نظريَّة الشَّواش

 

ترجمة وإعداد: إبراهيم قيس جركس

 

ما الشّواش بالضّبط؟

جاء اسم (نظرية الشواش) من حقيقة أن النماذج التي تدرسها النظرية هي، في الحقيقة، مضطربة ومشوشة في صميمها. ولكن نظرية الشواش تُعنى بالبحث عن مختلف أشكال النظام والرتابة الخبيئة في البيانات العشوائية.

متى تم اكتشاف الشواش للمرة الأولى؟

إن أول من بحث في مشكلة الشواش بشكل جدي هو عالم الأرصاد الجوية إدوارد لورينتز، ففي العام 1960، كان لورينتز يعمل على حلِّ مشكلة التنبؤ بحالة الطقس، وكان لديه برنامج إلكتروني محمل في حاسوبه، وقد تم تحميله باثنتي عشرة معادلة، وكل واحدة منها تصف حالة من حالات الطقس، إلا أن هذه المعادلات لم تكن لتصف حالة الطقس بالشكل الصحيح والدقيق تمامًا. وكان هذا البرنامج يتنبأ - بشكل نظري - بالحالة التي يمكن أن يكون عليها الطقس تقريبًا.

وفي أحد الأيام من العام 1961، كان لورينتز يريد أن يراجع نسقًا معينًا من سلسلة الموجات في أحد القياسات التي كان قد حصل عليها. ولاختصار الوقت، قرر المراقبة بدءًا من منتصف النسق الموجي بدلاً من مراقبته من النقطة التي حصل عليها في وقت سابق. فأدخل لورينتز الرقم الذي كان قد حصل عليه من قياسات ليلة البارحة من ورقة النتائج الإلكترونية المطبوعة وترك البرنامج يتابع عمله.

عاد لورينتز بعد مضي ساعة واحدة من عمل البرنامج الإلكتروني، وعند مراجعة النتائج لاحظ شيئًا فاجأه، كان النسق الموجي قد تغير بشكل كامل بدلاً من أن يأخذ مجراه الذي كان قد اتخذه ليلة البارحة. كان قد تشعَّب عن مسار النسق السابق، وانتهى بمسار مختلف ومتباعد بشكل كبير عن مسار النسق الأصلي. (شاهد الصورة التوضيحية رقم 1). ثم اكتشف لورينتز بعد ذلك ما الذي حدث حقًا، كان الحاسوب قد خزَّن الأرقام ضمن ست خانات كسرية في ذاكرته. ولتوفير الورق، كان الحاسوب قد أخرج النتائج مؤلفة من ثلاث خانات كسرية، حيث أن الرقم كان في النسق الأصلي يساوي 0.506127 ، ولكن الحاسب كان قد أخرج في النتيجة الأرقام الثلاثة الأولى فقط 0.506 .

صورة رقم 1: تجربة لورينتز: إن الفرق بين القيمتين في بداية التشعب هي 0.000127

كان يجب أن ينتهي العمل من دون حدوث أي مفاجئات غير متوقعة، وحسب ما كان متعارف عليه، كان يجب أن يحصل لورينتز على نتائج قريبة جدًا من قيم النسق الموجي الأصلي. ولكن العالم يعتبر نفسه محظوظًا جدًا إذا حصل على قياسات هي على درجة من الدقة تبلغ ثلاثة أرقام بعد الفاصلة الكسرية... طبعًا، إن الرقمان الرابع والخامس لا يؤثران بشكل كبير في النتائج النهائية للتجربة. وقد أخطأ لورينتز عند هذه المرحلة.

عُرِف هذا العامل فيما بعد باسم أثر الفراشة The Butterfly Effect. فمقدار الاختلاف في قيم البداية لاضطرابين معينين في نسق ما هي ضئيلة جدًا، إنها شبيهة بضربات جناحي فراشة.

إن ضربة جناح واحد للفراشة اليوم، ينتج تغيرًا طفيفًا في حالة الجو. وبعد فترة من الزمن يبتعد ما يفعله الجو فعلاً عما كان سيفعله، وهكذا خلال شهر من الزمن لن يحدث الإعصار الذي كان سيضرب شاطئ أندونيسيا، وربما يحدث إعصارٌ ما كان له أن يحدث لولا حركة جناح الفراشة[1].

وهذه الظاهرة الشائعة في نظرية الشواش تعرف أيضًا بحالة الحساسية المفرطة للشروط الأولية Sensitive dependence on Initial Conditions. وهذا يعني أن أي تغير مهما كان طفيفًا في الشروط الأولية يمكن أن ينتج عنه تغير كبير وبعيد المدى في سلوك النموذج المرصود. ومثل هذا التغير الطفيف والصغير في القياس يمكن أن يُعَدَّ كضجيج يشوِّش التجربة، ويُدعى بالخلفية الصاخبة، أو قد يُعَدّ بأنه حالة من حالات عدم الدقَّة في آلة القياس. ومثل هذه الأشياء لا يمكن اجتنابها حتى في مختبر معزول عزلاً كاملاً.

عندما نبدأ أي اختبار نرصد فيه نموذجًا فيزيائيًا معينًا، ولنبدأ عند الرقم 2 مثلاً، فالنتيجة النهائية قد تختلف بشكل كبير في نفس النموذج عندما نبدأ الرصد عند الرقم 2,000001. إذن فمن المستحيل الوصول إلى هذه الدرجة العالية من الدقة في القياس - حاول أن تقيس شيئًا أقرب ما يكون إلى درجة المليون من الإنش[2]. وانطلاقًا من هذه الفكرة، صرَّح لورينتز أنه من المستحيل التنبؤ بحالة الطقس تنبؤًا صحيحًا مئة في المئة. وقاده هذا الكشف الهام إلى اكتشاف ظواهر أخرى يمكن اعتبارها بأنها ذات خصائص شواشية.

بدأ لورينتز بالبحث عن أبسط نموذج يتضمن حالة الحساسية المفرطة للشروط الأولية. وكان اكتشافه الأول عبارة عن نموذج يحتوي اثنتي عشرة معادلة، ولكنه كان يريد الحصول على صيغة أكثر بساطة، وتمتلك في نفس الوقت ميزة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية. أخذ لورينتز المعادلات التي تصف حركة الحرارة في الجو وفي السوائل، ثمَّ جرَّدها محوِّلاً إياها إلى معادلات في غاية البساطة، فأصبح النموذج خاليًا تمامًا من العوامل المتعلقة بحركة الحرارة في الهواء وفي السوائل. ولكنه - أي النموذج - ظل محكومًا بحالة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية، وبقيت في النهاية ثلاث معادلات في حيِّز العمل. وقد اكتُشف لاحقًا أن هذه المعادلات الثلاثة تصف حركة دولاب الماء.

في أعلى العجلة، إن قطرات الماء تقطر بشكل ثابت ضمن المستوعبات وهي معلَّقة على حافة العجلة، وكل مستوعب يقطر ماءً بشكل ثابت من خلال ثقب صغير. وإذا كان جريان الماء بطيئًا، فالمستوعبات العليا لن تمتلئ بالماء بالسرعة الكافية للتغلب على الاحتكاك. أما إذا كان جريان الماء سريعًا، فالوزن المتزايد يبدأ بتحريك العجلة، وبذلك يصبح الدوران استمراريًا. ولكن إذا كان جريان الماء سريعًا جدًا بحيث يجعل المستوعبات الثقيلة تتأرجح بتذبذب ما بين أسفل وأعلى، فهذا من شأنه أن يجعل العجلة تتباطأ، ثم تتوقف، بل قد تعكس دورانها أيضًا[3].

يبدو أن المعادلات التي تصف هذا النموذج تفسح المجال لبروز مظاهر سلوك عشوائي، وعندما قام لورينتز برسم هذه المعادلات على شكل خطوط بيانية، حدث أمر مفاجئ. بقيت النتائج المستخرجة منحنية، ظلت عبارة عن قمة منحنية. وكان هناك نوعان من الحالات المنتظمة والمعروفة بشكل واضح:

-       حالة الثبات: حيث أن قيم المتحولات لا تتغير أبدًا.

-       السلوك المتعاقب: حيث أن الأنظمة تدخل ضمن حلقة مفرغة، مكررة نفسها باستمرار إلى ما لانهاية.

كانت معادلات لورينتز منتظمة بشكل كامل - كانت تتابع على شكل قمم - ولم تستقر عند نقطة معينة، وبما أنها لم تَعُد تكرر الفعل ذاته، فهي بذلك لم تعد متعاقبة ودورية أيضًا. وقد أطلق لورينتز على هذه الصورة التي حصل عليها عند رسم المعادلات الرياضية بشكل بياني بـ جواذب لورينتز Lorentz's Attractors.

صورة رقم [2] جواذب لورينتز Lorentz's Attractors.
(James Glieck, Chaos - Making a new science, pg. 29)

نشر لورينتز في العام 1963 ورقة بحث يصف فيها ما اكتشفه بالضبط. وقد ضمَّنها مشكلة عدم قابلية التنبؤ بحالة الطقس، وكان قد ناقش فيها كافة أنواع المعادلات التي كانت سبب هذا الشكل من السلوك الغريب. ولسوء الحظ، فالمجلة الوحيدة التي كان بإمكانه نشر عمله فيها هي مجلة خاصة بالأرصاد الجوية، وذلك لأنه كان عالمًا بالأرصاد الجوية، وليس رياضيًا أو فيزيائيًا. ونتيجة لذلك، فاكتشافات لورينتز لم يتم الاعتراف بها إلا بعد مضي سنوات كثيرة عليها، أي حين تمَّ اكتشافها من قبل علماء آخرين. كان لورينتز قد اكتشف شيئًا ثوريًا، والآن عليه أن ينتظر بعض الوقت ليتم اكتشافه هو شخصيًا.

هناك نموذج آخر يعطينا مثالاً بيّنًا عن حالة الحساسية المفرطة المعتمدة على الشروط الأولية، وهي حالة رمي قطعة نقد في الهواء. فنكون نحن بذلك أمام نوعين من المتحولات - يمكن أن ندعوها بالاحتمالات - أثناء تقلُّب قطعة النقد في الهواء، وهي كما يلي:

الزمن الذي تستغرقه قطعة النقد للوصول والارتطام بالأرض.

سرعة تقلُّب قطعة النقد في الهواء.

نظريًا، قد يكون ممكنًا التحكم في كمية هذه التحولات والاحتمالات[4]، والكيفية التي ستنتهي عليها قطعة النقد على الأرض. ولكن، عمليًا، من المستحيل التحكم بشكل كامل في سرعة تقلُّب قطعة النقد، والارتفاع الذي ستبلغه في الهواء.

الحقيقة هي أننا لا يمكننا أن نتحكم في كمية التحولات والاحتمالات إلا في مدى معين، وقصير نسبيًا. ولكننا لن نتمكن أبدًا من السيطرة على الحركة العشوائية لحركة النقد وتوقُّع مكان وجهها النهائي حين تستقرُّ على الأرض.

توجد معضلة مشابهة تمامًا لمعضلة رمي قطعة النقد التي ذكرناها في الأعلى، وتكمن هذه المرة في علم الإيكولوجيا[5]، معضلة تبرز فيها حالة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية، وهي المعادلة التي تصف معدل نمو التوطن البيولوجي الحضاري.

وتكمن المشكلة في أن قانون حساب معدل النمو الحضاري يمكن أن يكون بسيطًا للغاية إذا كان معدل النمو يتم حسابه بشكل مطلق من دون أية عوائق أو شوائب في المعادلة. ولكن هناك عدة مؤثرات تدخل في صلب المعادلة - منها: هجوم الحيوانات المفترسة، الأمراض والأوبئة القائلة، الحروب والمجازر والمجاعات، وكميات الغذاء المحدودة... - من شأنها أن تجعل هذه المعادلة صحيحة ودقيقة بشكل كامل، لذلك نلجأ إلى المعادلة البسيطة المعتادة والتي تعطينا نتائج تقريبية:

معدل النمو الحضاري في السنوات القادمة = (م) * معدل النمو الحضاري في هذا العام * (1 – معدل النمو الحضاري هذا العام)

هذه المعادلة تصف معدل النمو الحضاري لمجتمع معين. ونلاحظ أن معدل النمو في المعادلة محصور بين القيمتين العدديتين 0 و1، حيث أن الرقم 1 يمثل الاحتمال الأقصى والأقوى لنمو الحضارة، ويمثل الرقم 0 الانقراض والفناء، أما (م) فهي مجهول يمثل معدل النمو الحضاري في المجتمع. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا يتعلق بمدى تأثير هذا المتغير الاحتمالي على المعادلة التي أمامنا؟

الجواب الوحيد الذي يمكننا الوصول إليه هو أنه إذا كانت قيمة معدل النمو عالية فهذا يعني أن معدل الحضارة سيستقر عند رقم عالٍ، بينما إذا كان معدل النمو الحضاري منخفضًا فهذا يعني بدوره أن معدل الحضارة سيستقر عند رقم منخفض، وهذه الفكرة صحيحة تمامًا في ظروف معينة بالنسبة لبعض المجتمعات، ولكنها لا تنطبق على كل المجتمعات وفي كافة الظروف.

قرر روبيرت ماي Robert May وهو عالم بيولوجي، أن يرى ما الذي يمكن أن يحصل للمعادلة إذا تغيرت قيمة معدل النمو. وقد لاحظ أنه عند القيم الصغرى لمعدل النمو، فالنمو الحضاري سيستقر عند عدد مفرد. مثال ذلك، إذا كانت قيمة معدل النمو هي 2,7 فمعدل النمو الحضاري سيستقر عند القيمة 2,6292

ومع ارتفاع معدل النمو، فالنتيجة الأخيرة للنمو الحضاري سترتفع أيضًا. وفي هذه المرحلة حدث أمر غريب، فما أن تجاوز معدل النمو القيمة 3، انقسم الخط البياني إلى قسمين بدلاً من الاستقرار على عدد مفرد كما كان من المفترض أن يحدث. فقد بدأ بالقفز بين عددين يمثلان معدل النمو الحضاري. ولكن قد تكون أي قيمة من تلك القيم هي الصحيحة، التي تمثل معدل النمو الحضاري لسنة واحدة.

خذ أيضًا أية قيمة أخرى - ولتكن إحدى قيم النمو الحضاري في السنة القادمة - ثم أعد المحاولة مرة أخرى رافعًا معدل النمو العام بنسبة صغيرة مسببًا بذلك تقافز القيمة بين أربع قيم ممكنة. وكلما ارتفع مجال الاحتمالات أكثر، ازداد تشعُّب الخط البياني بشكل أكبر. وهذا التزايد المتضاعف سيتزايد بسرعة مطَّردة حتى تظهر لنا أولى مظاهر الشواش. وبتجاوز معدل معين للنمو - وليكن العدد 12 مثلاً - يصبح من المستحيل التنبؤ بمسار المعادلة.

على كل حال، عند الفحص القريب والدقيق، يصبح من الممكن رؤية القطع البيضاء، وهذه القطع هي أشبه ما تكون بقطع لوحة الفسيفساء، وعند النظر بشكل أكثر قربًا إلى هذه القطع ستفتح أمامنا نافذة نرى من خلالها أشكال معينة من النظام والرتابة، حيث تتجاوز المعادلة التفرعات والانقسامات البيانية، ولكنها ما تلبث أن تعود إلى حالة الفوضى حين تبدأ العمل من جديد ضمن نطاقات أخفض من النطاق السابق.

يطلق علماء الرياضيات والفيزياء على هذه الحالة اسم التماثل الذاتي Self – Similarity [6]، وقد أصبحت من المفاهيم الأساسية والهامة جدًا في علم الشواش.

     شواش                المرحلة الرابعة                المرحلة الثانية

صورة رقم 3: التغير الشواشي الذي يطرأ على النسق البياني بعد أربع أطوار من التحول[7].

كان بينويت ماندلبروت Benoit Mandelbrot، موظفًا عاديًا في شركة IBM للحواسب الإلكترونية. ولكنه كان رياضيًا في الوقت نفسه، وكان يدرس حالة التماثل الذاتي المذكورة آنفًا.

كان تقلب أسعار القطن إحدى المجالات التي يدرسها ماندلبروت. وبغض النظر عن الطريقة التي تمَّ من خلالها تحليل تغير أسعار محصول القطن، فالنتائج لم تتطابق مع التوزيع الطبيعي. وقد حصل ماندلبروت على كافة البيانات المتاحة عن أسعار القطن، بدءًا من العام 1900.

وعندما قام بتحليل البيانات في حواسيب الشركة، لاحظ حقيقة مفاجئة، ولكنها مدهشة أيضًا

إن الأرقام التي جاءت مغايرة للاعتقاد العام للتوزيع الطبيعي جلبت معها تناظرًا...[8]

لم يكتف ماندلبروت بتحليل أسعار القطن فقط، بل درس أيضًا عدة ظواهر أخرى بشكل دقيق. وفي إحدى الحالات تساءل ماندلبروت عن طول خط الساحل الإنكليزي على الخريطة، فإذا تأملنا بخط الساحل على خريطة ما لاستطعنا تمييز عدة خلجان. وعند قياس طول الخط على الخريطة فإننا نفقد العديد من الخلجان الدقيقة التي هي من الصغر لدرجة لا نستطيع أن نميزها على الخريطة. ومهما حاولنا تكبير الخريطة نلاحظ بروز العديد من الدقائق الصغيرة التي تبرز، وسنلاحظ ظهور العديد من الخلجان كلما ضخمنا صورة الخريطة، وستبقى الفروق بالظهور حتى ولو كانت بمقدار حبات الرمال.

كان هيلغ فون كوخ Helge von Koch أحد الرياضيين الألمان وقد تصور فكرة التشعبات الدقيقة في عالم البنى الرياضية التي أطلق عليها فيما بعد اسم تشعيبات كوخ Koch curves.

لتصور ما يمكن أن تكون عليه تشعيبات كوخ، تخيل مثلثًا متساوي الأضلاع. وفي منتصف كل ضلع هناك مثلث متساوي الأضلاع آخر، وإذا واصلنا إضافة مثلثات إلى منتصف أضلاع المثلثات السابقة سينتج لدينا تشعبات في محيط الشكل الذي شكَّلناه، تدعى هذه التشعبات بتشعيبات كوخ (انظر الصورة رقم 4). وعند النظر عن قرب إلى هذه التشعبات يتبين لنا أنها مشابهة جدًا للتشعبات الأصلية في النموذج الأساسي، وهذه صورة أخرى من صور التماثل الذاتي.

صورة رقم 4: تشعيبات كوخ Kock Curves.[9]

مع تشعيبات كوخ تبرز هناك مفارقة مثيرة للجدل، فكل مرة يضاف فيها مثلث متساوي الأضلاع إلى الشكل، يزداد طول الخط الذي يكوِّن بدوره محيط الشكل. في حين أن منطقة التفرعات الداخلية تبقى أقل من مساحة محيط المثلث الأصلي. عمومًا، فإن هذا الأمر عبارة عن طول خط غير محدود ولا نهائي يحيط بمكان محدود ومتناهي.

هناك حلٌّ ما لهذه المفارقة، حيث اخترع العلماء ما يسمى بالأبعاد الكسرية الدقيقة Fractal Dimentions، وكلمة كسرية جاءت من اللفظة متكسِّر Fractional، لذلك فإن الأبعاد الكسرية الدقيقة لتشعيبات كوخ تبلغ من الطول حوالي 1,26.

من المستحيل تصور شكل الأبعاد الكسرية الدقيقة، ولكنها مسألة منطقية تمامًا. وتبين الحسابات أن تشعيبات كوخ هي أقسى من الخط أو الفرع الناعم أحادي البعد. وبما أن تشعيبات كوخ أقسى وأكثر تعرُّجًا وتكسُّرًا، فإنها أفضل من حيث البنية والتشكيل لتوفير المساحة في الفراغ[10]. وعلى كل حال، لن تكون جودة هذا بمقدار جودة مربع ذي بعدين لملء الفراغ، لذلك من المنطقي تصور أن أبعاد تشعيبات كوخ تكمن بين بعدين اثنين.

جاء مصطلح (الكسري / المتكسِّر) Fractal للتعبير عن أية صورة تحمل ميزة التماثلية الذاتية. فالرسوم البيانية لمعادلة النمو الحضاري هي ذات طابع كسري. وجواذب لورينتز كسرية أيضًا، وتفرعات كوخ هي الأخرى كسرية.

فيما مضى، وجد العلماء صعوبة بالغة في نشر أي عمل عن الشواش. حيث أنهم لم يكونوا قد كشفوا بعد عن الأوضاع التي تصف توافقية العالم الحقيقي، فلم يكن أغلب العلماء يعتقدون بأن النتائج التي حصلوا عليها من تجاربهم في الشواش هي ذات قيمة. ونتيجة لذلك، وبالرغم من أن الشواش هو ظاهرة رياضية في الأساس، فإن معظم الأبحاث والدراسات التي جرت في مجال الشواش تمت على أيدي علماءٍ هم من مجالات أخرى وبعيدين عن مجال الرياضيات تمامًا، مجالات مثل الأرصاد الجوية والإيكولوجيا. وقد نشأ بعد ذلك علم دراسة الشواش كهواية يمارسها العلماء حين يعملون على حلِّ مشكلات ربما يستفيدون منها لاحقًا.

بعد ذلك كان عالم آخر يدعى فيغينباوم Feigenbaum يدقق في مسألة التضاعف ثم التشعب مرةً أخرى. وقد كان يراقب سرعتها، حيث استنتج أنها تأتي من جذر واحد ثابت. وقد قام بحسابه فحصل على النتيجة 4,669. بمعنى آخر، لقد اكتشف فيغينباوم المقدار الحقيقي والدقيق لذلك الذي كان يدعى بالتماثل الذاتي. والآن حاول أن تجعل صورة التضاعف أصغر من المقدار 4,669 فستجد أنها أصبحت نطاقات أخرى أصغر من التشعبات.

فيما بعد قرر فيغينباوم أن يبحث عن معادلات أخرى ليرى إذا كان من الممكن أن يحصل على قيمة ذات طابع حتمي لهذا المقدار. فوجد ما أدهشه تمامًا، كانت المقادير هي ذاتها تمامًا. ولم تكن هذه المعادلة الوحيدة التي تستعرض الرتابة والانتظام، بل إن هذا الانتظام كان هو ذاته في كل المعادلات الأبسط ولا يتغير فيها مقدار شعرة واحدة. كان قد جرَّب العديد من المعادلات الأخرى، ولكن النتيجة بقيت واحدة وهي 4,669.

كان هذا اكتشافًا ثوريًا. فقد لاحظ أن صفًا كاملاً من المعادلات الرياضية تتصرَّف بنفس الطريقة، طريقة قابلة للتوقع.

هذا التعميم ساعد العديد من العلماء الآخرين في تحليل المعادلات الشواشية بطريقة أسهل. وقد أعطى هذا التعميم Universality العلماء الأداة الرئيسية لتحليل النماذج الشواشية. والآن بات بإمكانهم استخدام معادلات بسيطة لتوقع نتائج معادلات أخرى أعقد منها.

كان العديد من العلماء يقومون باكتشاف معادلات ينتج عنها معادلات كسرية fractal Equations وأشهر صورة كسرية تشعبية هي في نفس الوقت الأبسط على الإطلاق، وقد عرفت فيما بعد بمجموعة ماندلبروت The Mandelbrot's Set، (انظر الصورة رقم 5). كما أن المعادلة التي تصف مجموعة ماندلبروت هي على الشكل التالي( علمًا أن z  هو عدد عقدي):

Z = Z2 + C

وللتأكد من نقطة معينة من أنها تقع في جزء ما من مجموعة  ماندلبروت، نضع قيمة للمجهول (Z) ثم نقوم بتربيعه، ثم نضيف العدد الأصلي. ونربع النتيجة، وبعدها نضيف العدد الأصلي إلى النتيجة. ونكرر هذه الخطوات بشكل لانهائي... فإذا كان العدد الناتج يتصاعد نحو القيمة اللانهائية، فالنقطة هي ليست ضمن مجموعة ماندلبروت، ولكنها إذا بقيت تحت خط القيمة اللانهائية فإنها تكون ضمن مجموعة ماندلبروت.

إن مجموعة ماندلبروت هي القطاع الداخلي الباطن في الصورة. وكل ظل مختلف من الغباش يمثل مدى البعد الذي تبلغه تلك النقطة. إن إحدى المزايا المثيرة التي تكمن في مجموعة ماندلبروت هي أن كافة الحدبات المستديرة تتطابق مع منحنى التضاعف. كما أن تشعيبات ماندلبروت لها خاصية التماثل الذاتي والتي تظهر في بقية المعادلات. في الحقيقة، إن التضخيم الكافي لصورة تشعيبات ماندلبروت سوف يكشف عن نسخة مطابقة تمامًا للشكل، كما أنها تتصف بالكمال التام في كل تفصيل.

لقد تمت مشاهدة البنى الكسرية في العديد من ظواهر العالم، وبشكل أدق في عقول الرياضيين، والأوعية الدموية وهي تتفرع أكثر وأكثر، وفروع الأشجار، والبنية الداخلية لجدران الرئة، والخطوط البيانية على لوحة بيانات البورصة، والعديد من الأنظمة الواقعية في عالمنا المضطرب، وجميعها لها قاسم فيما بينها: إنها كلها متماثلة ذاتيًا.

صورة بدئية لمجموعة ماندلبروت وهي مضخمة بشكل مستمر وفي بيئة متغيرة الألوان (من موسوعة ويكبيديا الإلكترونية)

تمثيل رياضي لمجموعة ماندلبروت M، تلوّن النقطة C بالأسود إذا كانت واقعة ضمن المجموعة، وبالأبيض إذا لم تكن ضمن المجموعة.
Re[c] وIm[c] تمثلان الجزء الحقيقي والخيالي من النقطة C.

وجد العلماء في مركز سانتا كروز أن الشواش يظهر لنا إذا راقبنا تساقط قطرات الماء من الصنبور. وبعد تسجيل التساقط خلال فترة زمنية معينة، ثم تسجيل هذه الفترة، اكتشفوا أنه من خلال سرعة معينة للتساقط وخلال مدة زمنية معينة، لا يتطابق التساقط بدقة مع سرعات أخرى في أوقات أخرى. وعندما عملوا على رسم النتائج التي حصلوا عليها من الدراسة بشكل بياني، وجدوا أن التساقط أيضًا يتَّخذ له نموذجًا شواشيًا معينًا.

القلب البشري أيضًا له نموذج شواشي، فالمدة الزمنية التي تقبع بين نبضة وأخرى لا يمكن أن تكون ثابتة ومتساوية، بل هي تعتمد على عامل الحيوية، أي على مدى النشاط الذي يبذله الشخص. وفي ظروف خاصة، يمكن لضربات القلب أن تتسارع، وفي ظروف أخرى مختلفة، سيكون هناك اضطراب في ضربات القلب، ويطلق في بعض الأحيان على هذه الحالات: النبض الشواشي Chaotic Heartbeats. وفي الطب الحديث فإن مسبار القلب الكهربائي يمكن أن يساعد الأطباء والمسعفين لإعادة ضربات القلب العشوائية والمضطربة إلى حالتها الطبيعية والمستقرة، بدلاً من الفوضى الجامحة.

اكتشف الباحثون شكلاً بسيطًا مكوّنًا من ثلاث معادلات تصوِّر توزُّع الأوراق على نبتة الخنشار. وقد أشعلت هذه الحالة فتيل فكرة جديدة في مجال الهندسة الوراثية تقول: ربما تكون شيفرة الدنا DNA الصيغة التي تحكم توزُّع أوراق الخنشار على العود، وليس المكان الذي يجب أن تنبت فيه الأوراق. كما أن الحمض الريبي المنقوص الأكسجين الذي يتضمَّن كميات هائلة من البيانات الوراثية، قد لا تحتوي على تلك البيانات الضرورية التي تقرِّر مكان توضُّع كل خلية جسمية في جسد الإنسان. وباستخدام الصيغ الكسرية لتوضيح كيفية تفرُّع وتشعُّب الأوعية الدموية، وتكوين الألياف العصبية، فالدنا تحتوي على معلومات ضخمة وفائضة عن الحاجة. وقد اعتُقِدَ سابقًا أن بنية الدماغ كانت قد تأسست طبقًا لقوانين الشواش Laws of Chaos.

وللشواش استخدامات وفوائد أخرى موجودة خارج نطاق العلم. فالفنون الإلكترونية المطبَّقة عن طريق الحاسوب باتت أكثر واقعية وجمالية من خلال استخدامات الشواش والبنى الكسرية. والآن، يمكن للحاسوب أن يخلق نموذجًا للشجرة بالغ الواقعية والجمال باستخدام صيغ كسرية بسيطة. فبدلاً من استخدام نموذج عادي، يمكن أن يكون لحاء الشجرة أكثر واقعية باستخدام تشكيلة معينة تعمل على تكرار ذاتها في حلقة مستمرة.

وللموسيقى أيضًا حصة في علم الشواش، حيث أنه يمكن خلق بنى العديد من الأنغام الموسيقية باستخدام البنى الكسرية، وجواذب لورينتز.

ديانا دابي Diana S Dabby طالبة خرّيجة من معهد ماساتشوستس للهندسة الكهربائية، كانت قد توصَّلت إلى أنواع متغيرات عديدة من الألحان الموسيقية. وقد دوّت أصداء هذا الاكتشاف في مجلة أخبار العلم Science News ضمن مقالة تحت عنوان: من باخ إلى الشواش: متغيرات شواشية تطبَّق على الموسيقى الكلاسيكية[11]. فمن خلال دمج أنماط موسيقية لقطعة ما مثل (مقدمة باخ) بالمعامل C مع تنسيقات المعامل X المتعلق بجواذب لورينتز، ثم تشغيل البرنامج الإلكتروني، فإنها بذلك قد خلقت ذات الأنغام والألحان الأصلية لهذه الأغنية[12]. وقد أكَّد العديد من الموسيقيين الذين سمعوا هذه الألحان الجديدة بأنها نغمات موسيقية جميلة وخلاّقة.

الخاتمة:

سرعان ما صار للشواش تأثير كبير ودائم في كافة مجالات العلم، وقد بقي هناك العديد من الاكتشافات التي ما زالت تنتظر أحدًا ليكتشفها. ويعتقد الكثير من العلماء أن العلم في القرن الحادي والعشرين سيعرف ثلاث نظريات عظمى فقط: النظرية النسبية، الميكانيك الكمومي، ونظرية الشواش.

كما أن مظاهر وأشكال الشواش تظهر حولنا في جميع أرجاء عالمنا الذي نحن جزء لا يتجزأ منه... من حركة تيارات المحيطات وجريان الدم في عروقنا المتشعبة بشكل عشوائي في أجسادنا، إلى فروع الأشجار وتأثيرات الاضطراب والهيجان.

بات الشواش الآن جزءًا مهمًّا من العلم الحديث. وبتطور الشواش من نظرية علمية صغيرة لم يكد يعرفها أحد، إلى علم كامل بذاته، فقد حظي بإقبال عام وكبير. وقد غيّرت نظرية الشواش شكل ومسار العلم بشكل ثوري.

وبات من المعروف الآن أن الفيزياء لم تعد هي دراسة الجسيمات تحت الذرية في المسرِّعات الجزيئية التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، بل هي أيضًا دراسة النماذج الشواشية وكيفية عملها.

*** *** ***

المراجع العربية

1 - من يلعب النرد؟، إيان ستيوارت، ترجمة بسام أحمد المغربي، دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى، 1994.

المراجع الأجنبية

  1. Does god play Dice?, Ian Stewart.
  2. Chaos - Making a new science, James Gleick.
  3. Science news magazine, Dec. 24, 1994.

 

horizontal rule

[1] Ian Stewart, Does god play Dice?, The mathematics of Chaos, pg. 141.

وللرجوع إلى النسخة العربية المترجمة: من يلعب النرد؟، إيان ستيوارت، ترجمة بسام أحمد المغربي، ص 132، [ملاحظة من المترجم].

[2] أبسط مثال على ذلك عندما نطلب من الآلة الحاسبة أن تعطينا نتيجة عملية رياضية منطقية مثل أن نحسب جذر العدد 2: Ö2 = 1,41421352 فنحن نأخذ بعين الاعتبار الأرقام الثلاثة الأولى بعد الفاصلة الكسرية، ولكن باقي الخانات الرقمية نهملها تمامًا، لأنها ليست ذات قيمة... وهذا هو الشواش بحدِّ عينه، لأنه في الحسابات الكبيرة فإن هذه الفواصل الكسربة لها أهمية كبيرة، وقد ينتج عنها أخطاء حسابية هائلة على المدى البعيد. ]المترجم[.

[3] James Glieck, Chaos: Making a new science, pg. 29.

[4] يمكننا أن نعدّ كل تقلب تفعله قطعة النقد وهي معلقة في الهواء مؤلف من احتمالين. أما تقلبان لقطعة النقد فنعتبرهما أربعة احتمالات، وثلاثة تقلبات تعدّ ستة احتمالات وهكذا، فتخيل عدد الاحتمالات التي تتراكم كلما تقلبت قطعة النقد في الهواء. ]المترجم[

[5] إيكولوجيا مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية Ecology: وهي فرع من فروع العلم يدرس العلاقة التبادلية بين البيئة والكائنات الحية والأشياء الموجودة ضمن محيطها. ]المترجم[

[6] أي أن التشعبات والتفرعات العشوائية الدقيقة كانت تنسخ دائمًا نفسها ضمن مجالات أدق وأصغر عميقًا في قلب البنية. ]المترجم[

[7] James Gleick, Chaos - Making a new Science, pg. 71.

[8] James Gleick, Chaos - Making a new Science, pg. 86.

[9] James Gleick, Chaos - Making a new Science, pg. 99

[10] لنتذكر أشكال خلايا النحل Bee Hives السداسية وعملية تلاصقها مع بعضها البعض، حيث أن كل ضلع من المسدس يشترك مع ضلع آخر ويتلاصق به مما لا يترك أي مجال لوجود الفراغات بين الخلايا السداسية، وتعدّ هذه الظاهرة من أحد الظواهر العجيبة في عالم النحل. ]المترجم[

[11] "Bach to Chaos: Chaotic variations on a classical themes", Science news magazine, Dec. 24,1994.

[12] ومن استخدامات الشواش والمتغيرات وجواذب لورينتز في مجال الموسيقي ولدت موسيقي التكنو الجميلة التي تستخدم أنغام كهربائية شواشية دمجت مع الأغنية. ]المترجم[

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود