدورَ عينه الذي تلعبه مويرا Moira في الأدبيات الإغريقية القديمة[28].

إشارة أخيرة

لم يكن ما سبق إلا عرضًا لنواتئ بسيطة من فضاء غير محدود هو فضاء الـملحمة. المهابهارتا أكبر جهد مفرد في الإبداع الأدبي الروحي أنتجتْه الإنسانية في تاريخها؛ وإلهامه كالزمن من حيث الحيوية وتنوع الصور والأشكال. وهو، بما هو عمل أدبي، يحتوي على كلِّ ما عرفته المدارس الأدبية قاطبة من أشكال وأساليب – كلِّ قصة حدثت أو رُوِيَتْ، كلِّ نمط شخصي بشريٍّ عرفتْه الإنسانية، وكلِّ ظرف حدث أو ممكن الحدوث. فهو، بهذه المثابة، رواية لقصة الإنسان من منظور إلهي. وهو، بما هو عمل فني "موضوعي"، على حدِّ اصطلاح غ.إ. غورجييف، يخرج منه المرءُ غيرَه قبل أن يدخله. ولعل القارئ المغامر الذي يجد في نفسه ما يكفي من الجرأة لمقاربة نصٍّ كهذا سرعان ما يجد نفسه في موضع غَنيشا، الذي دوَّنه بإملاء من فِياسا، إذ طلب بأن يُعفى من المهمة إذا ما اتفق لأحد معانيه أن يستغلق عليه – لكنه لم يُعفَ من المهمة إلا بعد فراغه منها!

*** *** ***

 

مراجع

-          Das Gupta, S.N., History of Sanskrit Literature, vol. I: Classical Period, Calcutta, 1947.

-          Dumézil, G., Mythe et épopée, vol. 1 : L’idéologie des trois fonctions dans les épopées des peuples indo-européens, Paris, 1968.

-          Herbert, Jean, La mythologie hindoue : son message, Paris, 1953.

-          Herbert, Jean, Spiritualité hindoue, Paris, 1972.

-          Narasimhan, C.V., The Mahābhārata, New York, 1965.

-          Nouvelles de l’Inde, revue publiée par l’Ambassade de l’Inde, Paris, nov.-déc. 1989, pp. 12-15.

-          Radhakrishnan, S., Indian Philosophy, vols. I & II, New York & London, 1956.

-          Roy, P.C. & K.M. Ganguli, The Mahabharata of Krishna-Dwaipayana Vyasa, 12 vols., 2nd ed., Calcutta, 1970.

-          Sukthankar, Vishnu S., On the Meaning of the Mahābhārata, Bombay, 1957.

-          The Bhagavadgītā or The Song Divine (With Sanskrit text and an English translation), 22nd ed., Gita Press, 1975.


[1] تُعرف الملحمة أيضًا باسم جَيا Jaya ("النصر")، إشارةً إلى انتصار دهرما dharma (الناموس، الحق) على أدهرما adharma (اللاناموس، الباطل)، كما يجاهد في سبيله كرشنا، "التنزُّل" الإلهي الذي يوجِّه الأحداث الرئيسية للأسطورة. كما تُدعى أيضًا كارشنافيدا Kārshnaveda ("فيدا كرشنا")؛ وهي نسبة قد يكون اللبس فيها مقصودًا، باعتبار أن وضع النص لا يُنسَب إلى كرشنا، بل إلى كرشنا دفَيپايَنا، كرشنا "الجزيري" الملقَّب بفِياسا، كما يذهب بعض الباحثين. وأخيرًا، فإنها تُعرَف باسم "الفيدا الأخير" للدلالة على الأهمية العظمى التي علَّقها الشعراءُ الملحميون البراهمة على استمرار الموروث الفيدي من خلالها. (راجع للملحمة نصًّا بالعربية مختصرًا: المهابهاراتا: ملحمة الهند الكبرى، بترجمة وتقديم عبد الإله الملاح، دار ورد، دمشق، 2002.)

[2] الملحمة الثانية هي الرامايَنا.

[3] إن عدد 10000 هو العدد الرمزي نقلاً؛ أما العدد الفعلي فهو حوالى 69000 بيت. مهما يكن من أمر، فإن الـمهابهارتا بلا منازع أضخم النصوص الهندوسية، ولعله أضخم نصوص العالم قاطبة؛ إذ يبلغ طوله سبعة أضعاف طول الملحمتين الهوميريتين مجتمعتين.

[4] تُصنف الملحمة كنص سمرتي smriti ("نقليًّا") أكثر منه شروتي shruti ("موحى به")، وإن يكن مؤلِّفها الميثي فِياسا هو عينه الشخص الذي تعزو إليه الأساطيرُ الملحمية والكلاسيكية "تقسيم" الوحي الفيدي إلى أربعة أسفار.

[5] لا بدَّ هاهنا من إشارة عابرة إلى مسرحية المهابهارتا التي أعدَّ نصَّها جان كلود كاريير وأخرجها پيتر بروك في عمل خالد من أبدع أعماله المسرحية دام حوالى 9 ساعات، ثم اختصرها في رائعة سينمائية مدتها حوالى 3 ساعات. (راجع: جان كلود كاريير وپيتر بروك، المهابهاراتا: عن الملحمة الهندية القديمة، بترجمة ممدوح عدوان، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1996.)

[6] أغلب الظن أن هذا التأثير امتد ليشمل العالم القديم بأسره، ولاسيما بعد بزوغ الحضارة الهلنستية. ويبدو أن مدرِّس البيان ذيون الذهبي الفم (خريسوستوموس) الذي عاش في القرن العاشر كان على اطلاع على الملحمة الهندية. ولقد أعيدت صياغةُ المهابهارتا في روايات محلِّية، شفهية ومدونة، عِبْر جنوب آسيا وجنوب شرقها، حيث تمتعت دومًا بشعبية مدوِّية. كما نُقِشَتْ أحداثُها على الحجر، وبخاصة في أفاريز أنغُر وَطْ وأنغُر طُمْ في كمبوجيا، ورُسِمَتْ بريشة رسامي المنمنمات الهنود.

[7] جدير بالذكر أن السيدة بلافاتسكي تقول في العقيدة السرية (طب 1، المجلد الثاني، ص 183) إن "المهابهارتا تاريخ بمقدار ما هي الإلياذة كذلك".

[8] كان بهرتا ابن الملك دوشيَنْتا Dushyanta والحورية شَكُنتَلا Shakuntalā، التي خلَّدها كاليداسا في المسرحية الشهيرة التي تحمل اسمها، كما أسلفنا في دراستنا الإجمالية عن أثر الميثولوجيا في الثقافة الهندية.

[9] ليست الملحمة، التي جرت عليها تنقيحاتٌ وتعديلاتٌ عديدة حتى صارت على الصورة التي وصلتنا، من عمل جيل واحد، فكيف بالحري من عمل إنسان واحد؟! إنها قطعًا عمل جماعي تعاقب عليه مؤلِّفون كثر. لكن أغلب الظن أن لنسبتها إلى "الرائي" rishi فِِِياسا قيمةَ الرمز.

[10] بالمقابل فإن الـجنانا (العرفان) هو الطريق الروحي الملائم لطائفة البراهمة.

[11] موكشا أو موكتي مصطلح ينطوي على معنى التحرر والانعتاق إبان الحياة. وبحسب مذهب الفيدنتا، فإن التحرر هو الثمرة الناضجة للتحقق بمعرفة الذات أو "كشف الحقيقة" tattva-jnāna الناتج عن تطهير تام للمركَبات المؤلِّفة للشخصية البشرية، ولاسيما المركَبتين الذهنية والحيوية.

[12] من هنا تسمية كرشنا بـ"دْفَـيْـپـايَنـا" Dvaipāyana، "الجزيري".

[13] في المنظور الهندي، الذي كان ما يزال مشبعًا بالمعتقدات الفيدية، يُعتبَر عدم إنجاب الأبناء لمواصلة النسل وتقديم القرابين التي تكفل للأجداد شيئًا من الحياة في الآخرة مصيبة وأية مصيبة!

[14] لعلنا لا نجانب الصواب في قولنا هاهنا بأن إعمال بعض المعايير النقلية في القصيد هو السبيل إلى كشوف ثمينة: فتحليل أسماء الأعلام بهذا الصدد مفتاح لكشف الخصائص النفسية والروحية للشخوص والمصير الذي ينبسط من خلال حياة كلٍّ منهم.

[15] تمثل هذه المجموعة من الآلهة والأبطال، بحسب تأويل جورج دوميزيل، محورًا تراتبيًّا ضمن الپانثيون الفيدي (والهندأوروبي) يقابل ترتيب "الطوائف" (فرنا varna) الآرية العليا الثلاث، وعلى نحو أقدم ما دعاه دوميزيل "الوظائف الثلاث": أ. سيادة الدين والناموس (دهرما/يودهِشتهِرا)؛ ب. الحِرابة (فايو/بهيما، إندرا/أرجونا)؛ ج. الرفاه الاقتصادي والخدمة (الأشفِِن/التوأمين). وفي حين يمثل الپاندفا بذلك نواة التراتبية الاجتماعية والإلهية وسيادة مبدأ دهرما، يمثل أبناء عمومتهم المئة – تجسُّدات للـراكشَسا rākshasa (العفاريت المفرِّقة)، باستثناء بكرهم دُريودهَنا الذي يجسِّد الـأسورا كالي (الشقاق)، شيطان الـكالي يوغا kali-yuga – قوى الشواش واللاناموس (أدهرما)، قوى يأجوج ومأجوج في التراث الإبراهيمي.

[16] تقول رواية أخرى إنه تخلَّى عن المُلك متنسكًا.

[17] إن تعدد الأزواج هذا، الفريد في الأدبيات الهندوسية والمخالف لشريعة البلاد وأعرافها، يفسَّر أحيانًا بأن أصل پاندو كان من التيبت، حيث يُعتبَر تعدد الأزواج أمرًا سويًّا حتى يومنا هذا؛ وهناك تفسير آخر لهذا الشذوذ هو أن الإخوة الخمسة، كما مرَّ بنا، كانوا تنزُّلات لخمسة آلهة: دهرما، فايو، إندرا والتوأمين أشفِن (المعادلين الهندوسيين للذيوسقور، ابنَي زفس Zeus كاستور Castor وپولُكس Pollux، في الميثولوجيا الإغريقية). بيد أن التأويل الباطني لهذه الظاهرة هو أن كلاً من الأشقاء الخمسة يمثل لمركَبة من مركَبات الوعي أو "المبادئ" التي يتألف منها البنيان الباطني للإنسان: التوأمان يمثلان الجسم و"قرينه" النجمي، بهيما الجسمَ الرغائبي، أرجونا الفكرَ، يودهِشتهِرا العقلَ الأرفع، ودرَوپَدي بودهي، مبدأ الإشراق الروحي، الذي يتخذ المبادئ المذكورة "مركَبات" للتجلِّي.

[18] نذكر منها حكايتي نَلا Nala ودَميانْتي Damayantī، راما وسيتا (موضوع الـرامايَنا)؛ كما نجد أيضًا أسطورة ميلاد الغانغا، النهر العظيم (درب التبانة)، السماوي أولاً ثم الأرضي (أسطورة السغارديين)، ومآثر وأفعال ماركَندِيا Mārkandeya (الطوفان الكوني، ولادة إله الحرب سكَنْدا، أسطورة سَفِتري، إلخ).

[19] ليست أناشيد الـغيتا من أقدم النصوص في الملحمة، بل المرجَّح أنها أضيفت إليها لاحقًا.

[20] من أجل تكوين فكرة دقيقة عن الاختلاف بين الشرق والغرب حول مفهوم الإله، حسب القارئ أن يعود، بعد انتهائه من قراءة الباب العاشر في الـغيتا، إلى النشيد الأخير من فردوس دانتي.

[21] جاء في المهابهارتا أن الحياة في هذه الدنيا بلغت آخر يوغاتها الأربعة وأسوأها: كالي يوغا – عصر الحديد والدم والنار. وقد بلغنا الآن أواخره، بحيث إن شروط الحياة سوف تسوء حتى بلوغ منتهاه. وبعد معاناة رهيبة، ستنبعث الحضارةُ من جديد في عصر ذهبي. يقول سَوتي: "في نهاية الـيوغا، كل الموجودات، كل الأشياء المخلوقة، يمتزج بعضها ببعض. وفي بداية يوغا جديد، تتجدد الأشياء كلها وتتوالى كثمار الأرض في مواسمها. كذا في الكون تستمر أبدًا في الدوران العجلةُ التي تتسبب في فناء الأشياء كلِّها."

[22] هذه الخطبة كنز من الحكمة والأخلاق، نوع من الموسوعة التشريعية والفلسفية.

[23] أرداه صيادٌ قتيلاً ظنًّا منه أنه غزال.

[24] لا تشكل قصة الصراع غير خُمس العمل ككل؛ ولعلها كانت ذات يوم قصيدة منفصلة تسمى الـبهارتا Bhārata.

[25] لا ينازعهما في ذلك إلا الشفع الإلهي رادها–كرشنا Rādhā-Krishna.

[26] من الأمثلة على ذلك خطف بهيشما من أجل إخوته بناتِ ملك فارنسي Vārānasī (بِنارِس الحالية)، محطمًا بذلك مستقبل بكرهنَّ المخطوبة إلى ملك جار؛ وهذه، في يأسها، تلعنه مقسمةً أن تتجسد من جديد في جسم محارب كي تقتله. ولأن پاندو قتل نمرًا في أثناء النزاء، فإن النمرة – وهي بشرية ضحية لعنة هي الأخرى – تحكم عليه، تحت طائلة الموت، بألا يغشى زوجه.

[27] يقابله في الميثولوجيا الإغريقية نميسِس Nemesis، إلهة الثأر.

[28] إلهة إغريقية تجسِّد "القدر". والشقيقات الثلاث كلوثو Klotho ولَخيسِس Lacheisis وأتروپوس Atropos، القائمات على ولادة البشر وحياتهم وموتهم، على التوالي، تُدعَين أيضًا بالـمويرات Moires.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود