فلسفة دينية لا تضحّي بالمجتمع وفلسفة اجتماعية لا تضحّي بالدين

دراسة أعمال أديب صعب في الفكر الديني - الاجتماعي

 

إيلين دمعة

ملخص البحث:

مع صدور كتاب جديد للدكتور أديب صعب في فلسفة الدين بعنوان وحدة في التنوع: محاور وحوارات في الفكر الديني، تستعرض الباحثة الدكتورة إيلين دمعة، الأستاذة في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، هذا الكتاب في إطار كتب المؤلف الثلاثة السابقة، من حيث تشكيل هذه الكتب وحدة متكاملة في الدراسات الدينية. وتشير إلى تَميُّز فكر المؤلف بالدفاع عن النظرة الدينية وسط الكثير من النظرات العصرية المعادية، وبنَسْج فلسفة للدين قائمة على العناصر المشتركة بين الأديان، التي تخوّلنا الكلام عن "جوهر الدين" أو عن "الدين في الأديان". كما تشير إلى قيام هذه الفلسفة على التناغم بين الدين والمجتمع: فهي فلسفة دينية لا تضحّي بالمجتمع، وفلسفة اجتماعية لا تضحّي بالدين. وتبيِّن الباحثة ريادة المؤلف موضوع الدراسات الدينية وفلسفة الدين في الثقافة العربية المعاصرة، وهي ريادة أجمع عليها مفكرون بارزون يمثلون أديانًا ومذاهب مختلفة. وتركز على فكر المؤلف التوحيدي، مع إبراز المصادر، خصوصًا الاجتماعية، لهذا الخط. وتَخلص إلى مراجعة وضع الدراسات الدينية الراهن على الصعيد العربي.

 مقدمة

مع صدور كتاب د. أديب صعب الجديد في الفكر الديني من نواحيه الفلسفية والاجتماعية بعنوان وحدة في التنوع: مَحاوِر وحوارات في الفكر الديني[1]، نجد من الملائم دراسة أعمال المؤلف في هذا المجال بمجملها. والكتاب المذكور هو الرابع بعد الكتب التالية: الدين والمجتمع 1983[2]، الأديان الحيّة 1993[3]، المقدمة في فلسفة الدين 1994[4]. وهي أعمال أثبتت نفسها، وباتت مَراجع في حقلها، وأيَّدها مفكرون دينيون مرموقون ينتمون إلى مذاهب مختلفة. فالمطران جورج خضر وَجد فيها (المحاولة الأُولى في دنيا العرب)[5]. والسيد محمد حسن الأمين قال إنها

تملأ الفراغ المخيف في مجال التعاطي الفلسفي العربي المعاصر مع مسائل الدين[6].

ورآها الدكتور سامي مكارم متطابقة مع فطرة الانسان الدينية ومع التراث الصوفي في تركيزه على الجوهر[7]. ووصفها القاضي طارق زيادة بأنها مرجع لا بد منه "للدارسين والجامعيين والمهتمين"، وأنها

تشكل إضافة أساسية في الفكر الديني اللبناني والعربي، وتمهد الطريق لحوار في العمق بين الأديان[8].

ووَجد فيها الأستاذ محمد السماك تأسيسًا

لقواعد فلسفية دينية في الفكر العربي الحديث، ومرجعًا من مراجع الفكر المعاصر[9].

ووصفها الدكتور جورج صبرا بأنها فلسفة

سابقة لأوانها، تطرح أسئلة جريئة وتتعاطى معها بشكل علمي موضوعي رصين، وتملأ فراغًا في مجال التعاطي العربي المعاصر مع مسألة الدين[10].

انطلاقًا من اعتبار أديب صعب كتابه الجديد رابِع الثلاثية[11]، أي تتمة لكتبه الثلاثة السابقة في الدراسات الدينية، ينطلق هذا البحث من وَصْف الكتب الأربعة وكيف يكمل واحدها الآخر. ثم يحلل ماهية الدراسات الدينية، مميزًا بينها وبين اللاهوت أو علم الكلام، ومبينًا فائدتها، ومظهرًا مساهمة أديب صعب في هذه الدراسات، ومركزًا على النزعة التوحيدية في فكر المؤلف. وينتقل البحث إلى مصادر هذه النزعة، فيجد أنها مستمَدة لا من خط الفكر الفلسفي فحسب، بل من خط الفكر الاجتماعي أيضًا. ويبيّن أثر العلوم الاجتماعية فيها وموقف المؤلف التصحيحي حيال بعض الهفوات التي يمكن أن تقع فيها هذه العلوم عند تناولها الدين. وينتهي البحث إلى تقويم عام لوضع هذه الدراسات الراهن على الصعيد العربي.

أوّلاً - الكتب الأربعة في تَكامُلها

يقول أديب صعب في حوار عن الثلاثية:

إذ أنظر إلى هذه الكتب الثلاثة كعمل متكامل، أرى أن الدين والمجتمع يستعرض الدراسات الدينية ويبيّن أهميتها، منتقدًا التعليم الديني التقليدي في المدارس العامة وداعيًا إلى تعليم وصفي للأديان. ثم يأتي كتاب الأديان الحية، مقدمًا مادة عملية للتعليم الوصفي المقترح، وخالصًا إلى ما يسميه "مقارنة وصفية" بين الأديان، تُظهِر العناصر المشتركة بينها. وأخيرًا ينطلق الكتاب الثالث، المقدمة في فلسفة الدين، من هذه العناصر لينسج فلسفة للدين تشكل دفاعًا عن الايمان الديني في وجه النظرات العصرية المعادية[12].

وفي التمهيد لكتابه الجديد يقول:

هذا الكتاب، بمعنى، تتمة لكتب المؤلف السابقة في الفكر الديني... ويأتي، في قسمه الأول، ليذكّر بمنهج فلسفة الدين كما يفهمه المؤلف، ثم ليطبِّق هذا المنهج على مسائل أُخرى في الفكر الديني، هي: الأديان الأخرى والحوار، التعصب والتسامح، الدين والدولة، الايمان والالحاد، العلم والدين، نطاق الإعجاز، الإنسانية كدين، تعليم الدين، الرعاية، لاهوت التنوع ولاهوت الوحدة... وكأنّ هذه المسائل تشكل فصلاً أخيرًا من المقدمة في فلسفة الدين. بهذا المعنى، يمكن اعتبار الكتاب الحالي، إنْ جاز التعبير، رابِع الثلاثية[13].

1 - الدين والمجتمع

يستعرض كتاب الدين والمجتمع الدراسات الدينية، وأهمها ما يأتي: تاريخ الأديان، فلسفة الدين، علم النفس الديني، علم الاجتماع الديني. وإذا تذكرنا أن الكتاب صدر في طبعته الاولى عام 1983، لأدركنا أنه قد يكون الكتاب العربي الأول الذي يتطرق إلى هذه الدراسات، فيميز بينها وبين اللاهوت أو علم الكلام أو العلوم الدينية التقليدية، ويبين أهميتها بالنسبة إلى الفكر الديني النظري والعمل الديني الرعائي[14].

المحور الرئيسي الآخر في الكتاب هو التعليم الديني، خصوصًا ذاك الذي يعطى للأحداث في المدارس، أي في المرحلة السابقة للجامعة[15]. ويأخذ المؤلف المدارس اللبنانية قُبَيل الحرب الأهلية 1975 نموذجًا لهذا النوع من التعليم. هذه المدارس كانت تعمد إلى فصل تلاميذ الصف الواحد بعضهم عن بعض في ساعة الدين الإسبوعية، وإتاحة دروس دينية تقليدية لكل فئة على يد معلم تنتدبه طائفته لهذا الغرض. هذا التعليم، عدا أخطاره الاجتماعية، وأقساها الفئوية التي تؤدي إلى حروب أهلية كما حصل في لبنان وقت تأليف الكتاب، ينطوي على أخطار نفسية تتجلى في إعلاء المادة على المتعلم الذي يتلقاها، أي في إهمال النمو النفسي للتلاميذ في مراحل التعلم المختلفة. كما ينطوي التعليم التقليدي على أخطار ذهنية تتجلى في عدم تحليل لغة الدين والمقارنة بينها وبين الاستعمالات الاخرى للّغة: في العلوم الطبيعية، مثلاً، والعلوم الاجتماعية والتاريخ وبقية حقول المعرفة. هكذا إذ يصطدم المتعلم بنظريات علمية أو فلسفية أو اجتماعية أو سواها قد تهدد الايمان الديني ظاهريًا، فربما عمد ببساطة إلى التخلي عن هذا الايمان لأنه لا يستطيع الدفاع عنه دفاعًا عقليًا.

أين يكون الحل؟ هناك تربويّون وجدوا هذا الحل في اعتماد تربية أخلاقية في المدارس تأخذ مكان التعليم الديني العقائدي. لكن أديب صعب يرفض هذا الحل لأن إحلال التعليم الخُلقي محل التعليم الديني قد يقوم على نظرة، أو يؤدي إلى نظرة، تتخلى عن ميزة الدين الجوهرية، وهي الايمان بالله وبأنه خلق العالم والإنسان وكل شيء لمعنى وهدف معينَين، وتنادي بإحلال الأخلاق محل الدين[16]، أي الاستعاضة عن الدين بالأخلاق. وهذه نظرة إلحادية تتلاقى مع دعوات فلسفية واجتماعية كثيرة، مثل دعوة لودفيغ فويرباخ وكارل ماركس وفردريك نيتشه وبرتراند رصل وجان بول سارتر[17].

أيكون هذا الحل، إذًا، في التخلي كليًا عن تعليم الدين في المدارس؟ هذا الحل هو الآخر، الذي نجد بين دُعاته عددًا من المؤمنين، يرفضه المؤلف، لأن الإهمال، في رأيه، نوع من التعليم:

إنه تلقين سلبي، خصوصًا إذا كان الموضوع المهمَل لا يقل عن الدين... إن المؤسسات التربوية تبقي جزءًا رئيسيًا من الحضارة خارج نطاقها إذا أهمَلت الأديان، وكأنها تتخذ موقفًا سلبيًا تجاهها. وهي، بهذا، تكون قد أهملت جانبًا من مسؤولياتها، تاركةً إياه كليًا بين أيدي جماعة قَلَّ فيهم من سيدرسه دراسة نقدية خلاّقة[18].

هنا يعود أديب صعب إلى الدراسات الدينية ليرسي هذا الحل عليها. فهو ليس فقط مع تعليم الدين في المدارس، بل مع تعزيز هذا التعليم ليغدو "مادة شرعية" تعطى فيها امتحانات وعلامات تقرر نجاح التلميذ ورسوبه كبقيّة المواد، ولا تبقى "مادة ثانوية ملصَقة" كما هي الحال الآن[19]. إلا أن التعليم الذي يدعو إليه في المدرسة العامة، أي في جميع المدارس الابتدائية والثانوية سواء أكانت "خاصة" أم "رسمية"، هو تعليم "وصفي" أو "موضوعي" حسب تسميته، وليس تعليمًا عقائديًا. فمهمة المدرسة تعليم الأُسس والأساسيات. لكن ما منفعة التعليم التقليدي، المسيحي أو الإسلامي أو سواه، إذا ظل المتعلم جاهلاً معنى الدين وهدفه ومنطقه ونطاقه؟ وكيف يؤمن بأنبياء الله ورسله والوحي الإلهي ما لم يؤمن بالله أولاً ويتمكن من الدفاع عن هذا الإيمان، فلا يتزعزع عند أدنى خطر؟ بل كيف يستطيع أن يحب الآخر، أي المنتمي إلى دين آخر، ما لم يطَّلع على دين هذا الآخر من مصادره الأساسية؟

المؤلف لا يقف عند هذا الحد. فهو يرى أن تعليم العقائد الدينية لكل طائفة وفق تقاليدها وقناعاتها شأن بالغ الأهمية. لكنه مسؤولية تقع على عاتق الأسرة أولاً، أي على عاتق الأهل الذين يجب أن يؤمّنوا انتقال العقائد من جيل إلى جيل داخل العائلة. وإلى جانب العائلة، هناك المؤسسات الدينية التابعة لكل طائفة، مثل "مدارس الأحد" عند المسيحيين ومؤسسات "التعليم الديني" عند المسلمين، التي تقع عليها مسؤولية التعليم الديني العقائدي. ولكل الطوائف في لبنان اليوم مؤسسات من هذا النوع. وهي تعتمد، مع التعليم المعتاد في الصفوف، التعليم عبر شبكة الاتصالات الالكترونية (الإنترنت)، التي لم تكن شائعة لدى صدور الطبعة الأولى من الدين والمجتمع. ويجب أن نفهم أن دعوة المؤلف إلى اعتماد تعليم الدين في المدارس تعليمًا وصفيًا قائمًا على التاريخ والفلسفة والعلوم السلوكية (علم النفس وعلم الاجتماع)، مع إحالة التعليم الديني العقائدي إلى العائلة وإلى مؤسسات دينية خاصة، يهدف إلى أن يفهم المرء دينه والأديان الأخرى فهمًا أفضل، وأن يستطيع الدفاع عن دينه والموقف الديني عمومًا دفاعًا أفضل، كما يهدف إلى تحقيق وحدة اجتماعية - إنسانية هي من أهم الأهداف التي تسعى إليها الأديان.

ويوضح المؤلف دعوته خير إيضاح بالكلام الآتي:

إن تعليم الأديان، كما دعونا إليه، يتيح للتلاميذ أن يخرجوا بمفهوم عام للدين، قائم على العناصر المشتركة - وهي غير قليلة - بين الأديان. إن مفهومًا كهذا هو من أهم العوامل في تحقيق وحدة اجتماعية - إنسانية. إلا أن ما ندعو إليه ليس "دينًا شاملاً"، يكون تأليفًا من الأديان الموجودة ويحل محلها. فالفرد، عادةً، لا يختار دينه أو يصنعه، بل ينشأ فيه، متلقيًا إياه من أهله الذين، في الغالب، تلقّوه من أهلهم أيضًا. فالهدف الذي ذكرناه للتعليم الوصفي، وهو تكوين مفهوم عام للدين، لا يرمي إلى حثّ الفرد على تغيير دينه، الذي أخذه عن آبائه وأجداده. إنما هو يرمي إلى مساعدته في تكوين نظرة نقدية حول دينه والأديان الأخرى، من شأنها تعميقُ قناعاته، وتعديلُ ما يراه خطأ في ممارسات آبائه، وفهمُ الأديان الأخرى واحترامُها على نحو أفضل.[20]

2- الأديان الحيّة

من هذا المفهوم المزدوج: الدراسات الدينية وتعليم الأديان بناءً على مناهجها، يأتي كتاب أديب صعب الثاني في هذه السلسلة، الأديان الحيّة، كتابًا عمليًا يصف الأديان في نشوئها وعقائدها وتاريخها والظروف الاجتماعية لتطوّرها، ويمكن أن يخدم كمادّة لتعليم الأديان حسب اقتراح الدين والمجتمع.

وانسجامًا مع المنهج الوصفي أو الموضوعي الذي تبنّاه في كتابه الأول، يعلن المؤلف أنه يصنّف كتاب الأديان الحيّة تحت خانة "تاريخ الأديان"، لا تحت خانة "علم الأديان المقارَن" أو "مقارَنة الأديان" كما كان هذا الموضوع، وما يزال، يسمَّى في بعض الدوائر الجامعية، خصوصًا تلك التي تشرف عليها مؤسسات دينية[21]. فمفهوم المقارنة قد يشير إلى المفاضلة، بمعنى أن يجعل الدارس من دينه هو المقياس والحكَم لدراسة الأديان الاخرى، فيطبّق عليها معايير الصحة والخطأ التابعة لدينه. أما المنهج السائد اليوم في دراسة الأديان فهو المنهج الوصفي أو الفينومينولوجي، الذي يعني أن ندع كل دين يعبِّر عن نفسه بنفسه، لا كما تنظر الأديان الأخرى إليه. وفي كلامه عن الكتاب يقول المطران جورج خضر:

المعرفة العلمية يجب أن تدخل مناهجنا. حتى الآن نقتصر على إعطاء الدين من أجل الايمان ومن أجل التقوى وابتغاءً للعبادة، في حين أن كل مواطن، بصرف النظر عن توخّيه التقوى والعبادة، يحق له أن يعرف ما في بلده وما في العالم. المعرفة منقذة. وها هو أديب صعب اليوم يسد هذه الحاجة[22].

يبدأ الكتاب بفصل تمهيدي يتناول أديان الحضارات القديمة: السورية والمصرية والاغريقية والرومانية والأوروبية الشمالية. وهي أديان زالت من الوجود، ولكن تركت بعض الآثار، ولا سيما الطقسية، في الأديان الحيّة التي يقدمها المؤلف ضمن ثلاث منظومات:

1.    الأديان الهندية، وهي الهندوسية والجاينية والبوذية والسيخ.

2.    أديان الشرق الأقصى، وهي الطاويّة والكونفوشيوسية في الصين والشينتو في اليابان.

3.    أديان الشرق الأدنى، وهي الزردشتية (المجوسية) واليهودية والمسيحية والاسلام.

ومع إيلائه كل الأديان "الحية" عناية يمكن أن نسميها متساوية، يولي أديب صعب الأديان الإبراهيمية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والاسلام، عناية خاصة جدًا. فهي الأديان الأساسية التي تعني هذه المنطقة من العالم. وقد جاءت الفصول المعقودة على هذه الأديان بمثابة مقدمات أو مداخل ممتازة لها.

ولا يتخلى المؤلف كليًا عن مفهوم المقارنة. فبعد دراسته كل دين من الأديان الرئيسية السائدة في العالم بمفرده، يعقد في الفصل الأخير ما يسميه "مقارَنة وصفيّة" بين الأديان. وهو، بهذا، لا يهجر المنهج الفينومينولوجي، لا بل يعززه، لأن المقارنة التي يخلص إليها - وهي مساهمته الخاصة جدًا في الكتاب - "مقارنة وصفيّة" تمييزًا لها عن "المقارنة القيميّة" التي تعتمد المفاضلة، أي الانطلاق من دين معين باعتباره الدين الصحيح أو الأصح[23]. وقد أوضح في حديث صحافي

أن مؤرخين كثيرين لا يجدون أنفسهم مضطرين إلى إقامة أي نوع من المقارنة، بل يكتفون بعرض الموضوع الذي يدرسونه عرضًا محضًا. وحده المؤرخ النقدي، أي ذاك الذي يتمتع بروح فلسفية، يعمد إلى المقارنة الوصفية من أجل أن يخرج بنتيجة. لكن المؤرخ غير النقدي معرَّض للسقوط في أخطاء كثيرة. ومن الأمثلة على هذه الأخطاء تبنّيه ذلك التمييز الصارم بين أديان "تعددية" وأديان "توحيدية". ومما تحاول خلاصة الكتاب تصحيحه هذه النظرة بالذات[24].

هدف المقارنة الوصفية المذكورة هو الخروج بمفهوم عام للدين، أي تحديد ماهيّة الدين. العنصر الأول في تحديد هذه الماهية يسميه أديب صعب الانفصال والاتصال. فالأديان تُجمِع على أن النظام الظاهر، بما فيه الإنسان، لا كيان له في ذاته ومن ذاته، بل يستمد كيانيته من حقيقة قصوى مطلقة تغدق عليه المعنى والقيمة. ويتحدد السقوط، الذي يأخذ في بعض الأديان اسم "الخطيئة"، بالانفصال عن هذه الحقيقة، فيما يتحدد الخلاص - وهو هدف الأديان - بإعادة الاتصال.

العنصر الثاني أن العقائد غير كافية من أجل إعادة الاتصال بهذه الحقيقة. من هنا تلجأ الأديان إلى ممارسات عملية تسهِّل الاتصال بالمطلق، هي ما يسمى الشعائر أو الطقوس، ومنها الصلاة والصوم والحج. ولئن اختلفت هذه الممارسات من دين إلى آخر، فهدفها يبقى واحدًا، وهو وصل المحدود باللامحدود. أما الدين الذي يكتفي بالعقائد فلا يختلف كثيرًا عن الفلسفة.

العنصر الثالث أن الأخلاق أو السلوك جزء لا يتجزأ من كل دين. وهي وسيلة للاتصال بالمطلق أو إعادة وصل ما انفصل. فالدين عمل، والعمل تَعامُل ومعاملة. والأديان كلها تجعل من العمل مختَبرًا للإيمان. وإذا كانت الأخلاق ممكنة بانفصال عن الدين، إذ أن المطلوب من كل إنسان، مهما كان موقفه حيال الدين، أن يدرك واجباته ويؤديها، فلا دين من دون أخلاق. وهذا يعني أن أخلاق المؤمن جزء من إيمانه. لكن الأخلاق الدينية تطلب من المرء مثالاً عاليًا جدًا. من هنا سُمِّيت "أخلاق أبطال وقديسين"، تقوم على مجاهدة النفس.

العنصر الرابع أن المؤمن يتخذ من مؤسس دينه أعلى قدوة في سعيه الخُلقي، محاولاً محاكاته في سلوكه. ففي المسيحية يسوع المسيح، وفي الإسلام النبي محمد، وفي الطاويّة لاوتسو، وفي البوذية غوتاما... وعلى درجة أدنى من المؤسسين يأتي القديسون أو الأولياء. وهم طبقة من الناس نجحوا إلى أبعد حد ممكن في محاكاة المؤسسين. وهذا هو العنصر الخامس من العناصر المشتركة بين الأديان.

أما العنصر السادس الأخير فهو أن مصدر القداسة واحد، وهو الله. هنا يذهب المؤلف إلى أن كل الأديان، بمعنى، توحيدية، بالرغم من ظاهر بعضها التعددي. ويقدم عددًا من الحجج دعمًا لرأيه هذا، منها أن الأديان القديمة التي تحدثت عن آلهة أشارت، في الوقت نفسه، إلى إله فوق الآلهة جميعًا، من مرتبة أخرى مغايرة لمرتبتها، وكأنما "الآلهة" اسم آخر للملائكة، فيما الإله المميز، مثل زفس عند اليونانيين وجوبيتر عند الرومان ومردوخ عند البابليين، هو الله الواحد. ولعل حجته الأقوى في الدفاع عن نظرته "التوحيدية" أن الأديان كلها نادت بالحقيقة المطلقة، ونظرت إلى السقوط على أنه انفصال الذات عن هذه الحقيقة وإلى الخلاص على أنه إعادة الاتصال بها. لكن الحقيقة المطلقة أو الكلية أو القصوى التي انفصلت الذات عنها والتي يجب أن تعيد اتصالها بها حقيقة واحدة. وهذه الحقيقة المطلقة هي الله. أما التعددية فتعني ألا يرى المرء في الكون سوى الكثرة، من دون مبدأ يوحِّد هذه الكثرة. والإمعان في الإلحاد يحصل عندما يجد المرء مبدأ الوحدة في ذاته، فيؤلّه نفسه.

3- المقدمة في فلسفة الدين

من هذه النتائج ينطلق الكتاب الثالث، المقدمة في فلسفة الدين، وهو الكتاب الأهم في هذه المجموعة لأنه يؤسس منهجًا أو نظرية معرفة ملائمة للدين والإيمان. ولم يقصد أديب صعب، بإطلاقه اسم "المقدّمة" على كتابه، أن يلتزم جانب "الخَفَر" أو الحذَر أو الحيطة لكونه يطلق الكتاب الأول من نوعه في الثقافة العربية المعاصرة[25]. لكنه قصد به كتابًا يرسي أُسسًا وقواعد لهذا العلم، من نوع ما يسمى في اللغات الأوروبية Prolegomena أو Groundwork [26]. من هنا نَوَّه السيد محمد حسن الأمين "بهذا الجهد العقلي الضخم"، واعتبره

إنجازًا كبيرًا في إعادة الاعتبار إلى العقل وإلى الدين معًا[27].

وأشار القاضي طارق زيادة إلى "إدراك المؤلف ووعيه أنه يؤسس ويرسي قواعد أساسية" في مجال فلسفة الدين[28]. وجاء كلام المطران جورج خضر - وهو الذي وجد في اسم "المقدمة" شيئًا من "الخفَر" - في الإطار الآتي:

أقبلتُ على كتاب أديب صعب باستغرابِ مَن يُقبل للمرة الاولى على فاكهة غريبة، وسرعان ما يتحول شعوره إلى نَهَم بسببٍ من التذاذ. ذلك أنني تتلمذتُ على ما سمّاه أُستاذنا "مقدّمةً" بخفَر. فللمرة الأولى أغوص على فلسفة الدين[29].

يميز المؤلف بين معنى ضيّق ومعنى واسع للدين: الأول يحصر الدين في نطاق خبرات محدودة كالذهاب إلى أمكنة العبادة خلال أيام أو مناسبات معينة، أو في نطاق ظواهر خاصة جدًا من نوع الأصوات والظهورات والرؤى والخوارق. أما المعنى الواسع للدين فيجعل نطاق الدين حياة المؤمن كلها وقد وُضعت في ضوء إيمانه، أي في ضوء الإلهيّ أو المقدَّس. وإذ لا ينكر المؤلف الدين بمعناه الأول، إلا أنه يخشى أن يكون هذا المعنى قائمًا في ذاته بانفصال عن المعنى الواسع، لأن الدين عندئذ يتقلص إلى طقوس أو ممارسات شكلية لا علاقة لها بحياة المؤمن من يوم إلى يوم ومن لحظة إلى لحظة.

بناءً على هذا المعنى الواسع، الذي يراه المؤلف المعنى الأصلي والأصيل للدين، يعرِّض نظريات المعرفة التقليدية، خصوصًا نظرية المعرفة "التجريبية" المرتبطة بأسماء فلاسفة كبار مثل ديفيد هيوم وأتباع المدارس التحليلية المعاصرة، لنقد عنيف لعجزها عن استيعاب الخبرة الدينية بمعناها الواسع، ولسَعيها وراء "إله" محسوس وملموس من أجل أن تجد تبريرًا منطقيًا للإيمان به.

ومع رفضه نظرية المعرفة هذه، يرفض أديب صعب التمييز الواسع الانتشار الذي تقيمه، والذي يتبناه، مع الأسف، بعض ممثلي الفكر الديني، بين "الموضوعي" و"الذاتي"، محيلةً العلوم والرياضيات على النطاق الموضوعي، والدين والشعر والفن والأخلاق على النطاق الذاتي. لكن إذا كان "الموضوعي" يشير إلى موضوع أو كيان موجود في العالم الخارجي باستقلال عن الذات، فلا شك أن الله، بالنسبة إلى المؤمن الجادّ، موضوع من هذا النوع. لذلك كان الدين موضوعيًا. فهو يدور على موضوع، وإن كان هذا الموضوع غير مادي ومختلفًا عن موضوعات العلوم.

ويذهب المؤلف إلى أنه، في ضوء هذا الايضاح،

تغدو الذاتية والموضوعية مفهومين نسبيين، بمعنى أنه ليس هناك ذاتية واحدة ولا موضوعية واحدة. فموضوع المراقبة العلمية مختلف عن موضوع التذوق الفني أو موضوع التأمل الديني، وموقف الذات يختلف بالتالي من موضوع إلى آخر. ومما تستتبعه نظرتنا هذه إبطال القول بدرجات لليقين تبدأ، في أعلاها، بالرياضيات وتتحرك نزولاً على خط واحد إلى العلوم الطبيعية فالعلوم الاجتماعية، لتنتهي في أسفل الخط نفسه بالدين وبقية الخبرات الشعورية. والأحرى أن يكون لكل موضوع أو نوع من الموضوعات خطه المعرفي المستقل، حيث تتدرج مراتب اليقين في خانة منطقية واحدة ضمن الموضوع الواحد. فشروط اليقين في الرياضيات غيرها في العلوم الطبيعية وغيرها في الدين[30].

ويتابع:

هذا يبين لنا الموقع الخطر الذي يصل إليه أولئك المدافعون الدينيون الذين يقبلون الهجوم المسلح بالموضوعية والطريقة العلمية، فيذعنون لحجب صفة الموضوعية عن الدين، ويحيلونه على مرتبة ذاتية ولكن لها مقدارها الخاص من اليقين في نظرهم. فالقول بأن الحقائق الدينية ذاتية يعني أنها نفسية محض، ولا وجود لها ككيانات موضوعية في العالم الخارجي[31].

انطلاقًا من نظريته في الوجود والمعرفة، أي من المنهج أو المنطق الذي يرسيه، يعالج أديب صعب في كتابه المقدمة في فلسفة الدين مسائل حساسة في الفكر الديني، هي: وجود الله، الخبرة الدينية، المعجزة، مسألة الشر، الدين والأخلاق، الوجه الآخر للحياة. وهو استهلّ كتابه بفصل حول ماهيّة الدين وآخر حول الدين والفلسفة. ولا يترك شاردة أو واردة في فلسفة الدين، بدءًا بالفلسفة القديمة ومرورًا بالوسيطة ووصولاً إلى الحديثة فالمعاصرة، إلا يوردها على نحو موضوعي ويبدي موقفه منها. من هنا قال الأستاذ محمد السماك:

قبل أن أبدأ قراءة الكتاب، كنت أعتقد أنه يعالج فلسفة معينة ودينًا محددًا. ولكن سرعان ما تبين لي أن البحث أعمق وأشمل وأغنى، وأنه يتناول كل المدارس الفلسفية القديمة والحديثة وكل الأديان، بما فيها الأديان غير الابراهيمية، كالبوذية والهندوسية. ذلك أن العناصر المشتركة بين الأديان تجعل من فلسفة الدين فلسفة الأديان جميعها[32].

وقال الدكتور ربيعة أبي فاضل:

اعتمد الكاتب على فلسفة دين مقارنة استعانت بقدرة ثقافية غير عادية على كشف المتناقضات وإبراز الانسجام... واستعان بالمقارنات الغنية وبالصور الأدبية التي قامت في مقامها الجميل، وبالأقاصيص المعبرة عن الفكر، وباستشهادات من غير مصدر ومرجع، ما جعل النص المحلَّل فيه مقاربًا الكمال[33].

والحق أن أديب صعب نقل آراء أفلاطون والرواقيين وأُوغسطين والأكويني وديفيد هيوم وجون ستيوارت مل وإيمانويل كانط ولودفيغ فويرباخ وفردريك نيتشه وبرتراند رصل وجان بول سارتر وألبير كامو، وكثيرين سواهم، إلى العربية نقلاً أمينًا، ولكن بلغته هو، الأمر الذي جعل نصوص هؤلاء تبدو كأنما كُتبت أصلاً بالعربية. وهذه الميزة اللغوية المتألقة تفتقر إليها الكتابة الفلسفية العربية، سواء الموضوعة بالعربية أو المنقولة إليها.

4- وحدة في التنوع

إذا كان الكتاب الثالث في هذه المجموعة يعالج المسائل الجوهرية التي أشرنا إليها، فهو طبعًا لا يستنفد قضايا فلسفة الدين كلها. وتبقى هناك مسائل كثيرة أُخرى يجب التصدي لها، وليس ممكنًا ولا مطلوبًا أن يحيط بها مؤلِّف واحد. إلا أن أديب صعب، في كتابه الرابع الذي صدر حديثًا بعنوان وحدة في التنوع: محاور وحوارات في الفكر الديني، يتصدى لبعض هذه المسائل، مثل: الأديان الاخرى والحوار، التعصب والتسامح، الدين والدولة، الإيمان والإلحاد، العلم والدين، نطاق الإعجاز، الإنسانية كدين، تعليم الدين، الرعاية، أنماط الدفاع الديني. وهي من المسائل الملحة جدًا على مختلف الصعد الدينية والفلسفية والاجتماعية.

يستهل المؤلف كتابه الجديد باسترجاع مفهومه للفلسفة عمومًا ولفلسفة الدين خصوصًا. فوظيفة الفلسفة عنده هي كشف النطاق والمنطق لكل من النشاطات الإنسانية، كالعلم والفن والاجتماع والسياسة والدين. وأهم ما تستطيع فلسفة الدين بلوغه تحديد نطاق الدين ومنطقه باعتماد النقاط الأساسية التي تتلاقى حولها الأديان وتتيح لنا الكلام عن "جوهر الدين". هذا الجوهر هو، حسب مصطلح المؤلف، "الدين في الأديان"، أو "الوحدة في التنوع". وهو المفهوم الذي استمد منه عنوان كتابه. ومن هنا يتصدى لبعض مسائل الفكر الديني، بدءًا من الأديان الأخرى والحوار، فيجد نموذجين كبيرين للحوار الديني، يقوم أحدهما على أن ديننا وحده هو الدين الصحيح أو الأصح، فيما يقوم الآخر على الاتفاق الجوهري بين الأديان. ويغدو هدف الحوار الرئيسي، حسب النموذج الأول، إقناع الآخر بوجهة نظرنا وتحويله إلى ديننا، وحسب النموذج الثاني تعزيز مبدأ الوحدة في التنوع. من النموذج الأول للحوار يولد التعصب بمعناه السلبي، مع نوع من التسامح هو "غض النظر أو العفو عند المقدرة". ومع هذا النموذج تنسجم فكرة الدولة الدينية "الإسمية"، تلك

التي طالما أدّت إلى حروب أهلية كانت من أقسى الحروب في التاريخ، وخانت أحد مبادئ الدين الأساسية، وهو السلام[34].

ومن النموذج الثاني للحوار

يولد التسامح الحقيقي القائل بأن ما يحاوله واحدنا بواسطة دينه يحاوله الآخر بواسطة دينه هو[35]،

وتنسجم مع هذا النموذج

فكرة الدولة الدينية الفعلية، أي دولة الوحدة في التعدد، القائمة على الجوهر والروح لا على الشكل والاسم[36].

وينتقل الكاتب إلى العلاقة بين العلم والدين، فيحدد نطاق كل من النشاطين ليقول بأن المشادة الطويلة التي نشأت بينهما جاءت، في جانب كبير منها، من إغفال هذا التحديد، وبالتالي هي مشادة غير ضرورية، لا بل ترتكز إلى خطأ فادح في إدراك نطاق كل من الدين والعلم. فنطاق العلم هو العالم قائمًا في ذاته ومكتفيًا بذاته، ومنطقه هو مراقبة السببية "الآليّة" وكشف قوانينها. أما نطاق الدين فهو العالم مخلوقًا، أي تحديده في ضوء الإلهيّ أو المقدّس، ومنطق الدين هو النظر إلى العالم من زاوية المعنى والقيمة والهدف. فمن ينتظر من العلم أمرًا مثل البرهان عن وجود الله لن يحصل على أي نتيجة عبر منطق سليم، لأن الطريقة العلمية غير صالحة لدراسة الأسباب "الغائيّة". من هنا، يحدد الكاتب الايمان الديني من حيث هو النظر إلى العالم كمخلوق ذي معنى وقيمة وغاية، أي كمعجزة. فالايمان إيمان بمعجز، والدين يدور على معجز،

وإلا لا يكون ثمة دين ولا إيمان على الاطلاق. في غياب المعجز يغدو الدين، في أحسن حالاته، نظامًا من الأخلاق أو الاصلاح الاجتماعي... ويصبح الايمان ضربًا من ضروب الاحتمال أو التوقع العلمي. وحده المعجز يجعل من الدين دينًا أو يعطيه صفته الأساسية[37].

ولئن تلاقت القيم الدينية والقيم الإنسانية حول المثل العليا كالعدل والسلام والسعادة واحترام كرامة الإنسان، إلا أن ما يميز الدين عن الدعوات والفلسفات الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية المحض هو ارتباطه بمفهوم الألوهة.

هذه النظرة إلى الدين تنتقل إلى الناس عن طريق التعليم. وهنا يستعيد أديب صعب موقفه من تعليم الدين الذي طرحه في كتابه الأول الدين والمجتمع، ثم يعالج الرعاية، التي يتولاها رجال الدين والقائمون على المؤسسات الدينية، كنوع من أنواع التعليم. وعنده أن هذه الرعاية لا يجوز أن تكتفي بنقل الثقافة الدينية إلى المتعلمين، بل يجب أن تربط المعلومات الدينية بالثقافة العامة وحقائق العلوم السلوكية، أي علم النفس وعلم الاجتماع. ويختم المؤلف القسم الأول من كتابه، وهو المتعلق بالمحاور أو المسائل، بفصل حول أنماط الفكر الديني أو الدفاع الديني، مميزًا بين ثلاثة أنواع من الدفاع:

1.    الدفاع عن دين معين عبر عرض عقائده ودعاواه على نحو إيجابي، أي من دون تعرض لما يؤمن به الآخرون.

2.    الدفاع عن دين معين باعتماد السجال أو الجدل، بمعنى الانطلاق من إعلاء هذا الدين على سواه.

3.    الدفاع عن الأساسيات الدينية - وفي رأسها مفهوم الألوهة - قبل التصدي للدفاع عن هذا الدين أو ذاك.

وإذ يرفض المؤلف النمط الثاني، وهو الدفاع السجالي الذي مُنيت به الأدبيات الدينية عبر التاريخ، يدعو إلى الانطلاق من النمط الثالث، أي الدفاع الفلسفي العام، وإقامة النمط الأول، وهو الدفاع الإيجابي عن دين معين، عليه.

القسمان الثاني والثالث من كتاب وحدة في التنوع توثيقيّان، يحوي أحدهما مختارات من الحوارات الصحافية مع المؤلف حول كتبه الثلاثة السابقة أو حول بعض شؤون الفكر الديني، ويقوم كل حوار بمثابة فصل يضاف إلى القسم الأول من الكتاب. ويحوي الآخر عددًا من الدراسات والآراء حول الكتب الثلاثة،

وفيها إجماع [كما جاء على غلاف الكتاب] من ممثلين متنورين لأديان ومذاهب مختلفة ومن باحثين في الفكر الديني على تقديم المؤلف موضوعَ الدراسات الدينية وإبراز أهميته، وعلى ريادته فلسفةَ الدين في الثقافة العربية المعاصرة.

ولا شك أن هذه المادة التوثيقية مهمة جدًا، لأن مراجعتها بين دفّتَي كتاب أسهل كثيرًا من الرجوع إليها في مصادرها الأساسية.

ثانيًا - الدراسات الدينية ومساهمة المؤلف فيها

الكتابة التي نحن في صددها تنتمي إلى حقل أكاديمي يسمى "الدراسات الدينية". وهو حقل حديث العهد نسبيًا في الجامعات. والمألوف في المؤسسات المسيحية دوائر "اللاهوت"، وفي المؤسسات الإسلامية دوائر "العلوم الدينية". هذه الدوائر التقليدية تتناول المسيحية أو الإسلام انطلاقًا من الكتابات المقدسة والعقائد وتفسير هذه الكتابات والعقائد، مع لجوئها أحيانًا إلى دراسات رديفة في التاريخ واللغة والفلسفة من أجل الإحاطة على نحو أوسع وأعمق بالموضوع الأساسي، وهو تفسير عقيدة معينة والدفاع عنها.

وفي التراث الإسلامي تفضيل لعبارة "علم الكلام" على عبارة "اللاهوت"، لأن اللاهوت قد يشير إلى العلم الذي يتناول الجوهر الالهي، وهذا الجوهر خارج الادراك البشري. وتجدر الإشارة إلى أن الفكر المسيحي الشرقي لا يحبّذ كثيرًا مصطلح "اللاهوت" للسبب عينه، وإلى أن نزعة "اللاهوت السلبي" أو "التنزيهي"، التي تعني سلب الصفات عن الذات الالهية لأن العقل الانساني المحدود لا يستطيع إدراكها، بدأت باكرًا جدًا في هذا الفكر حتى بلغت ذروتها مع ديونيسيوس المسمّى الآريوباغي في القرن الخامس للميلاد، خصوصًا في كتابيه الأسماء الإلهية واللاهوت الصوفي[38].

إلا أن الدراسات الدينية تختلف عن اللاهوت أو العلوم الدينية أو علم الكلام من ناحيتين على الأقل. فهي، أوّلاً، تنطلق من العقل، لا من نصوص دينية منزلة أو مقدسة. وهي، ثانيًا، لا تقتصر على دين بعينه، بل تتناول الدين من حيث هو دين وتنطبق على كل الأديان. ويعزو بعضهم بداية هذه الدراسات إلى الباحث الألماني فردريك ماكس مولر الذي نشر عام 1875 الكتاب الأول من مجموعة كبيرة نَقلت إلى القارئ الغربي، للمرة الأولى، النصوصَ المقدسة لأديان الهند والصين واليابان[39]. وباعتماد الطريقة العلمية التي كانت في أوجها آنذاك، ميز ماكس مولر بين مقاربتين للدين: المقاربة العلمية، الموضوعية، الوصفية، والمقاربة اللاهوتية القيميّة[40]. وهكذا تأسس العلم الجديد الذي هو "تاريخ الأديان" بناءً على الطريقة الوصفية (الفينومينولوجيّة)، وكان فاتحة الدراسات الدينية.

وإلى تاريخ الأديان، ظهرت علوم أخرى تعنى بالدراسات الدينية، عندما بدأ علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا يتناولون الدين. وبما أن هذه العلوم كانت مرتبطة في أول عهدها بالفلسفة ونسْج النظريات، فقد تميزت بواكير علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني بإطلاق تنظيرات حول الدين لم تكن دائمًا ودّية. فالدين، في نظر أوغست كونت (1795 - 1857)، تجاوزته الفلسفة عندما أحلّت المبادئ المجردة مكان الكائنات الإلهية لتفسير أصل الكون وظواهره، ثم جاء العلم بتفسيراته السببية ليبطل الفلسفة والدين كليهما[41]. وتلاه لودفيغ فويرباخ (1804 - 1872) للقول بأن الإنسان ابتكر مفهوم الألوهة بتصوره طبيعته البشرية، من حيث هي عقل وإرادة ومحبة، في كمالها[42]. وتابَعَ إميل دوركهايم (1858 - 1917) هذا الخط التنظيري حين أعلن، في حماسته للتفسيرات الاجتماعية، أن الله هو المجتمع نفسه مكتوبًا بأحرف كبيرة وطريقة رمزية[43]. وجاء سيغموند فرويد (1856 - 1939) ليقول، باسم علم النفس، إن الإنسان اخترع مفهوم الالوهة تعويضًا عن أب أرضي محدود وظالم بأب سماوي مطلق وعادل وكامل في كل شيء[44].

غني عن القول أن هذه النظريات غير خاضعة للبرهان العلمي، وأنها كلها تقع خارج نطاق العلم. لذلك لم يكن غريبًا أن يتخلى عنها وعن المنطق المؤدي إلى مثلها علمُ النفس وعلمُ الاجتماع عند تحولهما إلى علوم سلوكية مع النصف الثاني من القرن العشرين[45]. وبات علم النفس وعلم الاجتماع الدينيان يدرسان السلوك الظاهر للناس وردود فعلهم ومواقفهم في ضوء إيمانهم الديني، بعيدًا عن التنظيرات حول مصادر الأفكار الدينية التي لا سبيل أبدًا لبرهانها بالطرائق العلمية.

أما حقل الاختصاص الرابع الكبير ضمن الدراسات الدينية فهو فلسفة الدين. وبعدما كان ماكس مولر، الذي استهل هذه الدراسات في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يضع فلسفة الدين مع اللاهوت، أي مع النظام الفكري الخاص بتفسير دين معين، كالمسيحية والاسلام، والدفاع عنه[46]، باتت فلسفة الدين جزءًا لا يتجزأ من الدراسات الدينية، لا بل نقطة ارتكاز هذه الدراسات. فهي ليست فلسفة الدين المسيحي ولا فلسفة الدين الإسلامي ولا فلسفة الدين الهندوسي ولا فلسفة الدين البوذي ولا فلسفة أي دين بعينه، لكنها فلسفة الدين عمومًا، أي الدين من حيث هو دين. إنها، بكلام آخر، فلسفة العناصر المشتركة بين الأديان، التي تتيح لنا الكلام عن جوهر الدين.

أديب صعب فهمَ موضوع الدراسات الدينية فهمًا عصريًا ونقديًا. وفي كتابه الدين والمجتمع الصادر عام 1983، وهو فاتحة كتبه، قدم وصفًا للدراسات الدينية كان الأول من نوعه في اللغة العربية، وبيَّن أهمية هذه الدراسات لا للثقافة العامة والتوازن الاجتماعي فحسب، بل للرعاية الدينية الفعّالة أيضًا وحسْن الدفاع عن الإيمان الديني[47]. فهو يرى أنها تفيد الطالب عمومًا من جهة توسيع ثقافته الإنسانية وتعميقها. وتفيد معلم مادة الدين بإعطائه نظرة منفتحة تجعله يفهم أسئلة تلاميذه ويتصدى لها على نحو أفضل، مع ربط الدين بالمواد الأخرى وبالحياة اليومية. وتفيد الراعي الديني من حيث هو معلم ومرشد للناس في حياتهم المتعددة الجوانب. وتفيد المؤمن إذ تجعله يفهم دينه والأديان الأخرى فهمًا أفضل.

ومنذ كتابه الأول هذا، أعلن المؤلف عن تبنّيه اسم "تاريخ الأديان" بدلاً من "علم الأديان المقارن" أو "مقارنة الأديان"، لتَحاشي "المقارنة القيميّة أو المفاضلة بين الأديان"[48]. وأعاد تأكيد هذا الموقف في كتابه الثاني الأديان الحية[49]، محذِّرًا مؤرخي الدين أيضًا من

وضع الدين تحت ضوء نظرية أو أخرى من مجموعة نظريات جريئة تدّعي لنفسها الصفة الموضوعية أو العلمية[50]،

مثل نظريات كونت وفويرباخ ودوركهايم وفرويد المذكورة أعلاه.

هذا لا يعني، في أي حال، أن المؤلف يقبل العلوم السلوكية الحديثة من دون نظر نقدي إليها. ففي كتابه الأول ينتقد بعض علماء النفس وعلماء الاجتماع عندما يدّعون تناول الدين بطريقة علمية لا تشكل أي تهديد لعقائده، لكن سرعان ما

نجد أن المناقشة التي بدأت بإعلان التواضع حيال مسائل كصحة العقائد الدينية وخطأها انتهت بنتيجة كامنة وراء الكلمات، لكنها واضحة، وهي أن للعلوم الاجتماعية وحدها حق الكلام في موضوع العقائد، من أية وجهة نظر ممكنة[51].

كما يحذّر العلماء السلوكيين من تَوخّي الدقّة الاحصائية على حساب الشمول والعمق:

فعدد الذين يحضرون إلى أماكن العبادة، مثلاً، ليس كافيًا كدليل على التقدم الديني في المجتمع المعني[52].

وفي كتابات سلوكية كثيرة حول الدين، عمد بعض الباحثين إلى ربط الدين بالعصاب على الصعيد النفسي والتعصب على الصعيد الاجتماعي[53]. ويحذر أديب صعب من هذه النزعة، متبنيًا تمييز العالم النفسي غوردون اولبورت (1897 - 1967) بين "دين خارجي" متعلق بالمنافع الشخصية والمظاهر الاجتماعية و"دين داخلي" متعلق بالجوهر،

قائلاً إن الدين الخارجي هو المرتبط بالتحيز، في حين أن الدين الداخلي هو التربة التي يولد فيها التسامح[54].

والأجدى بالعلماء السلوكيين تحليل ظاهرة الايمان فلسفيًا، كما فعل اولبورت، قبل ربطه

بنَوازع متطرفة أو شاذة على الصعيدين النفسي والاجتماعي[55].

وإذ يعبّر المؤلف عن أسفه لغياب العلوم السلوكية عن الدراسات الدينية في الثقافة العربية المعاصرة ولضعف هذه الدراسات عمومًا وعدم إيلائها الأهمية التي تستحقها في الجامعات العربية[56]، يوضح أن نطاق اختصاصه الشخصي هو فلسفة الدين، حتى عندما يكتب في تاريخ الأديان. ففي مقدمة كتابه الأديان الحية يقول إن هدفه

ليس البحث عن تفاصيل مفقودة أو مخبوءة في تاريخ الأديان ولا عن نقاط غفل الدارسون عنها أو أغفلوها هنا أو هناك،

لكن الهدف

أن يقوم هذا الكتاب مقام فصل تمهيدي في كتاب يدور على فلسفة الدين[57].

والكتاب المقصود فعلاً هو المقدمة في فلسفة الدين الذي يعتبره المؤلف عمله الأساسي بين الكتب الأربعة، حيث يوضح أن دراسة تاريخ الأديان شرط لفلسفة الدين:

وكما لا يجوز نسج فلسفة للعلم من دون معرفة لائقة لتاريخ العلوم وطريقة عملها، ولا فلسفة للفن بانفصال عن معرفة بعض الفنون في تاريخها وطرائق تعبيرها...، هكذا لا يجوز نسج فلسفة للدين لا تأخذ في الاعتبار ماهية الدين انطلاقًا مما فعله الناس ويفعلونه تحت اسم الدين[58].

لكنه، مع اعتبار كتبه أساسًا groundwork في فلسفة الدين، وهو الأمر الذي أجمع عليه عدد كبير من الباحثين والدارسين وممثلي الأديان، يقول إن ثمة حاجة كبيرة

إلى علماء يتناولون الدين من النواحي التاريخية والاجتماعية والنفسية والفنية وسواها، ولا سيما من الناحية الفلسفية[59]

التي تنتمي الكتب إليها. فلا كتاب واحد يكفي، ولا وجهة نظر واحدة تختصر كل الوجهات الممكنة.

أما مساهمة أديب صعب في الدراسات الدينية، بالنسبة إلى الثقافة العربية المعاصرة، فهي التنبيه إليها وإلى أهميتها. لكن مساهمته الكبرى هي في حقله الخاص، أي فلسفة الدين، التي يعتبرها

قاعدة راسخة للدراسات الدينية من نواحيها جميعًا، لأن القاعدة الفلسفية هي الركيزة المنطقية الأساسية لعلومنا[60].

وقد أوضحنا هذه المساهمة خير إيضاح في القسم الأول من هذا البحث، الذي استعرضنا فيه كتب المؤلف الأربعة في الموضوع. ولعلّ أهم ما يميز فكره الديني دفاعه الفلسفي عن الوجهة الإيمانية، وسط فلسفات تشكيكية معادية للإيمان، تبلغ ذروتها مع الفلسفة التجريبية والتحليلية. إلا أنه يعرض هذه المواقف بأمانة تامة، مع أفضل ممثليها. ويوضح حجج هؤلاء بأبلغ طريقة ممكنة، تَفُوق أحيانًا إيضاح أصحابها لها.

من ضمن فلسفته المدافعة عن الإيمان، تبرز لدى المؤلف نزعة قوية جدًا نحو تَحرّي عناصر الوحدة أو الاتفاق بين الأديان، التي يجدها من الرجاحة بحيث يتكلم عن

هويّة دينية في الاتّفاق قبل أن تكون في الاختلاف.

ويطلق، في أحد حواراته، هذه الدعوة:

لنبحث عن الهوية الدينية في نقاط الاتفاق... هذا لا يعني البتة طمس نقاط الاختلاف، وهي هناك أيضًا. ولكن لنبحث أولاً عن الهوية في نقاط الاتفاق، وبعد ذلك - بعد ذلك فقط - لنحاول الانتقال إلى النقاط الأخرى[61].

وفي حوار آخر، يلقي مزيدًا من الضوء على هذا الموقف بقوله:

المؤسف أن العديد من اللاهوتيين والمفكرين الدينيين ومعلمي الدين والذين يتعاطون الشؤون الدينية، في حماستهم لإبراز نقاط الاختلاف، يُغفلون نقاط التلاقي. لكنهم، في هذا، كمن يريد القول بأن انتماء الفرد إلى لبنان أو العالم العربي، مثلاً، يلغي انتماءه إلى العالم أو إلى الجنس البشري. الخطأ واضح جدًا هنا. والغريب أن هؤلاء يثابرون على الخطأ، متشبثين بمادة للخلاف تتيح لهم، كما يظنون، التميز على سواهم. الخط الفكري الذي أطلقتُه يعيد الاعتبار إلى نقاط التلاقي... إنّ عملي كفيلسوف هو البحث عن هذه النقاط وإبرازها والانطلاق منها. وهو لا يلغي عمل اللاهوتي الذي يركز على نقاط الاختلاف. إلا أن اللاهوتي لا يستطيع، بعد تأكيد ما سميناه الهوية في الاتفاق، أن يتابع عمله كأن شيئًا لم يكن. ولا بد من أن يأخذ هذه النقاط في الاعتبار، وأن يعدّل أفكاره في ضوئها[62].

ويضيف:

الهدف من دعوتي هو اكتشاف "الدين" في "الأديان"، أي اكتشاف ذلك الجوهر الواحد أو العناصر المشتركة في الأديان كلها. إذًا، الهدف ليس القضاء على التنوع، بل تحقيق وحدة ضمن التنوع أو وحدة في التعدد. الوحدة هناك. المهم هو كشفها والإشارة إليها. هذا ما حاولتُ فعله في كتبي الثلاثة[63].

ثالثًا - مصادر النزعة التوحيدية

لا التنوع الذي يؤول إلى فوضى، إذًا، ولا الوحدة التعسفية التي تقضي على التنوع، هدف المؤلف، بل الوحدة في التنوع. هذا لبّ فلسفة أديب صعب في الدين والمجتمع والسياسة، بل في كل شيء. فما هي مصادر الوحدة في فكره؟

الكثرة والوحدة من الموضوعات التي شغلت الفكر البشري منذ أقدم العصور: ما نراه في العالم أمامنا، على صعيد الطبيعة والإنسان والمجتمع، كثرة هائلة ومتحولة، لا يقر لها قرار. فمن أين جاءت هذه الكثرة؟ وهل هناك مبدأ واحد يفسر أصلها أو مصيرها؟ أفلاطون، الذي دارت فلسفته كلها، بمعنى من المعاني، على هذه المسألة، ابتكر ما يعرف بنظرية المثُل لتفسير مصدر الكثرة ومعناها وهدفها. و"مثال المثُل"، الذي انبثقت منه الكثرة في هذا العالم المادي وإليه تعود، هو "الخير" أو "الله"[64]. وعندما تناول أرسطو هذه المسألة، آثَر أن يتجنب نزوع معلمه أفلاطون نحو البحث عن أصل الأشياء، واكتفى بالكلام عن الهدف الذي تسعى إليه. من هنا تكلم أرسطو عن الله، الذي هو كمال كل شيء والمآل الذي يسعى نحوه كل شيء، كما لو كان العلة الغائيّة فحسب[65]. وعندما استَعرض الفيلسوف العربي أبو نصر الفارابي (870 - 950) هذه المسألة، وضع كتابه الشهير الجمع بين رأيَي الحكيمين للقول بأن أفلاطون وأرسطو كانا على اتفاق حول مسألة الكثرة والوحدة، لأن الاثنين لم يكتفيا بالكثرة على صعيد العالم الطبيعي، بل بَحَثا عن مبدأ للوحدة فوجداه مبدأ روحيًا وراء العالم الطبيعي. أما اكتفاء أرسطو بالكلام عن الأهداف أو الغايات فلا يعني أنه أنكر أن يكون للكثرة مصدر. والكل يعرف قول أرسطو المأثور أنْ "لا شيء يأتي من لا شيء".

هناك نزعة طبيعية لدى الانسان، إذًا، متأصلة في العقل البشري، تجعله لا يستقر إلا وقد وجد تفسيرًا واحدًا للكثرة أو التعدد أو التنوع. حتى الفلاسفة الذين تشبثوا بالكثرة أدركوا أهمية القوانين والمبادئ، العلمية على الأقل، التي من شأنها تفسير هذه الكثرة ولملمة شتاتها ضمن مبدأ واحد أو مجموعة من المبادئ، هي ما يسمَّى القوانين العلمية. ومن هذه المبادئ مبدأ السببية الذي تقوم عليه كل العلوم، أي المبدأ الذي يذهب إلى أنه عن أسباب معينة تصدر نتائج معينة. ومن هؤلاء ديفيد هيوم (1711 - 1776)، زعيم الفلسفة التجريبية، الذي بنى نظرية المعرفة على معطيات الحواس، واضعًا المقياس الوحيد لصحة الأفكار في الانطباعات الحسية التي تتولّد منها[66]. وبما أن الانطباعات هذه لا تستقر على حال، بل يلي أحدها الآخر، فالعقل لا يستطيع أن يولّد فكرة منطقية سليمة باستثناء تلك الأفكار المستمَدّة من انطباعات النظر والسمع والشم واللمس والذوق. وهذا يعني أن الأفكار الصحيحة هي تلك التي تعكس الكثرة أو التعددية الهائلة التي يمكن أن يتعرض لها المرء في حياته. وعندما يأتي هيوم إلى تفسير أفكار مثل فكرة السببية أو الترابط الضروري بين السبب والنتيجة، وهي غير مستمَدّة من انطباع حسي آتٍ من العالم الخارجي، نراه يحيلها على ما يسميه "العادة". فنحن تعوّدنا حدوث السخونة أو الاحتراق عند ملامسة النار. وبما أن فكرة السببية ضرورية للعلوم، فإن هيوم يحتفظ بها، ولكن من غير أن يجد لها تبريرًا منطقيًا ضمن نظرية المعرفة التجريبية التي بنى عليها فلسفته، هذه الفلسفة التي تبرر التعدد ولا تجد تبريرًا للوحدة.

لكن المفكر الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) وجد حلاً منطقيًا لهذه المعضلة عندما قال بالمبادئ الفطرية التي تنتمي إلى طبيعة العقل، ومنها مبدأ السببية، أي الترابط الضروري بين السبب والنتيجة. فهذه الفكرة آتية لا من الانطباعات الحسية التي تعكس تعددية العالم الخارجي، بل من طبيعة العقل البشري[67]. وما لم يستطع الإنسان وضع الظواهر الطبيعية غير المتناهية تحت هذه المبادئ المعرفية التي تجمعها وتضبطها، فلا بد من أن يضيع وسطها من غير أن يعرفها على الوجه العلمي الصحيح.

أحد مصادر الوحدة في فكر أديب صعب هو هذه المبادئ الفطرية التي تكلم عنها كانط، والتي، قبل قرون طويلة من ظهور فيلسوف العصور الحديثة في ألمانيا، وجدت تعبيرًا عنها في أبيات شعرية ثلاثة منسوبة للإمام علي بن أبي طالب، أوردها أديب صعب في كتاباته أكثر من مرة[68]:

رأيتُ العقـل عقلين:    فمطبوعٌ ومسموعُ.

ولا ينفـع مسمـوعٌ    إذا لم يَكُ مطبـوعُ،

كما لا تَنفـع الشمسُ   وضَوءُ العين ممنوعُ.

ومن هذه المبادئ إدراك وجود الله، والكثير من الأسئلة التي يطرحها الإنسان فطريًا، أي انطلاقًا من سلامة بديهته وليس من عقيدة دينية معينة، حول الأمور الكبيرة التي تتعلق بأصل الحياة ومعناها وقيمتها ومصيرها. وقد اعترف الإسلام والمسيحية كلاهما بهذا الدين "الفطري"، لا بل اعتبراه أساسًا لقبول هذا الوحي الديني أو ذاك[69]. فالإسلام لم يقصد بالفطرة فطرة المسلم وحده، بل فطرة الإنسان كإنسان. والمسيحية لم تقصر الناموس الطبيعي على المسيحيين، بل جعلته شاملاً الجنس البشري كله.

وقد عبر أديب صعب عن الوحدة الدينية، أو عما دعاه "الدين في الأديان"، خير تعبير في خلاصة كتابه الأديان الحيّة، التي صارت هي المدخل إلى كتابه التالي المقدمة في فلسفة الدين، وفيها عرض العناصر المشتركة بين الأديان التي تخوّلنا الكلام عن جوهر الدين أو ماهيّته[70]. لكنه يفعل ذلك من دون أي مساس بالفكرة الجوهرية التي تحكم عمله، وهي الوحدة في التنوع. فإذا تلاقت الأديان على القول بانتماء النظام الظاهر إلى حقيقة مطلقة تتجاوزه، وبأن الخلاص هو إعادة الاتصال بهذه الحقيقة، وبأن هذا الأمر يتحقق لا عبر الاعتراف الذهني فحسب بل عبر شعائر وتصرفات معينة، وبأن مؤسسي الأديان وأخيارها هم قدوة الأتباع في هذه التصرفات، فهذا لا يعني البتّة زوال التنوع الديني وانحلال الأديان إلى دين واحد. فلكل دين نظرته الخاصة إلى كل عنصر من هذه العناصر. لكن المهم إدراك المؤمن من دين معين أن ما يحاوله بواسطة دينه هو عين ما يحاول المؤمن من دين آخر بلوغه عبر دينه هو.

وانسجامًا مع فلسفته ومع غرض الفلسفة عمومًا، فالدفاع الذي يقدمه المؤلف عن الدين ليس دفاعًا عن هذا الدين أو ذاك، لكنه دفاع عن الدين في ذاته أو عن الدين كدين. وهذا، في رأيه، أساس للدفاع عن أي دين بمفرده[71]. فالمواقف التشكيكية التي أطلقها بعض مفكري القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل لودفيغ فويرباخ وكارل ماركس وفردريك نيتشه وسيغموند فرويد وبرتراند رصل وجان بول سارتر، حيال الدين لم تقتصر على دين بمفرده، بل تناولت الدين كله، أي النزعة الدينية أو الإيمانية لدى الإنسان. والرد على هؤلاء المفكرين لا يكون بالتحول من دين إلى آخر، لأن ما رفضوه هو مفهوم الألوهة أو حقيقة وجود الله. ومن يرفض مفهوم الألوهة من حيث المبدأ لن ينظر إلى المسيح ومحمد وسائر المرسلين والأنبياء، في أحسن حالات هذا النظر، إلا كمعلمي أخلاق ومصلحين اجتماعيين. وهناك كثيرون جردوا الدين حقًا من عناصره الإلهية ونظروا إليه كرسالة محض خُلقية أو اجتماعية. والأحرى أن الرد على المفكرين المذكورين وأمثالهم يحصل بالدفاع عن الدين في ذاته، أي عن النظرة الدينية إلى العالم وحقيقة الألوهة.

هذا الموقف التوحيدي استمده أديب صعب، إذًا، من الفلسفة، بل من الخط الفلسفي الذي ينتمي إليه أو الخطوط التي تنسجم مع فكره. كما استمده من بيئته العائلية، وعلى نحو مباشر من والديه. ولعل إهداء كتابه الأول يلقي ضوءًا على ما نقول:

إلى أبي وأُمي، وليم صعب وليندا صائغ صعب، اللذين علَّمانا، كما علَّما أجيالاً من اللبنانيين، أن الدين يعني، أولاً، احترام كرامة الانسان ومحبة الناس جميعًا[72].

فوالدته أنجزت معظم مهمتها التعليمية في المدارس الرسمية اللبنانية، بين مطلع الخمسينات ونهاية السبعينات من القرن العشرين. وفي هذه المدارس، كما في بعض المدارس الخاصة، كان يُفصَل تلامذة الصف الواحد في ساعة الدين الاسبوعية، لتتلقى كل فئة منهم دروسها الدينية على يد شخص تنتدبه طائفته لهذا الغرض[73]. ووالده، الذي صرف جزءًا كبيرًا من حياته في المهنة التربوية، معلمًا ومديرًا لمدارس وصاحب مدرسة، كتب في مذكراته ما يأتي:

لما وَجدتُ أن في مدرسة الأمّ، كما في كل مدرسة، تلاميذ وتلميذات ينتمون إلى سبع عائلات روحية متفرعة من المسيحية والإسلام تستدعي سبعة معلمي دين، ولما رأيت أن مثل هذا العمل المتَّبع في المدارس يمزق الوحدة الوطنية ويبلبل الناشئة بجمع تلاميذ كل عائلة روحية على حدة ليدخل على غرفة كل فئة معلم أو معلمة دين، وَضعتُ كتاب كنوز الحكمة لتعليم التلاميذ كلهم من كتاب روحي واحد... وبهذه الوسيلة تمكنتُ بمفردي من تلقين "معرفة الله" ]وهي في رأس اهتمامات المدرسة[ لجميع التلاميذ[74].

وفي مقدمته لمذكرات والده التي نُشرت بعد الوفاة، كتب أديب صعب أن الجذوة التوحيدية، التي حملها وليم صعب من عائلته ومسقط رأسه تحويطة الغدير ومدرسة "الحكمة" التي تخرَّج فيها، جعلته

يضع كتابًا موحَّدًا للتعليم الديني لاعتماده في مدرسة الأُمّ، ويتولى تعليم الأحداث بنفسه من هذا الكتاب، من غير حاجة إلى جمعيات ولجان وقرارات ومسوَّدات ومجموعات مؤلفين[75].

وإذا تذكرنا عنوان الكتاب الأول في مجموعة المؤلف، وهو الدين والمجتمع، لأدركنا أن التوازن أو الانسجام أو السلام الاجتماعي يأتي في رأس مصادر دعوته التوحيدية.

رابعًا - الاعتبارات الاجتماعية

استهل أديب صعب مجموعته في فلسفة الدين في خضم الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990). وقد أنجز الكتاب الأول عام 1978، لكنه أرجأ نشره ريثما تستقر الحال. وإذ زاد الوضع سوءًا وتعقيدًا، أخرج المخطوط من أدراجه ونشره عام 1983. وبالرغم من أن الأفكار التوحيدية لدى المؤلف كانت قد تكونت في مرحلة مبكرة جدًا بحكم تربيته ثم بحكم منطقه ونظرته العقلانية، إلا أن الظروف الاجتماعية التي رافقت تأليف الكتاب، وهي الظروف عينها التي عاشها منذ طفولته مع أحداث 1958 الطائفية في لبنان، جعلته يركز أفكاره على الوحدة الاجتماعية - الإنسانية وعلى أهمية السلام بين الأفراد والأقوام والمجتمعات والبشر عمومًا.

وإذ اعتَبر التعليم الديني التقليدي كما كان يمارَس في المدارس اللبنانية، وكما مرّ معنا وصفه، أحد الأسباب الرئيسية للتقاتل الطائفي، اقترح إعادة النظر فيه وإقصاءه عن المدارس، وتبنّي نوع آخر من تعليم الدين في هذه المدارس، هو دراسة الأديان السائدة في مجتمعنا وفي العالم، مع مقارنتها عقائديًا وتاريخيًا وفلسفيًا بعضها ببعض للتأكد من الاتفاق العميق في ما بينها، ومع الافادة من العلوم السلوكية العصرية في دراسة هذه الأديان. أما دراسة كل دين بمفرده من أتباع هذا الدين فتواكب الدراسة التاريخية - الفلسفية، ولكن في مؤسسات خاصة تنشئها الطوائف لهذا الغرض.

وإلى خطر التعليم الديني التقليدي على الصعيد النفسي بتركيزه على المادة لا على الشخص الذي يتلقاها وعدم مراعاته عمومًا تطور التلاميذ العقلي والنفسي في مراحل التعلم المختلفة، هناك خطر كبير لهذا التعليم على الصعيد الاجتماعي. فلأنه يعمد أحيانًا إلى تفريق طلاب الصف الواحد، وفي كل الأحيان إلى إبراز الفوارق على نحو سطحي والمفاضلة بين الأديان، فهو يؤدي إلى تمزيق الوحدة الاجتماعية التي

لا يمكن أن ينشأ مجتمع ويستمر بدونها[76].

وقد رأينا نظرة المؤلف إلى هذه الوحدة من حيث كونها وحدة في التنوع:

الهدف دولة عصرية تكون تجسيدًا لمثال الوحدة في التعدد على الصعيد السياسي. فالتعدد، بالمعنى العددي على الأقل، هو واقع كل مجتمع. لكن الدولة، من حيث طبيعتها، أداة وحدة وتوحيد. وهذا التوحيد ينبغي أن يتم ليس على حساب التعدد، بل ضمن التعدد. لذلك يجب أن تقتصر الدولة على كونها آلة إدارية، لا داعية عقيدة، كيما يتاح للأفراد اعتناق العقائد التي يريدون بحرّية، ولكي يكون لهم ولاء قومي واحترام لكرامة الإنسان مهما كانت عقائده[77].

ويعزو المؤلف الحرب الأهلية في لبنان، في أحد جوانبها، إلى انفراط الوحدة الاجتماعية، أي إلى أن الدولة كانت

مرآة للتعدد الاجتماعي بدل أن تكون آلة توحيد[78].

والوحدة الاجتماعية التي يدعو إليها ليست وحدة منغلقة، بل هي وحدة إنسانية منفتحة:

أدعو الإنسان في بلدنا كي يتلاقى مع الإنسان أينما كان، محققًا المثال الرواقي في أخوّة البشر ومواطَنة العالم[79].

والدولة المنشودة، في نظر المؤلف، هي تلك التي تؤمّن الحرية والعدالة والمساواة في المجتمع، فيغدو هذا النظام السياسي - الاجتماعي خير مناخ لنمو الأفراد نموًّا سليمًا وتحقيق ذواتهم[80]. وبما أن هذه القيم الاجتماعية، أي الحرية والعدالة والمساواة، من صلب رسالة الدين، فالدولة التي تنتهج النظام المذكور دولة دينية بكل معنى الكلمة، لا بل هي الدولة الدينية الصحيحة. وهنا يطرح المؤلف تمييزًا، نظن أن أحدًا لم يسبقه إليه بهذا الوضوح والجرأة، بين "دولة دينية اسميّة" و"دولة دينية فعلية".

وفي كتابه الجديد وحدة في التنوع فصلان حول هذه المسألة[81]، يوضح فيهما موقفه خير إيضاح. وعنده أن كل الأديان، بمعنى، "دين ودولة"، لأن الدين يتناول حياة الإنسان في مختلف جوانبها ولا يقتصر على جانب واحد. لكن إذا كان الأمر هكذا، فأي دين تكون له اليد الطولى في الحكم؟ طبعًا، الحكم باسم دين معين

يعني أن تتبنى الدولة عقيدة لا تعبّر عن جميع مواطنيها... وهذا يجعل من الدولة عامل تفرقة بدل أن تكون عامل توحيد[82].

وبما أنه، حتى في المجتمع ذي الدين الواحد ظاهريًا، هناك أفراد متعددون، لكل منهم الحق في أن يؤمن بما يشاء وكما يشاء، وهناك بين المؤمنين بعقيدة واحدة تفسيرات واجتهادات متنوعة حيال هذه العقيدة، وهناك مجالات واسعة - كما برهن التاريخ طورًا بعد طور - لكي يعمد أولئك الذين يحكمون باسم دين معيَّن إلى تحميل الله مساوئهم وشرورهم البشرية، كان أفضل كثيرًا، في نظر المؤلف، أن تكتفي الدولة بنشر أرفع القيم وإتاحة أفضل الظروف أمام الأفراد لتحقيق ذواتهم. وبهذا تكون دولة دينية فعلية عوضًا عن الاكتفاء بالاسم والظاهر.

ويذكّر المؤلف في كتابه الجديد[83] بالتمييز الذي أقامه في الكتاب الأول بين "علمانية قاسية" أو "متطرفة" و"علمانية ليّنة" أو "معتدلة"[84]: الأُولى تدعو إلى إقصاء الدين عن المجتمع ومحاربته، كما حصل في الأنظمة الشيوعية عمومًا، والثانية تكتفي بفصل الدين عن الدولة، ولكن من أجل تعزيز وضعه في المجتمع. ويجد في النوع الثاني من العلمانية، التي يسميها "الليّنة" أو "المعتدلة"، تلك الفلسفة الاجتماعية التوحيدية التي يدعو إلى بناء النظام السياسي عليها. وهذه الدعوة لا تستثني أيًّا من المجتمعات، لأن كل مجتمع تعددي، شاء أم أبى، بمعنى واحد على الأقل هو المعنى العددي، أي معنى تكوُّنه من أفراد متعددي المواهب والاتجاهات وأنماط التفكير. وفي مقدمة الطبعة الثانية لكتابه الدين والمجتمع، أشار بارتياح إلى تبدل ظهر في الجو العام خلال العقد الفاصل بين طبعتَي الكتاب، لجهة قبول أفكار كانت مرفوضة عمومًا، مثل العلمانية الليّنة والتعدد الاجتماعي[85]. وبعد إعلان تقديره أن يكون الكتاب أحد العوامل المؤدية إلى هذا التحول، يشير إلى

ارتباط عضوي بين مفهومَي الوحدة في التعدد والعلمانية المعتدلة. فالعلمانية التي دعونا إليها ترتكز إلى التنوع الذي لا يلغي الوحدة والوحدة التي لا تطمس التنوع. ولعل الدولة التي تتبنى هذا النظام هي، في التحليل الأخير، الدولة الدينية الفعلية، لأنها أقرب من سواها إلى جوهر الدين[86].

ويعلن، مرة بعد أخرى، أن عبارة "العلمانية" لا تهمه أبدًا في ذاتها، لأن قضيته ليست قضية لفظية أو شكلية، بل يهمه المحتوى الذي يدافع عنه، وهو كرامة الانسان.

وكل عقيدة لا توصِل الإنسان إلى ملء قامته وتجعله يعي وحدته مع الجنس البشري ويحب الآخرين هي عقيدة لا قيمة لها[87].

وفي خاتمة الدين والمجتمع، يذكّر بالمصدر الاجتماعي - الإنساني لدعوته التوحيدية، فيقول إن اقتراحه حول إلغاء التعليم الديني التقليدي في المدارس، المبني على التفرقة والمفاضلة بين الأديان، واعتماد تعليم للأديان يأخذ الحقائق التاريخية والفلسفية والسلوكية في الاعتبار ويكون أساسًا مرافقًا لاكتساب العقائد الخاصة بكل دين، هو

خطة من أجل تحقيق وحدة اجتماعية وحالة إنسانية يفهم فيها الناس بعضهم بعضًا ويحترمون بعضهم بعضًا كأشخاص. وهي، بهذا، تخدم قضية الدين[88].

هكذا نرى أن المؤلف، من ضمن فلسفته الدينية، طَرح أفكارًا اجتماعية قيّمة، هي بمثابة أساس لفكر اجتماعي ونهج سياسي جديد. والذين تناولوا كتاباته أثنوا على سعيه إلى نظام اجتماعي يعزز الوحدة والسلام[89]. لكن ربَّ قائل بأن أديب صعب تمادى في الاعتبارات الاجتماعية إلى حدِّ جَعْله من العوامل الاجتماعية مقياسًا للدين أو إلى حد إعلاء المجتمع على الدين. إلا أن هذا غير وارد على الاطلاق. ولا ينفكّ المؤلف يحذر، مرة بعد أخرى، من خفض الدين إلى رسالة في الأخلاق والاصلاح الاجتماعي، وإغفال محتواه الإلهي[90]. وهذه هفوة سقط فيها العديد من الفلاسفة والعلماء الاجتماعيين، ولحقهم إليها بعض المؤمنين وممثلي الفكر الديني.

أما تفسير دعوة المؤلف التوحيدية بالظروف التي نشأت ضمنها، والذهاب أبعد من هذا كثيرًا إلى القول بأنها مخطئة في ذاتها لأنها قامت في ظروف معينة، فمغالطة منطقية قديمة ومعروفة، هي "المغالطة الظرفيّة"، كمثل قولنا بأن فكرة معينة غير صحيحة لأن صاحبها غني أو فقير أو ياباني أو مكسيكي أو بوذي أو هندوسي...، من غير تحليل هذه الفكرة في مقوماتها المنطقية. هكذا، إذا كان كتاب المفكر البريطاني جون لوك (1632 - 1704) رسالة في التسامح وُضع في أعقاب حروب أهلية شهدتها أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، فهذا لا يعني أبدًا أن الدعوة إلى التسامح الديني وغير الديني بين الأفراد والأمم دعوة باطلة. والواقع أن كل الأفكار والمفاهيم تنشأ ضمن ظروف معينة، وأن لهذه الظروف دورًا بارزًا في قيامها ووعي أهميتها. وما تاريخ الفلسفة وتاريخ علم الاجتماع وتاريخ أي نظام فكري سوى دراسة للمفاهيم والمبادئ في نشوئها وتطورها وتعديلها ضمن ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة، إضافةً إلى أي ظروف اخرى قد تكون سهَّلت بروزها.

وفي جوابه عن سؤال حول العنوان الفرعي لكتابه الأديان الحية، وهو "نشوؤها وتطورها"، عما يقصده بتطور الأديان، يقول المؤلف:

ربما أوحت عبارة "النشوء والتطور" نزع المصدر الالهي عن الدين ورد كل شيء فيه إلى مصادر اجتماعية. لكني لم أقصد شيئًا من هذا القبيل... النظرات التطورية التي برزت على الخصوص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومنها نظرات داروين وكونت وفويرباخ وماركس وفرويد ودوركهايم الذين اعتقدوا أن أي تفسير بيولوجي أو تاريخي أو فلسفي أو اقتصادي أو نفسي أو اجتماعي للدين من شأنه أن يجرده من كل عنصر إلهي ويقصره على العناصر الإنسانية، مرفوضة اليوم في كل تلك العلوم، التي تبنّت الطرائق السلوكية... كل ما ينتمي إلى الانسان خاضع لتفسيرات بيولوجية وتاريخية ونفسية واقتصادية واجتماعية. لكنه خاضع أيضًا لتفسيرات لاهوتية قائمة في ذاتها ولا يمكن خفضها إلى سواها. ثم إن عبارة "التطور" في العنوان الفرعي للكتاب تشير لا إلى مصدر العقائد الدينية أو جوهرها، بل إلى صياغاتها عبر التاريخ. كما تشير إلى أمور مثل الطقوس والشؤون التنظيمية والقانونية. وهي أمور خاضعة للتبدل في الزمان والمكان، من غير مساس بجوهر العقائد[91].

إنّ الدين وُجد للتركيز على كرامة الحياة الانسانية وعلى قيمة الحياة عمومًا، ورفعها على الدوام عبر ربطها بالمطلق، أي بالحقيقة الإلهية التي تنتمي إليها. ويقول المؤلف إنه

إذا كان في النصوص المقدسة، في نصوص أي دين، ما قد يشير ظاهره إلى أي انتهاك للقيم، خصوصًا من حيث النظرة إلى الذات وإلى الآخر واحترام الكرامة الانسانية وإجلال خليقة الله، فالبديهة تدلنا فورًا، وبما لا يقبل الشك، على أن عدم فهم حقيقة النص أو إدخال المآرب الشخصية إلى تفسيره هو الذي أعطاه المعنى السلبي. فالدين محبة ورفق وتفاهم وتسامح وعدل وسلام، ولا مجال فيه للبغض والعداوة والاكراه والظلم. لذلك تقع على عاتق المفكرين الدينيين والمؤمنين المتنورين ومعلمي الدين ورُعاته مسؤولية تفسير النصوص التي تحتمل التأويل، لكي تنسجم مع جوهر الدين وروحه[92].

إنّ فلسفة أديب صعب قائمة على التناغم بين الدين والمجتمع. فهي لا تضحّي بالمجتمع من حيث كونها فلسفة دينية، كما لا تضحّي بالدين من حيث كونها فلسفة اجتماعية.

خامسًا - الدراسات الدينية في الثقافة العربية

نأتي إلى الفقرة الأخيرة من بحثنا لنشير إشارة عامة إلى وضع الدراسات الدينية الراهن على الصعيد العربي. وهو، مع الأسف، وضع غير مزدهر كما ينبغي، علمًا أن الساحة الثقافية العربية شهدت نهضة في بعض الكتب المنقولة من اللغات الأوروبية إلى العربية في بعض حقول الفلسفة والعلوم الاجتماعية. إلا أن الدراسات الدينية لم يشملها هذا الاهتمام. والسبب الرئيسي غيابُها من برامج الدراسة والاختصاص والبحث في الجامعات العربية. ويشير أديب صعب في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه الدين والمجتمع إلى أن

أفضل مكان لقيام العلماء المنشودين وترعرعهم هو الجامعات. وفي رأيي أن إقدام جامعاتنا العربية على تعزيز الدراسات الدينية كما تم عرضها في هذا الكتاب من شأنه - إضافةً إلى تلبية حاجة علمية كهدف قائم في ذاته - رفعُ شأن الدين وشأن الانسان، وبناء مجتمع أكثر توازنًا وسلامًا واستمرارًا[93].

ويعود في كتابه الجديد مؤكدًا أهمية هذه الدراسات وأنه

لا يجوز أن تفتقر جامعة إليها. وإلى أهميتها العلمية القائمة في ذاتها، لعل أعظم ما تستطيع تحقيقه مساعدة طلابها على كشف جوهر واحد وراء تعدد الأسماء وتنوع المظاهر. هكذا تخدم هذه الدراسة أقصى ما تطمح الثقافة إلى بلوغه، ألا وهو إعداد النفوس لتجلّي فضيلة التسامح[94].

ومن يطّلع على هوامش المقدمة في فلسفة الدين للمؤلف، يدرك أن هناك كتابات كثيرة جدًا في هذا الحقل وفي الدراسات الدينية عمومًا، كان يمكن نقلها إلى العربية[95]. ونقل الكتب الأجنبية هدفه التعلم من أُناس سبقونا إلى هذه الدراسات، بفضل تراثهم الجامعي العريق ودعمهم البحث العلمي بسَخاء والحرية الفكرية في مجتمعاتهم. إلا أن المؤلف لا يهمه النقل بمقدار ما يهمه الإبداع. وحَسْبه أنه شقّ الطريق لهذا الإبداع في كتبه. ومع تأكيده المستمر أن كتبه تقع في حقل واحد من الدراسات الدينية هو فلسفة الدين، فهو يشدّد دائماً على أهمية العلوم السلوكية، ويأسف لغياب علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني عن الكتابة العربية المعاصرة، ولغياب علمَي النفس والاجتماع عمومًا، باستثناء بعض الكتب المترجَمة

بمصطلحات رديئة ولغة ركيكة[96].

ولئن أمكن، في نظر المؤلف، ردّ بعض غياب علمَي النفس والاجتماع الدينيَّين إلى أن الكثير من الدراسات التي تحويها المجلات الغربية المخصصة لهذين الحقلين غير ودّية أبدًا بالنسبة إلى الدين[97]، غير أننا لا نقدِّر أن القائمين على الأديان مطّلعون عمومًا على دراسات من هذا النوع، علمًا أن الخط السلوكي - الاحصائي في العلوم الاجتماعية ما يزال غائبًا، إلى حد بعيد، عن الكتابة العربية في هذه المجالات. فمعظم الكتابات العربية في العلوم الاجتماعية ما برحت متوقفة عند المنحى التنظيري الذي يجعل هذه العلوم أقرب إلى الفلسفة منها إلى العلوم السلوكية. حتى عندما تكون النظرة السلوكية ودّية حيال الدين، ويكون هدف الدارس تعزيز الإيمان الديني، فتقديرنا أن وضع المجتمع العربي الراهن ما يزال مغلقًا على هذا النوع من الدراسات. لنفترض أنّ باحثًا في علم النفس الديني أو في علم الاجتماع الديني قرَّر إجراء دراسة إحصائية حول "وضع الإيمان الديني في الجامعات العربية"، أي بين الطلاب الجامعيين في العالم العربي. فالراجح أنه لن يستطيع إجراء دراسته علنًا في معظم البلدان العربية. ولا بد من أن تصل نماذج من الاستمارات إلى بعض الأيدي المتزمّتة التي ستمنع إجراء الدراسة بأي ثمن، وإن كان هدفها الأخير تعزيز وضع الدين. ومهما كان هذا الهدف، في أي حال، ففي إمكان القائمين على الأديان الإفادة كثيرًا من دراسات كهذه.

لقد كان للعرب قديمًا، قبل نشوء الثقافة الأوروبية الحديثة وحتى الوسيطة، مساهمات ممتازة في فلسفة الدين، خصوصًا مع علماء الكلام المعتزلة والأشاعرة على السواء. كما كان للعرب مساهمات ممتازة أيضًا في تاريخ الأديان. ومن أهم الأسماء في هذا المجال أبو الفتح الشهرستاني (تـ1153)، الذي سبقه بقرن من الزمن أبو الريحان البيروني (تـ1048). وفي كتابه الشهير عن الهندوسية، الذي يحمل عنوان تحقيق ما للهند من مقولة، توصَّل البيروني إلى دراسة تاريخ الدين بالمنهج الوصفي أو الفينومينولوجي الذي ظهر في الغرب بعد ثمانية قرون بالتحديد، مما يعني أن العرب سبقوا الغرب ثمانمئة سنة في هذا المجال.

في كتابه المذكور، دعا البيروني إلى نقل "الحق" عن اولئك الذين "نخبر عنهم"، بعيدًا عن "الكذب" و"الهوى" و"الجهل"[98]. وحذَّر من نقل الكتّاب بعضهم عن بعض في هذه المواضيع من غير تدقيق، مشيرًا

إلى أن أكثر ما هو مسطور في الكتب ]عن أديان الهند ومذاهبهم[ هو منحول، وبعضها عن بعض منقول وملقوط، مخلوط غير مهذَّب ولا مشذَّب[99].

وشدد على أهمية دراسة الأديان من مصادرها الأساسية، أي من كتبها المقدسة،

لئلا تكون حكايتنا كالشيء المسموع فقط[100].

وفي هذا السبيل، أوردَ مقاطع من كتب لهم كان قد نقلها هو نفسه إلى العربية،

وفيها أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم[101]،

مع المقارنة بين الهنود من ناحية، واليونانيين والمسلمين والمسيحيين من ناحية اخرى، علمًا أن المقارنة التي أجراها البيروني وصفيّة، تمييزًا لها عن المقارنة القيميّة أو المفاضلة، مما يؤكد منهجه "الفينومينولوجي".

في عمله، يتابع أديب صعب منهج البيروني، وإن كانت المصادر التي يعتمدها، في كثرتها، غربية. فهو يرسي فلسفة الدين على جوهر الدين، هذا الجوهر المستمَدّ من وضع الأديان بعضها إلى جانب بعض، في مراميها الأساسية الكبرى، والمقارنة بينها مقارنة وصفية بعيدة عن المفاضلة والتفضيل. وتجدر الإشارة إلى أن عمل المؤلف الرئيسي، المقدمة في فلسفة الدين، إضافةً إلى كونه الكتاب الأول من نوعه في ثقافتنا العربية المعاصرة حسب إجماع الدارسين وممثلي الأديان والمذاهب المختلفة، يقف إلى جانب الكتب المعاصرة المهمة في هذا الحقل. لا بل يضيف عناصر جديدة إلى هذه الكتب، أهمها اثنان:

1.    الدفاع عن الإيمان الديني وسط كثيرٍ من النظرات العصرية المعادية وكتبٍ في فلسفة الدين تعزز هذه النظرات. و

2.    عدم الاقتصار على دين واحد وتراث واحد في نسج فلسفة للدين، بل اعتماد منهج المقاربة والمقارنة لفلسفات الشرق والغرب ولكل الأديان، خصوصًا المسيحية والاسلام.

وفي كلامه عن الكتاب، لاحظ الأستاذ محمد السماك عمقه وشموله وغناه لأنه

يتناول كل المدارس الفلسفية القديمة والحديثة وكل الأديان، بما فيها الأديان غير الإبراهيمية[102].

وأشار السيد محمد حسن الأمين إلى

الأهمية البالغة لهذا السفر الضخم... في إعادة الاعتبار إلى العقل وإلى الدين معًا[103]،

بعد فراغ مخيف امتد من أواسط القرن التاسع عشر حتى اليوم.

واليوم تشهد الحوزات العلمية ومراكز العلوم الدينية في إيران اهتمامًا جديًا بالدراسات الدينية وفلسفة الدين. وفي كتاب صادر حديثًا حول علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، يتناول المحرِّر عبد الجبار الرفاعي المشهد الثقافي في إيران[104]. ومن فصول هذا الكتاب، الصادر عام 2002، فصلان يصفان الدراسات الدينية، أحدهما للشيخ مجتبى المحمودي بعنوان "مدخل إلى الكلام الجديد وفلسفة الدين"[105]، يعرض فيه فلسفة الدين وأهميتها، من حيث هي فلسفة العناصر المشتركة بين الأديان، التي تبحث في مسائل مثل: تحديد معنى الدين، وجود الله، الثابت والمتحول في الدين، نزعة التديُّن لدى الإنسان، التجربة الدينية، نطاق الدين، الدين والعلوم، الدين والأخلاق. ويشير إلى حاجة الأديان للتضامن من أجل الدفاع عن جوهر الدين وكيانه في وجه الفلاسفة الذين شنّوا هجوماً عليه، مثل هيوم وفويرباخ ورصل. والفصل الآخر للأستاذ محمد رضا كاشفي بعنوان "فلسفة الدين والكلام الجديد"[106]، يعرض فيه الدراسات الدينية، مسمّيًا: تاريخ الأديان، الظواهرية الدينية، علم النفس الديني، علم الاجتماع الديني، فلسفة الدين. وينبّه إلى أن عبارة "الدين" في فلسفة الدين مطلقة، غير مقيدة بالإسلام أو أي دين آخر، بل قائمة على جوهر الدين. ويخلص الكاتب إلى

ضرورة وضع فلسفة الدين في تصرف المسلمين كوسيلة مفيدة لنستطيع من خلالها تجنب الأخطار في الاستدلال حول الموضوعات الدينية، وندرك بعمقٍ وبصيرةٍ أكثر أُسُسَنا المنطقية ومفاهيمنا العقائدية[107].

وقد مرّ معنا أن أديب صعب أشار، للمرة الأولى في التأليف العربي المعاصر، إلى الدراسات الدينية وأهميتها، وذلك قبل عقدَين من الزمن، أي مع صدور كتابه الأول، الدين والمجتمع، في سلسلة مؤلفاته في الفكر الديني. وهو لم يكتفِ بوصف تاريخ الأديان وفلسفة الدين وعلم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني، بل فصَّل الكلام في مهمة كل من هذه الحقول، ونبّه إلى الأخطار المحيطة بها والتي وقع فيها العديد من ممارسيها.

ونعود إلى كتاب علم الكلام الجديد وفلسفة الدين لنتناول فصلين آخرين ينسجمان تمامًا مع فكر أديب صعب. أحد هذين الفصلين حوار مع الشيخ محمد مجتهد شبستري، أستاذ علم الكلام والفلسفة في كلية الإلهيّات والمعارف الإسلامية في جامعة طهران، حول "إحياء الدين وتطورات التجربة الدينية"[108]، يرى فيه الشيخ شبستري أن التجربة الدينية الفردية أعمق معنى من معاني الدين، وأنها أعمق حتى من المستوى العقائدي، وأن الإيمان الديني الصحيح يرتكز عليها لا على العقائد الذهنية، وأن إحياء الدين هو إحياء هذه التجارب لدى كل مؤمن. وأعلى هذه التجارب ما عاشه الأنبياء والأولياء. ويذهب شبستري إلى أن أهمية الاصلاح الذي أنجزه مارتن لوثر في المسيحية يكمن في التركيز على إحياء هذه التجارب لدى الأفراد المؤمنين، في حين أن حركات الاحياء الإسلامي خلال مئة وخمسين سنة ظلت على مستوى العقائد التنظيرية. وينتقل إلى التربية الدينية ليقول انها تربية "شكلانيّة" لا "تربية إحياء":

لقد بقينا نراوح عند حدود الشكليات في نظامنا التعليمي والتربوي، وفي الكثير من أساليبنا التربوية العائلية. فنتصور أننا إذا علمنا الأطفال بعض الآيات والروايات، أو علّمناهم شيئًا من تاريخ الأئمة وكيفية أداء الصلاة، فقد ربَّيناهم تربية دينية. وبذلك لا ننفذ إلى عالم التجارب الداخلية للأطفال والأحداث[109].

ومن دون استشهادات إضافية من الدين والمجتمع، نقول أن هذا الموقف هو عين ما أورده أديب صعب من ناحية الخبرة الدينية والتربية الدينية، مؤكدًا إياه المرة تلو الأخرى في كتبه اللاحقة، خصوصًا في كتاب المقدمة في فلسفة الدين (1994) الذي يحمل فصلاً طويلاً بعنوان "الخبرة الدينية".

أما الفصل الآخر في علم الكلام الجديد فهو حوار مع مصطفى ملكيان، الأستاذ في الحوزة العلمية وجامعة طهران، عن "فلسفة الدين في الجدل الفكري المعاصر"[110]. وهو يطري نهج الرئيس أحمد خاتمي لحفزه على

قراءة النتاج والتجربة المعاصرَين، الأمر الذي سيسمح بالكشف عن آفاق ومعطيات وحقول كانت ولا تزال مجهولة وغير واضحة[111].

ومن الأمثلة التي يعطيها عن الأبحاث المنشودة: ماهيّة الإيمان، الإيمان والعلم، مصداقيّة الأديان الأخرى، التقارب الديني، علاقة الأخلاق بالدين. ويرى أن الأديان متفقة في الجوهر والهدف، وأنه لا معنى للمفاضلة بين الأديان لأن الإنسان لا يختار دينه، بل يجد نفسه فيه ويبرره. والدعوة الدينية ليست دعوة إلى التحول من دين إلى آخر، بل دعوة إلى "تعميق الفهم وتأصيل الممارسة"[112]:

أنا أفهم من الدعوة الإسلامية دعوة الناس إلى تعميق دينهم، لا إلى خروجهم من دين إلى دين آخر[113].

ومما جاء في الدين والمجتمع أن تعليم الأديان تعليمًا وصفيًا، أي دراسة ديننا وأديان الآخرين من مصادرها وفي ضوء الفلسفة والعلوم السلوكية،

يتيح للتلاميذ أن يخرجوا بمفهوم عام للدين، قائم على العناصر المشتركة - وهي غير قليلة - بين الأديان. إنّ مفهومًا كهذا هو من أهم العوامل في تحقيق وحدة اجتماعية - إنسانية. إلا أن ما ندعو إليه ليس "دينًا شاملاً"، يكون تأليفًا من الأديان الموجودة ويحل محلها. فالفرد، عادةً، لا يختار دينه أو يصنعه، بل ينشأ فيه... فالهدف الذي ذكرناه للتعليم الوصفي، وهو تكوين مفهوم عام للدين، لا يرمي إلى حثّ الفرد على تغيير دينه، الذي أخذه عن آبائه وأجداده. إنما هو يرمي إلى مساعدته في تكوين نظرة نقدية حول دينه والأديان الأخرى، من شأنها تعميق قناعاته، وتعديل ما يراه خطأ في ممارسات آبائه، وفهم الأديان الأخرى واحترامها على نحو أفضل[114].

ويؤكّد المؤلف هذه النظرة في خلاصة الأديان الحية (1993) بقوله:

إنّ التوفيق بين الأديان والمذاهب ضروري جدًا في كل زمان ومكان. لكنه لا يحصل بالقوة ولا بطَمْس الآخر. ومعظم الناس لا يختارون دينهم، بل ينشأون ضمنه كما يولدون على أرض معينة وفي عائلة ومجتمع وحضارة ناجزة. قد يبدِّل بعض الأفراد دينهم إذا هم تعرضوا لتأثيرات معينة أو إذا اقتنعوا أن الدين الذي اختاروه يلبي حاجاتهم أكثر من الدين الذي وَجدوا أنفسهم فيه. لكن هذا التحول لا يحصل إلا في حالات قليلة نسبيًا. والمطلوب ليس أن يبدل المرء دينه، بل أن يقبل الآخرين على دينهم. وهذا يقتضي قيام مفكرين ومفسرين في كل دين، يعمل كل منهم على تفسير دينه انطلاقًا من الإنسانية الواحدة ووصولاً إلى الانسانية الواحدة، مع عدم المفاضلة بين الأديان[115].

المقالات التي أشرنا إليها من كتاب علم الكلام الجديد وفلسفة الدين صدرت أصلاً في مجلات مختصّة، إحداها مجلة قضايا إسلامية معاصرة التي ينشرها في لندن عبد الجبار الرفاعي، محرر الكتاب المذكور، وتُطبَع في بيروت. وهي تصدر منذ ثماني سنوات. وهناك مجلة المحجّة الصادرة في بيروت، منذ أواخر 2001، عن المعهد الإسلامي للمعارف الحكمية لمؤسِّسه الشيخ شفيق جرادي. وهي

مجلة فصلية متخصصة، تعنى بشؤون الفكر الديني والفلسفة الاسلامية المعاصرة،

وتحوي دراسات قيّمة في هذه الحقول[116]. وقد نشر المعهد الذي تصدر عنه المجلة عددًا من الكتب، بينها واحد بعنوان في فلسفة الدين[117].

هذه الحركة في حقل الدراسات الدينية على صعيد اللغة العربية، التي ما تزال في طور البدايات، والتي استهلّها أديب صعب قبل عشرين سنة بالتحديد في كتابه الدين والمجتمع وأتبعه حتى اليوم بثلاثة كتب أخرى، نأمل أن تمتد وتتّسع وتتعمق، وأن تجد طريقها إلى الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث ودور النشر العربية، وإلى الوطن العربي عمومًا، لتثمر على الصعيد الاجتماعي سلامًا يؤكِّد روح المسيحية والإسلام وروح الأديان كلها.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  أديب صعب، وحدة في التنوع: مَحاور وحوارات في الفكر الديني، بيروت، دار النهار، تشرين الثاني 2003.

[2]  أديب صعب، الدين والمجتمع، بيروت، دار النهار، الطبعة الاولى 1983، الطبعة الثانية 1995.

[3]  أديب صعب، الأديان الحيّة، بيروت، دار النهار، الطبعة الاولى 1993، الطبعة الثانية 1995، الطبعة الثالثة 2004.

[4]  أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، بيروت، دار النهار، الطبعة الاولى 1994، الطبعة الثانية 1995.

[5]  المطران جورج خضر، المحاولة العربية الاولى، بيروت، دار الندوة، ندوة بتاريخ 13 حزيران 1994 حول المقدمة في فلسفة الدين. انظر: وحدة في التنوع، ص 232-236.

[6]  السيد محمد حسن الأمين، إعادة اعتبار الى العقل والدين، صحيفة النهار، 20 تموز 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 214-218.

[7]  سامي مكارم، لقاء في العمق مع أعلام التصوف، الملحق، 3 حزيران 1995. انظر: وحدة في التنوع، ص 219-231.

[8]  طارق زيادة، إضافة أساسية في الفكر العربي، النهار، 3 أيلول 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 243-245.

[9]  محمد السمّاك، النهار، 15 حزيران 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 251.

[10]  جورج صبرا، فلسفة سابقة لأوانها، دار الندوة، 13 حزيران 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 237-242.

[11]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 10.

[12]  أديب صعب، اكتشاف الدين في الأديان، الملحق، 18 آذار 1995، وحدة في التنوع، ص 156-157.

[13]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 9-10.

[14]  أديب صعب، الدين والمجتمع، الطبعة الثانية، ص 143، 154. (الطبعة الأولى، ص 163-178).

[15]  المرجع السابق، ط 2، الفصل الأول: التعليم الديني التقليدي، ص 21-33. (ط 1، ص 13-28).

[16]  المرجع السابق، ط 2، ص 186-187. (ط 1، ص 216-218).

[17]  في كتابه المقدمة في فلسفة الدين، يعرض المؤلف هذه النظرات في الفصل الثاني: الدين والفلسفة، وفي الفصل السادس: مسألة الشرّ، وفي الفصل السابع: الدين والأخلاق. ويمكن الرجوع إلى أعمال المفكرين المذكورين، كما إلى تواريخ الفلسفة، مثل:

EmileBréhier, Histoire de la philosophie, Paris: PUF

[18]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 163. (ط 1، ص 189).

[19]  المرجع السابق، ط 2، ص 158. (ط 1، ص 182).

[20]  المرجع السابق، ط 2، ص 163. (ط 1، ص 188-189).

[21]  أديب صعب، الأديان الحيّة، ص 9-10.

[22]  المطران جورج خضر، المعرفة المنقذة، الحياة، 5 أيلول 1993. انظر: وحدة في التنوع، ص 193.

[23]  أديب صعب، الأديان الحيّة، الفصل الحادي عشر: "ما هو الدين: مقارَنة وصْفيَّة"، ص 199-223.

[24]  أديب صعب، هويّة دينية في الاتفاق، النهار، 14 آب 1993. انظر: وحدة في التنوع، ص 129.

[25]  المطران جورج خضر، المحاولة العربية الأولى، دار الندوة، 13 حزيران 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 232.

[26]  الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، مثلاً، أطلق على بعض كتبه اسم "مقدّمة" بهذا المعنى:

Immanuel Kant, Prolégomènes à toute métaphysique future (1783); Fondements de la métaphysique des mœurs (1785).

[27]  السيد محمد حسن الأمين، إعادة اعتبار إلى العقل والدين، النهار، 20 تموز 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 214-218.

[28]  طارق زيادة، إضافة أساسية في الفكر العربي، النهار، 3 أيلول 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 243.

[29]  المطران جورج خضر، المرجع المذكور.

[30]  أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، ص 168-169.

[31]  المرجع السابق، ص 169.

[32]  محمد السمّاك، ثروة فكرية، النهار، 15 حزيران 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 251.

[33]  ربيعة أبي فاضل، من التأريخ إلى الإبداع، النهار، 27 أيار 1994، والبيرق، 9 و10 و11 حزيران 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 249-250.

[34]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 10.

[35]  المرجع السابق.

[36]  المرجع السابق. انظر الفصل الرابع في الكتاب: "الدين والدولة"، ص 41-47، والفصل الخامس: "الدولة الدينية الفعلية"، ص 49-54.

[37]  المرجع السابق، ص 72-73.

[38]  حول "اللاهوت السلبي" أو "التنزيهي" عند ديونيسيوس المسمَّى الآريوباغي، انظر كتاب فلاديمير لوسكي، اللاهوت الصوفي للكنيسة الشرقية (بالفرنسية)، الفصل الثاني، الظلمة الالهية، الفصل الحادي عشر، النور الالهي.

Vladimir Lossky, Essai sur la théologie mystique de l’Eglise d’Orient, Paris: Seuil, 1944.

[39]  حول إنجاز فردريك ماكس مولر في إطار الدراسات الدينية ككل، انظر الكتاب الآتي:

H. D. Lewis and Robert Lawson Slater, The Study of Religions, Harmondsworth (England): Penguin Books, 1969, pp. 11 ff

[40]  المرجع السابق، ص 12.

[41]  انظر كتابات اوغست كونت حول "الفلسفة الايجابية":

Auguste Comte, Cours de la philosophie positive (1839 – 1842).

حول نظرة كونت، اقرأ: أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 98. (ط 1، ص 109).

[42]  لودفيغ فويرباخ، جوهر المسيحية. حول نظرة فويرباخ، اقرأ: أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 98، 99، (ط 1، ص 109-111)، كذلك: المقدمة في فلسفة الدين، ص 80-81.

[43]  انظر الكتاب الآتي:

Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, Paris: PUF, 1968, livre II, Chapitre IX: “La notion d’esprits et de dieux”, pp. 391 – 424

[44]  عرض فرويد نظرته هذه في كتابه مستقبل وَهْم (Le futur d'une illusion). انظر: أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 100، 101. (ط 1، ص 112-113).

[45]  انظر: أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 150-154 (ط 1، ص 172-178)، والمقدمة في فلسفة الدين، الفصل الرابع: "الخبرة الدينية"، ص 141-171، ووحدة في التنوع، ص 131-132 وص 162.

Michael Argyle, Religious Behaviour, London: Routledge and Kegan Paul, 1958

[46]  راجع الهامشَين 39 و40 أعلاه.

[47]  أديب صعب، الدين والمجتمع، الفصل السادس: تعليم الأديان، ط 2، ص 141، 163. (ط 1، ص 161-189).

[48]  المرجع السابق، ط 2، ص 146. (ط 1، ص 167).

[49]  أديب صعب، الأديان الحيّة، ص 9-10.

[50]  المرجع السابق، ص 10.

[51]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 154. (ط 1، ص 177).

[52]  المرجع السابق، ط 2، ص 46. (ط 1، ص 42).

[53]  من الكتابات في هذا الموضوع:

- William Sadler Jr., ed., Personality and Religion, London: SCM Press, 1970.

- Gordon Allport, The Person in Psychology, Boston: Beacon Press, 1968.

انظر أيضًا: أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، ص 144-150.

[54]  أديب صعب، المرجع السابق، ص 145.

[55]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 10.

[56]  المرجع السابق، ص 162.

[57]  أديب صعب، الأديان الحيّة، ص 11.

[58]  أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، ص 11.

[59]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 13 (من مقدمة الطبعة الثانية).

[60]  المرجع السابق، ص 14.

[61]  أديب صعب، هويّة دينية في الاتفاق، النهار، 14 آب 1993. انظر: وحدة في التنوع، ص 133.

[62]  أديب صعب، اكتشاف الدين في الأديان، الملحق، 18 آذار 1995. انظر: وحدة في التنوع، ص 157.

[63]  المرجع السابق، ص 159.

[64]  عالج أفلاطون مسألة الوحدة والكثرة في عدد من محاوراته، مثل: طيماوس، جورجياس، فيدون، الجمهورية، فيدروس، فيليبوس، وخصوصًا محاورة بارمنيدس. انظر:

- A. E. Taylor, Plato: The Man and His Work, London: Metheun, 1960.

- F. M. Cornford, Plato’s Theory of Knowledge, London: Routledge and Kegan Paul, 1960

[65]  في كتاب ديفيد روس عن فلسفة أرسطو، انظر: الفصل السادس حول "الميتافيزيق" (ص 154-186)، والفصل السابع حول "الأخلاق" (ص 187-234):

Sir David Ross, Aristotle, London: Metheun, 1949.

[66]  عرض ديفيد هيوم نظريته حول طبيعة المعرفة وحدودها في كتابيه مقالة في الطبيعة البشرية (1739) و تَحرٍّ حول الادراك البشري (1748). انظر: أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، ص 75-76 و162-166.

[67]  بحثَ إيمانويل كانط موضوع المبادئ الفطرية في كتابيه نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي، وفي كتبه في الفلسفة الأخلاقية. انظر: أديب صعب، المرجع السابق، ص 77-78 و236-239.

[68]  المرجع السابق، ص 127، ووحدة في التنوع، ص 101.

[69]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 23 و100-101، والمقدمة في فلسفة الدين، ص 105-106.

[70]  أديب صعب، الأديان الحيّة، الفصل الحادي عشر: ما هو الدين: مقارَنة وصْفيّة، ص 199-223، والمقدمة في فلسفة الدين، الفصل الأول: ما هو الدين، ص 19-44.

[71]  أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، ص 14، ووحدة في التنوع، ص 22-24 و97.

[72]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 7. (ط 1، ص 1).

[73]  المرجع السابق، الفصل الأول: "التعليم الديني التقليدي"، ط 2، ص 21، 33. (ط 1، ص 13-28).

[74]  وليم صعب، حكاية قرن (سيرة ذاتية)، بيروت: دار النهار، 2001، ص 104.

[75]  أديب صعب، مقدّمة حكاية قرن، ص 13.

[76]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 30. (ط 1، ص 24).

[77]  المرجع السابق، ط 2، ص 16. (ط 1، ص 8).

[78]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 121.

[79]  المرجع السابق، ص 122.

[80]  أديب صعب، الدين والمجتمع، الفصل الثالث: المناخ الاجتماعي، ط 2، ص 57-82. (ط 1، ص 57-90).

[81]  أديب صعب، وحدة في التنوع، الفصل الرابع: الدين والدولة، ص 41-47، الفصل الخامس: الدولة الدينية الفعلية، ص 49-54.

[82]  المرجع السابق، ص 41.

[83]  المرجع السابق، ص 43-45.

[84]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 106-110. (ط 1، ص 119-124).

[85]  المرجع السابق، ص 12-13 (مقدمة الطبعة الثانية).

[86]  المرجع السابق، ص 13.

[87]  المرجع السابق، ط 2، ص 198. (ط 1، ص 229).

[88]  المرجع السابق.

[89]  من الذين كتبوا عن أهمية كتاب الدين والمجتمع في هذا المجال: موسى سليمان، منهج تربوي، النهار، 7 حزيران 1983، وعبد العزيز قباني، الحل الأخلاقي الوحيد، مجلّة المستقبل (باريس)، 23 حزيران 1983، ومروان فارس، مشروع للمستقبل، محترف الفن التشكيلي، راشيّا (ندوة، 7 حزيران 1996). انظر: وحدة في التنوع، القسم الثالث: دراسات وآراء، ص 181-252.

[90]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 185-187 (ط 1، ص 215-218)، الأديان الحيّة، ص 206-209، المقدمة في فلسفة الدين، ص 235-275، وحدة في التنوع، ص 31، 75-81، 86، 100، 151-154، 157-158، 171-175.

[91]  أديب صعب، هويّة دينية في الاتفاق، النهار، 14 آب 1993. انظر: وحدة في التنوع، ص 131-132.

[92]  المصدر السابق، ص 47.

[93]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ص 14 (مقدمة الطبعة الثانية).

[94]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 26.

[95]  أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين، ص 319-339.

[96]  أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 162.

[97]  المرجع السابق، ص 162 و172. أيضًا: الدين والمجتمع، ط 2، ص 154 (ط 1، ص 177)، والمقدمة في فلسفة الدين، ص 144-145.

[98]  أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة، بيروت: عالم الكتب، الطبعة الثانية، 1983، ص 13-15.

[99]  المرجع السابق، ص 15.

[100]  المرجع السابق، ص 24.

[101]  المرجع السابق، ص 16.

[102]  محمد السمّاك، ثروة فكرية، النهار، 15 حزيران 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 251.

[103]  السيد محمد حسن الأمين، إعادة اعتبار إلى العقل والدين، النهار، 20 تموز 1994. انظر: وحدة في التنوع، ص 214-218.

[104]  عبد الجبار الرفاعي، علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، بيروت: دار الهادي، 2002.

[105]  الشيخ مجتبى المحمودي، مدخل إلى الكلام الجديد وفلسفة الدين، في: عبد الجبار الرفاعي، المرجع السابق، ص 399-410.

[106]  محمد رضا كاشفي، فلسفة الدين والكلام الجديد، في: عبد الجبار الرفاعي، المرجع السابق، ص 413-448.

[107]  المرجع السابق، ص 430. قارن هذا بما يقوله ابن رشد عن وجوب الاستعانة في العلوم العقلية "بما قاله مَن تَقدّمَنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا أو غير مشارك في الملّة... فإن كان كله صوابًا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب، نَبَّهنا عليه". أبو الوليد ابن رشد، كتاب فصل المقال، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1961، ص 31-32.

[108]  حوار مع الشيخ محمد مجتهد شبستري حول: "إحياء الدين وتطورات التجربة الدينية"، في: عبد الجبار الرفاعي، المرجع السابق، ص 233-255.

[109]  المرجع السابق، ص 246.

[110]  حوار مع مصطفى ملكيان حول: فلسفة الدين في الجدل الفكري المعاصر، في: عبد الجبار الرفاعي، المرجع السابق، ص 325-337.

[111]  المرجع السابق، ص 325.

[112]  المرجع السابق، ص 333.

[113]  المرجع السابق، ص 336.

[114]  أديب صعب، الدين والمجتمع، ط 2، ص 163. (ط 1، ص 188-189).

[115]  أديب صعب، الأديان الحيّة، ص 222.

[116]  من المحاور التي عالجتها مجلة المحجّة: "الدين والثقافة" (العدد الثاني، كانون الثاني 2002)، "التعددية الدينية" (العدد الثالث، نيسان 2002)، "الايمان وإرادة الاعتقاد" (العدد الخامس، تشرين الأول 2002)، "الأخلاق والدين" (العدد السابع، صيف 2003).

[117]  بولس الخوري، في فلسفة الدين، منشورات معهد الدراسات الإسلامي للمعارف الحكمية، ضمن سلسلة "في الدين والفلسفة"، بيروت: دار الهادي، 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود