عوائقُ استيعَاب الخِطَاب الأكْبَري

 

الأخضر قويدري عطاء الله[1]

 

يتميَّز الخطابُ الصوفي عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي بطابعه الروحي و"الاستسراري" ésotérique، مما يثير شهيةَ الباحثين ويدفعهم إلى المغامرة لفضِّ رموزه وفكِّ طلاسمه بغية الكشف عما يتضمَّنه من خفايا. غير أن تلك المحاولات غالبًا ما تبوء بالفشل وتتحطم أمام العتبات الأولى من النص، ليعود أصحابُها إما بخيبة اللافهم أو بغرور الفهم المزيف.

وبإزاء هذا المشكل الإپستمولوجي، يمكن لنا أن نطرح السؤال الموالي: ما هي العوائق التي تحول دون استيعاب نصوص الشيخ الأكبر؟ وهل من الممكن إزالتُها؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال، يتعين علينا أن نتطرق إلى تصنيف ابن عربي للعلوم، حيث نجده يقسمها إلى ثلاثة أقسام:

1.     علوم العقل: وهي العلوم التي تحصل نتيجة التدبُّر والتفكُّر والنظر[2].

2.     علوم الأحوال: وهي مجموعة العلوم الناتجة عن التجربة الوجدانية:

فلا يقدر أحدٌ أن يحدَّها [...]، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق.[3]

3.     علوم الأسرار: وهي علوم لَدُنِّية، إلهامية، تتجاوز حدودَ العقل، ويختص بها الأنبياءُ والأولياء[4].

وإذا كان القارئ لا يجد أيَّ عُسْر يُذكَر في فهم النصوص ذات الطابع الفقهي والتربوي والتي تتعلق بعلوم العقل، فإن الأمر ليس كذلك بخصوص النصوص التي تتعلق بالمجالين الآخرين، أي بعلوم الأحوال وعلوم الأسرار: إذ إن أغلب الإشكالات التي يعانيها القراء، على اختلاف أصنافهم، ترجع، بالدرجة الأولى، إلى "ضبابية" تلك النصوص وإغراقها في الرمزية وبُعدها أحيانًا عن المعقول.

والحقيقة أن ابن عربي كان يدرك ذلك "الغموض" في خطابه؛ وقد صرَّح في أكثر من كتاب من كتبه أن ما يكتبه ليس من مجال علوم العقل، بل هو أسرار ومواهب لدنية وواردات روحانية تلقاها قلبه في حالة الصفاء. فكتاب الفتوحات المكية، مثلاً، كان إلهامًا من الله أيام وجوده بمكة[5]؛ أما كتاب فصوص الحكم – وهو من أعقد كتبه وأجمعها لفكره – فقد كان بإذنٍ نبوي[6]. وعليه، فإن خطاب ابن عربي، سواء في الفتوحات أو في الفصوص أو في الكتب الأخرى، ليس خطابًا عاديًّا ولا عموميًّا، وإنما هو خطاب نخبوي بامتياز، يخاطب فئةً تمتاز بخصائص عرفانية تؤهِّلها لفهم مضامينه.

ومما يجب التنبيه إليه أن الصعوبة التي تكتنف النصوص "الأكبرية"[7] لم تكن عفوية، بل مقصودة: فقد أعلن صراحةً أنه يتعمد تفريق الأفكار وتبديدها حتى لا يستطيع فك شفراتها إلا مَن هم معنيون بخطابه، وهم نخبة العارفين. ذلك ما أكده فعلاً في مقدمة الفتوحات، حيث قال:

وأما الصريح بعقيدة الخاصة فما أفردتُها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئتُ بها مبدَّدةً في أبواب هذا الكتاب، مستوفاةً مبيَّنة، لكنها، كما ذكرنا، مفرَّقة.[8]

ومن هذه الحيثية نفهم كيف وقع الاختلافُ بين العلماء حول عقيدته، ما بين مَن يكفِّره ويعتبره زنديقًا مارقًا[9] ومَن يعظِّمه ويعتقد بولايته ويعتبره وليًّا صالحًا ومربيًا للعارفين[10].

ومما لا شك فيه أن الخطاب الأكبري لن يظل عصيًّا على الفهم، بل يمكن أن تنجلي معالمُه إذا ما أزيح بعضُ العوائق التي تحول دون ذلك؛ وهي في اعتقادي تعود إلى أربعة:

1.     العائق الروحي؛

2.     العائق المعرفي؛

3.     العائق الاصطلاحي؛ و

4.     عائق القراءة التجزيئية.

1. العائق الروحي: لقد تبين مما سبق أن ابن عربي كان يكتب نصوصَه وهو في حالة صفاء روحاني، فكان يتلقى المعاني على شكل إلهامات. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يتسنى فهمُ خطابه إلا لمن امتلك ذلك الصفاء، أو بعضًا منه، حتى تحصل المشاركةُ الروحيةُ بين الملقي والمتلقي. وبقدر ذلك التقارب الروحي بين الطرفين يكون الفهم.

وبطبيعة الحال، لا ننكر أن هناك عددًا من الدارسين وُفِّقوا، إلى حدِّ ما، في بحث الجوانب العقلية من نصوص ابن عربي؛ لكن أكثرهم أخفقَ في النفاذ إلى المعاني الروحية العميقة التي كان يلوِّح بها. ومرد ذلك أن تلك المعاني مستترة داخل التجربة الصوفية التي كان ابن عربي يعيشها ويكتب من خلالها؛ إذ لا يمكن فهم حقيقة ما كَتَبَ إلا من داخل التجربة الصوفية نفسها. وأكبر دليل على ذلك ما حدث للفقيه عز الدين بن عبد السلام: فقد كان من المعترضين على ابن عربي، وكان يكفِّره ويصفه بأنه "شيخ سوء كذاب"[11]؛ فلما التقى بالشيخ أبي الحسن الشاذلي وانتسب إلى طريقته وخاض غمار التجربة الصوفية، فهم رموز ابن عربي واستوعب ما كان يجهله من نصوصه، فكان ذلك سببًا في تراجُعه عن كلِّ ما قاله في حقِّه من اتهامات، وصار يصفه بأنه "القطب الفرد الجامع"[12].

إن قضية تحوُّل الفقهاء من الانتقاد إلى الاعتقاد في حق الصوفية عُرِفَتْ كثيرًا في تاريخ التصوف الإسلامي. وإنما تم إيراد تلك القصة دليلاً على أن الخطأ في التعامل مع النص الصوفي لا يؤدي إلى تشويه دلالاته الأدبية والفنية والفلسفية فحسب، بل يتعدى ذلك ليصبح تهمًا إيديولوجية قاتلة.

2. العائق المعرفي: إذا تقرر لدينا مما سبق أن ما كَتَبَه ابن عربي ينتمي أكثرُه إلى مجال علوم الأحوال والأسرار، فمعنى ذلك أن قارئ كتبه مجبَرٌ على التسلح بأدوات معرفية تساعده على التحرك في تلك المجالات، قراءةً وفهمًا. ومن تلك الأدوات ما ذكره ابن عربي في مستهل كتاب الفتوحات، حينما أكد على أن معرفة علوم أهل الله تتطلب الإلمام بسبع مسائل هي:

1.     معرفة أسماء الله تعالى؛

2.     معرفة التجلِّيات؛

3.     معرفة خطاب الحق عباده بلسان الشرع؛

4.     معرفة كمال الوجود ونقصه؛

5.     معرفة الإنسان من جهة حقائقه؛

6.     معرفة الكشف الخيالي[13]؛ و

7.     معرفة العلل والأدوية[14].[15]

ويظهر أن هذه المطالب ليست مما يهتم الفقهاء ولا غيرهم من علماء الدين بتعليمها، ماعدا المسألة الثالثة، وهي التي تدور حول معرفة العلم الشرعي. ولا نذيع سرًّا إذا قلنا إن جُلَّ تلك المطالب صعبةَ التحقيق على "المثقف" المعاصر الذي لم يتعود على نصوص يمتزج فيها التصوفُ بالفلسفة والفلك القديم والرياضيات والمعارف الباطنية. غير أنه يمكن التغلب على تلك الصعاب بالاقتراب من الدوائر الصوفية، حيث مازال أصحابُها يحافظون على تلك المعارف لِمَا لها من وثيق الصلة بسلوكهم إلى الله.

3. العائق الاصطلاحي: لقد أكد كثيرٌ من الباحثين أن اللغة الرمزية التي كتب بها ابن عربي نصوصَه تُعتبَر عائقًا مثبطًا وسدًّا منيعًا للقارئ غير المؤهل[16]. ويبقى استيعابُ تلك اللغة موقوفًا على ما يتوفر لدى القارئ من مهارة ولباقة في الملاءمة بين الرموز وبين المعاني التي تعنيها والمدلولات التي تنطوي عليها[17]. وبما أن تلك الاصطلاحات تدخل ضمن النسق المعرفي الخاص بابن عربي، فإن الوعي الدقيق بها يصبح مدخلاً حتميًّا لا غنى عنه إلى تمثُّل ذلك النسق وفهمه.

وقد يؤدي الجهل بالمصطلحات والرموز التي وظَّفها ابن عربي إلى تشويه فظيع، ليس لنصوصه فحسب، بل حتى لشخصيته. وهذا ما حدث بالفعل لأحد الفقهاء في حلب، حيث فوجئ بتلك الرموز الغزلية والخمرية الموجودة في كتاب ترجمان الأشواق، فراح يتهم ابن عربي بالفسق وبالمروق عن الدين، الأمر الذي دفع بالشيخ الأكبر إلى المسارعة إلى شرح تلك الرموز، مما كان سببًا في تراجُع ذلك الفقيه عن اتهاماته للصوفية في ما يأتون في أقاويلهم من الغزل والتشبيب وهم لا يقصدون من ذلك سوى معانٍ وأسرار إلهية[18].

4. عائق القراءة التجزيئية: أكد ابن عربي في مقدمة كتابه الفتوحات أنه تعمَّد تبديدَ أفكار الكتاب حتى لا يظفر بها منسجمةً إلا أهلُها[19]. ومعنى ذلك أن أية قراء سطحية أو تجزيئية لذلك الكتاب أو لغيره من الكتب الأخرى ستؤدي حتمًا إلى مغامرة عقيمة لا جدوى منها، لأن مذهب ابن عربي لا ينكشف للباحث إلا من خلال مسح شامل لأغلب كتبه. فقد يَرِدُ بعضُ الأفكار الغامضة في موضع ما في أحد كتبه، ثم يَرِدُ شرحُها في موضع آخر من الكتاب نفسه، أو في كتاب آخر؛ وبالتالي، تتضح لنا ضرورةُ القراء الشاملة والمتكاملة لكلِّ ما كتب.

وممن اصطدم بهذا العائق د. أبو العلا عفيفي، الذي كرس حياتَه العلمية لدراسة ابن عربي، فكان له الفضلُ في تسليط الضوء على أعقد القضايا في فكره. هو ذا يقول واصفًا ما وَجَدَه من مشقة في تعامُله مع كتب ابن عربي:

أقبلتُ على كتب ابن عربي أقرؤها، وكان أول كتاب نصحني الأستاذ [رينولد نيكلسون[20]] بقراءته فصوص الحكم، فقرأته مرات ومرات [...]، ولكن لم يفتح الله عليَّ بشيء! كنت أقرأ كلامًا عربيًّا مُبينًا، وأفهم كلَّ كلمة على حدة، ولا أستطيع فهم المضمون العام أو المعنى الكلِّي لما يهدف إليه المؤلِّف. [...] فنصحني [نيكلسون] بترك الفصوص والإقبال على كتب أخرى لابن عربي، فقرأتُ منها نيفًا وعشرين كتابًا ما بين مطبوع ومخطوط [...] وتبينتْ لي معالمُ الطريق إلى فهم أسلوب ابن عربي ومراميه [...].[21]

تلك هي العوائق الأربعة التي تقف سدًّا منيعًا في طريق الدارسين لابن عربي. وبقدر إزاحتها من الطريق يكون الاقترابُ من عالمه واستيعاب لغته. وعلى الرغم مما قيل من أن ما كَتَبَه يُعَد لونًا من "الأرستقراطية العقلية"[22]، فإن تلك "الأرستقراطية" أرستقراطية عادلة ومشروعة، لأنها لا تُنال بجاهٍ ولا بمال ولا بنفوذ اجتماعي، لكنْ بما يملكه المرءُ من قدرات عقلية واستعدادات روحية ومواهب عرفانية.

وسيظل خطابُ ابن عربي، على غموضه، هاجسَ كلِّ راغب في حلِّ شفرة هذا الوجود، وستظل لغتُه، على صعوبتها، دليلَ السائرين إلى عالم الأرواح.

*** *** ***

 

مراجع

  1. ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، بتحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1: 1999، مج 1.
  2. ابن عربي، محيي الدين، ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، بتحقيق محمود عبد الرحمن الكردي، القاهرة، 1968.
  3. ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، بشرح مصطفى بن سليمان بالي زاد الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2: 2003.
  4. أبو زيد، نصر حامد، هكذا تكلم ابن عربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، د ت.
  5. الحنبلي، ابن عماد عبد الحي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، ط 2: 1979؛ ج 5.
  6. الرندي، ابن عباد، المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، المطبعة العامرية، مصر، 1314 هـ.
  7. عفيفي، أبو العلا، "ابن عربي في دراساتي"، ضمن: الكتاب التذكاري للذكرى المئوية لمحي الدين بن عربي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1969.
  8. مبارك، زكي، التصوف الإسلامي، دار الجيل، بيروت، د ت.
  9. مصطفى، حلمي محمد، "كنوز في رموز"، ضمن: الكتاب التذكاري للذكرى المئوية لمحي الدين بن عربي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1969.

[1] جامعة الأغواط، الجزائر.

[2] ابن عربي، الفتوحات المكية، بتحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1: 1999؛ مج 1، ص 54.

[3] المصدر السابق، ص 54.

[4] المصدر السابق، ص 54-55.

[5] المصدر السابق، ص 25.

[6] ابن عربي، فصوص الحكم، بشرح مصطفى بن سليمان بالي زاد الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2: 2003؛ ص 12-13.

[7] نسبة إلى الشيخ الأكبر ابن عربي.

[8] ابن عربي، الفتوحات المكية، مج 1، ص 65.

[9] من بين هؤلاء الإمام ابن تيمية.

[10] من بينهم الإمام عبد الوهاب الشعراني.

[11] ابن عماد عبد الحي الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، ط 2: 1979؛ ج 5، ص 193.

[12] ابن عباد الرندي، المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، المطبعة العامرية، مصر، 1314 هـ؛ ص 23-25.

[13] يقصد العلوم الإلهامية على اختلاف أنواعها.

[14] يعني بذلك العلم طرق العلاج الروحي وتزكية النفس.

[15] ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 1، ص 59.

[16] نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، د ت؛ ص 109.

[17] حلمي محمد مصطفى، "كنوز في رموز"، ضمن: الكتاب التذكاري للذكرى المئوية لمحي الدين بن عربي، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1969؛ ص 44.

[18] ابن عربي، ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، بتحقيق محمود عبد الرحمن الكردي، القاهرة، 1968؛ ص 4-5.

[19] ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 1، ص 65.

[20] هو من أكثر المستشرقين درايةً بالتصوف الإسلامي؛ له عدة دراسات عرَّب تلميذُه د. عفيفي بعضها تحت عنوان في التصوف الإسلامي وتاريخه.

[21] أبو العلا عفيفي، "ابن عربي في دراساتي"، ضمن: الكتاب التذكاري، ص 6-7.

[22] ذهب إلى هذا الرأي زكي مبارك؛ راجع كتابَه: التصوف الإسلامي، دار الجيل، بيروت، د ت؛ ص 133.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود