الكتاب الحي والموت

 

دارين أحمد

 

تطورت التقنية وأصبح بإمكان القارئ شراء كتاب رقمي لن تختلط أحرفه في الليل كما تراءى لبورخس عندما كان في عتمة عينيه وضوء خياله يوسع مكتبته يومًا بعد يوم. هذا العاشق الكبير للكتب، الذي قال إنه كان يصاب بالحزن حين لا يستطيع شراء كتاب يحبه لأنه قد اشتراه من قبل، حوّل الكلمات من أشكال تعبيرية إلى كائنات حية تتحرك وتروي ما إن تمسها يد عاشقة كيده، وآمن بالكتاب كما لم يؤمن أي من أتباع الكتب المقدسة. بورخس ذاته، الذي لا يستطيع أن يحيا خارج مكتبته اللانهائية ككتاب الرمل، يعلن أنه إذا احترقت مكتبات العالم كلها فإن الإنسان قادر على كتابة كل ما قد كتبه مرة أخرى، حتى لكأن أي كتاب، يستحق هذا الاسم، يخلق معضلة ما قبل الخلق وبعده؛ كيف لا، وهو الذي أكد على قول برنارد شو إن الروح القدس قد كتب الكتب جميعها وليس فقط الكتاب المقدس، دون أن ينسى ترك أثره الخاص بإضافة أن في ذلك بعض التجني على الروح القدس. أدونيس أيضًا عبر عن قدسية كتابه الشعري الأهم عندما سماه بهذا الاسم الكبير والكاف "الكتاب"، معيدًا للشعر، في هذا التفصيل البسيط، أولوية معضلة الخلق عبر اسم هو ذاته ذات الشيء، حتى لكأنه بلا اسم إلا نفسه. وهل الله غير ذلك؟

* * *

في فيلم Good will hunting يدور بين المحلل النفسي، يلعب دوره روبن ويليامز، ومريضه الذي هو شاب عبقري في الرياضيات، يلعب دوره مات دايمن؛ الحوار التالي:

- من هم أصدقاؤك؟

يعدد دايمن أسماء أصدقائه الذين كانوا، وما زالوا، رفاقه في الملجأ الذي عاش فيه.

- لا. أقصد من يتحداك، يلمس روحك.

- هم كُثر.

- اذكرهم.

- شكسبير نيتشه جويس ...

- عظيم! أي أنهم كلهم أموات.

- ليس بالنسبة لي.

- ولكن ليست لديك حوارات كثيرة معهم؟ لا يمكنك أن تعطيهم...

هذا هو الوجه الآخر للكتاب، وجه العزلة حيث يبلغ التفرد أحد أشد أصدائه مأساوية وهو العجز عن التواصل مع الآخرين الذين قد لا يكونون قد استبعدوا الكتاب من حياتهم إلا أنهم ليسوا أمواتًا ويستطيعون المواجهة بأنا آخر يدافع عن نفسه في وجه اختلاف الفهم. اختلاف الفهم! حين يتحدث بورخس عن الأفكار التي تعيد كتابة نفسها عبر أشخاص آخرين، أي عن الكتب ذاتها، كتاب الرمل خاصته؛ يتجاوز الأنوات كلها بما فيها أناه الكاتبة والملتبسة عليه دائمًا بأنوات الآخرين، وكأن بورخس يلغي الفرد لصالح الفكرة. ولكن لا، فالفكرة حين تُخلق يتألق الفرد، رغم إيلام دوامها مقارنة بفناءه.

يفرد أونامونو كتابًا، حيًا بدوره، كاملاً ليدافع عن حق الإنسان في الألم من فكرة الموت والعدم، وليقول إنني -أنا- لا أريد أن أحيا بأشكال أخرى، لا أريد أن أندمج في الروح الكلية، لا أريد أن تخلدني أفكاري، ولا أريد قطعًا أن أفنى في العدم؛ بل أريد أن أبقى حيًا، "أنا" ذاتي، بوعيي الفردي ذاته، وبأشيائي ذاتها. هذه الفكرة -الحلم المستحيلة تتجول أمامي -أنا القارئ- بينما ماتت "أنا" أونامونو منذ سنوات عديدة. وها أنا أفهمها، ويفهمها غيري أيضًا، كل على قدره دون أن يتاح لأنا الكاتب أن تقول كلمتها في فهمنا. فهل هذا امتيازي "أنا" القارئ المشدوه أمام من ماتوا والذي لم يمت بعد؟ لنذهب إلى كتاب آخر يحمل عنوان الخلود، ويتحدث فيه كاتبه ميلان كونديرا، المولع بتعقيدات الأحياء، عن غوته وبِيتنا عاشقة ما يمكن تسميته "ظل الخلود". فبيتنا تعشق غوته وتعشق بيتهوڤن وتعشق الحرية بحثًا عن هوية خلودها. وعنها يتحدث كونديرا ليقول إنها في كل مراسلاتها مع غوته لم تطرح عليه أسئلة، وليقول من بعد:

يا إلهي! تصوروا لو سُمح لكم بتبادل الرسائل معه! ما الشيء الذي سوف لن تسألوه عنه! كتبه وكتب معاصريه، الشعر والنثر والرسم، ألمانيا وأوروبا، العلم، التقنية. كنتم ستهاجمونه بعنف وتجعلونه يحدد مواقفه. كنتم ستتاجرون معه كي تجبروه على على قول ما لم يقله حتى ذلك الوقت.

نعم! تصوروا لو سُمح لكم بتبادل الرسائل معه.

* * *

ڤنسنت ڤان كوخ ليس كاتبًا لكن رسائله المتبادلة مع أخيه ثيو أعطت بعدًا استثنائيًا لأعماله الفنية، ومن يقرأ بعضها المترجم إلى العربية لا يمكنه تجاوز رغبة جارفة لرؤية لوحاته من جديد بعيون جديدة. هنا يحضر كتاب ڤنسنت ڤان كوخ لايرفنج ستون، وفيه نرى الكاتب والقارئ مرة أخرى في ڤنسنت وثيو. نعم لقد اختلفت الأسماء فڤنسنت ليس كاتبًا لكن ثيو قارئ مبدع له، ولنتأمل هذا المثال المأساوي: قرر ڤنسنت أن ينتحر لأنه أراد أن يحرر ثيو من عبء مرضه وحياته، وليترك مكانه لڤنسنت الصغير، ابن ثيو؛ ولكن ثيو مات في مشفى للأمراض العقلية بعد ستة أشهر من انتحار ڤنسنت. لم تختلف الأسماء فقط بل التبست ببعضها البعض، فمن الكاتب ومن القارئ، من الفذي أعطى ومن أخذ؟

* * *

يقول بورخس، ذلك العاشق الكبير للكتب، في قصيدة قصيدة عن الهبات:

لا يظنن أحد أنني بالدمع أو بالعتب
استهين بإظهار سيادة الله
الذي يهبني بسخرية ليس كمثلها سخرية
الكتب والليل معًا.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود