الكَــوْنِــيُّ

 

ثنـاء درويـش

 

ذات صباح، والندى يغسل مقلةَ الفجر الناعسة ويوْدِعُها أشعةَ الشمس تنشِّفها على مَهَل في نعومة وحنان...
ذات صباح، حين الزمان – مكر الرب – يعلن عن بدءٍ جديدٍ (وما البداية والنهاية إلا وَهْمٌ زمانيٌّ في عين اللامتناهي)...
صباحٍ متَّشحٍ باختلافه، عن استحقاق وشرف، لِحَدَثٍ يصبغه بلونه المميَّز (فكلُّ الأصباح والأماسي تتشابه مادام القمرُ يمارس عشقَه للأرض في رقصة الوجود المولوية الأزلية–الأبدية)...
لكأنَّ الأرض هذا الصباح عروس تُجلى في أبهى زينة، احتفاءً بمقدم الإنسان، وفَرَحًا بصدق النبوءة.

* * *

من جديد وجد الكونيُّ نفسه عالقًا على هذا الكوكب المضاء.
تلفَّتَ حوله برهةً مستطلعًا، محاولاً استحضار تفاصيل حياته الماضية من ذاكرته المعدَمة.
لكنَّ الأمر لم يكن سهلاً البتَّة!
فكيف لذاكرةٍ كونية جمعية محيطة أن تسترجع بسائط الذكريات الدنيوية؟!
وكيف لذاكرةٍ شهدتْ يومَ "أَلَسْتُ" أن تذكر ما بعده؟! –
ذاكرةٍ قايض بها كلَّ ما يملك من إرث ومتاع مادي ومعنوي – وإذا به عارٍ تمامًا إلا من فقره وحاجته إليه.

* * *

بِوادٍ غير ذي زَرْعٍ وضعتْه أمُّه بعد أن اثَّاقل عليها الحمل، حيث لا ظل ولا ظليل يحمي من لهب أو يردُّ هجيرَ الشمس إنِ استوتْ في كبد السماء ساعة الظهيرة.
لا خضرة ولا ماء ولا أثر للعمران على مدِّ النظر.
وحده على أرض طيِّبة تتحداه وسماء عالية تَعِدُ بالمدد.

وهو، بديع السموات والأرض سمَّاه أبوه حين "علَّمه الأسماء كلَّها"، عليه أن يفجِّر الماء من قلب الصخر، ويقلِّب الأرض ويهيِّئها للزراعة، ثم يدفن بذورَه فيها ويرعاها، فإذا بالصحراء جنَّة وروضًا من رياض الله.
ألم يقل له منذ البدء: "كنتُ كنزًا مخفيًّا وأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الوجود لأجلك وخلقتُك لأجلي"؟

ومازال القولُ ساريًا...
فها هو ذا صوت الحبيب العُلويِّ لا يفتأ يدوِّي في ردهات نفسه، يزلزله، ليحثَّ الخطى قُدُمًا في سيره المكِّي نحو الكعبة:

يا إبداعي الجميل الجليل، كن كما أردتُك منذ البدء أن تكون: حضرة الإنسان.
فعِّل نونك على أرض تكوينك، ليصبح الاسمُ فعلاً والصورة تُطابق معناها، فتستحق إذ ذاك أن تلبس جبَّة الخلافة، متوَّجًا بتاج الملكوت وحاملاً صولجان الملك: "وعلى قدر المجاهدات يكون علوُّ المقامات."

نظرة منِّي وقعتْ عليك، فكان الاختيار –
ومتى كانت لك الخيرة إذا قضى الله أمرًا؟!
إنما أعطيك الخيارَ تشريفًا، يا مرآتي الصافية الصادقة، ويا أحسن التقويم!

* * *

ويغمرُه فجأةً حنينٌ جامح لأبيه إبراهيم، ويسيطر عليه إحساسٌ قوي أنه إسماعيل المفتدى بالكبش العظيم.
إنَّه لا يفهم كثيرًا قصص التقمص والحلول التي كان يسمعها هنا وهناك، لكنه يؤمن أن القصة ذاتها تتكرر معه، كما تكررت وستتكرر مع كلِّ مَن اختار دروبه الموحشة للمضي إليه.
"وتلك القصص نداولها بين الناس" – تذكَّر، فأيقن من صدق شعوره العميق.

* * *

وما هااااااااااااجر إلا أمه، برمل الصحراء حفرت وفجَّرت زمزمًا لتسقي وليدها.
ويناديها من أعماقه المشتاقة، من تحت جمر النار:

هااااااااااااجر، يا أمَّ باطني، ضمِّيني من جديد إليك، وأرضعيني من ثدي المحبة لبانك الأبيض النقي.
حليبك دمٌ في عروقي – وما الدم إلا نفخة الرب، رأيتها تسري في طينتي لما انبثقت عن عرش الرحمن قلبًا نابضًا بالحياة.
هذا دمي عليه طابعك، يرقص على إيقاع القلب، ساريًا جاريًا، صاعدًا هابطًا، متجددًا كأنه الماء، كأنه الرب الحي: "كل يوم هو في شان".
هذا دمي زيت يضيء من غير نار من شجرة القلب المباركة:
رأيتُه في رقصة الحسين – العاشق الأوحد – يروي الثرى، بينما مَرآه يُبكي الثريا،
رأيتُه في كأس تدور بين الحواريين ليلة العشاء الأخير، عهدًا وميثاقًا، روحًا تُبَثُّ فيهم وتبعثهم رحمةً للعالمين،
رأيتُه في كلِّ أضحية تُقدَّم قربانًا على مذبح القُرْب – وما قَصَدَ الربُّ لحومها، بل هي التقوى التي في القلوب.
هذا دمي: أسمى وأكمل عنوان للطِّين، أرتضيه أن يُراق مطهِّرًا إيَّاي من خطيئة الطِّين،
علَّه يقنع الإله أنِّي أبتغي الخلاص والانعتاق من أَسْر المادة لأحقِّق وجودي الروحي الخالص في السَّماء الإنسانية.
لقد سمعت المؤذِّن يقول: "تخيَّروا للربِّ كبشكم العظيم، ولا تقدِّموا له الشاة المريضة"، فأجبت:

"لأنِّي الخروف ذو القرنين، القربان الحق،
تنوين "القرب" وتسطير الفعل الإنساني: "نون والقلم وما يسطرون"،
وضعتُ عنقي بكامل التسليم تحت سكين محبة الرب، وقلت: لتكن مشيئتك!"

* * *

لن يكون حمَّالاً للحطب أبدًا!
سيرمي تكثُّراته التي تعيقه وتعرقل مسيرَه المكِّي، وبهذا الحطب سيحرق هوياتِه كلَّها وهواياتِه المتعددة، مادام لا هوية أسمى من التجريد.
وها هي ذي وصايا مَن سبقوه تحفِّزه على ذلك، فيما سيِّد البلاغة يطلقها دعوةً لكلِّ زمان ومكان: "تخفَّفوا تلحقوا."
ومادام رامَ المعرفةَ الحقَّ فلن ينالها إلا بزوال مضاداتها من معارف علمية كسبية.
سيعرف الله بالله، لا بالمنقوص إلى معرفته، ولا بتردُّده في الآثار، كي لا يبعد ويشط المزار.
فليخلع عنه الأقمطة والأردية، وليخلع "نعلَي" الباطن والظاهر: فهذا "الوادي المقدس" محرم، إلا على الحفاة العراة.
وقلبه – حرم الله – لن يدخله إلاَّه.

وفي درب رجوعه، سينبت لِياء الثقيل جناحان، تهتك حجابَ النقطة، وينمو الزغب عليهما حتى يصير ريشًا، وترفرف الياءُ عبر ثمانية وعشرين حرفًا، لتعود ألفًا تستوي على عرش الرب.
سيدخل الملكوتَ طفلاً على "دين الفطرة": خريطة الرب وسر النظام الكوني.
وحين يرى الربَّ "قاب قوسين أو أدنى"، سيناجيه قائلاً:

ها أنا ذا، يا حبيبي!
قطعتُ تلك الدروب الموحشة كلَّها، لأجلك ومن شوقي إليك، وجئتك عاريًا إلا من حاجتي،
طويتُ قوسَي دائرة المعرفة الإلهية من وَهْم وحقيقة،
سبحتُ بفضاء المعرفة من حيرة الظلمة إلى حيرة النور،
وبفضاء اليقين، انتقلتُ من جهل الجهل إلى جهل المعرفة.

على صراطك المستقيم، الدقيق كالشعرة، الحادِّ كالسيف، مضيتُ إليك،
مذ قلت لي: "اليمين مضلَّة، واليسار مضلَّة، والجادة هي الوسطى"،
ومذ سمَّيتَني وأهلَ بيتي "النمرقة الوسطى"،
فما كنتُ يومًا من "المغضوب عليهم"، لا، ولا من "الضالين"،
بل من السابقين السابقين،
مَن هم وحدهم إليك مقرَّبون.

سبع دورات حول كعبتك درت،
سبع نيران قطعت،
سبعة أثواب خلعت،
وسبعين ألف حجاب من نور وظلمة هتكت –
وها أنا أقف أمامك بعريي،
بضعفي وعجزي،
بفطرتي التي خلقتَني عليها.

* * *

فيقبلُه الربُّ قبولاً حسنًا، ويغسله بمائه الطهور، قائلاً:

تعال إذًا أكسوك ثوبي – وليس كصبغة الله صبغة.
ومادمتَ متَّ لأجلي، سأجعلك مثلي حيًّا لا تموت،
سيحيا فيك الماردُ الجبار القابع خلف الوجود،
سأكون لك عينًا وأذنًا وقلبًا، تقول للشيء كن فيكون،
سأجعلك كونيًّا.

فكرك أمرٌ سماوي لأرض دنياك، تتَّحد فيك العوالمُ بتفصيل –
فأنت الوجود:
الاسم الأعظم للحضور الأسمى للإنسان الكونيِّ الجامع لكمالاته.

* * *

ويشتدُّ عودُ الكوني...
خطوةً إثر أخرى يمضي في دربه الموحش القفر، متعثرًا حينًا، واثقًا حينًا آخر، قدم تسير وتعرف، وأخرى تثبت ما سارت وعرفت.
عينه على موقع خطاه بعد أن عرف معنى "غضِّ البصر"،
ليتنزَّل الوحيُ عليه، ويعرج مدارًا بعد آخر –
فإذا به القرآن الناطق، تفعيل القرآن الصامت، بمراتبه الطولية والعرضية، مرتكزًا على القلب والنفس والعقل.
وها هو ذا يكتسب عصمتَه شرفًا واستحقاقًا: فمَن كان مع الله كان الله معه.

ولا زال الدرب يحمل خطيئته، لكن "خطيئة مَن سلكوه أشرف من حسنة مَن لم يسلكوه".
فعبر الخطيئة رأى الفضيلة، وعبر الوهم عاين الحقيقة، وعن طريق الشرِّ وصل للخير.
وهو في كلِّ خطوة يعرف أن مكر الله له بالمرصاد: "ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون".

* * *

الربُّ، سيِّد الأسماء كلِّها، آدم المجتبى المختار، متوكئًا على عصاه، يهشُّ بها على غنمه، فيما المآرب الأخرى في حنايا الصدر سرٌّ،
حاملاً لواء الحمد: "وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين"،
مبلِّغًا رسالة قلبه عن ربِّه إلى قومه، رسالة الإسلام، رسالة المحبة والسلام، رسالة البدء والختام،
داعيًا إياهم إلى الفطرة والدِّين الحق، بالكلمة الطيِّبة والموعظة الحسنة، بعد أن تفرقت بهم السبل، وجرت دماءُ الأطفال والمساكين أنهارًا باسم الله،
مستنكرًا عليهم أسفارًا يحملونها فوق ظهورهم جيلاً بعد جيل:

يا قوم، هلمُّوا إلى "كلمة سواء" بيننا،
تعالوا إلى ذلك المشترك الإنسانيِّ فينا.
الفكرُ باعَد بيننا، شتَّت شملنا، وأضرم نار سعيره تحرقنا وتبيد ما حولنا،
بينما جنَّة القلب تدعونا لرحاب المحبة والسلام.
يا قوم، أما منكم رجلٌ حكيمٌ أو رشيد، أو رجلٌ "يلقي السمع وهو شهيد"؟!

* * *

وكالعادة، أمام كلِّ جديد مزلزِل، تتعالى الأصواتُ حوله مستنكرة:

ويحك! هتكتَ حرمة مقدَّساتنا، هدمتَ صرحَ دين الآباء والأجداد، صرحًا ظلوا قرونًا على بنائه عاكفين.
تجرَّأتَ على أنبيائنا، وساويتَ بينك وبينهم، بل تجاوزتَ ذلك لتردِّد بكلِّ صفاقة: "شهد الله أنْ لا إله إلا هو" –
فلا تقديس عندك لأيٍّ منهم ولا احترام!
تنكَّرتَ لماضٍ تليد وتاريخ حافل بالآراء والاجتهادات والأفكار، وابتدعتَ دينًا جديدًا رحتَ، كعادة الأنبياء الكذبة، تدعو إليه.
مزَّقتَ خيوط الانتماء، معلنًا ملء الصوت: "كل البلاد بلادي، وليس لي هاهنا وطن."
وحين ندعوك للمحاججة من القرآن تُقصيه جانبًا: "دعونا منه، "حمَّال أوْجُه"، وتعالوا نكتب كلٌّ على صفحات قلبنا الأمِّي بأحرف من نور قرآنًا جديدًا، إنْ كنتم عجزتم عن أخذه على أحسن أوجُهه."
وكلما خوفناك من الله، تجرأتَ مجيبًا: "لا أخافه، ولا أخاف من عدم خوفي منه... هو بي، بلا قُرْب ولا بُعد."
وما ندري أساحر أنت أم شاعر، أم بك جنون، أم يعينك على ما أنت فيه قومٌ آخرون؟
لَنصلبنَّك أو نحرقنَّك، لَنسجننَّك أو ننفينَّك إلى صحراء قصيَّة، إنْ لم ترتدَّ عن غيِّكَ وضلالكَ الشديد!

* * *

يبتسم الكونيُّ في تسليم مطلق، وتتزاحم في ذاكرته المعدَمة صورُ أحبَّته الذين سبقوه على حدِّ الصراط:

الصخرة على صدر بلال بينما صوته يتهدج هاتفًا: "أحد... أحد..."
سميَّة وعمار وآل ياسر يتجرعون كؤوس العذاب، فيما يعدهم الرسولُ بالجنَّة.
المسيح يستسلم لأمر الله راضيًا، وكالمجرمين يُصلَب ليتمَّ الكتاب.
الحلاج على الأعواد ضاحكًا متوسلاً: "إلهي، اغفر لقومي، إنهم لا يعلمون."
أبو ذر في صحراء الربذة، يبشِّره الحبيبُ أنه سيموت غريبًا.
رأس يوحنا على الصحن يرثي قاتليه.
سقراط يجرع السمَّ رافضًا الفرار من قضاء الله.
الحسن ينظر في عيني زوجه جدعة، ويقول لها لأربعين صباحًا: "آتيني بقدري"، فتقدِّم له الطعام المسموم.
الحسين على فرسه يرقص رقصة الإبداع في أجمل ميتة يختارها.
علي يسأل خادمه كلَّ حين، وعيناه ما بين لحيته ويده: "متى تخضب هذه بتلك؟"

* * *

آآآآآآآآآآآآه منكِ وعليك، أيَّتها البشرية التي تقتل أنبياءها حين "لا كرامة لنبي في وطنه وبين أهله"، ثم تبكيهم وترثيهم بعد فوات الأوان!
يا أمَّة تجلس الفراعنةُ على كراسيها وتخلع عباد الرحمن: "وإذا الموءودة سُئلت بأيِّ ذنب قُتلت"،
وإذا بالظلم سيِّد مستبد – وهل للظلم من نهاية؟! أم أنه قانونٌ لازم ما قاله الحكيم: "الناس أعداء ما جهلوا."

قلبي عليك، يا أمَّة التاريخ!
حتَّام يكون مرجعك ومَعادك إلى ما "قال فلان عن فلان عن فلان"؟!
وإلى متى يسوسنا التاريخُ ويقودنا، لتُذبَح الإنسانيةُ فينا دامعةَ العين؟!
أما من صحوة وعودة للقلب، ليحيا بنا الله؟!
وهل بات جلُّ همِّ هذه الأمَّة أن تخطِّئ وتكفِّر وتدين، مرجعها إلى قياساتها وأفكارها قرآنٌ تحكم به كما تراه، بعين أرضيَّة قاصرة؟!
وأينه الإنسان، الميزان، "حلم الله"؟
سلام سلام عليك، أمَّة العرب لا الأعراب،
سلام عليك "حتى مطلع الفجر".

* * *

يضيق صدرُ الكوني –
ومَن قال إن الأنبياء والأولياء لا يتعبون؟!
ومَن قال إنهم لا يعيل صبرُهم وتضيق صدورُهم؟!

هذا يونس يقبع ضَجِرًا في بطن الحوت.
وذاك موسى يتوسل: "ربِّي اشرح لي صدري."
وأيوب الصابر، كم عاتب الله في بلوائه، وكم أنَّ وفقد صبره.
ونوح بلغ به التعبُ حدَّ أنْ دعا على قومه وتوسَّل لله ألا يترك منهم ديارًا.
حتى محمد يخاطبه الله: "إنَّا لنعلم أنه يضيق صدرك"،
ثم يُنزل إليه قوله: "ألم نشرح لك صدرك..."
والله الذي معه يسمع ويرى:
رأى عينه في السماء ترعاه، وسمعه يقول: "أنت بعيني، فلا تحزن."
وها هو ذا يشرح له صدره، ويؤازره، وييسِّر أمره، ويهبه صبر الجبال وثبات الرجال – "والرجالُ قليلُ".
فيعود ليجادلهم بالتي هي أحسن، ويدفع بالحسنة السيئة، في انتظار وعد الله – ووعد الله حق بنصرة المستضعفين في الأرض.
وكيف لا، وهو مَن اختار حمل "الأمانة" التي عجزت عنها السموات والأرض، ليكون "الظلوم الجهول".
وبالنظرة المُحِبَّة ذاتها يخاطبهم، ورجاؤه بالله لا ينقطع:

يا قوم، كأنَّكم لم تعرفوني يومًا؟!
كأنَّكم ما رأيتم منِّي طيب الأخلاق لسنين خلت؟!
كأنِّي ما كنت فيكم الصادق الأمين؟!
إنِّي لأشهد تكرارَ القصة في كلِّ زمان ومكان: تختلف الرسوم والحقيقة واحدة.
هذا القرآن يقص قصتي وقصةَ كلِّ ولي:

ألستُ وإيَّاك، يا فرعون، الكتاب المبين الذي يظهر المضمرُ بأحرفه؟
وهل أنا أو أنت إلا آدم المجتبى خليفةً ليحقِّق اسم "إنسان" عبر البشرية؟
وأيُّ عدلٍ لله أنْ يقتصرَ مددُه على أناس ويكون محظورًا على سواهم؟!
أم أنَّ قوله "وفيك انطوى العالم الأكبر" لفئة مجتباة دون سواها؟!

* * *

فاقضِ ما أنت قاضٍ، يا فرعون، إنَّما تقضي هذه الحياة الدنيا.
لقد آمنتُ بوجودك، ورأيتُك بي القوسَ الآخر المكمِّل للوجود، قبل أن أراك في الآخر،
وبالضرورة عرفتُك ليُعرَف الضدُّ بالضد، تملأ كلَّ الفراغات في الحضور الإنساني التي لم يملأها الخير.
رأيتك مع كلِّ رسول ونبيٍّ وولي، بل رأيتك مع كلِّ إنسان ملازمًا، مجرِّبًا ومعلِّمًا.
لكنِّي يومًا في سواد وجهك لم أرَ إلا النور، وفي دمامتك لم ألمح إلا الجمال.

تعال معي، يا قريني، أرفعك بالمحبَّة حتى سدرة المنتهى،
تعال إلى حيث لا أضداد ولا تفرقة، بل وحدةٌ جامعةٌ ونورٌ غامر،
إلى حيث هو هو، ولا سواه،
إلى حيث لا إله إلا الله.

واحشد خيلك ورجالك وجندك ما طاب لك، يا أنا!
ستجدني على ما عهدتَني، الصابر المسلِّم، الراضي بحكم الله، كسائر الربَّانيين وأهل الله.
أنصاع للناموس وأنقاد له – ولا يسأل مَن سلَّم نفسه للناموس لِمَ ولا كيف ولا متى.
أحببتَني ببغضك، فرثيتُ لك وأشفقتُ عليك، وأحببتُك كما يحب الربُّ مربوبيه:
"فلئن بسطتَ إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط إليك يدي" –
وشرف لي أن أموت مظلومًا على أن أموت ظالمًا.

قلبي عليك، يا مَن اخترتَ الغيَّ على الرشد.
أراك رهين الخوف والقلق، لا سكينة تعرف طريقَها إليك، ولا قوة تهبكَ الطمأنينة –
وما عرفتَ من السلام إلا اسمه، مذ تنازعتْك قوى النفس وراحت شياطينُك تئزك أزًّا.
حسبي أن وزيري هارون ووزيرك هامان.

* * *

ولكن مَن قال إنَّ فرعون يسمع أو يرى؟
إنه لا يصغي إلا لأفكاره وخيالاته، رسمَها وأحكم بنيانَها حتى حَسِبَها حقيقة، ووفقها قدر وكفر وعادى وحارب وقتل وظلم.
ولو استفتى قلبَه لحظة – "وقلب المرء دليله" – لما كذب وتولَّى، ولا استكبر وأنكر،
ولو آمن بالقلب مركزًا وكعبةً ومهبطًا للوحي، ولو أغلق عينَ رأسه وأبصر بعين قلبه، أتراه كان ضلَّ وأضلَّ؟!

* * *

ويشتدُّ سعيرُ النار...
يُصلونها ويذكونها لتضطرم أكثر – فإذا بها بردًا وسلامًا عليه.

ربَّاه، كيف صارت النارُ نورًا؟! وكيف جهنم تغدو جنَّة؟!
يا لدبيب الحياة ما أجمله، يسري في عروقه!
يا لجدب الصحراء يخضوضر شيئا فشيئًا، كأنَّ عصًا سحرية لامستْه!
ويا للسجن يلقاه ساحاتِ حرية!

* * *

الحريَّة...
بدمه سيخطُّ أسطرَ كتابها للأجيال القادمة،
لن يحدِّثهم عنها،
سيترك قصةَ حياته تحكي –
فقد ضاق الربُّ بركام الكتب تُقدَّم قرابين إليه،
وصراخ البشر ما عاد يصل إليه.
جعجعة بغير طحين خطاباتهم وأفكارهم.

ويسأل: "أينه العاشق أقبِّله فأذبحه؟"

* * *

إنِّي هو، يا أبتِ!

أبدع يزيد بقتل حبيبي الحسين –
ومازال لإبداع الشرِّ فنونٌ وفنون
ليعتدل الميزان –
فانظر أية طريقة تنقلني بها إليك.

* * *

حرٌّ أنا، يا ألله!
حرًّا خلقتني،
حرًّا أعود إليك،
طيرًا عاف الأرض إلى السماء.

فليضيِّقوا الخناق ما شاءوا،
وليحاصروني ما طاب لهم –
كذلك شأنهم منذ بدء الخلق،
وسيبقى،
إلى أن ترث الأرضَ ومَن عليها،
لعلهم يومًا يعرفون أن الحُرَّ هو الأقدر على المحبة والغفران، لأنه يرى بعين قلبه التي لم تنفتح إلا بإغلاق عين البصر، ثم بعين فؤاده التي تغلق عين القلب، – فلا تُفتَح عينٌ إلا بإغلاق أخرى –
لأنه أُعطِيَ أن يرى في إحاطة وشمول،
لأنه "عُلِّمَ الأسماءَ كلَّها"،
لأنه السيِّد الربُّ الإنسان...
والحمد لله ربِّ العالمين.

مصياف، سوريا، 2007

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود